الحَمْدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على عَبْدِه، ورسوله محمّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ تعالى:
المتن
القاعدة التاسعة والثلاثون:
في طَريقة القرآن في أَحْوال السياسة الداخلية والخارجية.
طريقة القرآن في هذا أعلى طريقة، وأقرب إلى حصول جميع المصالح الكُلِّية، وإلى دفع المفاسد، ولو لم يكن في القرآن من هذا النوع إلا قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159] وإخباره عن المؤمنين أن (أمرهم شورى بينهم) فالأمر مفرد مضاف إلى المؤمنين، وفي الآية الأولى قد دخلت عليه: (أل) المفيدة للعموم والاستغراق، يعني: أن جميع أمور المؤمنين، وشؤونهم، واستجلاب مصالحهم، واستدفاع مضارهم، معلق بالشورى، والتراود على تعيين الأمر الذي يجرون عليه.
وقد اتفق العُقَلاء أن الطريق الوحيد للصلاح الديني والدنيوي هو: طريق الشورى، فالمسلمون قد أرشدهم الله إلى أن يهتدوا إلى مصالحهم وكيفية الوصول إليها بإعمال أفكارهم مجتمعة.
فإذا تعيَّنت المصلحة في طريق سلكوه، وإذا تعيَّنت المضرَّة في طريق تركوه، وإذا كان في ذلك مصلحة ومضرَّة نظروا أيُّها أقوى، وأولى، وأحسن عاقبة، وإذا رأوا أمرًا من الأمور هو المصلحة ولكن ليست أسبابه عتيدة عندهم ولا لهم قدرة عليها نظروا بأيِّ شيءٍ تُدرك تلك الأسباب، وبأي حالة تُنال على وجهٍ لا يضر.
وإذا رأوا مصالحهم تتوقف على الاستعداد بالفنون الحديثة، والاختراعات الباهرة، سعوا لذلك بحسب اقتدارهم، ولم يملكهم اليأس والاتكال على غيرهم الملقي إلى التهلكة، وإذا عرفوا -وقد عرفوا- أن السَّعي لاتفاق الكلمة، وتوحيد الأمة، هو الطريق الأقوم للقوة المعنوية، جدُّوا في هذا واجتهدوا، وإذا رأوا المصلحة في المقاومة والمهاجمة، أو في المسالمة والمدافعة بحسب الإمكان، سلكوا ما تعيَّنت مصلحته، فَيُقْدمون في موضع الإقدام، ويُحْجِمون في موضع الإحجام.
وبالجملة لا يدعون مصلحةً داخليةً ولا خارجيةً، دقيقةً ولا جليلةً، إلا تشاوروا فيها، وفي طريق تَحصيلها وتنميتها، ودفع ما يضادها وينقصها.
فهذا النظام العجيب الذي أرشد إليه القرآن هو النظام الذي يصلح في كل زمان ومكان، وفي كل أمة ضعيفة أو قوية.
الشرح
بِسْمِ اللَّهِ، وَالحَمْدُ للهِ، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه، ومَن والاه، أما بعد:
فهذه القاعدة التاسعة والثلاثون في طريقة القرآن في أحوال السياسة الداخلية والخارجية، وهو: الطريق الذي يَجمع كلمة المسلمين، وهو: الشُّورى، والتعاون، وهذا هو الطريق الوَحيد لقوة المسلمين.
فإن المسلمين إذا اجتمعوا وتشاوروا فيما بينهم، تتلاقح الأفكار، وتتوارد الأنوار، ثمَّ يَحصُل الرأي الرشيد، فيُؤخذ به.
ولهذا فإن النبي ﷺ شاورَ الناس في غزوة بدر، في المكان، أين المكان؟ هل نَنْزِلُ هنا، أو ننزل هنا -لمَّا نزلَ-؟
بيَّنَ الصحابة قالوا: إن هذا المكان لا يَصلُح، وإنما يكون في آخر القُلُوب والآبار، نُغَوِّرها على المشركين، ولا يجدون ماءً.
فالشورى، هي: الطريق الذي يجمع كلمة المسلمين، ولذلك قال المؤلف رَحِمَهُ اللهُ: "طريقة القرآن في هذا أعلى طريقة، وأقرب إلى حصول جميع المصالح".. ولو لم يكن في القرآن من هذا النوع إلا قوله تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159]، (ألـ) للعموم، جميع الأمور؛ الدينية والدنيوية، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159]، وفي الآية الأخرى: وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ [الشورى: 38] المؤمنون.
فهذا الطريق لا شك أنَّهُ طريقٌ سليم، وبلقيس ملكة سبأ لما جاءها الكتاب من نبي الله سليمان: أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل: 31]، جَمَعت قومها، وذي الرأي وشاورتهم، قالت: قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قَالَتْ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ [النمل: 29 - 33].
فالمشاورة، لا شك أن المشاورة لها آثارًا حميدة، أما أن تكن المشاورة كلٌّ يستبدُّ برأيه، كلٌّ له رأي، هذا لا شك أنَّ فيه تفرُّق القلوب، وفيه أيضًا عدم الوصول إلى الرأي السديد.
إذا كانت الأفكار والآراء متعددة، وليس هناك اجتماع، ولا التقاء.
المتن
فهذا النظام العجيب الذي أرشد إليه القرآن هو النظام الذي يصلح في كل زمان ومكان، وفي كل أمة ضعيفة أو قوية.
ومن ذلك قوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60]، فهذه الآية نصٌّ صَريحٌ بوجوب الاستعداد للأعداء بما استطاعه المسلمون من قوةٍ عقليةٍ، ومعنويةٍ، وماديةٍ، مما لا يمكن حَصر أفراده.
وفي كل وقت يتعين سلوك ما يلائم ذلك الوقت ويناسبه.
الشرح
وهذا من السياسة الداخلية، من السياسية.. القرآن في وصْفِ السياسة الداخلية للمسلمين، ولذلك قال: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60]، أمر الله بالإعداد.
والإعداد المستطاع، غير المستطاع غير مطالب به، ثم قال: مِنْ قُوَّةٍ مؤكدة بمِن، كلمة قوَّة شاملة، هذه من جوامع الكَلِم، وهذا أكبر دليل على أنَّ الإسلام صالح لكلِّ زمان ومكان، قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60]، والقوة تختلف باختلاف الأزمنة.
إذا كانت في الأزمنة السابقة القوة: الخيل، والسيوف، والرِّماح، فالقوة في هذا الزمان، هي: القنابل والطائرات، والصواريخ، إعداد العُدة الموجودة، وكلّها داخلة في اسم القوَّة، وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60].
وكذلك قول النبي ﷺ في الحديث الآخر : أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ ([1])، ما هو الرَّمي؟ عام، يشمل رمي البُندقية، ورمي القُنبلة، «ألا إنَّ القوَّةَ الرَّمْيَ»، ولم يحدِّد نَوْعَ المَرْمِيِّ، نعم.
المتن
ومن ذلك قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 71]، ونحوها من الآيات التي أرشد الله فيها إلى التحرُّز من الأعداء، فكلُّ طريق وسببٍ يُتحرَّز به من الأعداء فإنه داخلٌ في هذا، ولكلِّ وقت لَبُوسُه.
الشرح
نعم، هذا من السياسة الداخلية: أخذ الحِذر، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ [النساء: 71]؛ يعني يجب على المسلمين أن يكون عندهم يقظة، واستعداد، وتهيُّؤ للعدو، وبذْل المستطاع، وإرسال العيون وبثِّها؛ لمعرفة ما عليه الأعداء من قوة، وهذا من السياسة الداخلية.
المتن
ومن عجيب ما نبَّه عليه القرآن من النظام الوحيد: أن الله عَاتَب المؤمنين بقوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144]، فأرشد عباده إلى أنه ينبغي أن يكونوا بحالة من جريان الأمور على طُرقها، لا يزعزعهم عنها فقدُ رئيس وإن عظم، وما ذاك إلا بأن يستعدوا لكلِّ أمرٍ من أمورهم الدينية والدنيوية بعدة أُناس إذا فُقد أحدهم قام به غيره، وأن تكون الأُمة متوحِّدة في إرادتها، وعزمها.
الشرح
عندي: "عِدَّة من القادة متساوِين، أو متقاربِين في قوة القيادة، والدُّربة، والحنكة، والسياسة الدينية والاقتصادية والحربية، فالله تعالى قال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144]".
فالرسول رصدَ السياسة الداخلية والخارجية، وجاء بهذا الدين من عند الله.
فأنتم عرفتم الآن، دخلتم في هذا الدين، وعَرفتم، وذُقتم حلاوته، وعرفتم السياسة الداخلية والخارجية، سواء وُجد.. كان الرسول معكم، أو بعد موته، ولهذا قال: أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144].
ولهذا في غزوة أُحد لمّا حصلَ على المسلمين النكسة، وكُسرت رَباعِيّةُ النبي ﷺ، وجُرحت وَجْنَتَاه، وسقطَ في الحُفرة، وصاحَ الشيطان إنَّ محمدًا قد قُتل.
مرّ بعضُ الصحابة على أُناس وهم يقولون: قُتل محمد، فقال: طيب، قُتل، فقاتلوا على ما قُتل عليه، تجلسون؟! اذهبوا، قاتلوا، دافعوا عن دين الله، وامشوا على ما مشى عليه، ليس معنى ذلك أنكم تنهزمون، نعم.
المتن
وأن تكون الأمة متوحِّدة في إرادتها، وعزمها، ومقاصدها، وجميع شؤونها، قصدهم جميعًا: أن تكون كلمة الله هي العُليا، وأن تقوم جميع الأمور بحسب قدرتهم.
وقال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]، أي: اتقوا غَضبه وعقابه بالقيام بما أمر به من كل ما فيه الخير والصلاح لكم جماعة ومنفردين، فكلُّ مصلحةٍ أَمر الله بها وهي متوقفة في حصولها أو في كمالها على أمرٍ من الأمور السابقة أو اللاحقة فإنه يجب تحصيلها بحسب الاستطاعة، فلا يُكلِّفهم الله ما لا يطيقون، وكذلك كل مَفسدة ومضرَّة، لا يمكن اجتنابها..
الشرح
نعم، هذه الآية: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16]، يعني: رتّبها على حدود الاستطاعة؛ لقوله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: 60]، وقال: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة: 286]، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق: 7].
المطلوب من الإنسان أن يأتي ما في وسعه، وقدرته، ولا يُكلَّف ما لا يستطيع.
المتن
وكذلك كلَّ مَفسدة ومضرَّة، لا يمكن اجتنابها؛ إلا بسلوك بعض الطرق السابقة أو اللَّاحقة فإنها داخلةٌ في تقوى الله تعالى؛ وذلك أن لازم الحق حق، والوسائل لها أحكام المقاصد.
ومن الآيات الجامعة في السياسة قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ الآية [النساء: 58]. والآية التي بعدها.
فالأمانات يدخل فيها أشياء كثيرة، من أَجَلِّها الولايات الكبيرة، والصغيرة، والمتوسطة، الدينية، والدنيوية، فقد أمر الله أن تُؤدى إلى أهلها بأن يُجعل فيها الأَكْفاء لها، وكل ولاية لها أكْفاء مخصوصون.
فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال، فإن صلاح الأمور بصلاح المتولِّين والرؤساء فيها، والمدبِّرين لها، والعاملين لها، ويجب تولية الأمثل فالأمثل إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص: 26].
فصلاحُ المتولِّين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة، وضده بضده، ثُمَّ أرشدهم إلى الحكم بين الناس بالعدل، الذي ما قامت السموات والأرض إلا به، فالعدل قوام الأمور وروحها، وبفقده تفسد الأمور، والحكم بالعدل من لازمه معرفة العدل في كل أمر من الأمور.
فإذا كان المتولُّون للولايات هم الكُمَّلُ من الرجال، والأَكْفاء للأعمال، وجرَت تدابيرهم وأفعالهم على العدل والسداد، متجنِّبين للظلم والفساد، ترقَّت الأمة وصَلُحت أحوالها، وتمام ذلك في الآية الأخرى التي أمر الله فيها بطاعة ولاة الأمور..
الشرح
وهي قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59].
المتن
فهل يوجد أَكمل وأعلى من هذه السياسة الحكيمة التي عواقبها أحمد العواقب؟
ومن الآيات المتعلِّقة بالسياسة الشرعية: جميع ما شَرَعه الله من الحدود على الجرائم، والعقوبات على المتجرئين على حقوقه وحقوق عباده، وهي في غاية العدالة والحُسن، وردع المجرمين، والنكال والتخويف لأهل الشرِّ والفسَاد، وفيها صيانة لدماء الخلق، وأموالهم، وأعراضهم، والآيات التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتكلُّم بالحق مع من كان، وفي أي حال من الأحوال.
وكذلك ما فيه من النهي عن الظلم فيه إرشادٌ للحرِّية النافعة، التي معناها التكلُّم بالحقِّ، وفي الأمور التي لا محذور فيها، كما أن الحدود والعقوبات، والنهي عن الكلام القبيح، والفعل القبيح، فيها رد الحرية الباطلة؛ فإن ميزان الحرية الصحيحة النافعة: هو ما أرشد إليه القرآن.
وأما إطلاق عنان الجهل والظلم، والأقوال الضارة للمجتمع، المحلِّلة للأخلاق؛ فإنها من أكبر أسباب الشرِّ والفسَاد، وانحلال الأمور، والفوضوية المَحْضَة، فنتائج الحرية الصحيحة أحسن النتائج، ونتائج الحرية الفاسدة أقبح النتائج.
فالشارع فَتَح الباب للأولى، وأغلقه عن الثانية؛ تحصيلًا للمصالح، ودفعًا للمضار والمفاسد، والله أعلم.
الشرح
هذه القاعدة في السياسة، في وصف السياسة الداخلية، للمشاورة، وأخذ العُدة، وأخذ الحِذر من الأعداء، وكذلك أيضًا الآيات التي فيها شرع الله فيها الحدود على الجرائم، والعقوبات على المتجرئين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
كلُّ هذا داخلٌ في عنصر السياسة الداخلية للأمّة الإسلامية.
المتن
القاعدة الأربعون:
في دلالة القرآن على أصول الطب.
أصول الطب ثلاثة: حِفْظ الصِّحة باستعمال الأمور النافعة، والحِمْيَة عن الأمور الضارة، ودفع ما عرض للبدن من المؤذيات.
ومسائل الطب كلها تدور على هذه القواعد، وقد نبَّه القرآن عليها في قوله تعالى في حفظ الصحة ودفع المؤذي: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا [الأعراف: 31]، فأمَر بالأكل والشرب الذين لا تستقيم الأبدان إلا بهما، وأطلق ذلك؛ ليدلُّ على أن المأكول والمشروب بحسب ما يلائم الإنسان وينفعه في كل وقت وحال، ونهى عن الإسراف في ذلك: إما زيادة في كثرة المأكولات والمشروبات، وإما بالتخليط.
وهذا حميةٌ عن كلِّ ما يؤذي الإنسان، فإذا كان القوت الضروري من الطعام والشراب إذا صار بحالة يتأذَّى منه البدن ويتضرَّر مُنع منه فكيف بغيره؟!
وكذلك أباح الله للمريض التيمُّم إذا كان استعمال الماء يضرُّه؛ حمية له عن المضرَّات كلها.
الشرح
هذه القاعدة قاعدة نافعة، وهي: "دلالة القرآن على أصول الطب، أصول الطب ثلاثة: حفظ الصحة باستعمال الأمور النافعة"؛ الأكل والشُّرب، هذا فيه حِفظ الصحة.
ولهذا الإنسان إذا ترك الأكل والشُّرب حتى مات يكون آثم، قاتل لنفسه، نفسك التي بين جنبيك لا تملكها، هي مِلكٌ لله، فيجب حفظ الصحة، وحفظ الصحة يكون بالأكل والشُّرب.
"والحِمْيَة عن الأمور الضارة"؛ بعدم الإسراف مثلا في الأكل والشُّرب، واستعمال أيضًا المأكولات والمشروبات الضارّة.
"ودفع ما يَعْرِضُ للبدن من المؤذيات"؛ ومن ذلك الاستفراغ؛ استفراغ البول والغائط، هذا دفعُ ما يعرض من المؤذيات؛ لأنه إذا احتبس البول أو الغائط، هذا يضرُّ بالصحة، فهذا حفْظُ الصحة.. أصولُ الطِّب تدور على هذه الأشياء؛ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31].
فالأكل والشُّرب فيه حفظُ الصحة، والنهي عن المسرفات فيه دفعُ ما يَعرِض للبدن من المؤذيات، والاستفراغُ أيضًا فيه دفعُ المؤذيات أيضًا.
ولهذا قال الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31]؛ أمرهم بالأكل والشُّرب اللذين لا تستقيم الأبدان إلا بهما، ونهى عن الإسراف في ذلك.
الإسراف يكون بزيادة الأكل والشُّرب، ويكون في الكيفية؛ في التخليط في المطعومات، أو في الأوقات، هذا حِمية عن كل ما يؤذيه.
ومن ذلك أنَّ الله أباحَ الله للمريض التيمُّم، وأباح للمحرم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه، ويفدي، ونهى عن الإِلقاء باليد إلى التهلكة؛ لأن هذا فيه حفظ للبدن، مما يضرُّه ويَعْرِضُ له.
المتن
وأباح للمُحْرِم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ويفدي.
الشرح
وأصول المفطِّرات، بالنسبة للصائم أيضًا هذه الآية فيها أصول المُفَطِّرات، أصول المفطِّرات للصائم ثلاثة: الجماع، والأكل، والشرب.
قال تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ [البقرة: 187]، هذا الجماع، وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة: 187].
أباح الله هذه الثلاثة في الليل؛ مباشرَة الزوجة، والأكل والشرب. فهذه أصول المفطرات الثلاثة، كل المفطرات ترجع إليها، خروج الدم، كذلك إخراج الدم، مثلًا الإِبَر، كذلك الحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، كلها ترجع إلى هذه الثلاثة.
أصول المفطرات: الجماع، والأكل والشرب.
وأصول الطب هذه أيضًا: حفظُ الصحة، واستعمال الأمور النافعة، ودفعُ ما يعرض للبدن من المؤذيات، ومن ذلك استخراج ما في البدن من المؤذي؛ من البول والغائط، نعم.
المتن
وأباح للمُحْرِم الذي به أذى من رأسه أن يحلقه ويفدي وهذا من باب الاستفراغ، وإزالة ما يؤذي البدن، فكيف بما ضرره أكثر من هذا، ونهى عن الإِلقاء باليد إلى التهلكة، فيدخل في ذلك استعمال كل ما يتضرر به الإنسان من الأغذية والأدوية، ودفع ما يضر بمدافعة الذي لم يقع والتحرُّز عنه، وبمعالجة الحادث بالطريقة الطبية النافعة، وكذلك ما ذكره الله في كتابه من الأعمال كلها، كالجهاد، والصلاة، والصوم، والحج، وبقية الأعمال، والإحسان إلى الخَلق، فإنها وإن كان المقصود الأعظم منها نيلُ رضى الله، وقربه، وثوابه، والإحسان إلى عبيده، فإن فيها صحةً للأبدان، وتمرينًا لها، ورياضة، وراحة للنفس، وفرحًا للقلب، وأسرارًا خاصة تحفظ الصحة، وتُنَمِّيها، وتزيل عنها المؤذيات.
وبالجملة فإن جميع الشرائع ترجع إلى صلاح القلوب، والأرواح، والأخلاق، والأبدان، والأموال، والدنيا والآخرة، والله أعلم.
الشرح
نعم، الشرائع ترجع إلى هذا، الشرائع التي أنزلها الله على الأنبياء كلها ترجع إلى صلاح القلوب، وصلاح الأرواح، وصلاح الأخلاق، وصلاح الأبدان، وصلاح الأموال في الدنيا والآخرة.
كل الشرائع التي أرسلها اللهُ تدور على هذه المصالح؛ تعود إما إلى صلاح القلب، أو إلى صلاح الروح، أو إلى صلاح الخُلق، أو إلى صلاح البدن، أو إلى صلاح المال في الدنيا والآخرة، نعم.
المتن
القاعدة الحادية والأربعون:
يرشد الله عباده في كتابه من جهة العمل: إلى قَصْرِ نظرهم إلى الحالة الحاضرة التي هم فيها، ومن جهة الترغيب فيه والترهيب من ضده:
إلى ما يترتب عليها من المصالح، ومن جهة النعم: إلى النظر إلى ضدها، وهذه القاعدة الجليلة دلَّ عليها القرآن في آيات عديدة، وهي من أعظم ما يدل على حكمة الله.
الشرح
هذه القاعدة هي إرشاد الله تعالى عباده في كتابه الكريم، من جهة العمل إلى قصْرِ نظرهم على الحالة الحاضرة، والنظر إلى ما بعدها، من جهة الترغيب في الأمر والترهيب، الترغيب في الأمر، والترهيب من ضده، إلى ما يترتب عليه من المصالح، ومن جهة النِّعم وتقديره بالنظر إلى ضدها.
يعني من جهة العمل يُقصر نظرهم على الحالة الحاضرة، اعملْ في الوقت الحاضر، أدِّ العملَ، اقتصِرْ على أداء هذا العمل حتى تتقنه، ثم انتظرْ بعد ذلك.
ومن جهة الترغيب في الأمر والترهيب من ضده: إذا أراد أن يُرغِّبَ في أمرٍ، أو أنْ يُحذِّرَ من أمرٍ، يبيِّن ما يترتب عليه من المصالح في فعلِ الأمر، والمفاسد في تركه.
ومن جهة النِّعم: يرشد إلى ضدها، العافية وضدها المرض، المال الغِنى وضده الفقر، وهكذا، نعم.
المتن
وهذه القاعدة الجليلة دلَّ عليها القرآن في آيات عديدة، وهي من أعظم ما يدل على حكمة الله.
ومن أعظم ما يُرَقِّي العاملين إلى خيرٍ ديني ودنيوي، فإن العامل إذا كان مشتغلًا بعمله الذي هو وظيفة وقته، فإنْ قصَرَ فكره وظاهره وباطنه عليه، نجح وتمَّ بحسب حاله، وإنْ نظر وتشوقت نفسه إلى أعمالٍ أخرى لم يحن وقتها بعد فترت عزيمته، وانحلَّت همَّته، وصار نظره إلى الأعمال الأخرى يُنْقِصُ من إتقان عمله الحاضر وجمْعِ الهمَّة عليه، ثم إذا جاءت وظيفة العمل الآخر جاءه وقد ضعفت همَّته، وقلَّ نشاطه، وربما كان الثاني متوقفًا على الأول في حصوله أو تكميله، فيفوت الأول والثاني، بخلاف مَن جمع قلبه وقالبه، وصار أكبر همه القيام بعمله الذي هو وظيفة وقته، فإنه إذا جاء العمل الثاني فإذا هو قد استعدَّ له بقوةٍ ونشاط، وتلقاه بشوق، وصار قيامه بالأول معونة على قيامه بالثاني.
ومن هذا قوله تعالى مصرِّحًا بهذا المعنى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً [النساء: 77].
فانظر كيف حالهم الأولى وأمنيتهم وهم مأمورون بكف الأيدي، فلما جاء العمل الثاني ضعفوا كل الضعف عنه، ونظير هذا ما عاتب الله به أهل أُحد في قوله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [آل عمران: 143] وقد كشف هذا المعنى كل الكشف قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا [النساء: 66]
لأن فيه تكميلًا للعمل الأول، وتثبيتًا من الله، وتمرُّنًا على العمل الثاني، ونظيره قوله تعالى: ومِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ الآية [التوبة: 75-77].
فالله أرشد العباد أن يكونوا أبناء وقتهم، وأن يقوموا بالعمل الحاضر، ووظيفته، ثم إذا جاء العمل الآخر صار وظيفة ذلك الوقت، واجتمعت تلك الهمَّة والعزيمة عليه، وصار القيام بالعمل الأول مُعينًا على الثاني، وهذا المعنى في القرآن كثير.
الشرح
يعني هذا الأمر الأول؛ وهو قصْرُ النظر على الحالة الحاضرة، تقصر نظرك على العمل الذي أنتَ فيه، إنسان عنده أعمال خلاص اقصِرْ نظركَ على هذا العمل، أتقِنْ هذا العملَ، لا تنظر إلى العملِ الآخر؛ لئلا تضعف همتك، أتقِنْ هذا العمل ثُم بعد ذلك إذا جاءك العمل الآخر تنظر إليه نظرة أخرى، نعم.
المتن
وأما الأمور المتأخرة فإن الله يرشد العاملين إلى ملاحظتها لتقوى هممهم على العمل المثمر للمصالح والخيرات، وهذا كالترغيب المتنوع من الله على أعمال الخير، والترهيب من أفعال الشر بذكرِ عقوباتها وثمراتها الذميمة.
فاعرِفِ الفَرْقَ بين النظر إلى العمل الآخر الذي لم يجئ وقته، وبين النظر إلى ثواب العمل الحاضر الذي كلما فَتُرَتْ همَّةُ صاحبه وتأمل ما يترتب عليه من الخيرات استجد نشاطه، وقوي عليه، وهانت عليه مشقته، كما قال تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ [النساء: 104].
وأما إرشاده من جهة النعم التي على العبد من الله بالنظر إلى ضدها لِيَعْرِفَ قَدْرَهَا، ويزداد شكره لله، ففي القرآن منه كثير.
الشرح
مثلًا النِّعم، الإنسان الذي أنعمَ الله عليه بالعافية، ينظر إلى ضدها، وهو المَرْضَى، الصحة تاجٌ على رؤوس الأصِحَّاء، لا يراه إلا المَرْضَى.
الإنسان الغني ينظر إلى الفقير.
الإنسان السميع ينظر إلى الأصم.
والإنسان المبصِر ينظر إلى الأعمى، وهكذا حتى يشكرَ نعمة الله، حتى لا يَزْدَرِي نعمة الله عليه، فبضد الأشياء تتبين الأشياء، نعم.
المتن
وأما إرشاده من جهة النعم التي على العبد من الله بالنظر إلى ضدها لِيَعْرِفَ قَدْرَهَا، ويزداد شكره لله، ففي القرآن منه كثير.
يُذَكِّر عباده نعمته عليهم بالدين والإسلام، وما ترتب على ذلك من النعم، كقوله: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا [آل عمران: 164] إلى قوله: وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ [آل عمران: 164] وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [آل عمران: 103] أي: إلى الزيادة لشكر نعم الله، وقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26] وقوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلى آخر الآيات، [القصص: 71] حيث يُذَكِّرُهُم أن ينظروا إلى ضد ما هم فيه من النعم والخير؛ ليعرفوا قدر ما هم فيه.
وهذا الذي أرشد إليه النبي ﷺ حيث قال: انظروا إلى مَن هو أسفلَ منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقكم؛ فإنه أجدر ألا تَزْدَرُوا نعمة الله عليكم([2])، وقوله تعالى: فاذكروا آلاَءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأعراف: 69] وقوله: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَآلًا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} إلى آخرها [الضحى: 6-8].
القاعدة الثانية والأربعون: في أن الله قد ميَّز في كتابه بين حقه الخاص، وحقِّ رسوله الخاص، والحق المشترك.
الحقوق ثلاثة: حقٌّ لله وحده لا يكون لغيره، وهو عبادته وحده لا شريك له بجميع أنواع العبادات.
وحقٌّ لرسوله ﷺ خاص، وهو التعزير، والتوقير، والقيام بحقه اللائق، والاقتداء به.
وحقٌّ مُشْتَرَكٌ، وهو الإيمان بالله ورسوله، وطاعة الله ورسوله، ومحبة الله ورسوله.
الشرح
نعم، هذه القاعدة قاعدة مفيدة وقاعدة عظيمة، وهي التمييز بين الحقوق، بين الحقوق الثلاثة: حقٌّ لله، لا يُشركه فيه أحدٌ، لا مَلَك، ولا نبي، فإذا انصرف إلى غيره وقعَ في الشِّرك.
والثاني: حقٌّ خاصٌّ بالرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
والثالث: حقٌّ مُشْتَرَكٌ بين الله وبين نبيِّه.
الحقُّ الخاص بالله الذي لا يُصرفُ لغيره العبادة، العبادةُ حقُّ الله، لا يُصرف لغيره، لا لمَلكٍ مقرّب، ولا لنبيٍّ مرسل، مثل: الدعاء، ما يدعو إلا الله.
فإذا دعا الرسول أشرك بالله، ربِّ اغفر لي، ربّ أجرني من النار، ربّ أدخلني الجنة، فإذا قال: يا رسول الله، اغفر لي، يا رسول الله أدخلني الجنة، أشرك، وقع في الشرك.
هذا حقُّ الله، صَرَف حقُّ الله للمخلوق، فلو كان نبيًّا، الله تعالى لا يرضى أن يُشرك معه أحد في عبادته؛ لا مَلك مقرّب ولا نبيٍّ مُرسل.
إذن الحقُّ الخاص بالله، هو: التوحيد والعبادة، العبادة مثل: صلاة، صيام، زكاة، حجّ، برّ الوالدين، الدعاء، ذبح، نذر، توكُّل، رغبة، رهبة، هذه كلُّها حق الله، إذا صرفها لغير الله، ولو كان النبي ﷺ، وقع في الشرك.
هذا حقُّ الله، ما يجوز أن تعبد الرسول، تدعو الرسول، تذبح للرسول، تنذر للرسول، تصلي للرسول، تصوم للرسول، تحج للرسول، تدعو الرسول، لا، هذا شرك.
إن حقُّ الله خاصٌّ به.
والثاني: حقٌّ لرسوله خاص، وهو: التعزير، والتوقير، والقيام بحقِّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، الله تعالى، لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9].
فالتعزير، معناه: الاحترام والتقدير، والإجلال، هذا حقُّ الرسول ﷺ، يجب على الأمّة أن تقدّر النبي ﷺ، وأن تحترمه، وتوقِّره، وتقوم بحقِّه، واتباعه، والاقتداء به.
الثالث: حقٌّ مشترك، بين الله ورسوله وهو: الإيمان والطاعة والمحبة، {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحديد: 7]، مشترك؛ الإيمان بالله والرسول، تؤمن بالله ربًّا وخالقًا، وإلهًا، ومعبودًا بحق، وتؤمن بالرسول عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، نبيًّا ورسولًا من عند الله عَزَّ وَجَلَّ.
والثاني: الطاعة؛ طاعة الله وطاعة الرسول، أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [محمد: 33]، وطاعة الرسول من طاعة الله، مَن أطاع الرسول فقد أطاع الله، مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء: 80]؛ لأن الرّسول لا يأمر إلا بطاعة الله عز وجل، معصوم.
ولهذا فرّق الله تعالى بين طاعة الرسول، وطاعة أولي الأمر، بقوله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]، قال العلماء: حُذف المفعول بالنسبة لأولي الأمر، لماذا؟ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء: 59]، لم يقل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، وأطيعوا أولي الأمر، قال: وَأُولِي الْأَمْرِ [النساء: 59].
كرَّر الطاعة في الرسول؛ لأن الرسول معصوم، فلا يأمر إلا بطاعة الله، وأما أولي الأمر فليسوا بمعصومين، فلا يُطاعون إلا في طاعة الله، فإذا أُمروا بمعصية فلا يُطاعون.
لذا قال: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59]؛ يعني إذا كان أمرهم طاعةً لله.
والثالث: المحبة؛ تكون المحبة لله وللرسول، فلا بد للمسلم أن يُفرّق بين هذه الأمور الثلاثة.
الحقُّ الأول: حقّ الله، هو العبادة، بجميع أنواعها، ما هي أنواع العبادة؟ كثيرة: الدعاء، الذبح، النذر، الصلاة، الصيام، الزكاة، بر الوالدين، صلة الأرحام، الإحسان إلى الجيران، كفّ النفس عن المحرّمات تعبدًا لله.
حقُّ الرسول: التعزير، والتوقير، والإجلال، والاحترام، والقيام بحقِّه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، واتباعه، والاقتداء به.
حقٌّ مُشتَرك؛ وهو الإيمان والمحبة والطاعة لله وللرسول، الإيمان بالله وبالرسول؛ آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحديد: 7]، والطاعة لله ورسوله، والمحبة لله ولرسوله، نعم.
المتن
قد ذكر الله الحقوق الثلاثة في آيات كثيرة من القرآن؛ فأما حقُّه: فكل آية فيها الأمر بعبادته.
الشرح
فأما حقُّه الخاص.
المتن
فأما حقُّه الخاص: فكل آية فيها الأمر بعبادته، وإخلاص العمل له، والترغيب في ذلك، وهذا شيءٌ لا يُحصى، وقد جَمع الله ذلك في قوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [الفتح: 9]، فهذا مشترك، وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] فهذا خاصٌّ بالرسول وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 9] فهذا حق لله وحده.
الشرح
هذه آية واحدة فيها الحقوق الثلاثة، ما هي؟ آية واحدة فيها الحقوق الثلاثة.
آية الفتح؛ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 9].
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ هذا حقٌّ مشترك، وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ؛ هذا حقُّ الرسول، وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا؛ هذا حقُّ الله الخاص.
ولهذا إذا قرأت: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ يُستحسن الوقف هنا، وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 9]، تستأنف؛ لأن الحق هذا حقُّ الله.
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}؛ سكتة، {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الفتح: 9]، تفصل بين حقِّ الله، وبين حق الرسول عليه الصلاة والسلام.
المتن
وقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في آيات كثيرة. [النساء: 59، المائدة: 92، النور: 54، محمد: 33، التغابن: 12]، وكذلك: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النساء: 136]، وكذلك قوله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62]، وقال تعالى: سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [التوبة: 59].
الشرح
وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62]، هذا من الحقوق المشتركة؛ إرضاء الله وإرضاء الرسول، ترضي الله، وتُرضي الرسول، هذه من الحقوق المشتركة، والرسول ﷺ يرضيه ما يرضي الله، مثل: الطاعة، وكذلك الإيتاء لله ولرسوله، سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [التوبة: 59]، والله يؤتي والرسول يؤتي، يقسم الغنائم، أنا قاسم، والله يؤتي.
الإيتاء حقٌّ مشترك؛ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [التوبة: 59].
الإرضاء مشترك، والله ورسوله أحقُّ أن يُرضوه، فالطاعة مشتركة، المحبة مشتركة، الإيمان مشترك، الرغبة خاصة؛ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59]، ولهذا قال في الآية: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59]، ولم يقل: إنا إلى الله ولرسوله.
لما جاء الحق المشترك؛ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ [التوبة: 59]، ثُمَّ جاء الحقُّ الخاص: إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ [التوبة: 59]، فهذا خاصٌّ بالله.
المتن
ولكن ينبغي أن يعرف العبد أن الحقّ المشترك ليس معناه أن ما لله منه يثبت نظيره من كل وجه لرسوله، بل المحبة والإيمان بالله، والطاعة لله، لا بد أن يصحبها التعبد، والتعظيم لله، والخضوع.
وأما المتعلِّق بالرسول من ذلك فإنه حب في الله، وطاعة؛ لأجل أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله.
الشرح
يعني الحقوق المشتركة أيضًا، في فرْق بين حق الله، وحق الرسول، وإن كان مشترك، حقُّ الله الذي يثبت مثله للرسول يختلف؛ حقُّ الله إذا أديته يكون معه التعبد، والتعظيم، والخضوع، والرّغبة والرهبة، وحقّ الرسول إذا أديته يكون معه المحبة، والطاعة.
المتن
بل حقُّ الرسول على أمته من حقِّ الله تعالى، فيقوم المؤمن به امتثالًا لأمر الله، وعبودية له، وقيامًا بحق رسوله، وطاعةً له، وإنما قيل له: حقُّ الرسول؛ لتعلُّقه بالرسول، وإلا فجميع ما أمر الله به وحثَّ عليه من القيام بحقوق رسوله، وحقوق الوالدين، والأقارب، وغيرهم، كلُّه حقٌّ لله تعالى، فيقوم به العبد امتثالًا لأمر الله، وتعبُّدًا له، وقيامًا بحق ذي الحقِّ، وإحسانًا إليه، إلا الرسول، فإن الإِحسان منه كله إلى أمته، فما وصل إليهم خيرٌ إلا على يديه ﷺ تسليمًا.
الشرح
نعم، "فيقوم به العبد امتثالًا لأمر الله، وتعبُّدًا له، وقيامًا بحق ذي الحقِّ، وإحسانًا إليه، إلا الرسول، فإن الإِحسان منه كله إلى أمته".
المتن
القاعدة الثالثة والأربعون:
يأمر الله بالتثبُّت وعدم العجلة في الأمور التي يُخشى من عواقبها، ويأمر ويحث على المبادرة على أمور الخير التي يُخشى فواتها.
الشرح
نعم، هذه القاعدة تشتمل على أمرين:
الأمر الأول: الأمر بالتثبُّت، وعدم العجلة، في الأمور التي يُخشى من سوء عاقبتها؛ يعني الأمور التي يُخشى من العجلة، يُخشى أن تزل القدم، يتثبت ويتروّى ويتأمَّل وينظر حتى يستقر الأمر، ثم يفعله.
الثاني: الحثُّ والمبادرة على أمور الخير، التي يُخشى فواتها، ومن ذلك قول الله تعالى عن موسى أنه قال لما سأله ربه: وَمَا أَعْجَلَكَ [طه: 83]، قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه: 84].
المتن
وهذه القاعدة في القرآن كثير، قال تعالى في القسم الأول..
الشرح
القسم الأول: التثبُّت وعدم العجلة، في الأمور التي يُخشى من عواقبها.
المتن
قال تعالى في القسم الأول: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء: 94]، وفي قراءة: فتثبتوا.
الشرح
نعم، وهذه الآية نزلت لمَّا قتل بعض الصحابة أُناس سلّموا عليهم، وقالوا: السلام عليكم، فظنوا أنهم ليسوا مسلمين، فقتلوهم، قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ [النساء: 94]، كنتم قبل مثلهم، كنتم مشركين، فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [النساء: 94]؛ بالإسلام، فلماذا لا تتثبتون في الذي ألقى عليكم السلام؟
التثبت وعدم العجلة، وقال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]، وفي قراءة: فَتَثَبَّتُوا.
المتن
قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ [الحجرات: 6].
الشرح
وفي قراءة: فَتَثَبَّتُوا.
المتن
وقد عاتب الله المُتسرِّعين إلى إذاعة الأخبار التي يُخشى من إذاعتها، فقال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ الآية [النساء: 83]، وقال تعالى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ [يونس: 39].
ومن هذا الباب: الأمرُ بالمشاورة في الأمور، وأخذُ الحَذر، وألا يقول الإنسان ما لا يعلم، وفي هذا آيات كثيرة.
وأما القسم الثاني: فقوله...
الشرح
القسم الثاني: الحث على المبادرة على أمور الخير، التي يُخشى فواتها، كل أمر خيري يُخشى فواته بادر حتى لا يفوتك؛ لأنك إذا لم تبادر، وتهاونت قد يفوتك، فلا تستطيعه فيما بعد.
ومن ذلك الآن المبادرة في طلب العلم، ينبغي للشاب أن يبادر في طلب العلم، وحضور الحلقات، والدروس العلمية؛ لأنه قد يأتي وقت لا يجد علماء؛ علماء بصيرةٍ، وعلماء حقٍّ؛ ليأخذَ عنهم.
ولذلك بيّن النبي ﷺ قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صدور الرجال، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بموت الْعُلَمَاءِ([3]).
قبض العلم ما ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يموت العلماء واحد بعد واحد، يموت أهل الحق، وأهل البصيرة، وأهل السنة، فيبقى الناس ليس عندهم علماء.
وإذا لم يكن عندهم علماء، ماذا يعملون؟ يعيّنون رؤساء ويتولون الأمور وهم ليسوا على بصيرة.
(..............) يعيّن مفتيًا، يعيّن قاضيًا، يعيّن مديرًا، يعيّن رئيسًا، والعلماء قُبضوا، فيُعَيَّن من الموجودين، والموجودون ليس عندهم علم، وإذا ترأسوا لابد يفتون الناس، فالمفتي لابد أن يُفتي، وضع في هذا المنصب-، وإذا لم يكن عالم أفتى بالجهل، فأضلَّ وأضلَّ، إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ صدور الرجال، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بموت الْعُلَمَاءِ حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا -وفي رواية: لمْ يُبْقِ عالمًا- اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا([4]).
فينبغي للإنسان والشباب، ولاسيما في هذا الزمن؛ زمنِ غربة الإسلام، كثرت فيه الفتن، وتلاطمت أمواجها، واختلط الحابل بالنابل، وكثر المضللون.
فإذا مات أهل الحق، وأهل البصيرة، وأهل السنة والجماعة، بقي الناس في حيرة، في شك، اختلط الحق بالباطل. فهذا من المبادرة في فعل الخير، فيحرص الإنسان..
وفي هذا قصة فيها العظة والعبرة:
النبي ﷺ تُوفي، تُوفي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، والصحابة متوافرون، علماء، الناس ترجع إليهم، وكان ابن عباس صغير، قد ناهزَ العشرين، لكنه حريص، دعا له النبي ﷺ.
فكان ابن عباس يحرص على طلبِ العلم، ويأتي إلى الصحابة، ويأخذ ما عندهم من العلم، فكان يأتي إلى الصحابي، ويقف عند بابه، ويجلس، ينتظره ليخرج، حتى ينام وتَسْفِي الرِّيح، فإذا خرج، قال: يا ابن عم رسول الله، هلا أخبرتني؟ قال: لا، العلم يُؤتى إليه.
ومن الثاني والثالث، وكان له زميل من الأنصار، فكان زميله من الأنصار يُزهِّده، قال: يا ابن عباس، تظنُّ الناسَ يحتاجون إليك؟! شوف الصحابة متوافرون ما في حاجة.. لماذا تحرص؟ هل تظن أن الناس يحتاجون إليك؟
إن أصحابه متوافرون، فتركه ابن عباس، وهذا زميله الأنصاري تركَ طلبَ العلم، فاستمر ابن عباس، يأخذ العلم من العلماء، ويحرص ليل نهار، حتى وصل إلى شَأْوٍ بعيد في العلم، ومات الصحابة، ولم يَبْقَ إلا القليل، وكَبُر ابن عباس، فصار عالمًا كبيرًا، تُضرب إليه أكباد الإبل، من جميع البلدان والأقطاب.
فكان الناس يَفِدُون إلى ابن عباس، فيجلس لهم بعد صلاة الفجر، يجلس إلى أهل التفسير، ثم ينصرف ويأتي أهلُ الحديث، ثم ينصرف ويأتي أهلُ اللغة، ثم ينصرفون ويأتي أهلُ الفقه، وهكذا.
فكان زميله الأنصاري بقي جاهلًا، ما تعلَّم، فكان ينظر إليه والناس يفدون إليه، فكان يقول: هذا كان أعقل مني.. يشير إليه، يقول الأنصاري عن ابن عباس: هذا كان أعقلَ مني، نعم.
المتن
وأما القسم الثاني: فقوله: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ الآيات [آل عمران: 133]، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة: 148] أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون: 61] وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ [الواقعة: 10]، أي: السابقون في الدنيا إلى الخيرات هم السابقون في الآخرة إلى الجنات والكرامات، والآيات كثيرة في هذا المعنى.
وهذا الذي أرشد الله عباده إليه هو الكمال، أن يكونوا حازمين، لا يُفَوِّتُون فُرَص الخيرات، وأن يكونوا متثبِّتين خشية وقوع المكروهات والمضرَّات وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة: 50].
القاعدة الرابعة والأربعون:
عند ميلان النفس أو خوف ميلانها إلى ما لا ينبغي يُذكِّرها الله ما يَفُوتها من الخير، وما يحصل لها من الضرر.
الشرح
يعني هذه القاعدة وهي أن النفس قد تضعف، وتميل إلى ما لا ينبغي، فتجد أحيانًا.. النفوس لها إقبال وإدبار، فإذا مالت النفس إلى الضعف والكسل، يقول: أنا تعبتُ من حضور الدروس والحلقات العلمية، تعبتُ من القراءة في الليل والنهار، يُذَكِّرُه إلى ما يفوته من الخير، يُذَكِّرُه بأضداه: انظر الخسارة التي تحصل، كان الإنسان يداوم على فعلِ الخير، كان يداوم على الصلاة، يصلي الفجر، الصلاة في آخر الليل، أو تلاوة القرآن، يُذَكِّرُها، انظر إلى ما يفوتك من الخير، إذا تركتَ القرآن ماذا يفوتك؟ إذا تركتَ قيام الليل ماذا يفوتك؟
يصوم الاثنين والخميس، أو يصوم ثلاثة أيام، فمَن؟ لعلي أترك.. ذَكِّر، ذَكِّر نفسك ما يفوتك من الخير، ما يفوتها من الخير؛ حتى تنشطَ. نعم.
المتن
وهذا في القرآن كثير، وهو من أنفع الأشياء في حصول الاستقامة؛ لأن الأمر والنهي المجرد لا يكفي أكثر الخَلق في كفهم عما لا ينبغي حتى يُقرن بذلك ما يفوت من المحبوبات التي تزيد أضعافًا مضاعفة على المحبوب الذي يكرهه الله، وتميل إليه النفس، وما يحصل من المكروه المرتب عليه، كذلك قال تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ [ الأنفال: 28].
فهنا لما ذكر فتنة الأموال والأولاد التي مالت بأكثر الخَلق عن الاستقامة قال مذكِّرًا لهم ما يفوتهم إن افتتنوا، وما يحصل لهم إن سلموا من الفتنة: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [الأنفال: 28]. وقال تعالى: هَاأَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا [النساء: 109] وقال تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى: 20] وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء: 205-207] والآيات في هذا المعنى الجليل كثيرة جدًّا، فإذا بان للناظر أصلها وقاعدتها سَهُلَ عليه تنزيل كل ما يَرِدُ منها على الأصل المتقرر، والله أعلم.
القاعة الخامسة والأربعون:
حثُّ الباري في كتابه على الصلاح والإصلاح.
هذه القاعدة من أعمِّ القواعد، فإن القرآن يكاد أن يكون كله داخلًا تحتها.
الشرح
نعم، هذه القاعدة العظيمة: حثُّ الله سبحانه في كتابه على الصلاح والإصلاح.
الصلاح: أن يكون الإنسانُ صالحًا في نفسه، مستقيم على طاعة الله، يوحِّد اللهَ، ويخلصُ له العبادة، ويؤدي الواجبات، ويترك المحرمات، ويكون صالحًا في نفسه.
والإصلاح: أنْ يُصلِحَ غيره، هذا الخير الذي مَنَّ اللهُ عليكَ تدعو الناسَ إليه، وتُعلِّم الناس، وترشد الناس إليه؛ حتى تكونَ هاديًا مهديًّا، تُصلِح غيرك.
أولًا: أصلحتَ نفسك -بتوفيقٍ من الله- عليكَ أنْ تُصلِحَ غيرك، تدعوه إلى الخير، تحثه على الخير، تأمره بالمعروف، تنهاه عن المنكر، فيكون لكَ مِثْلُ أجره.
فاللهُ تعالى حثَّ في كتابه على الصلاح والإصلاح، الصلاح: صلاح الإنسان في نفسه، والإصلاح: إصلاحُ غيره. نعم.
المتن
فإنَّ الله أمر بالصلاح في آيات متعددة والإصلاح، وأثنى على الصالحين والمصلحين في آيات أُخر.
والصلاح: أن تكون الأمور كلها مستقيمة معتدلة، مقصودًا بها غاياتها الحميدة، فأمرَ الله بالأعمال الصالحة، وأثنى على الصالحين؛ لأن أعمال الخير تُصلِحُ القلوب والإيمان، وتُصلِحُ الدين والدنيا والآخرة، وضدها فساد هذه الأشياء.
وكذلك في آيات متعددة فيها الثناء على المصلحينَ ما أفسد الناس، والمصلحين بين الناس، والتصالح فيما بين المتنازعِين، وأخبر على وجه العموم أن الصلح خير، فإصلاح الأمور الفاسدة: السعي في إزالة ما تحتوي عليه من الشرور والضرر العام والخاص.
ومن أهم أنواع الإصلاح: السعي في إصلاح أحوال المسلمين، في إصلاح دينهم ودنياهم، كما قال شعيب: إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ [هود: 88] فكل ساعٍ في مصلحة دينية أو دنيوية للمسلمين فإنه مُصْلِحٌ، واللهُ يهديه، ويرشده، ويسدِّده، وكل ساعٍ بضد ذلك فهو مُفْسِدٌ، والله لا يصلح عمل المفسدين.
ومن أهم ما يكون أيضًا: السعي في الصلح بين المتنازعين، كما أمر الله بذلك في الدماء، والأموال، والحقوق بين الزوجين، والواجب أنْ يُصْلِحَ بالعدل، ويسلك كل طريق توصل إلى الملاءمة بين المتنازعين، فإن آثار الصلح بركة وخير وصلاح، حتى إن الله تعالى أمر المسلمين إذا جنح الكفار الحربيون إلى المُسَالَمة والمصالحة أن يوافقوهم على ذلك متوكِّلين على الله.
وأمثلة هذه القاعدة لا تنحصر، وحقيقتها: السعي في الكمال الممكن حسب القدرة بتحصيل المصالح أو تكميلها، أو إزالة المفاسد والمضار أو تقليلها، الكلية والجزئية، المتعدية والقاصرة، والله أعلم.
الشرح
هذه الخلاصة، خلاصتها: أنْ تسعى في الكمال الذي يمكنك، حسب القدرة والطاقة، بأنْ تحصل على المصالح أو تكميلها، تزيل المفاسد والمضار أو تقللها، وسواء هذه المصالح كلية أو جزئية، وسواء كانت متعدية أو قاصرة. نعم.
المتن
القاعدة السادسة والأربعون:
ما أمرَ الله به في كتابه: إما أن يوجَّه إلى مَن لم يدخل فيه، فهذا أمرٌ له بالدخول فيه، وإما أن يوجَّه لمَن دخل فيه، فهذا أمرُهُ به ليصحِّحَ ما وُجد منه، ويسعى في تكميل ما لم يُوجَد منه.
الشرح
نعم، هذه القاعدة: ما أمرَ الله به في كتابه مُوجَّه إلى صنفين من الناس:
الصنف الأول: مَن لم يدخل فيه، يُؤمر بالدخول فيه، مثلَ أمرُ الله تعالى أمْر الناس بالإيمان والتقوى يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء: 1]، فالكافر مأمورٌ بالإيمان. إذن هذا مأمورٌ بالدخول في الإيمان، والمؤمن يُؤمر بالإيمان، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة: 153]؛ يُؤمر بالإيمان؛ ليُصحِّحَ ما عنده من الخطأ والتقصير، أو يُكمِّل ما لم يُوجد فيه.
فإذن الإيمان يُؤمر به الكافر، ويُؤمر به المؤمن، الكافر يُؤمر به؛ ليدخلَ في الإسلام، والمؤمن يُؤمر به؛ ليُصحِّح ما عنده من الخطأ، ويُكمِّل ما عنده من النقص. نعم.
المتن
وهذه القاعدة مُطَّرِدَةٌ في جميع الأوامر القرآنية، أصولها وفروعها، فقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أوتوا الكتاب آمِنُوا بما نزلنا [النساء: 47] من القسم الأول.
الشرح
نعم، يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أوتوا الكتاب [النساء: 47] كفَّار، هم اليهود والنصارى، أمرهم اللهُ بالإيمان للدخول في الإيمان. نعم.
المتن
وقوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النساء: 136] من الثاني والثالث.
الشرح
نعم، هذا المؤمنون، مأمورون بالإيمان؛ ليصحِّحوا ما عندهم من خطأ، أو ليكملوا ما عندهم من النقص. نعم.
المتن
فإنه أمرهم بما يصحِّح ويكمِّل إيمانهم من الأعمال الظاهرة، والباطنة، وكمال الإخلاص فيها، والنهي عما يفسدها وينقصها، وكذلك أمره للمؤمنين أن يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا رمضان، أمرٌ بتكميل ذلك، والقيام بكل شرطٍ ومُكمِّل لذلك العمل، والنهي عن كل مُفْسِدٍ ومُنْقِصٍ لذلك العمل، وكذلك أمره لهم بالتوكل والإنابة ونحوها من أعمال القلوب هو أمرٌ بتحقيق ذلك، وإيجاد ما لم يُوجد منه.
وبهذه القاعدة نفهم جواب الإيراد الذي يُورَد على طلبِ المؤمنين من ربهم الهداية إلى الصراط المستقيم، واللهُ قد هداهم للإسلام، جوابه ما تضمَّنته هذه القاعدة، ولا يُقال: هذا تحصيل للحاصل! فافهم هذا الأصل الجليل النافع الذي يفتح لك من أبواب العلم كنوزًا، وهو في غاية اليسر والوضوح.
الشرح
نعم، قول المصلي: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 6]، بعضُ الفقهاء يُورِد يقول: كيف يطلب المؤمن الهداية والصراط المستقيم وقد هداه الله؟!
قال بعضُ الفقهاء: المعنى: اهدنا؛ ثبِّتنا يا الله، ثبِّتنا على ما كنا عليه. وهذا ليس بصحيحٍ، والجواب: أن المؤمنَ وإنْ كان دخل في الإسلام لكن عنده نقص كثير، عنده خطأ، فهو يطلب الهداية لتصحيح الخطأ، وعنده نقصٌ يطلب الهداية لتكميل ما عنده، ويطلب أيضًا الثبات على ما عنده، كل هذا مُحْتَمَل.
ولهذا بعض الفقهاء يقول: كيف يسأل المؤمن الهداية وقد هُدي؟! ثم أجاب: السؤال للثبات! وهذا ليس بسديدٍ، بل إنه يسأل الهداية، يسأل لأن يوفقه الله لأمرٍ لم يعلمه، فيعلمه، ويسأل أن يهديه اللهُ لأمرٍ قد علمه حتى يفعله.
هل كل ما تعلمه أنتَ تعمله؟
لا. تَعْلَمُ أنَّ قيام الليل فاضل، ولكن ما تقوم الليل، فأنتَ تسأل ربَّك أن يهديك للعمل.
تَعْلَمُ فضيلة الصيام النافلة، وأنتَ لا تصوم.
إذن نسأل الله أن يوفقنا -لإيش؟- للعمل، هناك أشياء ما علمنا حكمها من الشرع، نسأل الله أن يهدينا إليها، هناك ما علمناه ونعمل به، نسأل الله أن يثبتنا عليه. نعم.
المتن
القاعدة السابعة والأربعون:
إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة وأراد الله أن يحكم عليها، وذلك الحكم لا يختص بها بل يشملها ويشمل غيرها، جاء الله بالحكم العام.
وهذه القاعدة من أسرار القرآن وبدائعه، وأكبر دليل على إحكامه وانتظامه العجيب، وأمثلةُ هذه القاعدة كثيرةٌ، منها:
الشرح
هذه القاعدة؛ أنه إذا كان سياق الآيات في أمور خاصة وأراد الله أن يحكم عليها، بحُكمٍ يشمله ويشمل غيرها، يأتي الحكمُ العام.
إذا كان آيات في أمورٍ خاصة، وأراد الله أن يحكم عليها لكن بحكمٍ لا يخصها، بل يشملها ويشمل غيرها، جاء الحكم العام.
وإذا أُريد الخصوص في هذه الأمور يأتي الحكم الخاص.
فإذا كان هناك أمورٌ خاصة وأراد الله أن يحكم عليها بحكمٍ لا يخصها، يشمله ويشمل غيرها، يأتي بحكمٍ عامٍّ؛ حتى يشملَ هذه الأمور ويشمل غيرها. نعم.
المتن
وأمثلةُ هذه القاعدة كثيرةٌ، منها:
لما ذكر الله المنافقين وذمهم واستثنى منهم التائبين فقال: إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:146] فلما أراد الله أن يحكم لهم بالأجر لم يقل: وسوف يؤتيهم أجرًا عظيمًا، بل قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء: 146].
الشرح
نعم، وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 146] يشملهم، ويشمل غيرهم.
لما قال: الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا [النساء: 146].. فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 146]، الأصل أن يقول: وسوف يؤتيهم أجرًا عظيمًا، لكن لما أراد أن يُدخل معهم غيرهم، قال: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 146]، كل مؤمن يشمله هذا، له أجرٌ عظيمٌ.
المتن
ليشملهم وغيرهم من كل مؤمن؛ ولئلّا يُظن اختصاص الحُكم بهم.
ولما قال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ [النساء: 150] إلى قوله: أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا [النساء: 151]، لم يقل: وأعتدنا لهم، للحكمة التي ذكرناها. ومثله: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا [الأنعام: 64] أي: هذه الحالة التي وقع السياق لأجلها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ [الأنعام: 64].
القاعدة الثامنة والأربعون:
متى علَّق الله عِلْمه بالأمور بعد وجودها كان المراد بذلك العلم الذي يترتب عليه الجزاء.
وذلك أنه تقرَّر في الكتاب والسُّنَّة والإجماع أن الله بكل شيء عليم.
الشرح
نعم، هذه القاعدة، يقول: "متى علَّق الله عِلْمه بالأمور بعد وجودها كان المُراد بذلك العِلْم الذي يترتَّب عليه الجزاء"؛ مثل قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7].
والمراد إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، سوف يجازي، سوف يجازيهم على أعمالهم، فإذا علّق الله علمه بالأمور، وهذه الأمور موجودة، كان المراد العلم الذي يترتّب عليه الجزاء.
هي أمور موجودة الآن، ومعلوم أن الله يعلم الموجود، ويعلم ما لم يوجد، ويعلم ما كان سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ويعلم ما لم يكن، يعلم ما كان؛ في الماضي، ويعلم ما لم يكن في الحاضر، ويعلم ما لم يكن في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فإذا علّق الله علمه بأمرٍ وقد وقع، قال: إن الله يعلمه، وهو أمر واقع.
فالمراد العلم الذي يترتّب عليه الجزاء، معنى أنه يعلمه؛ وسوف يجازي عليه، مثل: الثلاثة الذين يتناجون، والأربعة والخمسة والستة، قال: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة: 7]؛ لأنه سوف يجازيهم على أعمالهم.
المتن
وأن عِلْمه محيطٌ بالعالم العلوي والسفلي، والظواهر والبواطن، والجليَّات والخفيَّات، والماضي والمستقبل، وقد علم ما العباد عاملون قبل أن يعملوا الأعمال.
وقد ورد عدة آيات يُخبِرُ بها أنه شرع كذا، أو قدَّر كذا؛ ليعلم كذا.
فوجه هذا: أن هذا العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وأما عِلْمه بأعمال العباد، وما هم عاملون قبل أن يعملوا، فذلك عِلْمٌ لا يترتب عليه الجزاء؛ لأنه إنما يُجازي على ما وُجد من الأعمال.
الشرح
يعني أن الله تعالى يعلم من عباده ما سيعملون في المستقبل، لكن هذا ما يترتَّب عليه الجزاء، العلم الذي يترتَّب عليه الجزاء بعد وقوعه، فالله عالم بما يعمله العباد في المستقبل قبل أن يعملوه.
لكن هذا العلم هل يترتَّب عليه الجزاء؛ عقوبة وثواب؟ لا، متى يترتَّب عليه الجزاء؟ إذا عملوه.
المتن
وعلى هذا الأصل نَزِّل ما يَرِدُ عليك من الآيات، كقوله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة: 94]، وقوله: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة: 143]، وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الحديد: 25]، وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ [العنكبوت: 11]، وقوله: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف: 12]، وما أشبه هذه الآيات كلها على هذا الأصل.
الشرح
كل هذه الآيات التي فيها العلم، يعني العلم الذي يترتب عليه الجزاء، وهو الثواب، والعقاب.
المتن
القاعدة التاسعة والأربعون:
إذا منع الله عباده المؤمنين شيئًا تتعلق به إرادتهم فتح لهم بابًا أنفع لهم منه وأسهل وأولى.
الشرح
نعم، هذه القاعدة: "إذا منع الله عباده من شيء، فتح لهم بابًا أنفع منه"، أنفع لهم، منع الله -مثلًا- من الخمر، لكن فتح لهم أبواب الألبان، وأنواع الأشربة المتعددة.
فتحَ الله لهم هذا الباب، فأباح لهم، منعهم من نوعٍ واحد وهو الخمر، وأباح لهم أنواع الأشربة، وأنواع الألبان، وأنواع المشروبات.
المتن
وهذا من لطفه، قال تعالى: وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 32]، فنهاهم عن التمني الذي ليس بنافع، وفتح لهم أبواب الفضل والإحسان، وأمرهم أن يسألوه بلسان المقال وبلسان الحال.
ولما سأل موسى عليه السلام رؤية ربِّه حين سمع كلامه ومنعه الله منها سلاَّه بما أعطاه من الخير العظيم، قال: يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ [الأعراف: 144]، وقوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106]، وقوله: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: 130]، وفي هذا المعنى آياتٌ كثيرة.
الشرح
نعم، قال: الزوجان إذا تفرّقا، قال: يُغْنِ اللَّهُ كُلًا مِنْ سَعَتِهِ [النساء: 130]، مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106]، (.............)
موسى لما مُنع، قالَ اللهُ: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي [الأعراف: 144].
المتن
قال رحمه الله تعالى: القاعدة الخمسون: آيات الرسول هي التي يبديها الباري ويبتديها، وأما ما أبداه المكذِّبون له واقترحوه فليست آيات، وإنما هي تعنُّتات وتعجيزات.
وبهذا يُعرف الفرق بينها وبين الآيات، وهي البراهين والأدلة على صدق الرسول وغيره من الرُّسل، وعلى صدق كلِّ خبرٍ أخبر الله به، وأنها الأدلة والبراهين التي يلزم من فهمها على وجهها صدق ما دلَّت عليه ويقينه.
الشرح
نعم، هذه القاعدة فيها الفرق بين آية الرسول التي يظهرها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على يديه، وبين اقتراحات المكذّبين، فهذه ليست آيات، والآية، هي: العلامة، العلامات على صدق الرسول.
العلامات على صِدْقِ الرسول كثيرة، منها: صدقه، وأمانته، وتحمُّله للكَلِّ، كما قالت خديجة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، في يوم البعثة: «كَلَّا وَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ»([5]). هذه من علاماتِ صِدْقِه.
وكذلك هرقل لما سأله ما يقارب العشرة أسئلة، استدل بها على أنه نبي.
وكذلك القرآن، من الآيات على صدقه، والمعجزات التي يجريها الله على يديه عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، مثل: نَبْع الماء من بين أصابعه، تكثير الطعام، وتسبيح الطعام، وسلام الحَجَر، إلى غير ذلك، وحنين الجِزْع.
هذه آيات أجراها الله على يديه، هذه آيات هي الآيات الصحيحة، أمَّا مَا يقترحه المكذِّبون فليست آيات.. مثل: الإسراء والمعراج، الإسراء بالنبي ﷺ، والمعراج، وانشقاق القمر.
كلُّ هذه أبداها الله، لكن هناك آيات يقترحها المكذِّبون، مثل: اقتراح المشركين على النبي ﷺ وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ [الإسراء: 90 - 93].
هذه اقتراحات، هذه ليست آيات، وإنما هذه اقترحها المكذِّبون، إنما الآيات هي التي يُظْهِرُها الله على يد نبيه ﷺ.
المتن
وبهذا المعنى ما أرسل الله من رسول إلا أعطاه من الآيات ما على مثله آمن البشر، وأما ما آتى الله محمدًا ﷺ من الآيات فهي لا تُحد ولا تُعد من كثرتها، وقوتها، ووضوحها، ولله الحمد.
الشرح
ألَّف العلماء فيها مؤلفات، منها: دلائل النبوة للبيهقي، ومنها كذلك أيضًا: القاضي عياض، له في معجزات النبي ﷺ، وألف العلماء مؤلفات كثيرة.
المتن
فلم يبق لأحد من الناس بعدها عذر، فعُلِم بذلك أن اقتراح المكذبين لآيات يعيِّنونها ليست من هذا القبيل، وإنما مقصودهم بهذا أنهم وطَّنوا أنفسهم على دينهم الباطل، وعدم اتباع النبي ﷺ، فلمَّا دعاهم إلى الإيمان، وأراهم شواهد الآيات، أرادوا أن يبرِّروا ما هم عليه عند الأغمار والسفهاء بقولهم: ائتنا بالآية الفلانية، والآية الفلانية، إن كنت صادقًا، وإن لم تأت بذلك فلا نصدقك!!
فهذه طريقة لا يرتضيها أدنى مُنصف؛ ولهذا يُخبر تعالى: أنه لو أجابهم إلى ما طلبوا لم يؤمنوا؛ لأنهم وطَّنوا أنفسهم على الرضى بدينهم، وعَرفوا الحق ورفضوه، وأيضًا فهذا من جهلهم في الحال والمآل.
الشرح
نعم، والآيات الاقتراحية، التي يقترحها المكذّبون لو أعطاهم الله إياها، ولم يؤمنوا عجَّلهم بالعقوبة، ولهذا لمَّا اقترح قوم صالح الناقة، ولم يؤمنوا، فعقروها، عجَّلهم الله بالعقوبة.
ولما اقترح المشركون هذه الآيات، جاء جبريل إلى النبي ﷺ، قال: يا محمد، إن قومك اقترحوا، قالوا: تُبْعِد عنا هذه الجبال، اسأل ربَّكَ أنْ يُبْعِدَ عنا هذه الجبال، حتى نزرع مثل ما يزرع الناس، وتكون هناك جنَّاتٌ وأنهارٌ في الشام وفي غيرها.
فجاءه جبريل، وقال: يا محمد، إن شئت، أعطاهم الله ما طلبوا، ولكن إذا لم يؤمنوا عُوقبوا، وإنْ شئتَ أن تستأنيَ بهم، قال: أَسْتَأْنِي بِهِمْ، وأرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يؤمن بالله ورسوله([6]).
المتن
أما الحال: فإن هذه الآيات التي تُقترح وتُعيَّن جرت العادة أن المقترحين لها لم يكن قصدهم الحق، فإذا جاءت ولم يؤمنوا عُوجلوا بالعقوبة الحاضرة.
وأما المآل: فإنهم جزموا جزمًا لا تَردُد فيه أنها إذا جاءت آمنوا وصدَّقوا، وهذا قَلبٌ للحقائق، وإخبارٌ بغير الذي في قلوبهم، فلو جاءتهم لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله تعالى.
وهذا النوع ذكره الله في كتابه عن المكذِّبين في آياتٍ كثيرة جدًا، كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا الآيات [الإسراء: 90]، وقوله: وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا [الأنعام: 111] إلى آخرها.
وأيضًا إذا تدبَّرت الاقتراحات التي عيَّنوها لم تجدها في الحقيقة من جِنس البراهين، وإنما هي لو فُرض الإتيان تكون شبيهة بآيات الاضطرار التي لا ينفع الإيمان معها، ويصير شهادة، وإنما الإيمان النافع هو الإيمان بالغيب، فكما أنه المنْفَرِدُ بالحكم بين العباد في أديانهم وحقوقهم، وأنه لا حكم إلا حكمه.
وأن من قال: "ينبغي أو يجب أن يكون الحكم كذا وكذا"، فهو متجرئٌ على الله، متوثب على حرمات الله وأحكامه، فكذلك براهين أحكامه لا يتولاَّها إلا هو، فمَن اقترح شيئًا من عنده فقد ادّعى مشاركة الله في حكمه ومنازعته في الطرق التي يهدي ويرشد بها عباده: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ [الأنعام: 93].
القاعدة الحادية والخمسون: كل ما وَرَد في القرآن الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء غير الله، والثناء على الداعين، تناول دعاء المسألة ودعاء العبادة.
وهذه قاعدة نافعة، فإنَّ أكثرَ الناس إنما يتبادر لهم من لفظ الدعاء والدعوة دعاء المسألة فقط، ولا يَظنُّون دخول جميع العبادات في الدعاء.
الشرح
هذه القاعدة، وهي: أن ما وَرَد في القرآن الأمر بالدعاء، والنهي عن دعاء يشمل نوعين من الدعاء: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60].
دعاء المسألة: كأن يقول: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، اللهم نجني من النار.
دعاء العبادة: أن يصلي، فالمصلي داعٍ في المعنى، المصلي يطلب الثواب، الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، وبر الوالدين، والأمر المعروف.. هذه تُسمَّى دعاء عبادة.
فأنت تعبد الله بهذه العبادات، تسأل ربك الثواب، أليس كذلك؟ في المعنى.
فالداعي ربه: ربِّ اغفر لي، هذا داعٍ دعاء مسألة، والمصلي حين يصلي داعٍ دعاء عبادة، فالمصلي داعٍ، والذي يسأل ربه، هذا داعٍ.
هذا داعٍ دعاء مسألة، وهذا داعٍ دعاء عبادة، وعلى هذا جميع العبادات داخلة في دعاء العبادة.
المتن
ويدل على عموم ذلك قوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60].
الشرح
المؤلف يقول: وهذا خطأٌ جرَّهم إلى ما هو أشرُّ منه، فإنَّ الآية صريحة في شمول دعاء العبادة ودعاء المسألة، ويدل على العموم.
المتن
ويدل على عموم ذلك قوله تعالى: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، أي: أستجب طَلَبكم، وأتقبَّل عَملكم، ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60]، فسمَّى ذلك عبادة؛ وذلك لأن الداعي دعاء المسألة يطلب مسؤوله بلسان المقال، والعابد يطلب من ربه القَبول، والثواب، ومغفرة ذنوبه، بلسان الحال.
الشرح
فالداعي، يقول: اللهم اغفر لي، داعٍ بلسان المقال، والذي يصلي داعٍ بلسان الحال.
المصلي والصائم داعٍ بلسان الحال، حاله يسأل ربه الثواب، والداعي الذي يسأل: رب اغفر لي، هذا داعٍ بلسان المقال.
المتن
فلو سألته ما قَصْدك بصلاتك، وصيامك، وحجِّك، وقيامك بحق الله، وحق الخَلْق؟ لكان قلب المؤمن ناطقًا: بأن قصدي من ذلك رضا ربي، ونيل ثوابه، والسلامة من عقابه.
ولهذا كانت هذه النيَّة شرطًا لصحة الأعمال وكمالها.
الشرح
وهو قصده وجه الله والدار الآخرة.
المتن
وقال تعالى: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [غافر: 14]، أي: أخلصوا له إذا طلبتم حوائجكم، وأخلصوا له أعمال البرِّ والطاعة.
وقد يُقيَّد أحيانًا بدعاء الطلب، كقوله: فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10]، وأما قوله: وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا [يونس: 12]، فيدخل فيه دعاء الطلب؛ فإنه لا يزال ملحًّا بلسانه، سائلًا دفع ضرورته، ويدخل فيه دعاء العبادة؛ فإن قلبه في هذه الحال راجيًا طامعًا ، منقطعًا عن غير الله، عالمًا أنه لا يكشف السوء إلا الله، وهذا دعاء عبادة.
وقال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف: 55]، يدخل فيه الأمران.
الشرح
ادعوه دعاء مسألة، وادعوه دعاء عبادة.
المتن
فكما أن من كمال دعاء الطلب كثرة التضرع، والإلحاح، وإظهار الفقر، والمسكنة، وإخفاؤه ذلك، وإخلاصه، فكذلك دعاء العبادة، لا تتم العبادة وتَكمُل إلا بالمداومة عليها، ومقارنته الخشوع والخضوع، وإخفائها، وإخلاصها لله تعالى.
وكذلك قوله عن خلاصة الرسل: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء: 90]، فإن الرَّغبة والرَّهبة وصْفٌ لهم إذا طلبوا وسألوا، وَوَصْفٌ لهم إذا تعبَّدوا وتقرَّبوا بأعمال الخير والقُرَب.
وقوله: وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [القصص: 88] وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون: 117]، وقوله: فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن: 18] يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، فكما أن مَن طَلب من غير الله حاجة لا يقدر عليها إلا الله فهو مشرِكٌ كافر، فكذلك مَن عَبد مع الله غيره فهو مشرك كافر.
ومثله: وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس: 106]، كلُّ هذا يدخل فيه الأمران.
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180] يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، أما دعاء المسألة: فإنه يسأل الله تعالى في كل مطلوبٍ باسم يناسب ذلك المطلوب ويقتضيه.
الشرح
نعم، فإذا أراد المغفرة، قال: اغفر لي إنك غفور رحيم، إذا أراد الرزق: يا رزّاق ارزقني، إذا أراد التوبة: يا توّاب تب علي، وهكذا.
المتن
فمن سأل رحمة الله ومغفرته دعاه باسم الرحيم الغفور، وحصول الرزق باسم الرزاق، وهكذا.
وأما دعاء العبادة: فهو التعبُّد لله تعالى بأسمائه الحُسنى، فَيَفْهمُ أولًا معنى ذلك الاسم الكريم، ثم يديم استحضاره بقلبه.
الشرح
ومن ذلك: الرحمن، يفهم معناه، وأن معناه الرحمة، ثم يديمه بقلبه أن الله يرحم عباده، وأنه من ضمن عباده الذين يرحمهم.
المتن
ثم يديم استحضاره بقلبه، ويمتلئ قلبه منه، فالأسماء الدالة على العظمة، والجلال، والكبرياء، تملأ القلب تعظيمًا وإجلالًا لله تعالى، والأسماء الدالة على الرحمة، والفضل، والإحسان، تملأ القلب طَمَعًا في فَضْل الله، ورجاءً لرَوْحِهِ ورحمته، والأسماء الدالة على الوِدَادَ، والحب، والكمال، تملأ القلب محبة، ووِدَادًا، وتألهًا، وإنابة لله تعالى، والأسماء الدالة على سعة علمه، ولطيف خُبْرِه.
الشرح
خُبره، يعني: خبرته بالأشياء، إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [الحج: 63]، أما خَبر فيفسد المعنى، ولطيف خُبره.
أعد العبارة: والأسماء الدالة..
المتن
والأسماء الدالَّة على سعة علمه، ولطيف خُبْرِه توجب للعبد مراقبة الله تعالى والحياء منه.
وهذه الأحوال التي تتصف بها القلوب هي أكمل الأحوال، وأجلُّ وصف يتصف به القلب وينصبغ به.
الشرح
ما هي الأحوال التي تتصف بها القلوب؟
يتصف القلب بالتعظيم والإجلال، وكذلك يمتلئ القلب بالرجاء والرحمة، والدال على المحبة، ويمتلئ القلب بها محبةً، ووِدَادًا، وتألُّفًا، هذه الأحوال هي أكمل الأحوال.
المتن
ولا يزال العبد يُمرِّن نفسه عليها حتى تنجذب دواعيه منقادة راغبة، وبهذه الأعمال القلبية تَكمُل الأعمال البدنية، فنسأل الله تعالى أن يملأ قلوبنا من معرفته، ومحبته، والإِنابة إليه، فإنه أكرم الأكرمين، وأجود الأجودين.
القاعدة الثانية والخمسون:
إذا وَضح الحق وبان، لم يبق للمعارضة العلمية والعملية محل.
وهذه قاعدةٌ شرعيةٌ عقليةٌ فطريةٌ.
الشرح
نعم، هذه القاعدة: "إذا وَضح الحق وبان، لم يبق للمعارضة العلمية والعملية محل".
وضح لك، هذه المسألة العلمية واضحة، ما في معارضة، المعارضة باطلة، وضح لك أن الله أوجب على المسلم مثلًا: أن ينفق على زوجته، تروح تجادل، تقول: لا، ما لها نفقة.
ما له وجه، ما دام اتضح الآن.. اتضح لك الحقُّ فلا يبقى للمعارضة، سواء كانت المسألة علمية أو عملية.
إذا كانت مسألةً علميةً، وتَبَيَّنَ لك أن هذه العلمية حقيقتها كذا، تروح تجادل، بعدما وضح الحق؟! أو هذه المسألة عملية: أنَّ الله أوجب هذا الأمر، تروح تجادل، تقول: لا، ما هو بواجب؟! ما يصح.
إذا وضح الحق وبان، لا يبقى للمعارضة سواء كانت مسألة علمية، أو مسألة عملية.
المسألة علمية؛ كمسألة تَعْلَمُهَا، مثلًا: اختلفتم في مسألة، هل هذه المسألة حُكمها كذا، أو ليس حُكمها كذا؟ هل هذا اسمٌ من أسماء الله، أو ليس اسمًا من أسماء الله؟ ثُمَّ وضحَ الحق، وجبتُ لك دليلًا من القرآن، أنَّ هذا اسمٌ من أسماء الله، تروح تجادل بعد ذلك؟! لا، هذه مسألة علمية اتضحت.
أو مثلًا: أوجب الله عليك -مثلًا- أن تنفق على الزوجة المطلَّقة، وأَتَيْتُكَ بدليلٍ، لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ [الطلاق: 1]، تقوم تروح تجادل بعد ذلك؟
ما له وجه المجادلة، بعد أن وضح الحق، سواء المسألة علمية أو عملية.
أعد: "إذا وضح الحق..".
المتن
إذا وَضح الحق وبان، لم يبق للمعارضة العلمية والعملية محل.
وهذه قاعدةٌ شرعيةٌ عقليةٌ فطريةٌ، قد وردت في القرآن، وأرشد إليها في مواضع كثيرة؛ وذلك أنه من المعلوم أن محل المعارضات، وموضع الاستشكالات، وموضع التوقفات، ووقت المشاورات، إذا كان الشيء فيه اشتباه أو احتمالات فترد عليه هذه الأمور؛ لأنها الطريق إلى البيان والتوضيح.
فأما إذا كان الشيء لا يحتمل إلا معنى واضحًا، وقد تعيَّنت المصلحة، فالمجادلة والمعارضة من باب العَبَث، والمعارِض هنا لا يُلتفت لاعتراضاته؛ لأنه يشبه المكابر المنكر للمحسوسات.
قال تعالى: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: 256]، يعني: وإذا تبيَّن هذا من هذا لم يبق للإكراه محل؛ لأن الإكراه إنما يكون على أمر فيه مصلحة خفية، فأما أمر قد اتضح أن مصالح الدارين مربوطة به، ومتعلِّقة به، فأي داع للإكراه، وأي موجب له؟
ونظير هذا قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 29]، أي: هذا الحق الذي قامت البراهين الواضحة على حَقيَّته، فمَن شاء فليؤمن، ومَن شاء فليَكفُر، كقوله: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال: 42]، وقال تعالى: وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ [آل عمران: 159]، أي: في الأمور التي تحتاج إلى مشاورةٍ، ويُطلب فيها وجه المصلحة.
فأما أمر قد تعينت مصلحته، وظهر وجوبه، فقال فيه: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمران: 159].
وقد كَشف الله هذا المعنى غاية الكشف في قوله: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ [الأنفال: 6]، أي: فكلُّ مَن جادل في الحق بعدما تبيَّن عِلمه أو طريق عِلمه فإنه غالط شرعًا وعقلًا.
وقال تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ [الأنعام: 119]، فلامهم على عدم التزام الأكل مما ذُكر اسم الله عليه، وذكر السبب لهذا اللوم، وهو: أنه تعالى فَصَّل لعباده كل ما حَرَّم عليهم، فما لم يُذْكر تحريمه فإنه حلال واضحٌ ليس للتوقف عنه محل.
ولما ذَكَر تعالى الآيات الدالة على وجوب الإيمان وبَّخ ولام المتوقفين عنه بعد البيان، فقال: فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ [الانشقاق: 20، 21]، ولما بَيَّن جلالة القرآن، وأنه أعلى الكلام وأصدقه وأنفعه قال تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ [الجاثية: 6]، ولما ذَكَر عظيم نعمه الظاهرة والباطنة قال تعالى: فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى [النجم: 55]، فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 13]، وقال تعالى: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ [يونس: 32].
وكذلك في آياتٍ كثيرةٍ يأمر بمجادلة المكذِّبين، ويجادلهم بالتي هي أحسن، حتى إذا وصل معهم إلى حالة وضوح الحقِّ التام، وإزالة الشبه كلها، انتقل من مجادلتهم إلى الوعيد لهم بعقوبات الدنيا والآخرة، والآيات في هذا المعنى الجليل كثيرة جدًا.
الشرح
نقف الآن، ولكني أشاوركم: هل ترون نجلس بعد الصلاة رُبع ساعة إلى نصف ساعة، نجيب عن الأسئلة، ونأخذ قاعدتين أو ثلاثة، أو ما يسّر الله، حتى يكون غدًا إن شاء الله القاعدات قليلة، ونشرحها بالتفصيل، ويكون المجال أيضًا للأسئلة.
([1]) أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب فضل الرَّمي والحثّ عليه وذمّ مَنْ علمه ثم تركه (1917).
([2])أخرجه البخاري في كتاب الرقائق_باب لِيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَلاَ يَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ (6490)،ومسلم في كِتَابُ الزُّهْدِ وَالرَّقَائِقِ (2963).
([3])أخرجه البخاري في كتاب العلم- باب كيف يقبض العلم (100)، ومسلم في كتاب العلم- باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن (2673).
([4]) تقدم.
([5])أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي- باب بدء الوحي (4)، ومسلم في كتاب الإيمان- باب بدء الوحي إلى رسول الله (160).
([6])أخرجه أحمد (2333), والنسائي في الكبرى (11226), والحاكم في المستدرك (3379), وصححه الألباني في الصحيحة (3388).