لا إله إلا الله.
اللهم صلِّ وسلّم على نبيِّنا محمد، اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاةِ الْقَائِمَةِ، آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، نعم
المتن
القاعدة الثالثة والعشرون: إرشادات القرآن على نوعين:
أحدهما: أن يُرشد أمرًا، ونهيًا، وخبرًا، إلى أمر معروف
شرعًا، أو معروفٍ عُرفًا كما تقدم.
والنوع الثاني: أن يُرشد إلى استخراج الأشياء النافعة من أصول معروفة، ويُعمل الفكر في استفادة المنافع منها.
وهذه القاعدة شريفة جليلة القدر.
الشرح
يعني هذه القاعدة في "إرشادات القرآن" تتنوع إلى نوعين:
الأوَّل: "يُرشد أمرًا"؛ إلى أمرٍ يفعلونه أَقِيمُوا الصَّلَاةَ [الأنعام: 72]، إلى نَهْيٍ يجتنبونه وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32]، إلخ.
يُخبرهم بالأمر بالمعروف وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ [آل عمران: 104].
والثاني: أنْ يُرشِد العبد إلى استخراج الأشياء النافعة من أصولٍ معروفة؛ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83]، أرشَدهم إلى أن يَردُّوه إلى أولي الأمر، وأولي الأمر: هم اللي يستخرجونه وهكذا، نعم.
وهذه القاعدة الثانية، يقول المؤلف: "شريفة جليلة القَدْر".
المتن
وهذه القاعدة شريفة جليلة القَدْر؛ أما النوع الأول فأكثر إرشادات القرآن في الأمور الخبرية والأمور الحكمية داخلة فيها.
الشرح
افعل كذا، لا تفعل كذا، نعم.
المتن
وأما النوع الثاني -وهو المقصود هنا-: فإنه دعا عباده في آياتٍ كثيرة إلى التفكر في خلق السموات والأرض، وما خلق الله فيها من العوالم، وإلى النظر فيها، وأخبر أنه سخَّرها لمصالحنا ومنافعنا، وأنه أنزل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ [الجاثية: 13]، وَنبَّه العقول على التفكر فيها واستخراج أنواع العلوم والفوائد منها؛ وذلك أننا إذا فكَّرنا فيها، ونظَرنا حالها، وأوصافها، وانتظامها، ولأي شيء خُلقَت؟ ولأي فائدة أُبقيت؟ وماذا فيها من الآيات؟ وما احتوت عليه من المنافع؟ أفادنا هذا الفكر فيها علمين جليلين:
أحدهما: أننا نستدل بها على ما لله من صفات الكمال والعظمة، وما له من النعم الواسعة، والأيادي المتكاثرة، وعلى صدق ما أخبر به من المعاد، والجنة والنار، وعلى صدق رسله، وحقيَّة ما جاؤا به.
وهذا النوع قد أكثر منه أهل العلم، وكلٌّ ذَكَرَ ما وصل إليه علمه؛ فإن الله أخبر أن الآيات إنما ينتفع بها أولو الألباب.
وهذا أَجَلُّ العلمين، وأعلاهما، وأكملهما.
الشرح
لأنَّ الأول: نَستدل بها على ما للهِ من صفات الكمال، والحِكَم البالغة، وما له من النِّعَم على عباده، "وعلى صِدْقِ ما أخبر به سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من المعاد، والجنة والنار"؛ هذا أكثر أهل العلم يستشهد به، وكلٌّ يستدل على حَسب ما وصل إليه علمه.
المتن
والعلم الثاني: أننا نتفكر فيها، ونستخرج منها المنافع المتنوعة، فإن الله سخَّرها لنا، وسلَّطَنا على استخراج جميع ما لنا فيها من المنافع والخيرات الدينية والدنيوية، فسخَّر لنا أرضها لنحرثها، ونزرعها، ونغرسها..
الشرح
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ [الملك: 15].
المتن
ونستخرج معادنها وبركتها، وجعلها طوْع علومنا وأعمالنا؛ لنستخرج منها الصناعات النافعة، فجميع فنون الصناعات على كثرتها، وتنوعها، وتفوقها، -لا سيما في هذه الأوقات- كلُّ ذلك داخلٌ في تسخيرها لنا.
وقد عَرِفت الحاجة، بل الضرورة في هذه الأوقات إلى استنباط المنافع منها، وترقية الصنائع إلى ما لا حد له، وقد ظهر في هذه الأوقات من موادها وعناصرها أمور فيها فوائد عظيمة للخلق، وقد تقدم لنا في قاعدة اللازم: أن ما لا تتم به الأمور المطلوبة فهو مطلوب.
وهذا يدل على أن تَعلُّم الصناعات والمخترعات الحادثة من الأمور المطلوبة شرعًا، كما هي مطلوبة لازمة عقلًا، وأنها من الجهاد في سبيل الله، ومن علوم القرآن؛ فإن القرآن نبَّه العباد على أنه جعل الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس، وأنه سخَّر لهم ما في الأرض، فعليهم أن يسعوا لتحصيل هذه المنافع من أقرب الطُّرق إلى تحصيلها، وهي معروفة بالتجارب، وهذا من آيات القرآن، وهو أكبر دليل على سعة عِلْم الله، وحِكْمته، ورحمته بعباده؛ بأن أباح لهم جميع النعم، ويسَّر لهم الوصول إليها بطرق لا تزال تحدث وقتًا بعد وقت.
وقد أخبر في عدة آيات: أنه تذكرة يتذكر به العباد كل ما ينفعهم فيسلكونه، وما يضرهم فيتركونه، وأنه هداية لجميع المصالح.
الشرح
وهذا واضح، نعم.
المتن
القاعدة الرابعة والعشرون:
القرآن يُرشد إلى التوسط والاعتدال في الأمور، وَيذمُّ التقصير والغلو ومجاوزة الحد.
الشرح
هذا الذي يُعبّر عنه الآن الوسطية والاعتدال، مراده: الوسطية والاعتدال، يَتوسَّط في الأمور، وعدم الغُلو في أحد الطرفين، ولهذا قال: "وَيذمُّ التقصير والغلو".
الغلو: هو الزيادة؛ الزيادة حتى يتجاوز الحدّ، والتقصير: كونه يُقصّر فلا يأتي بالمطلوب.
المتن
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ [النحل: 90]، قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [الأعراف: 29]، والآيات الآمرة بالعدل والناهية عن ضده كثيرةٌ، والعدل في كل الأمور: لزوم الحد فيها، وأن لا يغلو ويتجاوز الحد، كما لا يقصر ويدع بعض الحق؛ ففي عبادة الله: أمَرَ بالتمسك بما عليه النبي ﷺ في آيات كثيرة، ونهى عن مجاوزة ذلك وتعدِّي الحدود في آيات كثيرة، وذَمَّ المقصرين عنه في آيات كثيرة.
فالعبادة التي أمر الله بها: ما جَمعت الإخلاص للمعبود، والمتابعة للرسول. وما فُقد فيه الأمران، أو أحدهما، فهي من الأعمال اللاغية.
وفي حق الأنبياء والرسل صَلَّى اللهُ عَلَيْهم وَسَلَّمَ: أمر بالاعتدال، وهو: الإيمان بهم، ومحبتهم المقدَّمة على محبة الخلق، وتوقيرهم، واتباعهم، ومعرفة أقدارهم، ومراتبهم التي أكرمهم الله بها، ونهى عن الغلوِّ فيهم في آيات كثيرة، وهو: أن يُرفعوا فوق منزلتهم التي أنزلهم الله، ويُجعل لهم من حقوق الله التي لا يُشاركه فيها مشارك شيء.
كما نهى عن التقصير في حقِّهم في الإيمان بهم، ومحبَّتهم، وترك توقيرهم، وعدم اتباعهم، وذمَّ الغالين فيهم -كالنصارى ونحوهم في عيسى- في آيات كثيرة، كما ذمَّ الجافين لهم -كاليهود حيث قالوا في عيسى ما قالوا- وذمَّ من فرَّق بينهم فآمن ببعض دون بعض، وأخبر أن هذا كفر بجميعهم.
وكذلك يتعلق هذا الأمر في حق العلماء، والأولياء، يجب محبتهم، ومعرفة أقدارهم، ولا يحل الغلو فيهم وإعطاؤهم شيئًا من حق الله وحق رسوله الخاص، ولا يحل جفاؤهم وعداوتهم، فمَن عادى لله وليًا فقد بارزه بالحرب.
وأمر بالتوسط بالنفقات، والصدقات، ونهى عن الإمساك، والبخل، والتقتير، كما نهى عن الإسراف، والتبذير.
وأمر بالقوة والشجاعة بالأقوال، والأفعال، ونهى عن الجُبْن، وذمِّ الجبناء وأهل الخَوَر وضَعْفِ النفوس، كما ذمَّ المتهورين الذين يُلقون بأنفسهم وأيديهم إلى التهلكة.
وأمر وحثَّ على الصبر في آيات كثيرة، ونهى عن الجزع، والهلَع، والسَّخط.
كما نهى عن التجبُّر، وعدم الرحمة، والقساوة، في آيات كثيرة.
وأمر بأداء حقوق من له حقٌّ عليك، من الوالدين، والأقارب، والأصحاب، ونحوهم، والإحسان إليهم قولًا وفعلًا، وذمّ من قصَّر في حقهم، أو أساء إليهم قولًا وفعلًا، كما ذمّ مَن غلا فيهم، وفي غيرهم حتى قدَّم رضاهم على رضا الله، وطاعتهم على طاعة الله.
وأمر بالاقتصاد بالأكل، والشرب، واللباس، ونهى عن السرف، والترف، كما نهى عن التقصير الضار للقلب والبدن.
وبالجملة فما أمر الله بشيء إلا كان وَسطًا بين خُلقين ذميمين: تفريط أو إفراط.
الشرح
نعم، وهذه القاعدة واضحة، فالله تعالى أمر بالتَّوسُّط والاعتدال، ونهى عن الغلوِّ؛ وهو مجاوزة الحدِّ، وعن التقصير؛ وهو عدم العمل بالأمر المطلوب.
المتن
القاعدة الخامسة والعشرون:
حدود الله قد أمر بحفظها، ونهى عن تعدِّيها وقِربانها. قال تعالى: وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة: 112]، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229]، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا [البقرة: 187].
أما حدود الله: فهي ما حدَّه لعباده من الشرائع الظاهرة والباطنة التي أمرهم بفعلها.
الشرح
ونهى عن تعدِّيها وقِربانها، ما يقال: وقُربانها، قِربانها من القُرب، أما قُربانها من القرابين، ما يتقرّب من الذبائح يقال: قُربان، وأما القُرب، فيقال: قِربان، فنهى عن قِربانها.
المتن
حدود الله قد أمر بحفظها، ونهى عن تعدِّيها وقِربانها. قال تعالى: وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ [التوبة: 112]، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229]، تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا [البقرة: 187].
أما حدود الله: فهي ما حدَّه لعباده من الشرائع الظاهرة والباطنة التي أمرهم بفعلها.
والمحرَّمات التي أمرهم بتركِها؛ فالحفظ لها: أداء الحقوق اللازمة، وترك المحرَّمات الظاهرة والباطنة.
ويتوقف هذا الفعل، وهذا الترك على معرفة الحدود على وجهها؛ ليعرف ما يدخل في الواجبات والحقوق فيؤديها على ذلك الوجه كاملة غير ناقصة، وما يدخل في المحرَّمات ليتمكن من تركها.
ولهذا ذمَّ الله مَن لم يعرف حدود ما أنزل على رسوله، وأثنى على مَن عَرف ذلك.
وحيث قال تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229]، كان المراد بها ما أحلَّه لعباده، وما فصَّله من الشرائع؛ فإنه نهى عن مجاوزتها، وأمر بملازمتها، كما أمر بملازمة ما أحلَّه من الطعام، والشراب، واللِّباس، والنكاح، ونهى من تعدِّي ذلك إلى ما حرَّم منها من الخبائث.
وكما أمر بملازمة ما شَرَعه من الأحكام في النكاح، والطلاق، والعِدَدِ وتوابع ذلك، ونهى عن تعدي ذلك إلى فعل ما لا يجوز شرعًا.
وكما أمر بالمحافظة على ما فصَّله من أحكام المواريث، ولزوم حده، ونهى عن تعدِّي ذلك وتوريث مَن لا يرث، وحرمان من يرث، وتبديل ما فرضه وفصَّله بغيره.
وحيث قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا [البقرة: 187]، كان المراد بذلك المحرَّمات؛ فإن قوله: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} نهيٌ عن فعلها، ونهيٌ عن مقدِّماتها وأسبابها الموصِلة إليها والموقعة بها، كما نهاهم عن المحرَّمات على الصائم، وبيَّن لهم وقت الصيام؛ فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا [البقرة: 187].
وكما حرَّم على الأزواج أن يأخذوا مما آتوا أزواجهم شيئًا إلا أن يأتين بفاحشة مبيِّنة، قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا [البقرة: 187]، وكما صرَّح بالمحرَّمات في قوله: وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى [الإسراء: 32] وقال: وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ [الأنعام: 152].
فالخير والسعادة والفلاح في معرفة حدود الله، والمحافظة عليها، كما أنَّ أصل الشر وأسباب العقوبات: الجهل بحدود الله، أو ترك المحافظة عليها، أو الجمع بين الشرَّين. والله أعلم.
الشرح
نعم، والخلاصة: أن حدود الله نوعان: الوَاجِبات والمُحرَّمات، تُطلق الحدود على الواجِبات، فالواجبات لا يجوز للإنسان أن يتعدَّاها، والمُحرَّمات لا يجوز للإنسان أن يَقرَبها.
ولذلك قال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة: 229]، هذه الواجبات، يعني لا تَتجاوزها، وفي الآية الأخرى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا [البقرة: 187]؛ هذه المُحرّمات.
فحدود الله تُطلق على الواجبات، فلا يجوز تعدِّيها، وتُطلق على المُحرَّمات فلا يجوز قِربانها.
المتن
القاعدة السادسة والعشرون:
الأصل أن الآيات التي فيها قيود لا تَثبُت أحكامها
إلا بوجود تلك القيود إلا في آيات يسيرة.
وهذه قاعدة لطيفة؛ فإنه متى رتَّب الله في كتابه حكمًا على شيء، وقيَّده بقيد، أو شَرَطَ لذلك شرطًا، تعلَّق الحكم به على ذلك الوصف الذي وصفه الله تعالى. وهذا في القرآن لا حصر له.
الشرح
يعني الآيات التي فيها قيود وشروط لا تَثبُت هذه، هذه الأحكام التي فيها قيود وشروط حتى تأتي بكلِّ الشروط، مثل: الصلاة، فالصلاة لا تصح إلا بشروط.
ما هي شروطها؟
الإسلام، والعقل، والتمييز، والوضوء، ورفع الحَدث، والنِّية، وسترُ العورة، ودخول الوقت.
فلو صلّى شخصٌ عاري وهو يقدر، ما صحّت صلاته؛ لأنه ما أتى بشروطها، لو صلّى شخص إلى غير القِبلة، ما صحَّت، ما أتى بشروطها، ما تُسمّى صلاة، لو صلَّى شخص ولم يتوضأ، ما صحَّت؛ لأنه لم يأت بالوضوءِ.
فالعبادة التي لها قُيود وشروط، لا تصح إلا بالقيود والشروط، هذه هي القاعدة.
المتن
وإنما المقصود ذكر المستثنى من هذا الأصل الذي يقول كثير من المفسرين إذا تكلَّموا عليها: هذا قيد غير مراد، وفي هذه العبارة نظر.
الشرح
يعني قد يأتي من القيود ما لا يُعتَبر، يُخرَج، والمؤلِّف يتكلّم عليه.
المتن
فإن كلَّ لفظةٍ في كتاب الله فإن الله أرادها وفيها فائدة قد تظهر للمتكلِّم ، وقد تخفى، وإنما مرادهم بقولهم: غير مرادة: ثبوت الحكم بها.
فاعلم أن الله تعالى يذكر الأحكام الشرعية من أصول وفروع، ويذكر أعلى حالة يبرزها فيها لعباده؛ ليظهر لهم حسنها إن كانت مأمورًا بها، أو قبحها إن كانت منهيًا عنها، وعند تأمل هذه الآيات -التي بهذا الصدد- يظهر لك منها عيانًا، فمنها: قوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون: 117].
ومن المعلوم أن من دعا مع الله إلها آخر فإنه كافر، وأنه ليس له برهان، وإنما قيَّدها الله بهذا القيد؛ بيانٌ لشناعة الشِّرك والمشرِك، وأن الشِّرك قطعًا ليس له دليلٌ شرعيٌّ ولا عقليٌّ، والمُشرك ليس بيده ما يَسوغ له شيئًا من ذلك.
الشرح
قوله: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون: 117]، ليس معناه إنه إذا كان له برهان، يجوز الشِّرك، لا.
الشِّرك ممنوع سواءٌ له برهان، أو ليس له، ولا يمكن أن يكون هناك برهان للشِّرك أبدًا، إلا وهو باطل، لكن المراد: بيان شناعة الشِّرك؛ أن هذا المُشرك يُشرك مع الله، وليس له دليلٌ، ولا برهان على هذا الشِّرك.
المتن
ففائدة هذا القيْد: التشنيع البليغ على المشركين بالمعاندة، ومخالفة البراهين الشرعية والعقلية، وأنه ليس بأيديهم إلا أغراض نفسية، ومَقاصد سيئة، وأنهم لو التفتوا أدنى التفات لعَرفوا أن ما هم عليه لا يستجيزه من له أدنى إيمان ولا معقول.
ومنها: قوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ [النساء: 23]، مع أن كونها في حِجْره أو غَيْرِ حِجْره ليس شرطًا لتحريمها؛ فإنها تحرم مطلقًا، ولكن ذكر الله هذا القيد تشنيعًا لهذه الحالة.
الشرح
الربيبة: هي بنت الزوجة، إذا تزوَّج الإنسان امرأة، حرُمت عليه بنتها، تسمّى ربيبة، سواءٌ كانت عنده أو ليست عنده، والله قال: وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء: 23]، مفهومه: أنه إذا كانت الربيبة في غير الحجر، يجوز لها الزواج، لا، هذا المفهوم غير مراد، وإنما قُيِّد ذلك؛ لبيان الأغلب، فالأغلب أنه الربيبة تكون في حجر الزوجة، وإذا لم تكن في حجرها فهي حرام، بنت الزوجة.
المتن
وأنه من القبيح إباحة الربيبة التي هي في حجر الإنسان بمنزلة بنته، فذكر الله المسألة متجلية بثياب قبحها لينفِّر عنها ذوي الألباب، مع أن التحريم لم يعلَّق بمثل هذه الحالة، فالأنثى إما أن تكون مباحة مطلقًا، أو محرَّمة مطلقًا، سواء كانت عند الإنسان أم لا، كحالة بقية النساء المحلَّلات والمحرَّمات.
ومنها: قوله تعالى: وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ [الأنعام: 151]، و خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ [الإسراء: 31]، مع أنه من المعلوم؛ النهي عن قتل الأولاد في هذه الحالة وغيرها.
فالفائدة في ذكر هذه الحالة: أنها حالة جامعة للشر كله: كونه قتلًا بغير حقٍّ، وقتل مَن جُبلت النفوس على شدة الشفقة التي لا نظير لها عليه، وكون ذلك صادرًا عن التسخُّط لقدر الله، وإساءة الظن بالله؛ فهم تبرَّموا بالفقر هذا التبرُّم، وأساؤوا ظنونهم بربهم حيث ظنوا أنهم إن أبقوهم زاد فقرهم، واشتدت ضرورتهم، فصار الأمر بالعكس.
وأيضًا: فإنه إذا كان منهيًا عن قتلهم في هذه الحال التي دفعهم إليها خشية الافتقار، أو حدوثه، ففي غير هذه الحالة من باب أولى وأحرى.
وأيضًا: ففي هذا بيان للحالة الموجودة غالبًا عندهم، فالتعرض لذكر الأسباب الموجودة الحادثة يكون أجلى وأوضح للمسائل.
وأما قوله تعالى في الرجعة: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا [البقرة: 228]، فمن العلماء مَن قال: إنه من هذا النوع، وأنه يستحقّ ردها، سواء أراد الإصلاح أو لم يَرده؛ فيكون ذكر هذا القيد حثًّا على لزوم ما أمر الله به من قصد الإصلاح، وتحريمًا لردِّها على وجه المضارة، وإن كان يملك ردها، كقوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [البقرة: 231].
ومن العلماء مَن جعل هذا القيْد على الأصل العام، وأن الزوج لا يستحق رجعة زوجته في عدتها إلا إذا قصد الإِصلاح، فأما إذا قصد ضد ذلك فلا حق له في رجعتها. وهذا هو الصواب.
ومنها: قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة: 283]، مع أن الرَّهنُ يصح حضرًا وسفرًا.
ففائدة هذا القيْد: أن الله ذكر أعلى الحالات، وأشد الحاجات للرهن، وهي هذه الحالة في السفر، والكاتب مفقود، والرهن مقبوض، فأحوج ما يحتاج الإنسان للرهن في هذه الحالة التي تعذَّرت فيها التوثقات إلا بالرهن المقبوض.
وكما قاله الناس في قيد السفر، فكذلك على الصحيح في قيده بالقبض، وأن قبضه ليس شرطًا لصحته، وإنما ذلك للاحتياط، وزيادة الاستيثاق، وكذلك فَقْد الكاتب.
ومنها قوله تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، مع أن الحقُّ يثبت بالرجل والمرأتين، ولو مع وجود الرجلين، لكن ذَكر الله أكمل حالة يحصل بها الحفظ للحقوق، بدليل أن النبي ﷺ قضى بالشاهد الواحد مع اليمين، والآية ليس فيها ذلك لهذه الحكمة، وهو أن الآية أرشد الله فيها عباده إلى أعلى حالة يحفظون بها حقوقهم لتمام راحتهم، وحَسْم اختلافهم ونزاعهم.
وأما قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى: 9]، فإنها من أصل القاعدة، ويظن بعض الناس أنها من هذا النوع، وأنه يجب التذكير نفعت أو لم تنفع، لكن هذا غلط، فَنَفْعُ الذكرى: إذا كان يحصل بها الخير أو بعضه، أو يزول بها الشَّر كله أو بعضه.
فأما إذا كان ضرر التذكير أعظم من نفعه فإنه مَنهيٌّ عنه في هذه الحال، كما نَهى الله عن سبِّ آلهة المشركين إذا كان وسيلة لسبِّ الله، وكما يُنهى عن الأمر بالمعروف إذا كان يترتب على ذلك شرٌّ أكبر، أو فوات خير أكثر من الخير الذي يُؤمر به.
وكذلك النهي عن المنكر إذا ترتب عليه ما هو أعظم منه شرًا وضررًا، فالتذكير في هذه الحال غير مأمور به، بل منهي عنه، وكل هذا من تفصيل قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ [النحل: 125]، فعُلِم أن هذا قيْد مُراد ثبوت الحُكم بثبوته، وانتفاء الحكم لانتفائه، والله أعلم.
ومنها قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ الْنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61]، مع أنه لا يقع قتلهم إلا بغير حق، فهذا نظير ما ذكره في الشِّرك، وأن هذا تشنيع لهذه الحالة التي لا شبهة لصاحبها، بل صاحبها أعظم الناس جُرمًا، وأشدهم لإساءة.
وأمـا قولـه تـعالى: وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ [الأنعام: 151] فليست من هذا النوع، وإنما هي من النوع الأول الذي هو الأصل، والحقُّ الذي قيَّدها الله به جاء مفسَّرًا في قوله ﷺ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، والزَّانِي المُحصَن، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ([1]).
ومنها قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة: 6]، مع أن فَقْد الماء ليس من شَرطه وجود السفر؛ فإنه إذا فُقد جاز التيمم حضرًا وسفرًا، لكن ذِكْرَ السفر بيانٌ للحالة الغالبة الموجودة التي يُفقد فيها الماء، أما الحضر فإنه يندر فيه عدم الماء جدًا.
ومن هذا السبب ظنَّ بعض العلماء أن السَّفر وَحْدَهُ مُبِيحٌ للتيمم، وإن كان الماء موجودًا!!
وهذا في غاية الضعف، وهَدي الرسول وأصحابه والمسلمين مخالفٌ لهذا القَول.
الشرح
لا شك أن التيمُّم إنما يكون لفقد الماء، أو للعجز عن استعماله، أما إذا وُجد الماء فلا يجوز، حتى ولو كان في السّفر.
بعض الناس يتساهل، يتساهل فإذا كان في السفر وقف، وصلّى بالتيمُّم، وهو يستطيع، الماء أمامه وخلفه، وهذا غلط، يجب.. ولهذا قال العلماء: ينبغي للإنسان إذا جاء الوقت، وأراد أن يصلِّي، ينظر، يطلب الماء، أمامه، خلفه، عن يمينه، قال: يشتريه أيضًا، إذا بُذل بثمنٍ مناسب، فلا ينبغي للإنسان أن يتساهل.
المتن
ومن ذلك قوله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [النساء: 101]، مع أنَّ الخوف ليس بشرطٍ لصحة القصر ومشروعيته بالاتفاق.
ولمَّا أُورد هذا على النبي ﷺ قال في جوابه: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ ([2])؛ يعني: وصدقة الله وإحسانُه في كل زمان ومكان، لا تقيد بخوفٍ ولا غيْره.
ومن العلماء مَن قال: إن هذا القيد من القسم الأول، وأن القصر التام -وهو قصر العدد، وقصر الأركان والهيئات- شرطه اجتماع السفر والخوف كما في الآية، فإن وُجد الخوف وحده لم يُقصر عدد الصلاة، وإنما تُقصر هيئاتها وصفاتها، وإن وُجد السفر وحده لم تُقصر هيئاتها وشروطها وإنما يُقصر عددها، ولا ينافي هذا كلام النبي ﷺ؛ فإنهم إنما سألوه عن قصر العدد فقط فأجابهم بأن الرُّخصة فيه عامة في كل الأحوال.
وهذا تقريرٌ مليح موافق للآية، غير مخالف لحديث الرسول، فيتعيَّن الأخذ به.
الشرح
نعم، باقي قاعدة من القواعد عشان نأخذ النصف، نعم.
المتن
القاعدة السابعة والعشرون:
المُحتَرزَاتِ في القرآن تقع في كل المواضع في أشد الحاجة إليها.
وهذه القاعدة جليلة النفع، عظيمة الوقع؛ وذلك أن كلَّ موضعٍ يسوق الله فيه حُكمًا من الأحكام، أو خَبرًا من الأخبار، فيتشوَّف الذِّهنُ فيه إلى شيءٍ آخر إلا وجدت الله قد قَرن به ذلك الأمر الذي يعلَق في الأذهانِ، فيبيِّنه أحسن بيان، وهذا أعلى أنواع التعليم الذي لا يُبقي إشكالًا إلا أزاله، ولا احتمالًا إلا وضَّحه، وهذا يدل على سعة علم الله وحكمته، وذلك في القرآن كثير جدًا، ولنذكر بعض أمثلة توضح هذه القاعدة، وتُحسِّن للداخلِ الدخول إليها:
فمن ذلك قوله تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [النمل: 91]، لما خصَّها بالذكر ربما وقع في بعض الأذهان تخصيصُ ربوبيته بها، أزال هذا الوهم بقوله: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [النمل: 91].
الشرح
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ [النمل: 91]، فلما صار إليه تَطَرُّقٌ إلى الذِّهن؛ التخصيص، ربّ هذه البلد؛ مكة فقط، فقال: الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [النمل: 91]، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [النمل: 91].
وفي الآية الأخرى: ربوبيةُ كلِّ شيء، نعم.
المتن
ومنها: قوله تعالى: فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاَءِ [هود: 109]، لما كان قد يقع في الذِّهنِ أنهم على حُجَّة وبُرهان، فأبان بقوله: مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ [هود: 109]، أنهم ضُلاَّل اقتدوا بمثلهم، ثُمَّ لما كان قد يتوهم المتوهِّم أنهم في طمأنينة من قولهم، وعلى يقين من مذهبهم، ولربما توهم أيضًا أن الأليق أن لا تبسط لهم الدنيا، احترز من ذلك بقوله: وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ إلى قوله: وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ [هود: 109، 110].
ولما قال تعالى: لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 95]، ربما يَظنُّ الظَّان أنهم لا يستوون مع المجاهدين ولو كانوا معذورين، أزال هذا الوهم بقوله: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء: 95].
وكذلك لما قال تعالى: لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد: 10]، ربما توهَّم أحد أن المفضولين ليس لهم عند الله مقام ولا مرتبة، فأزال هذا الوهم بقوله: وَكُلًا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10]، ثم لما كان ربما يتوهم أن هذا الأجر يُستحق بمجرد العمل المذكور ولو خَلا من الإخلاص، أزال هذا الوهم بقوله: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد: 10].
ومنها: قوله تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [النمل: 48]، ربما وقع في الذِّهنِ أنهم يفسدون ويُصلِحون، أزال هذا بقوله: وَلاَ يُصْلِحُونَ [النمل: 48] أي: لا خير فيهم أصلًا، مع شرِّهم العظيم.
ومنها: أنه قال في عدة مواضع: وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ [النمل: 80]، و[الروم: 52] ربما يتوهَّم أحدٌ أنهم وإن لم يسمعوا فإنهم يفهمون الإشارة، أزال هذا الاحتمال بقوله: إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ [النمل: 80]، فهذه حالة لا تقبل سماعًا ولا رؤية لتحصل الإشارة، وهذا نهاية الإِعراض.
ومنها قوله تعالى: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص: 56]، ربما توهم أحد أن هدايته تقع جزافًا من غير سبب، أزال هذا بقوله: وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص: 56]؛ أي: بمن يصلح للهداية لذكائه وخيره، ممن ليس كذلك، فأبان أن هدايته تابعة لحكمته التي هي وَضْعُ الأشياء مواضعها، ومن كان حَسَن الفهم رأى من هذا النوع شيئًا كثيرًا.
الشرح
ولا شك أن المُحترزات في القرآن من أحسن البيان، والله تعالى يَقرِن محترزاته، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا قال: وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ [النمل: 91]، مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ [هود: 109]، (..........) وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد: 10]؛ أي: الجَنَّة.
وفّق الله الجميع لطاعته، وصلَّى الله على محمد، وآله وسلّم.
([1]) أخرجه البخاري في كتاب الديات - باب قول الله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ (6878)، ومسلم في كتاب القسامة - باب ما يباح به دم المسلم (1676).
([2])أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين وقصرها- باب صلاة المسافرين وقصرها (686).