شعار الموقع

شرح كتاب القواعد الحسان الدرس السادس

00:00
00:00
تحميل
211

     

الحَمْدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عبدِهِ ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال العلّامة عبد الرحمن السعدي رَحِمَهُ اللهُ تعالى:

المتن

القاعدة الثامنة والعشرون: في ذِكرِ الأوصاف الجَامعة التي وصف الله بها المؤمن.

لما كان الإيمان أصلَ الخير كله والفلاح، وبفقده يفقد كل خيرٍ ديني ودنيوي وأُخروي، أكثر الله من ذِكره في القرآن جدًا: أمرًا به، ونهيًا عن ضده، وترغيبًا فيه، وبيانَ أوصافِ أهله، وما لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي.

فأما إذا كان المقام مقام خطاب للمؤمنين بالأمر والنهي، أو مقام إثبات الأحكام الدنيوية بوصفِ الإيمان، فإنها تتناول كل مؤمن، سواء كان متمِّمًا لواجبات الإيمان وأحكامه، أو ناقصًا في شيء منها.

وأما إن كان المقام مقامُ مدحٍ وثناء، وبيان الجزاء الكامل للمؤمن، فإنما المراد بذلك المؤمن حقًا، الجامع لمعاني الإيمان، وهذا هو المراد بيانه هنا.

الشرح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وصلّى الله وسلّم وبارك على عبد الله، ورسوله نبينا محمد، وعلى آلهِ وصحبه.

أما بعد:

فهذه القاعدة؛ القاعدة الثامنة والعشرون: في ذِكر الأوصاف الجامعة التي وصف الله بها المؤمن.

الإيمان هو أصلُ كلِّ خَير وفلاح، في الدُّنيا والآخرة، فإذا دخل الإنسان في اسم الإيمان في الدُّنيا حَصل له الأمان، على نفسه، وماله، وأهله، صار معصوم الدم والمال، وصار من أهل الهداية، من أهل الهداية الذين يهديهم الله، وصار داخلًا في النعمة الدينية التي خصّ الله بها المؤمن دون غيره.

وفي الآخرة يأمن من عذاب القبر، في البرزخ، ويأمن من عذاب النار.

فلهذا كان الإيمان أصل كلِّ خَير وفلاح في الدُّنيا والآخرة، كل خير وفلاح في الدنيا أصله الإيمان.

فالمؤمن إذا دخلَ في اسم الإيمان، حَرُم مالُه ودمه، وصار من أهل الهداية، ومن أهل التوفيق والتسديد.

وفي الآخرة يأمن من عذاب القبر في البرزخ، ومن عذاب النار في الآخرة، وله الجنة والكرامة.

ولهذا أكثر الله من ذكره في القرآن: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 136]، ونَهى الله عن ضده وهو الكُفر، وتوعَّد على ذلك: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [آل عمران: 10]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [البقرة: 161].

والمؤمنون لهم حالان:

الحالة الأول: حالةُ وصفٍ؛ وهو أنْ يدخلَ في اسم الإيمان، لكن ليس عنده  كمال، عنده أصل الإيمان.

ففي هذه الحالة يدخل في خطاب المؤمنين؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 104]، يدخل في الخطاب سواء كان مؤمنًا كامل الإيمان، أو ناقص الإيمان، يدخل في الخطاب، تَثْبُتُ له الأحكام الدنيوية، أحكام المؤمنين، تثبت لمن دخل في اسم الإيمان، ولو كان ناقص الإيمان، ويُكلَّف بالواجبات، واجبات الإيمان.

الحالة الثانية: حالة الكمال، هذا إذا كان المقام مقام مدح، وثناء، وبيان للجزاء الكامل، هذا خاص بالمؤمن الكامل، الذي أدى الواجبات، وتَرك المحرّمات، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [الأنفال: 2].

وهو في الحالة الأولى؛ حالة نقص الإيمان، قد يُنفى الإيمان عن الأصل أحيانا، ويُراد الإيمان الكامل، وإن كان عنده أصل الإيمان؛ لقوله ﷺ: لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُو مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، وَلَا يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ إِلَيْهِ فِيهَا النَّاسُ أَعْيُنَهُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ([1]).

نُفي عنه الإيمان، والمراد بالإيمان الكامل، ولكن عنده أصل الإيمان، ليس بكافر، والشارب لو كان كافرًا لوجب قتله، ولم يرث من أقاربه المؤمنين، ولكن هناك توارث، ولا يُقتل؛ وإنما يُقام عليه الحد.

فعنده أصلُ الإيمان، فدلّ على أن المنفي كمال الإيمان.

المتن

فنقول: وصف الله المؤمن في كتابه باعترافه وتصديقه بجميع عقائد الدِّين.

الشرح

تصديقه وإذعانه.

المتن

وبإرادة ما يُحبه الله ويرضاه، وبالعمل بما يحبه الله ويرضاه، وبترك جميع المعاصي، وبالمبادرة بالتوبة مما صدر منه منها، وبأن إيمانهم أثَّر في أخْلَاقهم، وأقوالهم، وأفعَالهم الآثار الطيبة، فوصف المؤمنين بالإيمان بالأصول الجامعة، وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيرِه، شرهِ ، وأنهم يؤمنون بكلِّ ما أوتيه الرُّسل كلهم، ويؤمنون بالغيب.

ووصفهم بالسمع والطاعة، والانقياد ظاهرًا وباطنًا، ووصفهم بأنهم إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ۝ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا [الأنفال: 2 - 4].

الشرح

هؤلاء المؤمنون الكُمَّل، هذه أوصاف المؤمنون الكُمَّل، وهم الذين تنطبق عليهم صفات  المدح، وهم الذين بشّرهم الله في الآخرة بالجنة، والكرامة، بخلاف ناقص الإيمان هذا مُتَوَعَّد؛ يُنفَى عنه الإيمان في الدنيا، ويُتَوَعَّد بالعذاب في الآخرة.

مرتكِب الكبيرة مؤمن، لكن عليه الوعيد، القاتل والزاني وشارب الخمر مؤمن، لكن عليه الوعيد في الآخرة، مُتوعَّد بالنار، يُرفَع عنه الإيمان، وإن كان عنده أصل الإيمان.

أمَّا المؤمن والكُمَّل.. ويدخل في خطاب المؤمنين؛ يا أيها الذين آمنوا، يدخل المؤمن ناقص الإيمان وضعيف الإيمان، الواجبات التي يُكلَّف بها المؤمنون يُكلَّف بها ناقص الإيمان وضعيف الإيمان.

لكن المؤمنون الكُمَّل خصائصهم أن الثواب والبشرى والهداية التي وُعدوا بها في الآخرة خاصَّةً بهم، نعم.

المتن

ووصفهم بأن جلودهم تقشعر، وعيونهم تفيض من الدمع، وقلوبهم تلين وتطمئن لآيات الله وذكره.

الشرح

هذا المؤمنون الكُمَّل، نعم.

المتن

وبأنهم يخشون ربهم في الغيب والشهادة، وأنهم يُؤتُون ما آتوا وقلوبهم وَجِلَةٌ أنهم إلى ربهم راجعون.

الشرح

"ووعدهم بأنعم وأطيب البُشرَى وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [الحج: 34، 35]". ساقطة عندكَ، نعم.

المتن

ووصَفَهُمْ بالخشوع في أحوالهم عمومًا، وفي الصلاة خصوصًا، وأنهم عن اللغو معرضون، وللزكاة فاعلون، ولفروجهم حافظون، إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، وأنهم بشهاداتهم قائمون، ولأماناتهم وعهدهم مراعون.

الشرح

كلُّ هذا وصفٌ للمؤمنين الكُمَّل الذين أدوا الواجبات، وتركوا المُحَرَّمَات، نعم.

المتن

ووصفهم باليقين الكامل الذي لا ريب فيه، وبالجهاد بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، ووصفهم بالإخلاص لربهم في كل ما يأتون ويذرون، ووصفهم بمحبة المؤمنين..

الشرح

عندك سقطٌ الآن أيضًا، يمكن أن يقرب من الصفحة "ووصفهم بأنهم يمشون على الأرض هَوْنًا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلامًا، وأنهم يبيتون لربهم سُجَّدًا وقيامًا، وأنهم يقولون بدعائهم وأعمالهم وأخلاقهم: رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان: 65]، وأنهم مُقْتَصِدُون وَسَطٌ في كلِّ شئونهم، إذا أنفقوا لمْ يسرفوا ولمْ يَقتروا، وكانوا بين ذلك قوامًا، وأنهم لا يدعون مع الله إلهًا آخر، ولا يقتلون النفس التي حرَّم الله إلا بالحق، ولا يزنون، وأنهم لا يشهدون الزور، وإذا مروا باللغو مروا كرامًا، وأنهم إذا ذُكِّروا بآيات ربهم لمْ يخروا عليها صُمًّا وعميانًا، بل خروا سُجَّدًا وبُكيًّا، ويخرون للأذقان يبكون، وتزيدهم رؤية آيات الله وسماعها خشوعًا وإخباتًا، وأنهم يطلبون السموّ والعلوّ دائمًا، فلا يرضون إلا أن يكونوا أئمة في الهدى، والإيمان والتقوى، ومكارم الأخلاق.

وأنهم يُقدّرون الواجب عليهم، ومسؤوليتهم أمام الله عمّا استرعاهم من الأولاد والزوجات وغيرهم، فيُحسنون القيام عليهم في تأديبهم وتربيتهم؛ ليكونوا قرّة عين لهم.

هذا غير موجود ساقط، هذه نسخة قديمة، نعم.

المتن

ووصفهم بمحبة المؤمنين، والدعاء لإخوانهم من المؤمنين السابقين واللاحقين، وأنهم مجتهدون في إزالة الغلِّ من قلوبهم على المؤمنين، وبأنهم يتولّون الله ورسوله وعباده المؤمنين، ويتبرؤون من موالاة جميع أعداء الدين، وبأنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويطيعون الله ورسوله في كل أحوالهم.

فجمع الله لهم بين العقائد الحقَّة، واليقين الكامل، والإِنابة التامة التي آثارها الانقياد لفعل المأمورات، وترك المنهيَّات، والوقوف على الحدود الشرعيات.

الشرح

هؤلاء المؤمنون الكُمّل، فجمعوا بين العقائد الحقّة، عقيدة حقّة صحيحة، ويقين كامل، وإنابة وخشوع، وأعمالٍ مرضية، هذه أوصاف المؤمنين الكُمّل.

المتن

فهذه الأوصاف الجليلة وهي وصف المؤمن المطلَق الذي سلم من العقاب، واستحقّ الثواب، ونال كل خير رُتِّب على الإِيمان.

الشرح

هذا المؤمن الذي أدَّى الواجبَ، وتركَ المُحَرَّمَ، يُسمّى مؤمنًا بإطلاق، مؤمنٌ معه الإيمان المُطلق، ومعنى الإيمان المطلق: الإيمان الكامل.

وأما العاصي معه مُطلّق الإيمان، وإيش الفرق بين الإيمان المُطلَق، ومُطلق الإيمان؟

مُطلق الإيمان: أصل الإيمان، عنده أصل الإيمان، لكن عنده تقصير في بعض الواجبات، أو فعل بعض المحرّمات، هذا يُعطى مُطلق الإيمان، فلا يقال: مؤمن، عند أهل السُّنَّة والجماعة، وإنما يُقيّد فيقال: مؤمنٌ ناقص الإيمان، مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسقٌ بكبيرته، يفعل الكبائر.

وأما المؤمن الإيمان المُطلَق: هو المؤمن الكامل الإيمان، يُطلق عليه، فيقول: مؤمن مُطلق، وكما أن في الإثبات يُقيّد فكذلك في النفي، الفاسق والعاصي لا يُقال: ليس بمؤمن، ولا يقال: مؤمن.

فالفاسق والعاصي، إن قلت: مؤمن وسكت، تغلط، وإن قلت: ليس بمؤمن وسكت، تغلط، لا بد أن تُقيّد؛ لأنك إذا قلت: مؤمن، وسكت وافقت المرجئة؛  الذين يقولون: إن الأعمال ما تؤثر، وإذا قلت: ليس بمؤمن، وافقت الخوارج؛  الذين يُكفرّون بالمعاصي.

فلابد من التقييد في النفي وفي الإثبات؛ في النفي تقول: ليس بمؤمنٍ حقًّا، ليس بصادق الإيمان، ولا تقول: ليس بمؤمن وتسكت؛ لأنك إنْ نفيتَ الإيمانَ كفّرته، وافقتَ الخوارج.

وكذلك في الإثبات، ما تقول: مؤمن وتسكت، إذا قلت: مؤمنًا، وافقتَ المرجئة؛ الذين يقولون: لا يضرُّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفعُ مع الكفر طاعة.

تقول: مؤمنٌ ناقصُ الإيمان، مؤمنٌ ضعيف الإيمان، مؤمنٌ بإيمانه، فاسق بكبيرته.

الخوارج يقولون: ليس بمؤمن، يكفّرونه، والمرجئة يقولون: مؤمن، وأهل السنة يقولون: مؤمن بتقييد، وليس بمؤمنٍ بدون قيدٍ.

المتن

ونال كل خير رُتِّب على الإِيمان، فإن الله رتَّب على الإِيمان في كتابه من الفوائد والثمرات ما لا يقل عن مائة فائدة، كل واحدة منها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها.

الشرح

الله! شوف، ما لا يقل.. أكثرُ من مائة فائدة، رُتب على الإيمان، كلُّ واحدة خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، مثل.. منها ما ذكر المؤلف: أن لهم البُشرى، لهم الكرامة، لهم الهِداية، أهلُ الإنابة، إلى آخره.

المتن

رتَّب على الإيمان نَيْل رضاه، الذي هو أكبر من كل شيء، ورتَّب عليه دخول الجنة، والنجاة من النار، والسلامة من عذاب القبر.

الشرح

كل هذه من الفوائد، فوائد وثمرات الإيمان الكامل: دخول الجنَّة، النجاة من النَّار، السَّلامة من عذاب الله، السَّلامة من عذاب القبر، السَّلامة من أهوال القيامة، والبُشرى الكاملة في الدُّنيا، والبُشرى الكاملة في الآخرة، والثَّبات في الدين، وفي الدنيا على الإيمان، والطاعات، وعند الممات.

المتن

ومن صعوبات القيامة، وتعسُّر أحوالها، والبُشرى الكاملة في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، والثَّبات في الدُّنيا على الإِيمان، والطاعات، وعند الموت، وفي القبر على الإِيمان، والتوحيد، والجواب النافع السديد.

ورتَّب عليه الحياة الطيبة في الدنيا، والرزق، والحسنة، وتيسير العبد لليسرى، وتجنيبه للعُسرى، وطمأنينة القلوب، وراحة النفوس، والقناعة التامَّة، وصلاح الأحوال، وصلاح الذريّة، وجَعْلهم قُرّة عين للمؤمنين، والصبر عند المحن والمصائب، وحَمْل الله عنهم الأثقال، ومدافعة الله عنهم جميع الشرور، والنصر على الأعداء، ورَفْع المؤاخذة عن الناسي، والجاهل، والمخطئ منهم، وأن الله لم يضع عليهم الآصار، بل أزالها ولم يحملهم ما لا طاقة لهم فيه، ومغفرة الذنوب بإيمانهم، والتوفيق للتوبة.

الشرح

كم هذه الفائدة؟ فوائد كثيرة، وهذه أمثلة، وليس مقصود المؤلف الاستفصال، إنما يَذكُر أمثلة من الفوائد، فالفوائد تزيد على مائة.

المتن

فالإِيمان أكبرُ وسيلة للقُرب من الله، والقُرب من رحمته، ونيل ثوابه، وأكبر وسيلة لمغفرة الذنوب، وإزالة الشدائد أو تخفيفها، وثمرات الإيمان على وجه التفصيل كثيرة، وبالجملة خيرات الدنيا والآخرة مرتَّبة على الإيمان، كما أن الشرور مرتبة على فقده، والله أعلم.

القاعدة التاسعة والعشرون:

في الفوائد التي يَجتنيها العبد في معرفته وفهمه لأجناسِ علوم القرآن.

الشرح

هذه القاعدة في الفوائد والثمرات التي يجنيها العبد إذا عَرف وفهم أجناس علوم القرآن؛ يعني أنواع علوم القرآن، فالقرآن له أنواع؛ الناسخ والمنسوخ، مثلًا: العموم والخصوص، مثلًا: أسباب النزول، فهو علوم أجناس.

فهذه القاعدة في الفوائد والثمرات التي يجنيها العبد إذا عَرف أنواع علوم القرآن، فأجناس، يعني: أنواع.

المتن

وهذه القاعدة تَكادُ أن تكون هي المقصود الأعظم في علم التفسير.

الشرح

وهذه الفائدة: هي المقصود الأعظم في علم التفسير، لماذا يُفسِّرون القرآن؛ حتى يَحصلَ على الفوائد والثمرات، التي تَحْظَى بفهمها.

المتن

وذلك أن القرآن مشتملٌ على علومٍ متنوِّعة، وأصناف جليلة من العلوم، فعلى العبد أن يعرف المقصود من كل نوعٍ منها، ويعمل على هذا، ويتبع الآيات الواردة فيه، فيُحصِّل المراد منها علمًا، وتصديقًا، وحالًا، وعملًا.

فأجلُّ علوم القرآن على الإطلاق: علم التوحيد.

الشرح

هذا أجلُّها: علمُ التوحيد، فعلوم القرآن أجناس، الجنس الأول: علم التوحيد، علم التوحيد هذا هو الجنس الأول، ويأتي علم الفقه، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلم العموم والخصوص.

"أجلُّها"؛ أجلُّ علوم القرآن هو التوحيد، والله تعالى ضمّن كتابه علم التوحيد، بأنواعه الثلاث: توحيد الرُّبوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن التوحيد هو الذي من أجله خلق الله الخلق، وهو الذي من أجله أرسل الله الرسل، وهو الذي من أجله أنزل الله الكُتب؛ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36].

المتن

فأجلُّ علوم القرآن على الإطلاق: علم التوحيد، وما لله من صفات الكمال، فإذا مرَّت عليه الآيات في توحيد الله وأسمائه وصفاته أقبل عليها، فإذا فهمها وفهم المراد بها أثبتها لله على وجه لا يماثِله فيه أحد.

وعرف أنه كما ليس لله مثيل في ذاته فليس له مثيلٌ في صفاته، وامتلأ قلبه من معرفة ربه وحبه بحسب علمه بكمال الله وعظمته؛ فإن القلوب مجبولة على محبة الكمال، فكيف بمَن له كل الكمال، ومنه جميع النِّعم الجزال.

ويعرف أن أصل الأصول هو الإيمان بالله، وأن هذا الأصل يقوى ويكمل بحسب معرفة العبد بربه، وفهمه لمعاني صفاته ونعوته، وامتلاء القلب من معرفتها ومحبتها، وأيضًا يُعرف أنه بتكميله هذا العلم تكمل علومه وأعماله؛ فإن هذا هو أصل العلم، وأصل التعبد.

الشرح

إذن هذا النوع الأول، وهو الأصل الأول، أو الجنس الأول: هو علم التوحيد، فالعلم الثاني: علم صفات الرسل وأحوالهم.

الجنس الثاني من علوم القرآن.

المتن

ومن علوم القرآن: صفات الرسل، وأحوالهم، وما جرى لهم وعليهم مع من وافقهم وخالفهم.

الشرح

هذا الجنس الثاني.

المتن

وما هم عليه من الأوصاف الراقية، فإذا مرَّت عليه هذه الآيات عَرف بها أوصافهم، وازدادت معرفته بهم ومحبتهم، وعَرف ما هم عليه من الأخلاق والأعمال، خصوصًا إمامهم وسيدهم محمد ﷺ، فيقتدي بأخلاقهم وأعمالهم بحسب ما يقدر عليه، ويفهم أن الإيمان بهم تمامه وكماله معرفته التَّامة بأحوالهم، ومحبتهم، واتباعهم، وفي القرآن من نعوتهم الشيء الكثير الذي يحصل به تمام الكفاية، ويستفيد أيضًا الاقتداء بتعليماتهم العالية، وإرشاداتهم للخلق، وحسن خطابهم، ولطف جوابهم، وتمام صبرهم، فليس القصد من قصصهم أن تكون سَمَرًا، وإنما القصد أن تكون عِبَرًا.

الشرح

هذا النوع الثاني، أو الجنس الثاني: صفات الرسل وأحوالهم، فالمسلم يستفيد هذه العبر والفوائد والأحكام التي تستنبط من قصص الأنبياء والرُّسل، ويستفيد أيضًا الاقتداء بالرسل، في أخلاقهم وأعمالهم وأحوالهم.

فليس المقصود من قصص الرُّسل قصة عابرة، لا، المقصود: الفوائد والثمرات، التي يجنيها، انظر صبر الرسل، انظر إيمانهم.

نوح، قال الله تعالى: فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا [العنكبوت: 14]، إذا مرّت بك، تَحْمِلُكَ على الصبر، اقتدِ به في الصبر، والدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى، ومخاطبة الناس بالخطاب الطيب، والصبر على أذاهم.

ومع ذلك رغم هذه المدة الطويلة صبَر صبْرا عظيما، وأخبر الله عنه، أنه قال: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ۝ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا ۝ وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ۝ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا ۝ ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا [نوح: 5 - 9].

ما قصّر عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، دعاهم ليلا، ونهارا، ولكنهم قلوبهم قاسية، حتى إنه لم يؤمن في هذه المدة الطويلة ألف سنة، إلا القليل، القليل ركبوا في السفينة، وحتى إنَّ الأجداد يوصون الأحفاد بالكفر بالوحي، الأجداد يوصون الأحفاد، بالكفر، وعدم الإيمان به.

حتى إن الله أعلمه: إنه لن يزيد أحد من أهل الإيمان، أهل الإيمان الذين آمنوا، ما فيه زيادة، فلما عَلِمَ ذلك نوح عَلَيْهِ السَّلَامُ من ربه عَزَّ وَجَلَّ، دعا عليهم، قال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)} [نوح: 26]، ما في فائدة.

أَعْلَمَهُ اللهُ: إنه ما فيه زيادة، وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [نوح: 26]، تستفيد من سيرته أم لا تستفيد؟ تستفيد.

كذلك نبينا ﷺ، في سيرته وأعماله، وأحواله.

المتن

ومن علوم القرآن: علم أهل السعادة والخير، وأهل الشقاوة والشر، وفي معرفته لهم ولأوصافهم ونعوتهم فوائد: الترغيب في الاقتداء بالأخيار، والترهيب من أحوال الأشرار، والفرقان بين هؤلاء وهؤلاء، وبيان الصفات والطرق التي وصل بها هؤلاء إلى دار النعيم، وأولئك إلى دار الجحيم.

الشرح

نعم، علم القرآن، الذي هو النوع الثالث، علم الجزاء في الدُّنيا، والبرزخ في الآخرة، جزاء المؤمنين في الدنيا؛ النصر والهداية، والتوفيق والتسديد، وفي البرزخ كذلك السلامة من العذاب، وفي الآخرة السلامة من عذاب النار.

وفي ذلك مقاصد جليلة، عندك؟

القارئ:

لا

المتن

ومحبة هؤلاء الأتقياء من الإيمان، كما أن بغض أولئك من الإيمان، وكلَّما كان العبد أعرف لأحوالهم تمكن من هذه المقاصد.

ومن علوم القرآن: علم الجزاء في الدنيا، والبرزخ، والآخرة، على أعمال الخير، وأعمال الشر، وفي ذلك مقاصد جليلة: الإيمان بكمال عدل الله، وسعة فضله، والإيمان باليوم الآخر.

الشرح

نعم، هذا العلم، والعلم الذي قبله: علم أهل السعادة، والخير، وأهل الشقاء والشر، فيعرفه، يعلم صفات هؤلاء، وصفات هؤلاء.

فيرغب في صفات المؤمنين، ويجاهد نفسه، ويحذر من صفات الأشقياء والأشرار.

المتن

فإن تمام الإِيمان بذلك يتوقف على معرفة ما يكون فيه، والترغيب والترهيب بالرغبة في الأعمال التي رتَّب الله عليها الجزاء الجزيل، والرهبة من ضدها.

الشرح

علوم القرآن أجناس، أجناس، يعني: أنواع، ذكر المؤلف عدة أنواع، ذكرَ لنا الآن عدة أنواع: علم الجزاء والحساب، علم أهل السعادة، وأهل الشقاوة، علم صفات الرُّسل، والعلم الأول-- ((@ كلمة غير مفهومة- 23:42)) -- علم التوحيد.

المتن

ومن علوم القرآن: الأمر والنهي.

الشرح

هذا أيضًا الجنس الرابع، والخامس: الأمر والنهي.

المتن

وفي ذلك مقاصد جليلة: معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله، فإن المكلَّفين مكلَّفون بمعرفة ما أمروا به، وما نُهوا عنه، وبالعمل بذلك، والعلم سابقٌ للعمل، وطريقُ ذلك: إذا مرَّ عليه نص فيه أمر بشيءٍ عرفه، وفهم ما يدخل فيه، وما لا يدخل، وحاسب نفسه: هل هو قائمٌ بذلك كله، أو بعضه، أو تاركه؟

فإن كان قائمًا به فليحمد الله، ويسأله الثبات والزيادة من الخير، وإن كان مقصِّرًا فيه فليعلم أنه مطالبٌ به، وملزوم به، فليستعن الله على فعله، وليجاهد نفسه على ذلك، وكذلك في النهي؛ ليَعرف ما يُراد منه، وما يدخل في ذلك الذي نهى الله عنه، ثم لينظر إلى نفسه: فإن كان قد ترك ذلك، فليحمد الله على ذلك، ويسأله أن يُثبِّته على ترك المناهي، كما يسأله الثبات على فعل الطاعات، وليجعل الداعي له على التَرك امتثال طاعة الله؛ ليكن تركه عبادة، كما كان فعله عبادة، وإن كان غير تارك له فليتب إلى الله منه توبةً جازمة، وليبادر، ولا تمنعه الشهوات الدنية عن مجانبة ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء، فمن كان عنده هذه المطالب وغيرها، عاملًا على هذه الطريقة، فإنه ماشٍ على الصراط المستقيم، والطريقة المُثلى فيما عليه من الاسترشاد بكتاب الله، وحصل له بذلك علم غزير، وخير كثير.

الشرح

نعم، هذا العلم الخامس، علم الأمر والنهي، والقرآن فيه أمر ونهي، أمر: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ [الأنعام: 72]، نهي: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32]، يتأمل المسلم؛ أمر الله بإقامة الصلاة لا بد أن تعلم حدود الصلاة، كيفيتها وشروطها، وأفعالها، وهيئاتها، وتجاهد نفسك على العمل، وامتثال الأوامر.

والنهي: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32]، لَا تَقُولُوا رَاعِنَا [البقرة: 104]، فإن المسلم ينظر في هذا النهي، ما هو هذا المنهي؟ وما الذي يدخل فيه؟ وما لا يدخل فيه؟ وما هي أسبابه وذرائعه؛ ليتجنبها؟

المتن

القاعدة الثلاثون:

أركان الإيمان بالأسماء الحسنى ثلاثة: إيماننا بالاسم،

وبما دل عليه من المعنى، وبما تعلق به من الآثار.

وهذه القاعدة العظيمة خاصة بأسماء الرب، وفي القرآن من الأسماء الحسنى ما ينيف عن ثمانين اسمًا كُرِّرت في آيات متعددة بحسب ما يناسب المقام، كما تقدم بعض الإشارة إلى المناسبة بها .

وهذه القاعدة تنفعُك في كلِّ اسمٍ من أسمائه الحسنى المتعلِّقة بالخلق، والأمر، والثواب، والعقاب؛ فعليك أن تؤمن بأنه عليم وذو علم عظيم محيط بكل شيء، قدير ذو قدرة وقوة عظيمة، ويقدر على كل شيء، و رحيم وذو رحمة عظيمة، ورحمته وسعت كل شيء، والثلاثة متلازمة، فالاسم دلَّ على الوصف، وذلك دلَّ على المُتَعَلَّق، فمن نفى واحدًا من هذه الأمور الثلاثة فإنه لم يتم إيمانه بأسماء الرب وصفاته الذي هو أصل التوحيد، ولنكتفِ بهذا الأنموذج ليُعرف أن الأسماء كلها على هذا النمط.

الشرح

نعم، هذه القاعدة -وإن كانت قصيرة- قاعدة عظيمة، أركان الإيمان بالأسماء الحسنى ثلاثة: الإيمان بالاسم، وبما دلّ عليه من المعنى، وبما تعلّق به من آثار.

مثلًا: الرحمن. الرحمن: من أسماء الله، هو الرحمن الرحيم، نؤمن بهذا الاسم، وأنه اسم الله عَزَّ وَجَلَّ، ونؤمن بما دلّ عليه من المعنى وهي صفة الرحمة، ونؤمن بما يتعلّق به من الأثر، وهو: أنه ذو رحمة يرحم بها عباده، وأن الرحمة نوعان: رحمة عامة للمؤمن والكافر، فلهذا فإن الله تعالى يرزق المؤمن والكافر، وي-- ((@ كلمة غير مفهومة- 27:37)) --.

ورحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43]؛ وهي توفيقهم وتربيتهم بالإيمان والعمل الصالح، وتجنيبهم ما يضرهم في الدنيا والآخرة.

وهذا في كلِّ اسم، تؤمن بالاسم، ثم تؤمن بالمعنى؛ وهو الصفة، ثم بالأثر المتعلِّق بالمخلوقين.

العليم، تؤمن بالاسم، وأن من أسمائه العليم، ونؤمن بالصفة، وهو: أن الله متصفٌ بالعلم، ونؤمن بالأثر، وهو: أنه سبحانه عليمٌ بأحوال الخلق، لا يَخفى عليه شيء.

قدير: نؤمن بالاسم، اسمه: القدير، ونؤمن بالمعنى، وهي: صفة القدرة، ونؤمن بالأثر، وهو أن قدرة الله، وهو أن الله لا يعجزه من في الأرض ولا في السماء. وهكذا.

هذه قاعدة عظيمة، يمكن تعيد عليها؛ لأهميتها، أعدها، قاعدة عظيمة، ويمكن تحفظها.

المتن

القاعدة الثلاثون:

أركان الإيمان بالأسماء الحُسنى ثلاثة: إيمانُنا بالاسم،

وبما دلَّ عليه من المعنى، وبما تعلَّق به من الآثار.

الشرح

"وبما دلَّ عليه من المعنى": هذا الوصف؛ لأن أسماء الله ليست جامدةً، مُشْتَقَّة، كلُّ اسمٍ مشتمل على صفة، العليم مشتمل على صفة العلم، القدير مشتمل على صفة القدرة، الرحيم مشتمل على صفة الرحمة، الحكيم مشتمل على صفة الحكمة، الخبير مشتمل على صفة الخبرة، العزيز مشتمل على صفة العزة، وهكذا.

وكذلك الآثار، لكن بعض الأسماء ليس لها تعلّق بالآثار، مثل: الاستواء، الاستواء من أسماء الله، استواء الله على العرش، هل له تعلُّق بالمخلوقين بالآثار، لكن في بعض الأسماء لا يكون لها تعلُّق، نعم.

المتن

وهذه القاعدة العظيمة خاصَّةٌ بأسماء الرب، وفي القرآن من الأسماء الحسنى ما ينيف عن ثمانين اسمًا.

الشرح

ما يُنَيِّف في القرآن، تقول: ما يزيد عن ثمانين اسمًا لله مذكور في القرآن، وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180]، ومن ذلك: دعاء الله بها، والتوسل إليه بأسمائه، هذه من الفوائد.

المتن

وفي القرآن من الأسماء الحسنى ما ينيف عن ثمانين اسمًا كُرِّرت في آيات متعددة بحسب ما يناسب المقام، كما تقدم بعض الإشارة إلى المناسبة بها.

وهذه القاعدة تنفعُك في كلِّ اسمٍ من أسمائه الحسنى المتعلِّقة بالخلق، والأمر، والثواب، والعقاب؛ فعليك أن تؤمن بأنه عليم وذو علمٍ، عظيمٍ محيط بكل شيء، قدير ذو قدرة وقوة عظيمة، ويقدر على كل شيء.

الشرح

"تؤمن بأنه عليم"؛ هذا الاسم، "وذو علمٍ"؛ هذا الوصف، عظيمٍ محيط بكل شيء"؛ هذا الأثر، "قدير"؛ هذا الاسم، "ذو قدرة"؛ هذا الوصف، "وقوة عظيمة"، "ويقدر على كل شيء"؛ هذا الأثر.

"رحيم"؛ هذا الاسم، "ذو رحمة"؛ هذا الوصف، "ورحمته وسعت كل شيء"؛ هذا الأثر، والثلاثة متلازمة.

المتن

ورحيم وذو رحمة عظيمة، ورحمته وسعت كل شيء، والثلاثة متلازمة، فالاسم دلَّ على الوصف، وذلك دلَّ على المُتَعَلَّق.

الشرح

"فالاسم"؛ الرَّحيم، "دلَّ على الوصف"؛ الرحمة، والوصف "دلَّ على المُتَعَلَّق"؛ وهو رحمته بعباده.

المتن

فمن نفى واحدًا من هذه الأمور الثلاثة فإنه لم يتم إيمانه بأسماء الرب وصفاته الذي هو أصل التوحيد، ولنكتفِ بهذا الأنموذج ليُعرف أن الأسماء كلها على هذا النمط.

الشرح

نعم، هذه قاعدة عظيمة.

المتن

 القاعدة الحادية والثلاثون:

ربوبية الله في القرآن على نوعين: عامَّةٍ، وخاصَّةٍ.

كَثُرَ في القرآن ذِكْرُ ربوبية الربِّ لعباده، ومتعلَّقاتها، ولوازمها، وهي على نوعين:

ربوبيةٌ عامَّةٌ تَدْخُل فيها المخلوقاتُ كلها، بَرُّها وفاجرها، بل مكلَّفوها وغير المكلَّفين، حتى الجمادات، وهي: أنه تعالى المنفرد بخلقها، ورزقها، وتدبيرها، وإعطائها ما تحتاجه، أو تضطر إليه في بقائها، وحصول منافعها، ومقاصدها، فهذه التربية لا يخرج عنها أحد.

والنوع الثاني: في تربيته لأصفيائه وأوليائه، فيربيهم بالإيمان الكامل، ويوفقهم لتكميله، ويكمِّلهم بالأخلاق الجميلة، ويدفع عنهم الأخلاق الرذيلة، وييسِّرهم لليسرى، ويجنِّبهم العسرى.

وحقيقتها: التوفيق لكل خير، والحفظ من كل شر، وإنالة المحبوبات العاجلة والآجلة، وصرف المكروهات العاجلة والآجلة؛ فحيث أُطلقت ربوبيته تعالى فإن المراد بها المعنى الأول، مثل قوله: رَبّ العالمين وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 164] ونحو ذلك.

الشرح

نعم، هذه القاعدة أيضًا مفيدة؛ وهي أن ربوبية الله عَزَّ وَجَلَّ على نوعين: ربوبية عامَّةٌ، وربوبية خاصة.

الربوبية العامة: تشمل المؤمن والكافر، ومعنى هذه الربوبية العامة: أنَّ الله تعالى خَلقهم، خلقَ المؤمن والكافر، ويرزقهم، يرزق المؤمن والكافر، ويحفظهم بحفظه من الهلاك، وييسر لهم أرزاقهم.

ولهذا فإن الغنى والمال يعطيه الله للمؤمن والكافر، هذا تحت الربوبية العامة، و أيضًا يجيب دعاء المضطر.

أما الربوبية الخاصة: فهي خاصة بالمؤمن؛ بتوفيقه وتسديده، ويُعِينُهُم؛ بالإيمان، والأعمال الصالحة، ويحفظهم من الشرور والمعاصي، والفتن، هذه خاصة بالمؤمن، تربية خاصة بالمؤمن.

"وحقيقتها: التوفيق لكل خير"؛ هذا خاصٌّ بالمؤمن، أما الكافر فليس له نصيب منها.

المتن

وحيث قُيدت بما يحبه ويرضاه، أو وقع السؤال بها من الأنبياء وأتباعهم، فإنما المراد بها النوع الثاني، وهو متضمنٌ للنوع الأول؛ ولهذا تجد أسئلة الأنبياء وأتباعهم في القرآن بلفظ الربوبية غالبًا، فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة؛ ليلحظ العبد هذا المعنى النافع.

ونظير هذا المعنى الجليل: أن الله أَخبر في عدة آيات أن الخلق كلهم عباده وعبيده، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا [مريم: 93].

الشرح

هذه العبودية الخاصة، العبودية الخاصة، مثل: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63]، هذه عبودية خاصَّة، عباد الرحمن، وصَفَهُم، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا [الفرقان: 63]، هذه عبودية خاصَّة.

المتن

فكلُّهم مماليكه، وليس لهم من الملك والأمر شيء. ويخبر في بعض الآيات أن عباده بعض خَلقه، كقوله: وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان: 63].

الشرح

هذه العبودية الخاصّة.

المتن

ثم ذكر صفاتهم الجليلة: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عبادَه [الزمر: 36]، وفي قراءة: عَبْدَهُ، سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1]، وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا [البقرة: 23].

الشرح

كلُّ هذه العبودية الخاصة.

المتن

فالمراد بها بهذا النوع من قاموا بعبودية الله، وأخلصوا له الدين على اختلاف طبقاتهم، فالعبودية الأولى: يدخل فيها البرُّ والفاجر.

الشرح

هذه العبودية العامة: يدخل فيها البرُّ والفاجر.

المتن

والعبودية الثانية: صفة الأبرار، ولكن الفرق بين الربوبية والعبودية: أن الربوبية وصفُ الرب وفعله، والعبودية وصفُ العبيد وفعلهم.

الشرح

وهذه القاعدةُ قاعدةٌ مفيدة، إذا قُيدت العبودية بما يحبه الله ويرضاه، ووقع السؤال فيها من الأنبياء وأتباعهم، فيُراد بها العبودية الخاصّة، وهي تتضمن العبودية الأولى.

والعبودية العامة: هي التي يكون عبدًا لله ليس باختياره، يكون مُعَبَّدًا لله، يعني: مقهورًا، ومُذَلَّلًا، تنفذ فيه قدرة الله، ومشيئته، وإرادته.

وأما العبودية الخاصة: هو المؤمن الذي يعبد الله باختياره، باختياره هذا عبد الله، هذه العبودية الخاصة.

المتن

القاعدة الثانية والثلاثون:

إذا أمر الله بشيءٍ كان ناهيًا عن ضده، وإذا نهى عن شيءٍ كان آمرًا بضده، وإذا أَثنى على نفسه أو على أوليائه وأصفيائه بنفي شيءٍ من النقائص كان ذلك إثباتًا للكمال.

الشرح

هذه قاعدة أصولية معروفة: إذا أمرَ اللهُ.. هل الأمرُ بالشيء -يقول الأصُولِيُّون-: نهيٌ عن ضِدِّه أو لا؟

فلذا قال: أَقِيمُوا الصَّلَاةَ [الأنعام: 72]، هذا أمر، وهو نهيٌ عن ترك الصلاة، قال الله: وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا [الإسراء: 32]، هذا نهي، وهو أمرٌ بضده، وهو: عليه أن يأتي الحلال، ويفعل الحلال.

فالأمر بالشيء نهيٌ عن ضده، والنهي عن الشيء أمر بضده، "وإذا أثنى على نفسه أو على أوليائه وأصفيائه بنفي شيء، كان ذلك إثباتًا للكمال".

المتن

وذلك لأنه لا يمكن امتثالُ الأمر على وجه الكمال إلا بترك ضده، فحيث أمر بالتوحيد، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحجِّ، وبرِّ الوالدين، وصلة الأرحام، والعدل، كان نهيًا عن الشرك، وعن ترك الصلاة، وترك الزكاة، وترك الصوم، وترك الحج، وعن العقوق، والقطيعة.

وحيث نهى عن الشرك، والصلاة ، إلى آخر المذكورات، كان آمرًا بالتوحيد، وفعل الصلاة، إلى آخرها.

وحيث أمر بالصبر، والشُّكر، وإقبال القلب على الله: إنابة، ومحبة، وخوفًا، ورجاء، كان نهيًا عن الجزع، والسخط، وكُفران النعم وإعراض القلب عن الله في تعلُّق هذه الأمور بغيره.

وحيث نهى عن الجزع، وكفران النعم، وغفلة القلب، كان آمرًا بالصبر، إلى آخر المذكورات. وهذا ضرب مَثَل، وإلا فكل الأوامر والنواهي على هذا النمط.

وكذلك المدحُ لا يكون إلا بإثبات الكمالات؛ فحيث أثنى على نفسه، وذكر تَنَزُّهه عن النقائص والعيوب، كالنوم، والسِّنة، واللغوب، والموت، وخفاء شيء في العالم من الأعيان، والصفات، والأعمال، وغيرها، والظلم، فَلِتَضمُّن ذلك الثناء عليه بكمال حياته، وكمال قيُّوميته، وقدرته، وسعة علمه، وكمال عدله؛ لأن العدَم المحض لا كمال فيه حتى يُنفى تكميلًا للكمال.

وكذلك إذا نفى الله عن كتابه الريْب، والاختلاف، والشكَّ، والإِخبار بخلاف الواقع، كان ذلك لكمال دلالته على اليقين في جميع المطالب، واشتماله على الإحكام، والانتظام التام، والصدق الكامل، إلى غير ذلك من صفات كتابه.

وكذلك إذا نفى عن رسوله الكذب، والتقوُّل، والجنون، والسحر، والشعر، والغلط، ونحوها، كان ذلك لأجل إثبات كمال صِدقه، وأنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يُوحى، ولكمال عقله، ولزوال كل ما يقدح في كمال نبوته ورسالته، فتفطَّن لهذه القاعدة في كلِّ ما يمرُّ عليك من الآيات القرآنية في هذه الأمور وغيرها تنل خيرًا كثيرًا، والله أعلم.

الشرح

الأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي عن شيء أمرٌ بضده.

المتن

القاعدة الثالثة والثلاثون:

المرض في القرآن -مرض القلوب- نوعان:

مرض شبهات وشكوك، ومرض شهوات المحرَّمات.

الشرح

وهذه القاعدة مفيدة، ذكرها ابن القيم في عدة مواضع، وهي موجودة في القرآن؛ المرض نوعان: مرضُ شكٍّ وشُبهة، ومرضُ شهوةٍ.

فمرضُ الشكِّ والشُّبهة: هذا مرض النفاق، وأشد، مرض الشكِّ والشُّبهة أشد من مرض الشهوة، مرض الشك والشبهة، قال الله فيه: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10]، مَن هم؟ المنافقون.

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني شك ونفاق، فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة: 10]، وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124، 125].

وأما مرضُ الشهوة، مرضُ المعاصي هذا أقل، مرضُ المعاصي، يقول الله تعالى لنساء النبي: فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32]؛ يعني مرْض الشهوة؛ شهوة الزِّنا، نُهيت المرأة عن الخضوع بالقول؛ لئلا يطمع فيها الفاسق.

الفاسق إذا تغنَّجَتِ المرأةُ بالقول، ورخَّمت القولَ، طَمِعَ فيها الفاسق، أما إذا تكلّمت كلامًا عاديًّا، ما يطمع فيها.

ولهذا هل المرأةُ ممنوعة من كلام الرجل؟ هل صوتُ المرأة عورة؟

فيه خلاف، لكن المرأة.. لا زالت الصحابيات يسألنَ النبيَّ ﷺ، ويُكَلِّمْنَهُ عند الحاجة، وإن كان ينبغي للمرأة ألا تُكثر من الكلام، لكن عند الحاجة، لكن يكون كلامُ المرأة كلامًا ليس فيه خضوعٌ، ولا تَغَنُّجٌ؛ حتى لا يطمع فيها الرَّجُلُ الفاسق، وإنما يكونُ كلامًا عاديًّا.

لا يكون كلامَ شدّةٍ وقسوة، ولا يكون تَرْخِيمًا، وتَغَنُّجًا، بل يكون كلامًا عاديًّا.

فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا [الأحزاب: 32]، ما في شدة ولا خضوع.

هذه قاعدة مفيدة، أنْ تَعْرِفَ أنَّ المرضَ نوعان: مرضُ الشك والشبهة، ومرضُ الشهوة والمعصية، والأول أشدُّ.

المتن

والطريق إلى تمييز هذا من هذا -مع كثرة ورودهما في القرآن- يُدرك من السياق، فإن كان السياق في ذم المنافقين والمخالفين في شيءٍ من أمور الدين كان هذا مرض الشكوك والشبهات، وإن كان السياق في ذكر المعاصي والميل إليها كان مرض شهوة.

ووجه انحصار المرض في هذين النوعين: أن مرض القلب خلاف صحته؛ وصحة القلب الكاملة بشيئين: كمال علمه، ومعرفته، ويقينه، وكمال إرادته ما يحبه الله ويرضاه.

الشرح

نعم، صحة القلب بشيئين:

فالأول: كمال العلم، والمعرفة، واليقين بالله عَزَّ وَجَلَّ.

والثاني: كمال العمل، وكمال الإرادة، وحبُّ ما يحبه اللهُ ويرضاه.

فإذا كان يحب ما يحبه الله ويرضاه؛ كالصلاة والصيام، وبرِّ الوالدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذا كماله من جهة العمل.

المتن

فالقلب الصحيح، هو: الذي عَرف الحق واتبعه، وعرف الباطل وتركه، فإن كان عِلْمُه شكًّا، وعنده شبهات تُعارض ما أخبر الله به من أصول الدين وفروعه كان عِلْمه منحرفًا.

الشرح

نعم، مثل: أهل البدع؛ الجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة، والقدرية، وكل هؤلاء عندهم خللٌ في اعتقادهم.

المتن

وكان مرض قلبه قوة وضعفًا بحسب هذه الشكوك والشبهات، وإن كانت إرادته ومحبته مائلةً لشيءٍ من معاصي الله كان ذلك انحرافًا في إرادته ومرضًا.

وقد يجتمع الأمران، فيكون القلب منحرفًا في علمه، وفي إرادته.

الشرح

قد يجتمع المرضان في الشخص، فقد يكون الشخص كافرًا، أو فاسقًا، أو منافقًا مريضَ القلب، وكذلك أيضًا عنده مرضُ الشهوة؛  الزنا والفواحش، مما عند بعض الناس.

بعضُ الناس ضعيف الإيمان، يذهب إلى بلاد الكُفّار، وقد يكون منافقًا عَلمانيًّا، وكذلك أيضًا عنده مرضُ الشهوة، والزنا، ومحبة الفواحش -نعوذ بالله-، فيجمع بين الشرَّيْن.

المتن

فمن النوع الأول: قوله تعالى عن المنافقين: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: 10]، وهي: الشكوك والشُّبهات المعارضة لرسالة محمد ﷺ، فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا [البقرة: 10] عقوبةً على ذلك المرض الناتج عن أسباب متعددة كلها منهم، وهم فيها غير معذورين. ونظير هذا قوله: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125]، وكذلك قوله تعالى: لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [الحج: 53].

فإن مريض القلب بالشكوك، وضعف العلم، أقل شيء يريبه، ويؤثر فيه، ويفتتن به.

ومن الثاني قوله تعالى: فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب:32]، أي: مرض شهوة وإرادة للفجور، أقل شيء من أسباب الافتتان يوقعه في الفتنة طمعًا أو فعلًا، فكلُّ مَن أراد شيئًا من معاصي الله فقلبه مريض مرض شهوة، ولو كان صحيحًا لاتصف بصفات الأزكياء، الأبرياء، الأتقياء، الموصوفين بقوله: وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً [الحجرات: 7، 8].

فمَن كان قلبه على هذا الوصف الذي ذكره الله فليحمده على هذه النعمة التي لا يقاومها شيءٌ من النعم، وليسأل الله الثبات على ذلك والزيادة من فضل الله ورحمته.

الشرح

من مرض الشبهة، قال الطحاوي: فويلٌ لمن كان قلبه في القدر سقيمًا.

المتن

القاعدة الرابعة والثلاثون:

دلَّ القرآن في عدة آيات أن مَن ترك ما ينفعه مع الإمكان ابتُلي بالاشتغال بما يضره، وحُرم الأمر الأول.

الشرح

لا حول ولا قوة إلا بالله.

دلَّ القرآن في عدة آيات أن مَن ترك ما ينفعه"؛ وهو قادر عليه، عوقب بأن يشتغل بما يضره، ويُحرم من الأول، لا حول ولا قوة إلا بالله.

لذلك ينبغي للإنسان إذا حصل على شيء من الخير أن يظفر به، ويحافظ عليه، فمَن سُهِّل له الخير، وحصل على خير ينفعه ثم تركه وهو قادر، ابتُلي بضده، "بالاشتغال بما يضره، وحُرم الأمر الأول".

لا حول ولا قوة إلا بالله.

المتن

وذلك أنه ورد في عدة آيات أن المشركين لما زهدوا في عبادة الرحمن ابتُلوا بعبادة الأوثان.

الشرح

نعم، المشركين لما تركوا عبادة الله، ابتُلوا بعبادة الأوثان.

المتن

ولما استكبروا عن الانقياد للرسل بزعمهم أنهم بشر ابتُلوا بالانقياد لكل مارج العقل والدين، ولما عرض عليهم الإيمان أول مرة فعرفوه ثم تركوه قَلَب الله قلوبهم.

الشرح

قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ  [الأنعام: 110]، جاءهم الإيمان فلم يقبلوه، فقُلبت قلوبهم -أعوذ بالله-، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5]، نسأل الله السلامة والعافية.

المتن

وطَبَع عليها وختم، فلا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، ولما بين لهم الصراط المستقيم، وزاغوا عنه اختيارًا ورضًا بطريق الغيِّ على طريق الهدى عُوقبوا بأن أزاغ الله قلوبهم، وجعلهم حائرين في طريقهم، ولما أهانوا آيات الله ورسله أهانهم الله بالعذاب المهين، ولما استكبروا عن الانقياد للحق أذلهم في الدنيا والآخرة، ولما منعوا مساجد الله أن يُذكر فيها اسمه وأخربوها ما كان لهم بعد ذلك أن يدخلوها إلا خائفين، ومِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ۝ أَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة: 75-77].

والآيات في هذا المعنى كثيرة جدًا، يخبر فيها أن العبد كان قبل ذلك بصدد أن يهتدي، وأن يسلك الطريق المستقيمة، ثم إذا تركها بعد أن عَرَفها، وزهد فيها بعد أن سَلَكها، أنه يُعاقب، ويصير الاهتداء غير ممكن في حقه، جزاء على فعله، كقوله عن اليهود: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ۝ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ [البقرة: 101، 102].

فإنهم تركوا أجَلَّ الكتب، وأنفعها، وأصدقها، فابتُلوا باتباع أرذلها، وأكذبها، وأضرِّها، والمحاربون لله ورسوله تركوا إنفاق أموالهم في طاعة الرحمن، وأنفقوها في طاعة الشيطان!!

القاعدة الخامسة الثلاثون:

في القرآن عدة آيات فيها الحثُّ على أعلى المصلحتين، وتقديم أهون المفسدتين، ومنع ما كانت مفسدته أرجح من مصلحته.

الشرح

نعم، هذه القاعدة جليلة، وهو أنه إذا وُجد مصلحتان، لا يمكن فعلهما، ماذا نعمل؟

ما نستطيع الأخذ إلا واحدة، مصلحتان، نأخذ المصلحة العليا، ولو فاتت المصلحة الدُّنيا.

وإذا وُجدت مفسدتان، ما نستطيع تركهما، لابد أن نفعل واحدةً، نفعل المفسدة الصُّغرى، ونفوِّت المفسدة الكُبرى. قاعدة.

وأيضًا قاعدة أخرى: إذا وُجدت مصلحة ومفسدة، أيهما نبدأ بها؟ أيهما نأخذ؟ واحد من الأمرين: إما أن تأخذ المصلحة، ولا تترك المفسدة؟

تترك المفسدة أولى، قاعدة تقول: درء المفاسد مقدّمٌ على جلب المصالح، ترك المفاسد مقدّم، فإذا وُجدت مفسدتان مثلًا: كُبرى وصغرى، لا بد فعل واحدة وترك الأخرى.

هناك شِرْكٌ، وبدعةٌ؟ نختار البدعةَ، نُزِيلُ الشِّرك.

كبيرة وصغيرة؟ نزيل الكبيرة، ولو بقيت الصغيرة، وهكذا.

مصلحتان، عُلْيَا مثلًا: قومٌ عندهم الكذب وعندهم الشّرك، ما نستطيع أن نزيل إلا واحدة، بأيٍّ نبدأ؟ نبدأ بالشرك، ولو بقي الكذب، وهكذا.

المتن

القاعدة الخامسة الثلاثون:

في القرآن عدة آيات فيها الحث على أعلى المصلحتين، وتقديم أهون المفسدتين، ومنع ما كانت مفسدته أرجح من مصلحته.

وهذه قاعدةٌ جليلةٌ نبَّه الله عليها في آيات كثيرة، فمن الأول: المفاضلة بين الأعمال، وتقديم الأعلى منها؛ كقوله: لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ الآية [الحديد: 10]، وكقوله: أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَآجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية [التوبة: 19]، وكقوله: لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الآية [النساء: 95].

ومن الثاني قوله تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217].

بيَّن تعالى أن ما نَقَمه الكُفَّار على المسلمين من قتال في الشهر الحرام أنه وإن كان مفسدة فما أنتم عليه من الصدِّ عن سبيل الله، والكُفْر بالله، وبالمسجد الحرام، وإخراج أهله منه أكبر عند الله من القتل.

وقوله: وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ [الفتح: 25]، فكفَّهم الله عن القتال في المسجد الحرام، مع وجود المقتضي من الكفار.

الشرح

كان القتال في الأشهر الحُرم كان ممنوع، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، والصحابة كانوا في سريّة، كان في أول يوم من رجب، وشكَّ: هل هو من جماد، أو من أول رجب؟ فقتلوا السَّرية، فعيَّرهم المشركون وقالوا: يقتلون في الشهر الحرام.

المشركون عيَّروهم، قالوا: انظر، الآن يدَّعون الإيمان ويقتلون في الشهر الحرام، فأنزل الله، قال: أنتم ما عليه من الشرك أعظم وأعظم.

أنتم تنقمون على المؤمنين القتال في الشهر الحرام، وأنتم متلبِّسون بالشرك، متلبسون بإخراج المؤمنين، ومتلبسون بالصد عن سبيل الله.

هذا أعظم، لذا أنزل الله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ [البقرة: 217]، ثم قال: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ [البقرة: 217].

كونكم تفتنون المسلمين عن دينهم، وتوقعوهم في الشرك، هذا أعظم وأعظم.

المتن

وقوله: وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُوهُمْ الآيات [الفتح: 25]، فكفَّهم الله عن القتال في المسجد الحرام، مع وجود المقتضي من الكفار خوف المفسدة المترتبة على ذلك من إصابة المؤمنين والمؤمنات من معرَّة الجيش ومضرته.

وكذلك جميع ما جرى في الحديبية من هذا الباب، من التزام تلك الشروط التي ظاهرها ضررٌ على المسلمين، ولكن صارت هي عين المصلحة لهم.

ومن هذا: أمره بكفِّ الأيدي قبل أن يهاجر الرسول إلى المدينة؛ لأن الأمر بالقتال في ذلك الوقت أعظم ضررًا من الصبر والإِخلاد إلى السكينة.

ولعل من هذا مفهوم قوله: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى: 9]، يعني: فإن ضرَّت فترك التذكير الموجب للضرر الكثير هو المتعيّن.

والآيات في هذا النوع كثيرة جدًا.

ومن الثالث قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة: 219]، هذا كالتعليل العام: أن كل ما كانت مضرَّته وإثمُهُ أكبر من نفعه فإن الله من حكمته لا بد أن يمنع منه عباده ويُحرِّمه عليهم، وهذا الأصل العظيم كما أنه ثابت شرعًا فإنه هو المعقول بين الناس المفطورين على استحسانه والعمل به في الأمور الدينية والدنيوية، والله أعلم.

القاعدة السادسة والثلاثون:

طريقة القرآن إباحة الاقتصاص من المعتدي، ومقابلته بمثل عدوانه، والنهي عن ظُلْمِهِ، والندب إلى العفو والإحسان.

وهذا في آيات كثيرة.

الشرح

هذه القاعدة: "إباحة الاقتصاص من المعتدي، ومقابلته بمثل عدوانه"؛ إذا اعتدى عليك شخص، فلك أن تقتص منه، بمثل عدوانه، وأنتَ منهيٌّ عن الظُّلم، وإذا عفوتَ فهو أفضل.

والقصاص قد يكون في الكلام، فإذا اعتدى عليك شخص، وقال، اعتدى شخصٌ على شخصٍ وسَبَّه، قال: لعنكَ الله.

لكَ أنْ تقتصَّ وتقول: لعنك الله أنت، لكن ما تزيد وتظلم، قال: لعنك الله، تقول: لعنك الله، لعنك الله مرتين، أو تقول: لعنك الله، وأخزاكَ، هذا ظلمٌ، زدتَ.

وهناك حالة ثالثة: وهو العفو، فالعفو أفضل، لكن إن قلت: لا، ما أريد العفو، آخُذ حقِّي. خذْ حقَّكَ ولا تزيد، سَبَّةٌ بِسَبَّةٍ، واضح هذا؟

ولذا جاء في الحديث: الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئِ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُومُ([2]).

فهذا هو الذي حثّ عليه القرآن، والإنسان له أن يقتص ممن ظلمه، وليس له أن يزيد، وإذا عفا فهو أفضل، فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40].

المتن

وهذا في آياتٍ كثيرة، كقوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126]، وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى: 40].

فذَكَر المراتب الثلاث.

ولما كان القتال في المسجد الحرام محرمًا قال تعالى: فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ [إلى قوله] فَإِنِ انْتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة: 191 ـ 194]، وهو: كل ما حرَّمه الله، وأمر باحترامه، فمَن انتهكه فقد أباح الله الاقتصاص منه بقدر ما اعتدى به لا أكثر.

وقوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة: 194]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى الآية [البقرة: 178]، وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ الآية [المائدة: 45]، وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا [الإسراء: 33]، لاَ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ [النساء: 148]، والآيات في هذا المعنى كثيرة، والله أعلم.

القاعدة السابعة والثلاثون: اعتبر الله القصد والإرادة

في ترتب الأحكام على أعمال العباد.

وهذا الأصل العظيم صرَّح به النبي ﷺ في قوله: إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ([3]).

الشرح

هذه القاعدة، وهي: أن القصد والإرادة هو الذي تترتب عليه الأحكام، العبرة بالإرادة والقصد، كما قال النبي ﷺ: إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى.

مثال ذلك: شخص أراد أن يَحُجَّ متمتعًا، والمتمتع يلبي بالعمرة ثم بالحج، فنسي، وقال -بدل أن يقول: لبيك عمرة-، قال: لبيك حجَّة. يقول: أنا قصدي العمرة، لكن غلطتُ.

نقول: العِبرةُ بالقصد، العِبرة بقصدك -ولو غلطتَ-.

أو قال: لبيك عمرة وحجَّة، قال: أنا أريد أن أعتمر أولًا، ثم أحج بعد ذلك، أريد الأفضل، لكن سبق اللسان، ولبَّى بالحج.

نقول: العبرة بالنيّات،  إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ.

المتن

والمقصود هنا أنه ورد آياتٌ كثيرةٌ جدًا في هذا الأصل، فمنها -وهو أعظمها-: أنه رتَّب حصول الأجر العظيم على الأعمال بإرادة وجهه، لما ذكر الصدقة والمعروف والإِصلاح بين الناس.

الشرح

نعم، ومن ذلك هذا الأمر العظيم، وهو: أن الأعمال بحسب القصد، إذا كان الإنسان يعمل العمل الصالح، وقصده وجه الله، فهذا هو المعتبر، له الثواب، وإذا كان قصده الدنيا فليس له إلا الدنيا.

إذن العِبرة بالنيّات والمقاصد، شخصان: كل منهما يُنفق الأموال في المشاريع الخيرية، هذا قصده وجه الله، وهذا قصده الرياء والسُّمعة، ماذا يكون الثواب في الآخرة؟

هذا له الأجر والثواب، وهذا  عمله حابط، والعمل واحد.

هذا يبني مدارس، ويبني مستشفيات، ويُنفق على الفقراء والمساكين، وعلى طلبة العلم، وينفق في المشاريع الخيرية، والثاني مثله، لكن واحد قصده وجه الله، والثاني قصده الرياء والسُّمعة.

إيش الفرق بينهما؟ العبرة بالنِّية، الذي قصده وجه الله له الثواب  والأجر، والذي قصده الدنيا أو الرياء عمله حابط، وقد يُعذّب أيضًا، ولا ثواب له، نسأل الله السلامة والعافية.

المتن

قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 114]، وقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ [البقرة: 265]، وفي مقابله قال: رِئَاءَ النَّاسِ [النساء: 38].

ووصف الله نبيَّه وخيار خلقه من الصحابة بأنهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح: 29]، وقال تعالى في الرجعة وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا [البقرة: 228]، لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: 225]، وقال تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ [النساء: 12]، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا [النساء: 4]، لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء: 29]، وقال تعالى: وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة: 220].

وفي دعاء المؤمنين: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِيْنَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، قال الله: قد فعلت.

وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب: 5]، وذَكَر الله قتل الخطأ، ورتَّب عليه الديَّة والكفَّارة، ثم قال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].

وقال في الصيد: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ الآية [المائدة: 95]، وقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة: 235]، إلى غير ذلك من الآيات الدالَّةِ على أن أعمال الأبدان، وأقوال اللسان، صحتها وفسادُها، وترتب أجرها، أو وزرها، بحسب ما قام بالقلب.

الشرح

"بحسب ما قام بالقلب من القصد والنيّة"، ساقطة عندك، اكتبها.

المتن

القاعدة الثامنة والثلاثون: قد دلَّت آياتٌ كثيرة على جبر خاطر المنكسر قلبه، ومن تشوَّفت نفسه لأمر من الأمور، إيجابًا أو استحبابًا.

وهذه قاعدة لطيفة، اعتبرها الباري، وأرشد عباده إليها في عدة آيات.

الشرح

يعني هذه القاعدة تقول: دلَّت النصوص على جبر المنكسر قلبه، ومن تشوَّفت نفسه لشيء فإنه يُعطى.

مثال ذلك: المطلّقة مكسورة القلب، أمر الله الزوج المطلّق أن يمتعها، وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة: 241]، فيعطيها شيء؛ جبرًا لخاطرها.

قال العلماء: على حسب يُسره وعُسره، وقال العلماء: أعلى ما يعطيها خاتم، وأقل ما يعطيها كِسوة؛ جبرًا لخاطرها.

كذلك مَن تشوَّفت نفسه، أخبر الله تعالى: أنه إذا مات الميت، فإنه يكون المال لورثته، فإذا اقتسم الورثة المال، وحضر عندهم بعض الفقراء تشوّفت نفسهم، أمر الله أن يعطوهم بعض الشيء؛ لأن نفسهم متشوِّفة، قال الله تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء: 8]، اعطوهم بعض الشيء، نفوسهم متطلعة، يشوفون هذا يُعطى ألفًا، هذا يُعطى ألفين، ويُعطى ثلاثة، وهم جالسين، نفوسهم تتشوَّف، يُعطون بعض الشيء. واضح القاعدة؟ نعم.

المتن

وهذه قاعدة لطيفة، اعتبرها الباري، وأرشد عباده إليها في عدة آيات، منها: المطلَّقة؛ فإنه لما كانت في الغالب منكسرة القلب، حزينة على فراق بعلها، أمر الله بمتعتها على الموسع قَدَره.

الشرح

"على الموسع قَدَره"؛ كما قال الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة: 236]، الموسع: الغني، والمقتر: الفقير، كل واحد على حسب حاله.

المتن

أمر الله بمتعتها، على الْمُوسِعِ قَدَره، وعلى الْمُقْتِرِ قَدره، متاعًا بالمعروف.

وكذلك مَن مَات زوجها عنها، فإن من تمام جَبْر خاطرها أن تمكث عند أهله سنة كاملة وصية ومتعةَ، مُرغَّب فيها.

وكذلك أوجب الله للزوجة على الزوج النفقة، والكسْوة في مدة العدة إذا كانت رجعية، أو كانت حاملًا مطلقًا.

وقال تعالى: وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا [النساء: 8].

ويدخل الواجب والمستحب في مثل قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام: 141].

وكذلك إخباره عن عقوبة أصحاب الجنة الذين أقسموا ليصرمنَّها مصبحين، وتواصوا أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين.

وقال تعالى: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ۝ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ [الإسراء: 23، 24]، إلى قوله: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ [الإسراء: 26].

وقد ذكر الله جبره لقلوب أنبيائه وأصفيائه أوقات الشدَّات، وإجابته لأدعيتهم أوقات الحاجات والضرورات، وأمر عِبَاده بانتظار الفرج عند الأزمات، فهذا أصلٌ قد اعتبره الله وأرشد إليه.

فينبغي للعبد أن يكون على باله في وقت المناسبات، ويعتبره عند وجود سببه.

القاعدة التاسعة والثلاثون..

الشرح

طيب، نقف عند هذا، وفَّقَ الله الجميع لطاعته، بعد المغرب إن شاء الله.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب الحدود- باب إثم الزناة (6810)، ومسلم في كتاب الإيمان- باب بيان نقصان الإيمان بالمعاصي، ونفيه عن المتلبس بالمعصية على إرادة نفي كماله (57).

([2]) أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب- باب النهي عن السباب (2587).

([3]) أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي- باب بدء الوحي (1)، ومسلم في كتاب الإمارة- باب قوله ?: إنما الأعمال بالنيات (1907).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد