شعار الموقع

شرح كتاب القواعد الحسان الدرس التاسع

00:00
00:00
تحميل
155

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

القارئ:

الحمد لله، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال العلَّامةُ عبد الرحمن السعدي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى:

المتن

القاعدة السابعة والخمسون: في كيفية الاستدلال بخَلْقِ السموات والأرض وما فيها، على التوحيد والمطالب العالية.

قد دعا الله عباده إلى التفكُّر في هذه المخلوقات في آياتٍ كثيرة، وأثنى على المتفكِّرين فيها، وأخبر أن فيها آياتٍ وعِبرًا، فينبغي لنا أن نسلك الطريق المنتج للمطلوب بأيسر ما يكون، وأوضحِ ما يكون.

وحاصِلُ ذلك على وجه الإجمال: أننا إذا تفكّرنا في هذا الكون العظيم عرفنا أنه لم يُوجد بغير مُوجِدٍ، ولا أوجد نفسه، هذا أمرٌ بديهي، فتيقنَّا أن الذي أوجده الأول الذي ليس قبله شيء، كامل القدرة، عظيم السلطان، واسع العلم، وأنَّ إيجاد الآدميين في النشأة الثانية للجزاء أسهل من هذا بكثير: لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57].

وعرفنا بذلك أنه الحي القيوم، وإذا نظرنا ما فيها من الإحكام، والإتقان، والحُسْن، والإبداع، عرفنا بذلك كمال حكمة الله، وحُسْنَ خَلْقِه، وسعة علمه، وإذا رأينا ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية والكمالية التي لا تُعد ولا تُحصى، عرفنا بذلك أن الله واسع الرحمة، عظيم الفضل، والبر، والإحسان، والجُود، والامتنان.

وإذا رأينا ما فيها من التخصيصات فإن ذلك دالٌّ على إرادة الله، ونفوذ مشيئته، ونعرف من ذلك كله أنَّ مَن هذه أوصافه، وهذا شأنه، هو الذي لا يستحق العبادة إلا هو، وأنه المحبوب المحمود، ذو الجلال والإكرام، والأوصاف العظام، الذي لا تنبغي الرغبة والرهبة إلا إليه، ولا يُصرف خالص الدعاء إلا له، لا لغيره من المخلوقات المربوبات..

الشرح

لأنَّ غيرَهُ.

المتن

لأنَّ غيرَهُ من المخلوقات المربوبات المفتقرات إلى الله في جميع شؤونها، ثم إذا نظرنا إليها من جهة أنها كلها خُلقت لمصالحنا، وأنها مُسَخَّرةٌ لنا، وأن عناصرها، وموادها، وأرواحها، قد مكَّن الله الآدمي من استخراج أصناف المنافع منها، عرفنا أن هذه الاختراعات الجديدة في الأوقات الأخيرة من جملة المنافع التي خلقها الله لبني آدم فيها، فسلكنا بذلك كل طريق نَقْدِرُ عليه في استخراج ما يُصلح أحوالنا منها بحسب القدرة، ولم نَخْلَدْ إلى الكسل والبطالة، أو نضيف علم هذه الأمور واستخراجها إلى علوم باطلة بحجة أن الكفار سبقوا إليها وفاقوا فيها؛ فإنها كلها -كما نبَّه الله عليه- داخلة في تسخير الله الكون لنا، وأنه يعلِّم الإنسان ما لم يعلم.

الشرح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الحمدُ لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبدِ الله ورسوله، نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمَّا بعدُ:

هذه: "القاعدة السابعة والخمسون: في كيفية الاستدلال بخَلْقِ السموات والأرض وما فيها، على التوحيد والمطالب العالية".

من المعلوم أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خلقَ الخَلْق لتوحيده وعبادته وطاعته، كما قال سبحانه: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، فالله تعالى خلقهم؛ ليعبدوه، ويُوَحِّدُوه، ويُفْرِدُوه بالعبادة، ويعرفوه بأسمائه وصفاته، وليعلموا أنه على كل شيءٍ قدير، وأن علمه محيطٌ بكل شيء، اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق: 12].

إذا تقرَّر ذلك، فاللهُ تعالى في كتابه العظيم دعانا إلى التفكّر في هذه المخلوقات في آياتٍ كثيرة، كما في قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ [آل عمران: 190]، إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس: 6]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرعد: 3]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل: 13]، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [الرعد: 4].

فاللهُ دعانا إلى التفكُّر والتذكُّر والتعقُّل، لكن ما كيفيةُ ذلك؟ كيف ذلك؟ ذكرَ المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ أولًا: نعرف أن هذا الكون العظيم والعالَم العلوي والسفلي، وما في العالَم العلوي من النجوم السيارات، والقمر، والشمس، والملائكة، وما في العالَم السفلي من الآدميين، والحيوانات، والطيور، والبحار، والأشجار، والأنهار، إلى غيرِ ذلك.

هذا الكون الفسيح، وهذا العالَم العلوي والسفلي من المعلوم أنه لم يُوجِدْ نفْسَه، ومن المعلوم أنه لمْ يُوجَد بغير مُوجِدٍ، فتعيَّن أنَّ له مُوجِدًا، ومُوجِده هو اللهُ، كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور: 35]، وإذا لمْ يكونوا خلقوا أنفسهم ولم يُخلقوا من دون خَالِق، فإنَّ لهم خالقًا أوجدهم، وهو الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

فتبيَّن بذلك أن الذي أوجدَ هذا الكون هو الأول الذي ليس قبله شيء، الذي لا بداية لأوليته، كما أنه الآخر الذي ليس بعده شيء، ولا نهاية لآخريته.

وإذا كان كذلك علمنا أنه كاملُ القدرة، وأنه كاملُ العِلم، وكاملُ الرحمة، والحكمة، وأنَّ إعادةَ الخَلْق مرة أخرى للبعث والجزاء ليست بأشد من البدء، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27].

فالذي خلقَ من أول مرةٍ قادرٌ على أن يعيدهم خلقًا جديدًا؛ لأنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قادرٌ على إعادة الذَّرات التي استحالت ترابًا، وعليمٌ بها؛ بالذَّرات التي اختلطت في الأرض، فلا يعجزه شيءٌ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

كذلك أيضًا إذا نظرنا إلى ما في السماوات والعالم العلوي من الإحكام والإتقان والإبداع، عرفنا بذلك كمال حكمة الله، وحسن خلقه، وسعة علمه، وعرفنا آثار حكمته في هذا الوجود.

كذلك إذا رأينا ما في هذا العالم العلوي والسفلي من المنافع والمصالح الضرورية والكمالية، عرفنا أن اللهَ واسعُ الرحمة، وأنه عظيمُ الفضل، وعظيم البِرِّ، وعظيم الإحسان، وعظيم الجود والامتنان.

إذا رأينا ما فيها من التخصيصات، دلّ ذلك على إرادة الله ونفوذ مشيئته، التخصيصات، يعني: خصَّصَ بعض الأشياء، بعض المخلوقات في خصائص، خصَّ هذا بالعِلم، جعلَ هذا عالِمًا وغيرُه لا يكون كذلك، خصَّ هذا بالمال وغيرُه فقيرٌ، خصَّ هذا بالعقل، وميَّز هذا بالعقل، ميَّز هذا بالعِلم، ميَّز هذا بالطول، ميَّز هذا بالقِصَر، إلى غير ذلك.

هذا يدل على الإرادة، وأنه مريدٌ.

كذلك إذا نظرنا إلى أن هذه الأمور إنما خُلقت لمصالحنا، وأنها مُسخَّرة لنا، وأنَّ عناصرها وموادَّها، قد مكَّن اللهُ للآدميين باستخراج المنافع، فهم يسيرون في الأرض، ويستخرجون ما في الأرض من كنوزٍ، ويحفرون، ويزرعون، ويستخرجون الماء، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك: 15].

وبذلك يتبين للإنسان أن هذه المخترعات الحديثة هي من جملة المنافع التي أوجدها الله لنا، و عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق: 5]، وهذا فضله وإحسانه، فهو الذي علَّم الإنسانَ، وهو الذي خلقَ الإنسان، وهو الذي خلقَ الأرض ليستخرجَ منها الإنسان  هذه المنافع سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وبحمده.

فتبيَّن أن الله سبحانه هو المستحق للعبادة، لا إله غيره، ولا رب سواه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نعم.

المتن

القاعدة الثامنة والخمسون: إذا أراد الله إظهار شرف أنبيائه وأصفيائه بالصفات الكاملة أراهم نقصها في غيرهم من المستعدين للكمال.

الشرح

هنا يقول: قرنَ بهم الناقصين من المستعدين للكمال، طيب.

المتن

وذلك في أمور كثيرة وردت في القرآن، منها: لما أراد إظهار شرف آدم على الملائكة بالعِلم، وعلَّمه أسماء كل شيء، ثم امتحن الملائكة فعجزوا عن معرفتها، فحينئذ نبَّأهم آدم عنها فخضعوا لعلمه، وعرفوا فضله وشرفه.

ولما أراد الله تعالى إظهار شرف يوسف في سعة العلم والتعبير رأى الملك تلك الرؤيا، وعرضها على كل من لديه علم ومعرفة، فعجزوا عن معرفتها، ثم بعد ذلك عبَّرها يوسف ذلك التعبير العجيب، الذي ظهر به من فضله وشرفه وتعظيم الخَلْق له شيء لا يمكن التعبير عنه.

ولما عارض فرعون الآيات التي أُرسل بها موسى، وزعم أنه سيأتي بسحرٍ يغلبه، فجمع كل سحَّار عليم من جميع أنحاء المملكة، واجتمع الناس في يوم عيدهم، وألقى السحرة عِصِيَّهم وحبالهم، في ذلك المَجْمَعِ العظيم، وأظهروا للناس من عجائب السحر فـ سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116]، فحينئذٍ ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف وتبتلع بمرأى الناس جميع حبالهم وعصيهم، فظهرت هذه الآية الكبرى، وصار أهل الصنعة أول مَن خضع لها ظاهرًا وباطنًا.

ولما نكص أهل الأرض عن نصرة النبي ﷺ، وتمالأ عليه جميع أعدائه، ومكروا مكرتهم الكبرى للإيقاع به، نصره الله ذلك النصر العجيب؛ فإن نصر المنفرد الذي أحاط به عدوُّه الشديدُ حَرَدُه، القوي مكره، الذي جمع كل كيده ليوقع به أشد الأخذات، وأعظم النكايات، وتخلصه وانفراج الأمر له من أعظم أنواع النصر، كما ذكر الله هذه الحال التي عاتب بها أهل الأرض فقال: إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا الآية [التوبة: 40].

وقريبٌ من هذا نصره إياه يوم حنين، حيث أعجبت الناس كثرتهم، فلم تغنِ عنهم شيئًا، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، ثم ولَّوا مدبرين، وثبت ﷺ فأنزل الله عليه سكينته ونصره في هذه الحالة الحرجة، فكان لهذا النصر من الموقع الكبير ما لا يُعَبَّر عنه.

وكذلك ما ذكره الله من الشدائد التي جرت على أنبيائه وأصفيائه، وأنه إذا اشتد البأس، وكاد أن يستولي على النفوس اليأس، أنزل الله فرجه ونصره ليصير لذلك موقع في القلوب، وليعرف العباد ألطاف علام الغيوب.

ويُقَارِبُ هذا المعنى: إنزاله الغيث على العباد بعد أن كانوا من قبل أن يُنزَّل عليهم من قبله مُبْلِسِين.

الشرح

بعد أن كانوا من قبل أن يُنزَّل عليهم مُبْلِسِين.

المتن

بعد أن كانوا من قبل أن يُنزَّل عليهم مُبْلِسِين، فيحصل من آثار رحمة الله، والاستبشار بفضله ما يملأ القلوب حمدًا، وشكرًا، وثناءً على الباري تعالى.

وكذلك يذكِّرهم نعمه بلفتِ أنظارهم إلى تأمُّل ضدها، كقوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ [الأنعام: 46] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الآيات [القصص: 71].

وتَلْمَح على هذا المعنى قصة يعقوب وبنيه حين اشتدت بهم الأزمة، ودخلوا على يوسف وقالوا: قد مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ الآية [يوسف: 88] ثم بعد قليل قال: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف: 99] في تلك النعمة الواسعة، والعيش الرغيد، والعز المكين، والجاه العريض.

فتبارَكَ مَن لا يُدْرِكُ العِبادُ من ألطافه ودقيقِ بِرِّه أقلّ القليل.

ويناسِبُ هذا من ألطاف الباري: أن الله يُذكِّر عباده في أثناء المصائب ما يقابلها من النعم؛ لئلا تسترسل النفوس للجزع؛ فإنها إذا قابلت بين المصائب والنعم خفَّت عليها المصائب، وهان عليها حملها، كما ذكَّر الله المؤمنين حين أُصيبوا بأُحدٍ ما أصابوا من المشركين ببدر، فقال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ [آل عمران: 165] وأدخل هذه الآية في أثناء قصة أُحد وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123].

ويُبَشِّرُ عبده بالمخرج منها حين تباشره المصائب؛ ليكون هذا الرجاء مُخَفِّفًا لما نزل من البلاء، قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ

 هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] وكذلك رُؤْيَا يوسف إذا ذكرها يعقوب رجا الفرج.

الشرح

إذا تذكَّرَها

المتن

وكذلك رُؤْيَا يوسف إذا تذكَّرها يعقوب رجا الفرج، وهَبَّ على قلبه نسيم الرجاء؛ ولهذا قال: يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ [يوسف:87].

وكذلك قوله تعالى لأم موسى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تَحْزَنِي إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ  [القصص: 7].

وأعظم من ذلك كله أنَّ وَعْدَ الله لرسله بالنصر، وتمام الأمر، هوَّن عليهم المشقات، وسهَّل عليهم الكريهات، فتلقَّوها بقلوب مطمئنة، وصدور منشرحة، وألطاف الباري فوق ما يخطر بالبال، أو يدور في الخيال.

الشرح

نعم، هذه القاعدة وهي الثامنة والخمسون خلاصتها: أن الله إذا أراد إظهار شرف أنبياءه وأصفياءه، بالصفات الكاملة قارن بهم الناقصين فيها والبعيدين عن الكمال، أو جعلهم يتعرضون لهم، فيتبين بذلك فضلهم وشرفهم.

ومثَّل المؤلف بهذه الأمثلة، لما أراد اللهُ إظهار شرفِ آدم على الملائكة علَّمه أسماء كل شيء، وامتحن الملائكة،  فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ [البقرة: 31]، فلم يَقْدِروا، فأنبأهم آدم فظهرَ شرفُه وفضله عليهم.

لما أراد إظهار شرف يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بسعة العلم والتعبير، جعل المَلِك يرى هذه الرؤيا العجيبة التي أعجزت المعبِّرين، و قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ [يوسف: 44]، فعبَّرها يوسف هذا التعبير  العجيب.

وكذلك لما عارض فرعون الآيات التي أرسل الله بها موسى، وزعمَ أنه سيأتي بسحرٍ مثله، وجمعَ كل سحَّارٍ عليم في مملكته، واجتمع الناس في يوم عيدهم، والسحرة الحُذَّاق في السِّحر، كلهم موجودون، وكلهم يريدون التقرب إلى فرعون، أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ [الشعراء: 41]، إنْ غلبنا تعطينا جوائز؟ قال: قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: 42].

فهم يبذلون قصارى جهدهم ثم بعد ذلك لما.. وقد ملأوا الوادي من الحبال والعِصي التي.. وجعلوا فيها الزئبق لكي تتلوَّى، حتى أصاب الناسَ رُهْبٌ، حتى موسى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه: 67]، فأمره الله أن يلقي عصاه، فلما ألقى عصاه، ابتلعت جميع ما في الوادي، من الحبال والعصي، فعرفَ الناس أن هذه آية عظيمة، وأن هذا ليس من صنعِ البشر، وأعلمُ الناس بذلك: السَّحَرة؛ لأنهم أصحاب اختصاص، فسجدوا لله وآمنوا، فهم في أول الأمر قبل بدء المناظرة يحلفون بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ [الشعراء: 44]، ويتقربون إلى فرعونَ، ثم لما انتهى الأمرُ خروا لله سُجَّدًا، و قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 47]، ولما توعدهم فرعون بأن يقطِّع أيديهم وأرجلهم، قالوا: اقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ [طه: 72]، افعلْ ما تستطيع، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا [طه: 73]، أكبر ما عندك القتل، افعلْ ما تريد، نحن الآن عرفنا الحقَّ ولا نبالي بأي شيء تصنعه.

كذلك لما أعرضَ أهلُ الأرض عن نصرة نبينا محمدٍ ﷺ في مكة، وتمالأ الكفرةُ عليه، نصره الله فأخرجه من بين أظهرهم، وهم يبذلون قصارى جهدهم في القتل والفتك به، حتى جعلوا لمَن يأتي به حيًّا أو ميتًا مائة ناقة، فنجَّاه الله من بين أيديهم، وهو وحيدٌ! ما معه أحدٌ، صاحبه أبو بكر، هذه من المعجزات.

أُمة كافرة اشتد حنقها عليه، وهو بين أظهرهم، ويخرج وحده، وينجيه الله، ولا يستطيعون الوصول إليه، هذه من النصر.

كذلك يوم حنين، أعجب الناس كثرتهم، وقالوا: لن نُغلب اليوم من قلة، فولوا مُدْبِرِين، فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ [التوبة: 25].

الإعجاب، قالوا: لن نُغلب اليوم من قلة، فلابد من التواضع لله عَزَّ وَجَلَّ، ثبَّت الله نبيه ومَن معه.

كذلك نزول الغيث على العباد بعد أن كانوا يائسين، فيحصل نعمتان: نعمة الله عليهم والاستبشار بفضله ما يملأ القلوب حمدًا وشكرًا.

وفي قصة يعقوب وبنيه لما اشتدت الكرب اشتدت الأزمة عليهم، دخلوا على يوسف، وقالوا: مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ [يوسف: 88]، ثم بعد قليل، قال: ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [يوسف: 99]، حصلوا على النعمة الواسعة، والعيش الرغيد، والعز والتمكين، والجاه العريض، فتبارك الله أحسن الخالقين، هذه  ألطافه سبحانه، وهذا برُّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

ومن ذلك أن الله تعالى يذكِّر عباده النعم إذا أصابتهم المصائب، حتى يقابلوا هذه بهذه، ولما حصلت النكسة للمسلمين في غزة أُحدٍ، وقُتل منهم سبعون، استنكر بعض الصحابة، قالوا: كيف أصابنا هذا؟! كيف أصابتنا الهزيمة ونحن مع رسول الله، ونحن جندُ الله؟!

فأنزلَ الله قوله: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا [آل عمران: 165] في بدرٍ، أصبتم مثليها في بدرٍ، الآن قُتل منكم سبعون، وأنتم في بدرٍ قتلتم سبعين وأَسَرْتُمْ سبعين، أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165].

من أين أصابنا؟ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: 165]، معصيةُ الرُّماة، الذين خالفوا أمر النبي ﷺ.

فإذا كان هؤلاء الصحابة أفضل الناس، أفضل مَن على وجه الأرض هم الصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، ومعهم نبيهم أفضل الناس، ومع ذلك تحصل لهم الهزيمة، ويُقال لهم: هذا من عند أنفسكم، فهذا يفيد الاحتراز من المعاصي، وأن آثار المعاصي شرها عظيم، وخيم عاقبتها، انظر المعصية التي حصلت على الصحابة أخلوا بالموقف، الرماة قال لهم النبي ﷺ.. على هذا الجبل خمسون، أمَّر عليهم عبد الله بن جُبَير، وقال: لا  تَبْرَحُوا مكانكم، ولو تخطَّفتنا الطير([1])، فاجتهدوا، قالوا: خلاص، لما حصل النصر في أول الأمر، وجعلوا يجمعون الغنمَ، خلاص انتهت، فذكَّرهم أميرهم عبد الله بن جبير، قال: أُذكِّركم قول النبي ﷺ: لا تبرحوا مكانكم.

قالوا: لا، خلاص انتهت المعركة، خلاص، نساهم في جمْع الغنيمة، فجاءهم المشركون لما أخلوا المكان، بقيادة خالد قبل أنْ يُسْلِمَ، وأحاطوا بهم فحصلت النكسة والهزيمة.

هذا يدل على أن المعاصي لها آثارها وشرها عظيم في الدنيا والآخرة، والنكبات والمصائب، وتسليط الأعداء كله بسبب المعاصي، وعذاب النار بسبب المعاصي، نعم.

المتن

القاعدة التاسعة والخمسون:

إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [الإسراء: 9].

ما أعظم هذه القاعدة والأصل العظيم الذي نصَّ الله عليه نصًّا صريحًا، وعمَّم ذلك ولم يقيده بحالة من الأحوال، فكل حال هي أقوم في العقائد، والأخلاق، والأعمال، والسياسات الكبار، والصغار، والصناعات، والأعمال الدينية والدنيوية، فإن القرآن يهدي إليها، ويرشد إليها، ويأمر بها، ويحث عليها. ومعنى أقوم، أي: أكمل، وأصلح، وأعظم قيامًا وصلاحًا.

فأما العقائد: فإن عقائد القرآن هي العقائد النافعة التي فيها صلاح القلوب وغذاؤها وكمالها؛ فإنها تملأ القلوب محبة لله، وتعظيمًا له، وألوهية، وإنابة. وهذا المعنى هو الذي أوجد الله الخَلق لأجله.

وأما أخلاقه التي يدعو إليها: فإنه يدعو إلى التحلِّي بكل خُلقٍ جميل من الصبر، والحلم، والعفو، وحسن الخلق، والأدب وجميع مكارم الأخلاق، ويحث عليها بكل طريق، ويرشد إليها بكل وسيلة.

وأما الأعمال الدينية التي يهدي إليها: فهي أحسن الأعمال التي فيها القيام بحقوق الله، وحقوق العباد على أكمل الحالات، وأجلها، وأسهلها، وأوصلها إلى المقاصد.

وأما السياسات الدينية والدنيوية: فهو يرشد إلى سلوك الطرق النافعة في تحصيل المصالح الكلية، وفي دفعِ المفاسد، ويأمر بالتشاور على ما لم تتضح مصلحته، والعمل بما تقتضيه المصلحة في كل وقت بما يناسب ذلك الوقت والحال، حتى في سياسة العبد مع أولاده، وأهله، وخادمه، وأصحابه، ومُعَامِلِيه، فلا يمكن أنه وُجد ويُوجد حالة يتفق العقلاء أنها أقوم من غيرها وأصلح إلا والقرآن يرشد إليها نصًّا، أو ظاهرًا، أو دخولًا تحت قاعدة من قواعده الكلية، وتفصيل هذه القاعدة لا يمكن استيفاؤه.

وبالجملة فالتفاصيل الواردة في القرآن وفي السنة من الأوامر والنواهي والإخبارات كلها تفصيل لهذا الأصل المحيط، وبهذا وغيره يتبين لك أنه لا يمكن أن يَرِدَ عِلمٌ صحيح، أو معنًى نافع، أو طريقُ صلاحٍ ينافي القرآن، والله تعالى ولي الإحسان.

الشرح

نعم، هذه القاعدة التاسعة والخمسون في معنى قول الله تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].

هذه قاعدة عظيمة، وهذا أصلٌ عظيم مُحكم، وهو نصٌّ صريح على عموم هداية القرآن للتي هي أقوم، ولم يُقَيِّد، ما قال: التي أقوم في كذا، أو في كذا؛ لإفادة العموم.

فالقرآن يهدي للتي هي أقوم في العقائد، ويهدي للتي هي أقوم في الأخلاق، ويهدي للتي هي أقوم في الأعمال، ويهدي للتي هي أقوم في السياسة، في سياسة الدولة الداخلية والخارجية، ويهدي للتي هي أقوم في الصناعات، يهدي للتي هي أقوم في الأعمال الدينية، يهدي للتي هي أقوم في الأعمال الدنيوية، كل هذا داخل وهذا مستفاد من حذفِ المعمول؛ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9].

ومعنى أقوم: أكرم، وأنفس، وأصلح، وأكمل، وأعظم استقامة.

فالقرآن يهدي للتي هي أقوم في العقائد، العقائد: هي العقائد النافعة التي فيها صلاح القلوب وحياتها، وفيها التجرد من ذلِّ المخلوق، والتعبد لله عَزَّ وَجَلَّ، وتخصيص الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بالمحبة والتعظيم والتألُّه، والتعبد، والإنابة.

وهذا هو خُلق الإنس والجن لأجله، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56].

القرآن يهدي للتي هي أقوم في الأخلاق؛ لأنه يدعو إلى التحلي بكل خلقٍ جميل، مثل الصبر والحلم والعفو والأدب، وحسن الخُلق مع الله ومع الخَلق، ويدعو إلى جميع مكارم الأخلاق.

يهدي للتي هي أقوم في الأعمال الدينية التي يهدي إليها، وهي أحسن الأعمال، التي فيها القيام بحقوق الله وحقوق العباد على أكمل الحالات.

يهدي للتي هي أقوم في السياسات الدينية والدنيوية؛ لأنه يرشد إلى سلوك الطرق النافعة في تحصيل المقاصد، وفي دفعِ المفاسد، ويأمر بالتشاور على ما لم يتبين الأمر فيه، وهذا الأصل.. يقول: "وتفصيل هذا الأصل لا يمكن استيفاؤه"، في هذا المقام؛ لأن كل التفاصيل الواردة في الكتاب والسنة ومن تقديم المصالح، كله تفصيل لهذه القاعدة، نعم.

المتن

القاعدة الستون:

من قواعد التعليم الذي أرشد الله إليه في كتابه: أن القصص المبسوطة يُجملها في كلمات يسيرة ثم يبسطها، والأمور المهمة يتنقل في تقريرها

نفيًا وإثباتًا من درجة إلى أعلى أو أنزل منها.

وهذه قاعدة نافعة؛ فإن هذا الأسلوب العجيب يصير له موقع كبير، وتُقرر فيه المطالب المهمة؛ وذلك أنه إذا أُجملت القصة بكلام كالأصل والقاعدة لها، ثم وقع التفصيل بعد ذلك الإجمال، وقع إيضاحٌ وبيان تام كامل لا يقع ما يقاربه لو فصِّلت القصة الطويلة من دون تقدُّم إجمال، وقد وقع هذا النوع في القرآن في مواضع:

الشرح

نعم، هذه القاعدة وهي القاعدة الستون؛ أن من قواعد التعليم التي أرشد الله لها في كتابه: أن القصص المبسوطة يُجملها اللهُ في كلمات يسيرة ثم يبسطها، يعني يأتي بها مُجْمَلة ثم يفصِّلها.

والأمور المهمة يتنقل في تقريرها نفيًا وإثباتًا من درجة إلى درجة، حتى تصير إلى العلو، هذه قاعدة، القصص المبسوطة يجملها اللهُ أولًا، ثم يفصِّلها، يأتي بها مجملة ثم يفصلها.

وكذلك الأمور المهمة يتنقل في تقريرها نفيًا وإثباتًا من درجة إلى درجة، حتى تصل إلى الكمال.

يقول: "وهذه قاعدة نافعة"؛ لأن هذا الأسلوب يصير له موقع كثير، كونه يجمل ثم يفصِّل، كونه يتنقل من درجة إلى أعلى، هذا أسلوبٌ مُشوِّق، ومعين، ثم ذكرَ المؤلف أمثلةً لذلك، نعم.

المتن

وقد وقع هذا النوع في القرآن في مواضع:

منها: في قصة يوسف في قوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 3] ثم قال: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف: 7] ثم ساق القصة بعدها.

الشرح

نعم، هذه القصة قصة يوسف، أجملها الله في قوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [يوسف: 3]، ثم قال: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف: 7]، ثم فصَّل القصة، وأتى بالقصة طويلة حتى إن هذه القصة استغرقت هذه السورة الكريمة، نعم.

المتن

وكذلك في قصة أهل الكهف لما قال: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا ۝ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ۝ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ۝ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف: 9-12] فهذا إجمالها قد حوى مقصودها وَزُبْدَتَها، ثم وقع بعده التفصيل بقوله: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف: 13] إلى آخر القصة.

الشرح

نعم، وهذه قصة أهل الكهف، اللهُ تعالى أجملها بقوله: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [الكهف: 9]، ثم بعد ذلك جاء التفصيل، فُصِّلت قصة أصحاب الكهف، قال تعالى: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ۝ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ [الكهف: 11، 12]، هذا مُجمل، ثم جاء تفصيله بعد ذلك، قال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف: 13]، نعم.

المتن

وكذلك في قصة موسى لما قال تعالى: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إلى قوله: يَحْذَرُونَ [القصص: 3-6] هذا مجملها، ثم وقع التفصيل.

وقال تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115].

الشرح

نعم، كذلك قصة موسى أجملها الله، وقال: نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [القصص: 3]، ثم جاء تفصيله، نعم.

وكذلك قصة آدم، قال: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115]، ثم أتى بالقصة، نعم.

المتن

وأما التنقل في تقرير الأشياء من أمر إلى ما هو أولى منه فكثير:

منها: لما أنكر على مَن اتخذ مع الله إلهًا آخر وزعم أن الله تعالى اتخذ ولدًا، قال في إبطال هذا: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآِبَائِهِمْ [الكهف: 5] فأبان أن قولهم هذا قول بلا علم، ومن المعلوم أن القول بلا علم من الطرق الباطلة، ثم ذكر قبحه فقال: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [الكهف 5] ثم ذكر مرتبةَ هذا القول من البطلان فقال: إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف: 5].

وقال في حق المنكرين للبعث: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ [النمل: 66] أي: علمهم فيها علم ضعيف لا يُعتمد عليه، ثم ذكر ما هو أبلغ منه فقال: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ.

ومن المعلوم أن الشك ليس معه من العلم شيء، ثم انتقل منه إلى قوله: بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل: 66] والعمى آخر مراتب الحيرة والضلال.

الشرح

نعم، لا شك أن هذه الأمثلة التي ذكرها المؤلف واضحةً، في التنقل من تقرير الأشياء من أمر إلى ما هو أولى، يقول المؤلف: "كثير".

ذكرَ منه قوله تعالى في الإنكار على مَن جعل مع الله إلهًا آخر، أنها بزعمه أنه الأساس.. لما أنكر على مَن جعل مع الله إلهًا آخر، وإبطال زعمه الكاذب الذي أساسه الوثنية، أن هؤلاء أولياء الله وأحباؤه، قال: مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ [الكهف: 5].

وكذلك قال الله في حقِّ المُنكرِين: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ [النمل: 66]، منكري البعث، بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ [النمل: 66].

وقال عن نوح في تقرير رسالته وإبطال قولِ مَن كذَّبه، وزعم أنه في ضلالٍ، قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ [الأعراف: 61]، فلما نفى الضلالة أثبت الهدى الكامل له، قال: وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأعراف: 61]، ثم انتقل إلى ما هو أعلى منه، "وأن مادة هذا الهدى الذي جئتُ به من الوحي الذي هو أصل الهدى"، نعم.

المتن

 وقال في تقرير رسالة أكمل الرسل: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم: 1-2] فنفى عنه ما ينافي الهدى من كل وجه، ثم قال: إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى إلى آخر الآيات [النجم: 4].

وهو في القرآن كثير جدًّا، كانتقاله من ذكر هبته الولد لزكريا إلى مريم، وأمر القِبلة بعد تعظميه للبيت، وغيرها.

الشرح

نعم، كل هذا فيه انتقال من شيءٍ إلى شيء، في الأمور المهمة، ينتقل في تقرير الأمثلة من درجة إلى ما هو أعلى منها، نعم.

المتن

القاعدة الحادية والستون:

معرفة الأوقات وضبطها حثَّ اللهُ عليه حيث يترتب عليه حكمٌ عام أو حكم خاص.

وذلك أن الله رتَّب كثيرًا من الأحكام العامة والخاصة على مُددٍ وأزمنة تتوقف الأحكام عملًا وتنفيذًا على ضبطِ تلك المدة وإحصائها، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] وقوله: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ يدخل فيه مواقيت الصلوات، والصيام، والزكاة، وخصَّ الحج بالذكر لكثرة ما يترتب عليه من الأوقات الخاصة والعامة، وكذلك مواقيت للعِدَدِ، والديون، والإجارات، وغيرها.

وقال تعالى لما ذكر العِدَّة: وَأَحْصَوا الْعِدَّةَ [الطلاق: 1] وقوله في الصيام: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة: 185] وقال تعالى: إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103] وقال تعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [الكهف: 12]؛ وذلك لمعرفة قدرة الله في إفاقتهم فلو استمروا على نومهم لم يحصل الاطلاع على شيء من ذلك من قصتهم.

فمتى ترتب على ضبط الحساب، وإحصاء المدة، مصلحة في الدين، أو في الدنيا، كان مما حث وأرشد إليه القرآن.

ويقارب هذا قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا إلى آخر الآيات [البقرة:259] وقوله: وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس: 5] ونحوها من الآيات.

الشرح

نعم، وهذه القاعدة خاصة بمعرفة الأوقات، وضبطها والاستفادة منها، وحفظها من الضياع؛ لأن الوقت هو حياة الإنسان، فإذا ضاع ضاع حياته.

وقد عرفَ السلف قيمة الوقت فكانوا يشغلون أوقاتهم بما يفيد، ولا يضيعون منه شيئًا، فكان بعض السلف يستغل وقته، ويستغل أوقاته، حتى جاء رجل لبعضهم وقال: أريد أن أكلمك، فقال له: أمسك الشمس.

يعني الشمس الزمن يذهب، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، فلابد من حفظِ الوقت والاستفادة منه، ولابد من حفظه من الضياع، والله تعالى رتّب عليه أحكامًا، وعلى الأوقات الصلوات الخمس، الصلوات الخمس كلها مرتبة، وكذلك صيام رمضان، وكذلك الزكاة لها أوقات محددة، كلّها يدل على أنه ينبغي ضبطُ الوقت، حتى لا يضيع سُدًى، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189]، سمَّاها مواقيت، يدخل فيها مواقيت الصلاة والصيام والزكاة والعقود وغيرها، وهكذا فإنَّ قول الله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطلاق: 1]، وقوله: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة: 189].

فلابد من ضبطِ الأوقات وحفظ الأوقات؛ حتى نستفيد منها، وحتى تُحفظ من الضياع، يعرف الناس أوقات الصلوات ووقت الإمساك في الصيام، يعرف الناس أوقات المدد المؤجلة في بيعهم وشرائهم، وتأجيرهم، وهكذا.

فلابد من ضبطِ الأوقات وحفظها حتى لا تضيع سُدى، وحتى تحصل المصالح، وتدفع المكروه، نعم.

المتن

القاعدة الثانية والستون:

الصبر أكبر عون على كل الأمور، والإحاطة بالشيء علمًا وخبرًا هو الذي يعين على الصبر.

وهذه القاعدة عظيمة النفع، قد دل القرآن عليها صريحًا وظاهرًا في أماكن كثيرة، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ [البقرة: 45] أي: استعينوا على جميع المطالب، وفي جميع شؤونكم، بالصبر؛ فإن الصبر يسهِّل على العبد القيام بوظيفة الطاعات، وأداء حقوق الله، وحقوق عباده، وبالصبر يَسْهُلُ عليه تركُ ما تهواه نفسه من المحرمات، فينهاها عن هواها حَذَرَ شقاها، وطلبًا لرضى مولاها، وبالصبر تخف عليه الكريهات، ولكن هذا الصبر وسيلته وآلته التي ينبني عليها ولا يمكن وجوده بدونها، هو معرفة الشيء المصبور عليه، وما فيه من الفضائل، وما يترتب عليه من الثمرات، فمتى عرف العبد ما في الطاعات من صلاح القلوب، وزيادة الإيمان، واستكمال الفضائل، وما تثمره من الخيرات والكرامات، وما في المحرمات من الضرر والرذائل، وما توجبه من العقوبات المتنوعة، وعلم ما في أقدار الله من البركة، وما لمن قام بوظيفته فيها من الأجور، هان عليه الصبر على جميع ذلك.

وبهذا يُعلم فضلُ العلم، وأنه أصل العمل والفضائل كلها؛ ولهذا كثيرًا يذكر في كتابه أن المنحرفين في الأبواب الثلاثة إنما ذلك لقصور

 علمهم وعدم إحاطتهم التامة بها، وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر: 28] وقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ [النساء: 17] ليس معناه أنهم لا يعترفون أنها ذنوب وسوء، إنما قَصُرَ علمهم وخبرتهم بما توجبه الذنوب من العقوبات، وأنواع المضرَّات، وزوال المنافع.

وقال تعالى مبينًا أنه متقرِّر أن الذي لا يعرف ما يحتوي عليه الشيء يتعذر عليه الصبر، فقال عن الخضر لما قال له موسى، وطلب منه أن يتبعه ليتعلم مما علمه الله: قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا [الكهف: 67 ـ 68] فعدم إحاطته به خبرًا يمتنع معه الصبر، ولو تجلد ما تجلد فلابد أنْ يَعَال صبره.

وقال تعالى مبينًا عظَمة القرآن، وما هو عليه من الجلالة والصدق الكامل: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس: 39] فأبان أن الأعداء المكذبين به إنما تكذيبهم به لعدم إحاطتهم بما هو عليه، وأنهم لو أدركوه كما هو لألجأهم واضطرهم إلى التصديق والإذعان، فهم وإن كانت الحجة قد قامت عليهم ولكنهم لم يفقهوه الفقه الذي يطابق معناه، ولم يعرفوه حق معرفته.

وقال في حق المعاندين الذين بان لهم علمه، وخبروا صدقه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14] وقال تعالى: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33].

والمقصود: أن الله أرشد العباد إلى الاستعانة على أمورهم بملازمة الصبر، وأرشدهم إلى تحصيل الصبر بالنظر إلى الأمور، ومعرفة حقائقها، وما فيها من الفضائل أو الرذائل. والله أعلم.

الشرح

نعم، وهذه القاعدة فيها أن الصبر أكبرُ عونٍ على جميع الأمور، ولهذا قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 127]، وقال تعالى: وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال: 46]، هذه مَعِيَّةُ نصره وتأييده وحفظه وكلأه.

وهذه القاعدة العظيمة دلّ عليها القرآن الكريم، في الأمر بالصبر، قال تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة: 45]، أي: استعينوا على جميع المطالب وفي جميع شئونكم بالصبرِ.

والصبر فيه مصالح عظيمة، إذا صبر الإنسان سَهُل عليه القيام بالطاعات، وسَهُل عليه أداء حقِّ الله، وسَهُل أداء حقوق عباده.

إذا صبر يسهل عليه ترك ما تهواه نفسه من المحرمات، فينهاها عن هواها، إذا صبر خفَّ عليه المكاره والكُربات.

فالصبرُ آثاره عظيمة، وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن الخضر لما قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ۝ قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف: 66، 67].

وقال تعالى مبينًا عظمة القرآن: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس: 39].

وقال في حقِّ المعاندين: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل: 14].

وقال في حقِّ كفار قريش: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33].

واللهُ تعالى يُسَلِّي نبيَّه، وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل: 127]، فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف: 35].

فالصبرُ أكون عونٍ للإنسان على تحصيل المطلوب، والسلامة من المرهوب. نعم.

المتن

القاعدة الثالثة والستون:

يُرشِدُ القرآن إلى أن العِبرة بحسن حال الإنسان: إيمانه وعمله الصالح، وأن الاستدلال على ذلك بالدعاوى المجردة، أو بإعطاء الله للعبد من الدنيا، أو بالرياسات، كل ذلك من طرق المنحرفين.

والقرآن يكاد أن يكون أكثره تفصيلًا لهذه القاعدة، وقد قال تعالى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا [سبأ: 37] وقال تعالى: يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ ۝ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء: 88-89] وقد أكثر الله من هذا المعنى في عدة آيات.

وأما حكاية المعنى الآخر عن المنحرفين: فقال عن اليهود والنصارى: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 111] ثم ذكر البرهان الذي مَن أتى به فهو المستحق للجنة فقال: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 112] وقال تعالى: لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ الآيات [النساء: 123]. وقال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم: 73] وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31].

ونحوها من الآيات التي يستدل بها الكفار على حسن حالهم بتفوقهم في الأمور الدنيوية والرِّياسات، ويذمون المؤمنين، ويستدلون على بطلان دينهم بنقصهم في هذه الأمور! وهذا من أكبر مواضع الفتن.

الشرح

نعم، وهذه القاعدة في إرشاد القرآن أن العِبرة بحسن حال الإنسان وإيمانه الصحيح وعمله الصالح، وما عدا ذلك من الأمور الأخرى لا يُعوَّل عليها، يعني لا يُستدل على حسنِ حال الإنسان بأن عنده أموال، أو له جاه، أو عنده أولاد، أو عنده خدم..

لا، لا يُستدل بذلك على حسنِ حال الإنسان، يُستدل على ذلك بالإيمان الصحيح، إذا كان عنده إيمانٌ صحيح وعملٌ صالحٌ، فإنَّ هذا هو حسنُ الحال، أما الرياسات والأموال، هذه كلها كما قال: مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [آل عمران: 14]، هذه أمورٌ زائلة، مُؤقتة، الباقي هو الإيمان والعمل الصالح.

ولهذا قال سبحانه في الآية الأخرى: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ [سبأ: 37].

فالله تعالى يرشد عباده إلى الاستعانة به، الاستعانة على كل أمورهم، بالصبر، ويرشدهم إلى تحصيل الصبر، بالنظر إلى الأمور ومعرفة حقائقها، وفضائلها، ورذائلها.

وبذلك يحصل الإنسان على الصبر، وتطمئن نفسه، ويرتاح، فيحصل على أجرٍ عظيمٍ، وثوابٍ كبير. نعم.

المتن

القاعدة الرابعة والستون:

الأمور العارضة التي لا قرار لها بسبب المزعجات أو الشبهات قد تَرِدُ على الحق والأمور اليقينية، ولكن سرعان ما تضمحل وتزول.

وهذه قاعدة شريفة جليلة، قد وردت في عدة مواضع من القرآن، فمَن لم يُحْكِمْهَا حصل له من الغلط في فهم بعض الآيات ما أوجب الخروج عن ظاهر النص، ومَن عرف حكمة الله تعالى في ورودها على الحق الصريح لأسباب مزعجة تدفعها، أو لشُبه قوية تُحدثها، ثم بعد هذا إذا رجع إلى اليقين، والحق الصريح، وتقابل الحق والباطل، فزهق الباطل، وثبت الحق، حصلت العاقبة الحسنة، وزيادة الإيمان واليقين، فكان في ذلك التقدير حِكَمًا بالغة، وأيادي سابغة، ولنمثّل لهذا أمثلة.

الشرح

يعني أن هذه القاعدة فيها بيان أن الحق والأمور اليقينية باطلة، وأن ما يعارضها من الباطل هي أمورٌ لا قرار لها، ولا ثبات، سرعان ما تضمحل وتتلاشَى، ولا يبقى إلا الحق واليقين، وسيضرب أمثلة المؤلف رَحِمَهُ اللَّهُ . نعم.

المتن

فمنها: أن الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أكمل الخَلق إيمانًا، ويقينًا، وتصديقًا بوعد الله ووعيده، وهذا أمرٌ يجب على الأمم أن يعتقدوا في الرسل أنهم قد بلغوا ذروته العليا، وأنهم معصومون من ضده، ولكن ذكر الله في بعض الآيات أنه قد يَعْرِضُ من الأمور المزعجة المنافية حسًّا لما عُلم يقينًا ما يوجب لهؤلاء الكُمَّل أن يستبطئوا معه النصر ويقولون: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214] وقد يقع في هذه الحالة على القلوب شيءٌ من عوارض اليأس بحسب قوة الواردات، وتأثيرها في القلوب، ثم في أسرع وقت تنجلي هذه الحال، ويصير لنصر الله وصدقِ موعوده من الوقع والبشارة والآثار العجيبة أمرٌ كبير لا يحصل بدون هذه الحالة؛ ولهذا قال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا [يوسف: 110].

فهذا الوارد الذي لا قرار له -ولما حقت الحقائق اضمحل وتلاشى- لا يُنْكَرُ، ويُطلب للآيات تأويلات مخالفة لظاهرها.

الشرح

نعم، هذا مثال ذكره المؤلف، أن الرسل عليهم الصلاة والسلام وهم أكمل الخلق إيمانًا ويقينًا وتصديقًا بوعدِ الله ووعيده، وهذا أمرٌ يجب على الأُمة أن يعتقدوه في الرسل، وأنهم بلغوا الذروة، وأنهم معصومون من ضده.

ولكن ذكرَ الله في بعض الآيات أنه قد يعرض لهم بعض الأمور المزعجة المنافية حسًّا لما عُلم يقينًا ما يوجب لهؤلاء الكُمَّل أن يستبطئوا النصرَ، فيقول: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ [البقرة: 214].

وقد يخطر في هذه الحالة، قد يحصل في هذه الحالة للقلوب شيء من عوارض اليأس، بحسب قوة الوارد، ثم يتلاشَى ويزول.

ومن ذلك أن الله تعالى لما ذكر الشدة التي حصلت للرسل قال: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ [يوسف: 110]، وظنوا أنهم قد كُذبوا من قِبل أنفسهم، جاءهم نصرنا.

ولذلك قالت عائشة لما قيل له: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا [يوسف: 110]، قالت: معاذ الله! أن تظنَّ الرسل ذلك بربها، والمعنى: ظنوا أنهم قد كُذبوا، يعني: من شدة المصيبة، من شدة تسلُّط الأعداء ظنوا أنهم لن يُفلتوا من أيديهم، فأنزلَ الله حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا  [يوسف: 110] من شدة التكذيب والإيذاء، حتى ظنوا من قِبل أنفسهم، وليس المراد أنَّ الرسلَ ظنوا بربهم، تعالى الله! ولذلك قالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: معاذ الله! أن تظنَّ ذلك الرسل بربها.

ولكن المعنى: أنهم قد ظنوا أنهم قد كُذبوا من قِبل أنفسهم؛ من شدة الأمر. نعم.

المتن

ومن هذا الباب، بل من صريحه قوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِّيٍ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52] أي: يُلْقِي من الشُّبَه ما يُعارِض اليقين، ثم ذكر الحِكَم العظيمة المترتبة على هذا الإلقاء، وأن نهاية الأمر وعاقبته أن الله يُبطل ما يُلقي الشيطان، ويُحْكِمُ آياته، والله عليم حكيم.

فقد أخبر بوقوع هذا الأمر لجميع الرسل والأنبياء لهذه الحِكَم التي ذكرها، فمَن أنكر وقوع ذلك بناءً على أن الرسل لا ريب ولا شك معصومون، وظن أن هذا ينافي العصمة فقد غلط أكبر غلط، ولو فهم أن الأمور العارضة لا تُؤَثِّر في الأمور الثابتة لم يقل قولًا خالف فيه الواقع، وخالف نص الآيات الكريمات.

ومن هذا -على أحد قولي المفسرِين- قوله تعالى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: 87] وأنه ظنٌّ عرضَ في الحال ثم زال، نظير الوساوس العارضة في أصل الإيمان التي يكرهها العبدُ حين تَرِدُ قلبه، ولكن إيمانه ويقينه يزيلها ويُذْهِبُهَا؛ ولهذا قال ﷺ عندما شكى إليه أصحابه هذه الحال التي أقلقتهم مُبَشِّرًا لهم: الحمد لله الذي ردَّ كيده إلى الوسوسة([2])، ويُشْبِهُ هذا: العوارض التي تَعْرِضُ في إرادات الإيمان لقوة واردٍ من شهوةٍ، أو غضب، وأن المؤمن كاملَ الإيمان قد يَرِدُ في قلبه هَمٌّ وإرادة لفعل بعض المعاصي التي تنافي الإيمان الواجب، ثم يأتي برهان الإيمان، وقوة ما مع العبد من الإنابة التامة، فيدفع هذا العارض.

ومن هذا قوله تعالى عن يوسف: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف: 24] وهو أنه لما رجع إلى ما معه من الإيمان، ومراقبة الله، وخوفه، ورجائه، دفعَ عنه هذا الهم، واضمحل، وصارت إرادته التامة فيما يُرْضِي ربه؛ ولهذا بعد المعالجة الشديدة التي لا يصبر عليها إلا الخواصُّ من

 الخلق قال ﷺ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ الآية [يوسف:33]. «وكان أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله»([3]).

وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] يشمل الطَّائِفَ الذي يَعْرِض في أصل الإيمان، والذي يعرض في إرادته، فإذا مسَّهم تذكروا ما يجب من يقينِ الإيمان، ومن واجباته، فأبصروا، فرجع الشيطان خاسئًا وهو حسير. ولعل من هذا قول لوط عليه السلام: أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: 80] وقول النبي ﷺ: رَحِمَ اللهُ لوطًا لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد([4]). يعني: وهو الله القوي العزيز، لكن غلب على لوط ﷺ تلك الحال الحرجة، والنظر للأسباب العادية، فقال ما قال، مع علمه التام بقوة ذي العظمة والجلال.

الشرح

نعم، هذا المثال الذي ذكره عن الرسل، أنه قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52]، وما أرسلنا من قبلك إلا إذا تمنَّى: إذا قرأَ.

أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ [الحج: 52]: في قراءته.

يعني يُلْقِي من الشُّبه ما يعارض اليقين، ثم ذكر الحكمة المترتبة على الإلقاء، ولكن نهاية الأمر أنَّ الله تعالى يُبْطِل ما يُلْقِي الشيطان، ويُحْكِمُ الله آياته.

قد أخبر الله بوقوع هذا الأمر لجميع الرسل والأنبياء، ومن هذا -على أحد قولي المفسرِين- قوله عن يونس عليه السلام: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: 87] أي: ظنَّ، وهذا ظنٌّ عارِضٌ، هذا على هذا القول، ثم زالَ الوسواس.

والقول الآخر: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء: 87]: ظنَّ أنْ لن نضيِّق عليه.

ومن ذلك قول النبي ﷺ عندما شكا إليه أصحابه وجود الوساوس، قال: وجدتموه؟ قال: الحمدُ لله الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسة.

فهذه العوارض التي تَرِد، تَعرِض للإنسان في إرادة الإيمان، وقوة.. العوارض تعرض للإنسان لاسيما إذا كان دخل في الإسلام من جديدٍ أو تابَ من المعاصي من جديدٍ، فإنه في أول الأمر يدخلُ نشيطًا، ثم بعد ذلك يُبتلى بالوساوس الشديدة، وهذا لُوحظ؛ كثيرٌ يشكون من المهتدين والتائبين أنه في أول الأمر يجدُ رغبةً الإنسان، ثم يُبتلى بالوساوس، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فلابد من دفعِ هذه الوساوس والعوارض التي تعرض على الإنسان، والاستعانةُ بالله ورسله؛ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، نعم.

المتن

القاعدة الخامسة والستون:

قد أرشد القرآن إلى منعِ الأمر المباح إذا كان يُفْضِي إلى محرَّم أو تركِ واجب.

وهذه القاعدة وردت في القرآن في مواضع متعددة، وهي من قاعدة: الوسائل لها أحكام المقاصد.

فمنها قوله تعالى: وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108] وقوله تعالى: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور: 31] فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32] وقوله: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9].

وقد وردَ بعض آيات تدل على هذا الأصل الكبير، فالأمور المباحة هي بحسب ما يُتوسَّل بها إليه، إنْ توسَّل بها إلى فعلِ واجبٍ أو مَسْنُونٍ كانت مأمورًا بها، وإنْ تَوسَّل بها إلى فعلِ محرم أو ترك واجب كانت محرمة منهيًّا عنها، وإنما الأعمال بالنيات الابتدائية والغائية، والله الموفق.

الشرح

نعم، هذه القاعدة التي أرشدَ إليها القرآن الكريم، هو المنع من الأمر المباح إذا كان يفضي إلى تركِ واجبٍ، أو فعلِ محرَّمٍ.

يعني هو أمرٌ مباحٌ لكنه يؤدي إلى تركِ واجبٍ أو فعلِ محرَّمٍ، فيُمنع، الوسيلة لها حُكْمُ الغاية.

هو مباحٌ في الأصلِ لكن يُمنع إذا كان يؤدِّي إلى فعلِ محرَّم.

من أمثلة ذلك أن الله تعالى نهى عن سبِّ المشركين، وسبُّ المشركين جائزٌ بل مأمورٌ به، لكن لما كان يؤدي إلى سبِّ الله نهى اللهُ عنه، وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 108].

ومن ذلك أن الله نهى المؤمنات أن تضربَ المرأة برجلها الرجل الأخرى، حتى لا يُسمع صوتُ الخَلْخَال.

الخلخال: هو سوارٌ كبير عريض، يُجعل في الرجلين، ثقيل أيضًا، من الفضة.

فإذا ضربت المرأة الخلخال ظهر له صوتٌ، فيسمع الرجال ذلك، يكون هذا دعوى إلى تحريك مَيْل الرجال إلى النساء.

ولهذا قال سبحانه: وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ [النور: 31].

ومنه قوله تعالى لنساء النبي ﷺ: فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزاب: 32].

نهى عن الخضوع بالقول؛ لئلَّا يطمع الذي في قلبه مرض؛ مرض الشهوة.

ومن ذلك قوله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة: 9]، أمرهم بتركِ البيع.

البيعُ مباحٌ، لكن لما كان البيع بعد الأذان الثاني يؤدي إلى تركِ الجمعة، نُهي عنه.

يقول المؤلف: الأمور المباحة بحسب ما يُتوصل إليها، فإنْ تُوصِّل بها إلى فعلِ واجبٍ كانت واجبةً، وإنْ تُوصل بها إلى فعلِ مسنونٍ، كان مسنونًا، وإن تُوصل بها إلى فعلِ محرَّم كانت الوسيلة محرَّمة، وهكذا.

المتن

القاعدة السادسة والستون:

من قواعد القرآن أنه يستدل بالأقوال والأفعال

على ما صدرت عنه من الأخلاق والصفات.

وهذه قاعدة جليلة، فإن أكثر الناس يقصر نظره على نفس اللفظ الدال على ذلك القول أو الفعل من دون أن يفكِّر في أصله وقاعدته التي أوجبت صدور ذلك الفعل أو القول، والفَطِنُ اللَّبِيبُ ينظر إلى الأمرين، ويَعْرِفُ أن هذا لهذا، وهذا ملازم لهذا.

وقد تقدَّم ما يُقارِبُ هذا المعنى الجليل، ولكن لشدة الحاجة إليه أوردناه على أسلوبٍ آخر، فمن ذلك أن قوله عن عباد الرحمن إنهم يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا [الفرقان: 63] وذلك صادرٌ عن وقارهم، وسكينتهم، وخشوعهم، وعن حلمهم الواسع، وخُلقهم الكامل، وتنزيههم لأنفسهم عن مقابلة الجاهلين.

ومثل قوله: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17] يدل مع ذلك على حُسْنِ إدارة المُلك، وكمال السياسة، وحسن النظام.

وقوله تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 55].

الشرح

أعدِ القاعدةَ السادسة والستين.

المتن

القاعدة السادسة والستون:

من قواعد القرآن أنه يستدل بالأقوال والأفعال

على ما صدرت عنه من الأخلاق والصفات.

وهذه قاعدة جليلة، فإن أكثر الناس يقصر نظره على نفس اللفظ الدال على ذلك القول أو الفعل من دون أن يفكِّر في أصله وقاعدته التي أوجبت صدور ذلك الفعل أو القول، والفَطِنُ اللَّبِيبُ ينظر إلى الأمرين، ويَعْرِفُ أن هذا لهذا، وهذا ملازم لهذا.

وقد تقدَّم ما يُقارِبُ هذا المعنى الجليل، ولكن لشدة الحاجة إليه أوردناه على أسلوبٍ آخر، فمن ذلك أن قوله عن عباد الرحمن إنهم يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا [الفرقان: 63] وذلك صادرٌ عن وقارهم، وسكينتهم، وخشوعهم، وعن حلمهم الواسع، وخُلقهم الكامل، وتنزيههم لأنفسهم عن مقابلة الجاهلين.

ومثل قوله: وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ [النمل: 17] يدل مع ذلك على حُسْنِ إدارة المُلك، وكمال السياسة، وحسن النظام.

وقوله تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ [القصص: 55] يدل على حُسن الخُلق، ونزاهة النفس عن الأخلاق الرذيلة، وعلى سعة عقولهم، وقوة حلمهم واحتمالهم.

ومثلُ الإخبار عن أهل الجاهلية بتقتيل أولادهم خشية الفقر، أو من الإملاق، يدل على شدة هَلَعِهِم، وسوء ظنهم بربهم، وعدم ثقتهم بكفايته.

وكذلك قوله عن أعداء رسوله: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص: 57] يدل على سوء ظنهم بالله، وأن الله لا ينصر دينه، ولا يُتِمُّ كلمته.

وأمثلة هذا الأصل كثيرة واضحة لكل صاحب فكرة حسنة.

الشرح

هذه القاعدة، الطبعة السابقة ذكرَ قاعدةً مخالفةً لهذه القاعدة، قال: "القاعدة السادسة والستون: "أعظمُ الأصول التي يقرِّرها القرآن، ويُبرهِن عليها: توحيد الألوهية والعبادة".

القارئ: ذكرها في الحاشية، أحسنَ اللهُ إليكَ.

الشيخ: في الحاشية؟

القارئ: إي نعم.

الشيخ: لكن هذه هي الأصل لديّ، عندكَ في الحاشية، اقرأ في الحاشية.

المتن

القاعدة السادسة والستون: أعظمُ الأصول التي يقرِّرها القرآن، ويُبرهِن عليها: توحيد الألوهية والعبادة.

وهذا الأصل العظيم أعظم الأصول على الإطلاق وأكملها وأفضلها وأوجبها، وهو الذي خلق الله الجن والإنس لأجله، وخلقَ المخلوقات، وشرعَ الشرائع لقيامه، وبوجوده الصلاح، وبفقده الشر والفساد.

الشرح

نعم، هذا أعظم الأصول التي يقررها القرآن، ويبرهن عليها، ويدلل عليها: توحيد الألوهية والعبادة.

وهذا هو الذي خلقَ الخَلق من أجله، وهو الذي أُنزل القرآن من أجله، وهو الذي أُرسلت الرسل؛ لتوحيد العبادة.

وهذا الأصل أعظم الأصول على الإطلاق، وأكملها وأفضلها وأوجبها وألزمها لصلاح الإنسانية، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56]، نعم، "وجميعُ الآيات القرآنية.."، نعم.

المتن

 وجميعُ الآيات القرآنية إما أمرٌ به، أو بحقٍّ من حقوقه، أو نهيٌ عن ضده،  أو إقامةُ حُجَّةٍ عليه، أو بيانُ جزاءِ أهله في الدنيا والآخرة، أو بيانُ الفَرق بينهم وبين مَن لم يتصف به، ويُقال له: توحيد الإلهية.

الشرح

إذن جميع آيات القرآن كلها في التوحيد؛ إما أمرٌ بالتوحيد، وإما أمرٌ بحقٍّ من حقوق التوحيد، وإما نهيٌ عن ضد التوحيد وهو الشرك، وإما إقامة حُجّةٍ على التوحيد، وإما بيانُ جزاء أهل التوحيد في الدنيا، وإما بيانُ جزاء أهل التوحيد في الآخرة، وإما في بيان جزاء مَن تركَ التوحيد؛ وهم المشركون في الدنيا، وإما بيان جزائهم في الآخرة.

فالقرآنُ كلُّه في التوحيد وحقوقه، وبيان فضله، وجزاء أهله، وفي الشرك الذي هو ضد التوحيد، وبيان قبحه، وعقوبة أهله في الدنيا والآخرة، نعم.

المتن

ويُقال له: توحيد الإلهية باعتبار أن الله ذو الألوهية، وأن الألوهية وصفه الدال عليه الاسمُ العظيم وهو الله، وهي جميع صفات الكمال.

ويُقال له: توحيد العبادة، باعتبار وصْف العبد بإخلاص العبادة لله تعالى، وتحقيقها في العبد أن يكون عارفًا بربه مخلصًا له جميع عباداته، مُحَقِّقًا بذلك بترك الشرك صغيره وكبيره، وباتباع النبي ﷺ ظاهرًا وباطنًا، والسلامة من كل بدعةٍ وضلالة، وبموالاة أهله، ومعاداة ضدهم.

وهذا الأصل الذي هو أكبر الأصول وأعظمها قد قرره شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب التوحيد، وذكرَ من تقريره وتفاصيله وتحقيقه ونفي كل ما يضاده، ما لا يُوجد في كتابٍ غيره، بل كتابه المذكور لا يخرج عنه.

والقرآن يقرِّره بطرقٍ متنوعةٍ، وقد تقدِّم في أول هذه القواعد شيءٌ من ذلك، وقد ذكرنا في التفسير ثمانية طرقٍ كلية في تقرير هذا الأصل، وصورة ما ذكرناه على قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] الآية، بعدما ذكرنا تفسيرها.

وَالطَّرِيقُ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ أُمُورٌ:

أَحَدُهَا -بَلْ أَعْظَمُهَا-: تَدَبُّرُ أَسْمَاء الربِّ وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَمَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، فَإِنَّهَا تُوجِبُ بَذْلَ الْجُهْدِ فِي التَّأَلُّهِ لَهُ، وَالتَّعَبُّدِ لِلرَّبِّ الْكَامِلِ الَّذِي لَهُ كُلُّ حَمْدٍ وَمَجْدٍ وَجَلَالٍ وَجَمَالٍ.

الشرح

طيب، نقف على: "وَالطَّرِيقُ إِلَى الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ"، هذه القاعدة مهمة، فكيف جعلها في الحاشية؟! جعلها في الحاشية فقط؟ إيش قال في الحاشية؟

عجيبٌ يعني، ذَكَرَهَا في الحاشية مع أن هذا هو الأصل.

 

([1]) أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير- باب ما يكره من التنازع والاختلاف في الحرب (3039).

([2])أخرجه أحمد (2097), وأبو داود في كتاب الأدب - باب في رد الوسوسة (5112)، وصححه الألباني.

([3])أخرجه البخاري في كتاب الحدود- باب فضل من ترك الفواحش (6806)، ومسلم في كتاب الزكاة- باب فضل إخفاء الصدقة (1031).

([4])أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء- باب قول الله تعالى: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم} (3372)، ومسلم في كتاب الإيمان- باب زيادة طمأنينة القلب (151).

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد