(المتن)
(1) كِتَاب بَدْءِ الْوحِْي:
قَالَ الشَّيْخُ الإِْمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِاللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى آمِينَ
1 - بَابُ بَدْءِ الوَحْيِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى آمِينَ:
كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْوَحْيِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ
وَقَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ.
1 حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الأَْنْصَارِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ ابْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِنَّمَا الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.
الشرح:
افتتح البخاري رحمه الله كتابه بالبسملة واكتفى بها اقتداءً بالكتاب العزيز، فقال: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ» .
وقد اعترض بعض الشراح على عدم افتتاحه كتابه بخطبة تشتمل على حمد الله والصلاة والسلام على رسول الله ﷺ؛ عملاً بحديث: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لله فهو أجدع أو أبتر [(16)]، وحديث: كل خطبة لا تفتتح بحمد الله فهي جذماء [(17)].
وأجيب: بأن الحديثين في سندهما مقال، ولو صح الحديثان فليسا على شرطه.
واكتفى رحمه الله بعد الترجمة ببدء الوحي، وآية النساء بحديث إِنَّمَا الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وجعله بمثابة الخطبة للكتاب؛ لأن الأعمال أساسها النيات، والعمل دائر مع النية، ولأن الله أوحى إلى الأنبياء ثم إلى محمد ﷺ أن الأعمال بالنيات؛ لقوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البَيّنَة: 5] ولأن بدء الوحي كان بالنية؛ لأن الله فطر محمدًا على التوحيد، وبغّض إليه الأوثان، وحماه منها، ووهب له أسباب النبوة، وهي الرؤيا الصالحة.
والوحي في اللغة هو: الإعلام في خفاء، ويطلق الوحي على الكتابة، وعلى المكتوب، وعلى البعث، وعلى الإلهام، وعلى الأمر، وعلى الإشارة، وعلى الإيماء، وعلى التصويت شيئًا بعد شيء.
والمراد بالوحي شرعًا: الإعلام بالشرع.
وابتدأ البخاري رحمه الله بهذه الآية: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النِّسَاء: 163]؛ لبيان أن صفة الوحي الذي أُنزل على سائر الأنبياء كصفة الوحي الذي أُنزل على نبينا محمد ﷺ، وأن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا.
1 قوله: إِنَّمَا الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى حديث عظيم جعله المؤلف رحمه الله بمثابة الخطبة لكتابه؛ لأن فيه بيان وجوب الإخلاص في العمل، وأن النية هي الأساس الذي يُبنى عليه الأعمال، وأن الله تعالى أوحى إلى نبينا ﷺ كما أوحى إلى النبيين من قبله بوجوب الإخلاص قال سبحانه: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البَيّنَة: 5].
وهذا الحديث من أصح الأحاديث وإن كان حديثًا غريبًا؛ لم يروه صحيحاً عنه عن رسول الله ﷺ إلا عمر بن الخطاب في طبقة الصحابة، ولم يروه عن عمر ابن الخطاب سوى علقمة بن وقاص الليثي في طبقة التابعين، ولم يروه عن علقمة إلا محمد بن إبراهيم بن يحيى التيمي، ولم يروه عن محمد بن إبراهيم التيمي إلا يحيى بن سعيد الأنصاري؛ فهو فرد عن فرد عن فرد عن فرد، ثم انتشر الحديث بعد يحيى بن سعيد الأنصاري فرواه جماعة كثيرون[(26)].
فلا يلزم من كون الحديث غريبًا أن يكون صحيحًا، ولا يلزم من كونه صحيحًا أن يكون متواترًا.
وهو حديث عظيم؛ لأن فيه بيان أساس الأعمال الذي تُبنى عليه وهو النية؛ فمدار الأعمال على النيات؛ ولهذا افتتح الأئمة كتبهم بهذا الحديث.
ومعنى إِنَّمَا الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ أي: لا عمل إلا بالنية؛ لأن النية هي التي تحدد مقصود الشخص؛ فقد يكون عملٌ صورته واحدة يعمله أشخاص كثيرون، لكن أحدهم مقصده وجه الله والدار الآخرة، وآخر مقصده الدنيا، وآخر مقصده الشهرة، وآخر مقصده الرياء والسمعة، وليس للإنسان إلا ما نوى؛ فلذلك صار هذا الحديث ميزانًا للأعمال الباطنة وشرطا لقبول العمل؛ فهو نصف الدين.
والنصف الثاني حديث عائشة رضي الله عنها الذي رواه الشيخان: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ [(27)]، وفي لفظ لمسلم: مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ [(28)]، فهذا الحديث يمثل النصف الثاني؛ لأن فيه بيان الميزان الذي تصح به الأعمال الظاهرة، فكل عمل ليس عليه أمر الله ورسوله، ويخالف شرع الله؛ فهو مردود على صاحبه.
فالعمل له ظاهر وباطن، فميزانه في الباطن: النية الخالصة لله، وميزانه في الظاهر: موافقة الشرع باتباع السنة، فإذا توفر الميزانان في عمل فهو مقبول وصحيح عند الله ، وإذا تخلف أحدهما لم يقبل، فإذا فُقد الميزان الباطن جاء الشرك، وإذا فُقد الميزان الظاهر جاءت البدع.
وقد دل على هذين الأصلين نصوص من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ، فمن ذلك:
قول الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110]، فقوله: فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا أي: يكون العمل صوابًا على السنة ظاهرًا، وقوله: وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا يريد الإخلاص باطنًا.
وقال سبحانه: بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [البَقَرَة: 112]، وقال: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمَان: 22]، فإسلام الوجه هو الإخلاص[(29)]، والإحسان هو: أن يكون العمل موافقًا للشرع.
وقول النبي ﷺ: إِنَّمَا الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ من جوامع الكلم، والجملة فيها حصر، والمعنى: لا عمل إلا بالنية، فإذا فُقدت النية فلا عمل.
ثم قال: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، أي كل شخص له ما نواه، فمن نوى نية سيئة فله نيته، ومن نوى نية حسنة فله نيته.
ثم مَثَّل النبي ﷺ بمثالين:
الأول: مثالٌ للنية الحسنة، فقال عليه الصلاة والسلام: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
الثاني: مثال النية السيئة: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.
لكن المؤلف رحمه الله حذف أحد القسيمين؛ فحذف فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ... وأبقى القسيم الثاني: وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَنكِحُهَا قال بعض أهل العلم: فعل ذلك فرارًا من أن يزكي نفسه، وهذا من ورع الإمام البخاري رحمه الله، وقد ساقه في مواضع أخرى بأطول من هذا.
والهجرة هي: الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام.
وكانت الهجرةُ واجبة في أول الأمر قبل فتح مكة؛ فكان على من أسلم أن يهاجر من بلده إلى المدينة كي يُكثّر سواد المسلمين، فلمَّا فُتحت مكة انتهت الهجرة من مكة إلى المدينة، وقال عليه الصلاة والسلام: لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ [(30)]؛ لأنها صارت بلد إسلام، فمن هاجر قبل الفتح من مكة إلى المدينة إلى الله ورسوله، كان له الأجر العظيم بالهجرة؛ ولهذا قال النبي ﷺ: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. يعني: فيكتب له ثواب ذلك، وله أجره.
وكان من أهل مكة رجل سافر إلى المدينة، لا بقصد الهجرة ولكن بقصد الزواج بامرأة تسمى أم قيس؛ فسُمي: «مهاجر أم قيس»، وقال النبي ﷺ: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ، فالذي هاجر لأجل أن ينكح امرأة له نيته، والذي هاجر لدنيا له نيته، والذي هاجر إلى الله ورسوله له نيته[(31)].
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال البخاري رحمه الله تعالى ورضي الله عنه: «بسم الله الرحمن الرحيم، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله ﷺ» ، هكذا في رواية أبي ذر[(18)] والأَصيلي[(19)] بغير «باب» وثبت في رواية غيرهما، فحكى عياض ومن تبعه فيه التنوين وتركه، وقال الكرماني: يجوز فيه الإسكان على سبيل التعداد للأبواب؛ فلا يكون له إعراب».
وعلى ذلك فكلمة «باب» هنا فيها روايتان: التنوين: «بابٌ»، والتسكين: «بابْ» .
قال: «وقد اعْتُرض على المصنف؛ لكونه لم يفتتح بخطبة تنبئ عن مقصوده مفتتحة بالحمد والشهادة؛ امتثالا لقوله ﷺ: كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ لله فهو أجذم [(20)]، وقوله: كُلُّ خُطْبَةٍ لَيْسَ فِيهَا شَهَادَةٌ، كَالْيَدِ الْجَذْمَاءِ [(21)] أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة.
والجواب عن الأول: أن الخطبة لا يتحتم فيها سياق واحد يمتنع العدول عنه، بل الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود، وقد صَدَّر الكتاب بترجمة بدء الوحي وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائر مع النية، فكأنه يقول: قصدت جمع وحي السنة المتلقى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي؛ وإنما لكل امرئ ما نوى، فاكتفى بالتلويح عن التصريح. وقد سلك هذه الطريقة في معظم تراجم هذا الكتاب على ما سيظهر بالاستقراء.
والجواب عن الثاني: أن الحديثين ليسا على شرطه؛ بل في كل منهما مقال. سلمنا صلاحيتهما للحجة لكن ليس فيهما أن ذلك يتعين بالنطق والكتابة معًا، فلعله حمد وتشهد نطقًا عند وضع الكتاب».
والحاصل أنه يحتمل أن البخاري رحمه الله اكتفى أول الكتاب بالبسملة والآية والحديث؛ فكان في ذلك النيابة عن الخطبة، ويحتمل أنه حمد الله عند وضعه نطقًا ولم يكتب ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ولم يكتب ذلك اقتصارًا على البسملة؛ لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله وقد حصل بها، ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العَلق: 1]، فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها، لاسيما وحكاية ذلك من جملة ما تضمنه هذا الباب الأول، بل هو المقصود بالذات من أحاديثه.
ويؤيده أيضًا وقوع كتب رسول الله ﷺ إلى الملوك وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسمية دون حمدلة».
وذلك ـ كما سيأتي ـ في كتابه لهرقل حيث افتتح بالبسملة فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى [(22)]، فاكتفى بالبسملة، والبخاري رحمه الله له أسوة في كتاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وله أسوة أولاً قبل كل شيء بكتاب الله .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهذا يشعر بأن لفظ الحمد والشهادة إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق، فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم لينتفعوا بما فيه تعلمًا وتعليمًا».
فالجواب عن عدم بدء البخاري كتابه بالحمد واضح؛ وهو أنه اقتدى بكتب الرسول ﷺ وبالكتاب العزيز، وجرى على هذا جمع من أهل العلم، ومن ذلك الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله، فقد افتتح كتابه «التوحيد» كذلك بالبسملة، ولم يجعل له خطبة؛ فجاء فيه «كتاب التوحيد، وقول الله تعالى...»[(23)]، فسلك مسلك الإمام البخاري في هذا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد أجاب من شرح هذا الكتاب بأجوبة أخرى فيها نظر؛ منها: أنه تعارض عنده الابتداء بالتسمية والحمدلة، فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة».
ومن المناسبات اللطيفة: أن البخاري رحمه الله روى هذا الحديث عن الحميدي وهو أبو بكر عبدالله بن الزبير بن عيسى؛ وهو شيخ مكي، والوحي أول ما نزل نزل بمكة.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله عن الحديث: «قوله: إِنَّمَا الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ: كذا أورد هنا، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، أي كل عمل بنيته.
وقال الحربي: كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال، كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو الاتقاء لوعيده.
ووقع في معظم الروايات بإفراد النية، ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد؛ فناسب إفرادها، بخلاف الأعمال فإنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة؛ فناسب جمعها».
أي: أنه أفرد النيات في بعض ألفاظ الحديث فقال: إِنَّمَا الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّةِ [(32)]؛ لأن النية محلها القلب وهو متحد، والأعمال متعددة.
قال: «ولأن النية ترجع إلى الإخلاص، وهو واحد للواحد الذي لا شريك له.
ووقع في «صحيح ابن حبان» بلفظ: لأَْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ [(33)] بحذف إِنَّمَا وجمع الأعمال والنيات، وهي ما وقع في كتاب «الشهاب» للقضاعي ووصله في مسنده كذلك[(34)]، وأنكره أبو موسى المديني كما نقله النووي وأقره، وهو متعقَّب برواية ابن حبان؛ بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ: الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّةِ [(35)]، وكذا في العتق من رواية الثوري[(36)]، وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد[(37)]، ووقع عنده في النكاح بلفظ: العَمَلُ بِالنِّيَّةِ [(38)] بإفراد كل منهما، والِّنيَّة بكسر النون وتشديد التحتانية على المشهور، وفي بعض اللغات بتخفيفها.
قال الكِرْمَاني: قوله: إِنَّمَا الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين، واختلف في وجه إفادته؛ فقيل: لأن الأعمال جمع مُحَلَّى بالألف واللام مفيد للاستغراق، وهو مستلزم للقصر؛ لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل إلا بنية، وقيل: لأن «إنما» للحصر، وهل إفادتها له بالمنطوق، أو بالمفهوم، أو تفيد الحصر بالوضع، أو العرف؟».
والمختار أنها تفيد الحصر بنفس اللفظ، أي بالمنطوق.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، قال القرطبي: فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال، فجنح إلى أنها مؤكدة، وقال غيره: بل تفيد غير ما أفادته الأولى؛ لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها، فيترتب الحكم على ذلك، والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له إلا ما نواه، وقال ابن دقيق العيد: الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئا يحصل له ـ يعني إذا عمله بشرائطه أو حال دون عمله له ما يعذر شرعًا بعدم عمله ـ وكل ما لم ينوه لم يحصل له. ومراده بقوله: «ما لم ينوه» أي: لا خصوصًا ولا عمومًا».
أي: أن الجملة الأولى إِنَّمَا الأَْعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، عامة؛ يعني جميع الناس بنياتهم، ثم جاءت الجملة الثانية وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى خاصة؛ فهي خاصة بكل شخص.
وهذا الحديث يحقق أصلاً عظيمًا من أصول الدين، بل أصل الدين وأُسُّه وقاعدته، وهو إخلاص العمل لله؛ ففيه تحقيق شهادة ألا إله إلا الله؛ فهذا الحديث نصف[(24)] الدين ونصف أدلة الشرع، والنصف الثاني يحققه حديث: مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ [(25)] وأمثاله من الأحاديث.
وفيه تحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله، وعلى هاتين الشهادتين يقوم الإسلام وتبنى الأعمال، وهما الإخلاص لله والمتابعة لرسول الله، فلا إسلام ولا إيمان بغير هذين الأصلين معًا، فمن شهد أن لا إله إلا الله فلا تصح شهادته حتى يشهد أن محمدًا رسول الله، وكذلك من شهد أن محمدًا رسول الله ﷺ لا تصح شهادته حتى يشهد أن لا إله إلا الله.
المتن:
الشرح:
هذا فيه: بيان ثقل الوحي وشدته عليه ﷺ؛ فإنه كان إذا نزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيتفصد جبينه عرقًا من ثقل الوحي، قال الله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المُزّمل: 5].
وثبت عن النبي ﷺ أنه نزل عليه الوحي مرة وفخذه على فخذ زيد بن حارثة، فثقلت فخذه ﷺ على زيد ثقلا شديدًا، وقال زيد في ذلك: «حتى كادت فخذي أن ترض»[(39)]؛ أي: من ثقل فخذه عليه الصلاة والسلام، لما نزل عليه من الوحي.
ويُروى أن النبي ﷺ لما نزلت عليه سورة المائدة وهو على راحلته عجزت عن حمله.
وفي حديث الباب كذلك بيان نوعين من أنواع الوحي، وليس المراد منه الحصر؛ فإن أنواع الوحي كثيرة:
النوع الأول: أنه يأتيه الوحي مثل صلصلة الجرس ـ وفي رواية: مثل دوي النحل [(41)] ـ فيفصم عنه وقد وعى ما قال، ففي هذا النوع لا يرى المَلَك.
النوع الثاني: يتمثل الملَك جبريل للنبي ﷺ رجلاً، فيأتيه فيكلمه، فيعي ما قال.
وجاءت أنواع أخرى من الوحي لم تذكر في الحديث، منها:
تكليم الله له ﷺ من دون واسطة من وراء حجاب؛ كما كلمه ليلة الإسراء والمعراج، وفرض عليه الصلاة خمسين صلاة في اليوم والليلة؛ ذلك أنه ﷺ بعد أن تجاوز السبع الطباق مر على الأنبياء، وكل نبي يرحب به ويُقر بنبوته، فوجد في السماء الدنيا آدم فرحب به وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح، وأقر بنبوته، ووجد في السماء الثانية عيسى ويحيى ابني الخالة فرحبا به وأقرا بنبوته، ووجد في السماء الثالثة إدريس فرحب به وأقر بنبوته، ووجد في السماء الرابعة يوسف فرحب به وأقر بنبوته، ووجد في السماء الخامسة هارون فرحب به وأقر بنبوته، ووجد في السماء السادسة موسى فرحب به وأقر بنبوته، ووجد في السماء السابعة إبراهيم فرحب به وأقر بنبوته، وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح.
فكل واحد قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح؛ إلا إبراهيم وآدم فكل منهما قال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح؛ لأنهما أبواه.
وَوَجَدَ إبراهيم عليه الصلاة والسلام مُسنِدًا ظهره إلى البيت المعمور، والبيت المعمور كعبة سماوية للملائكة يطوفون بها، وهي محاذية تمامًا للكعبة المشرفة، بحيث لو سقط شيء منه لسقط على الكعبة المشرفة، يقول النبي ﷺ: يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ أي للطواف والعبادة لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إلى آخر الدهر [(42)] أي: ما يصلهم الدور من كثرة الملائكة، ثم تجاوز السبع الطباق عليه الصلاة والسلام ومعه جبريل حتى وصل إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، ثم فرض عليه رب العزة والجلال من دون واسطة الصلاة خمسين صلاة، ثم مر على موسى في السماء السادسة فسأله: ماذا فرض عليك ربك؟ قال: فَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك؛ لأن أمتك ضعيفة لا تطيق خمسين صلاة في اليوم والليلة، فالتفت نبينا إلى جبريل كأنه يستشيره فأشار إليه أن نعم، فعلا به إلى الجبار ، فسأل ربه التخفيف، فقال: يا رب إن أمتي ضعيفة لا تطيق خمسين صلاة في اليوم والليلة، فوضع عنه رب العزة والجلال عشرًا، وفي رواية: خمسًا، ثم نزل حتى مر بموسى في السماء السادسة وسأله المرة الثانية فأخبره أن الله فرض عليه أربعين صلاة، أو خمسًا وأربعين صلاة؛ فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فرجع، وما زال يتردد بين ربه وبين موسى مرات عديدة حتى صارت إلى خمس صلوات، فمر على موسى فقال: ماذا فرض عليك ربك؟ قال: فَرَضَ عَلَيَّ خَمْسَ صَلَواتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ،، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك؛ فإن أمتك ضعيفة لا تطيق خمس صلوات في اليوم والليلة، وإني عالجت بني إسرائيل أكثر من ذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: قَدْ سَأَلْتُ رَبِّي حَتَّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ، وَلَكِنْ أَرْضَى وَأُسَلِّمُ، فنادى منادٍ من السماء: أن أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي: هي خمس في العدد وهي خمسون في الميزان والأجر، ما يبدل القول لدي[(43)].
فهذا النوع الثالث من أنواع الوحي: كلمه الله من دون واسطة؛ لكن من وراء حجاب، فما رأى ربه بعيني رأسه، وقال بعض العلماء: إنه رآه ليلة المعراج، وهذا مرجوح، والصواب الذي عليه المحققون أنه لم ير ربه.
ولهذا أنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك، وقالت لمسروق لما قال لها: هل رأى محمد ربه؟ قالت: «لقد قَفَّ شعري مما قلت»، ثم قالت: من حدثك أن محمدًا رأى ربه فقد كذب[(44)].
فالنبي ﷺ ما رأى ربه بعين رأسه، وإنما رآه بعين قلبه، والدليل على هذا ما ثبت في «صحيح مسلم» أن أبا ذر سأل النبي ﷺ: هل رأيت ربك؟ قال: نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ، وفي رواية: رَأَيْتُ نُورًا [(45)] يعني: أن النور حجاب يمنعني من رؤيته.
وكذلك يدل عليه حديث أبي موسى في «صحيح مسلم»[(46)] إِنَّ اللَّهَ لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، حِجَابُهُ النُّورُ وفي لفظ: النَّارُ قال: لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وهذا عام يشمل النبي ﷺ؛ فهو من خلق الله، ولأن الرؤية إنما هي نعيم خصه الله تعالى بأهل الجنة.
فالمقصود أن الله تعالى أوحى إلى نبيه ﷺ ليلة المعراج من دون واسطة؛ فهو وحي من وراء حجاب.
ويدل على ذلك أيضًا قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشّورى: 51].
والنوع الرابع من أنواع الوحي: النفث في الروع، فينفث الملك في قلبه ﷺ بالوحي، فيلقي الوحي في قلبه، فيعي ، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: إِنَّ رُوحَ الْقُدُسِ وهو جبريل نَفَثَ في رُوعِي؛ يعني: في قلبي، أنَّهُ لنْ تَمُوتَ نفس حَتّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَها أجَلَها [(47)]. فالرُّوع بالضم هو القلب، أما الرَّوع بالفتح فهو الخوف، والوجل؛ كما قال : فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ [هُود: 74].
النوع الخامس من أنواع الوحي: الرؤيا: فكان أول ما بدئ به عليه الصلاة والسلام الرؤيا الصادقة، فكان لا يرى رؤيا إلا وقعت مثل فَلَق الصبح ـ أي تحققت ـ وكان عليه الصلاة والسلام بدئ به أول ما بدئ في ربيع الأول، واستمرت لمدة ستة أشهر حتى رمضان، وفي رمضان فَجَأَهُ الحقُّ وجاءَهُ جبريل، وفي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ [(48)].
قال بعض العلماء: وجه ذلك أن مدة النبوة والرسالة ثلاث وعشرون سنة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نُبئ على رأس الأربعين، وتوفي وهو ابن ثلاث وستين؛ فتكون مدة الرسالة والنبوة ثلاثًا وعشرين سنة، ومدة الرؤيا ستة أشهر، والستة أشهر بالنسبة إلى ثلاث وعشرين سنة تكون جزءًا من ستة وأربعين جزءًا[(49)]، لكن للحديث روايات أخر؛ ففي رواية: جُزْء مِنَ سبعين [(50)]، وفي رواية: جُزْء مِنَ خمسين [(51)].
المتن:
الشرح:
قوله: «جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ» يعني: يصدقها الواقع، فأول ما بُدِئَ به عليه الصلاة والسلام من الوحي الرؤيا الصالحة، فكان لا يرى رؤيا إلا وتتحقق في الواقع.
ورؤيا الأنبياء وحي[(52)]، ومن ذلك ما قصه الله علينا في كتابه العظيم في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه رأى في المنام أنه يذبح ولده، فشرع في تنفيذ هذه الرؤيا؛ لأنها وحي.
والحكمة في أمر الله تعالى لإبراهيم أن يذبح ولده إسماعيل أن الله اتخذ إبراهيم خليلاً، والخليل هو المحب الذي بلغ الغاية في المحبة، فالخلة صفة كمال، وهي بالنسبة للرب صفة فعلية لا تكيف. وما اتخذ الله إلا خليلين من الخلق: إبراهيم ومحمدًا عليهما الصلاة والسلام.
والخليل من البشر هو المحب الذي بلغت محبته لمحبوبه النهاية والغاية، حتى وصلت إلى سويداء القلب وتخللت شغافه، فلا يكون في القلب متسع لأكثر من خليل [(53)].
والفرق بين الخلة والمحبة أن الخلة كمال المحبة ونهايتها فلا يتّسع القلب لأكثر من خليل، بخلاف المحبة فإن القلب يتّسع لأكثر من حبيب؛ ولهذا لما امتلأ قلب نبينا محمد ﷺ بخلة الله لم يتخذ أحدًا من أهل الأرض خليلاً، قال ﷺ: لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ صَاحِبُكُمْ خَلِيلُ اللهِ [(54)] يعني: نفسه عليه الصلاة والسلام، أي: لو كان في القلب متسع لكان لأبي بكر، لكن لا يسع القلب أكثر من خليل.
أما الحبيب فيتّسع القلب لأكثر من حبيب، والنبي ﷺ أحب كثيرين؛ ولهذا سئل ﷺ: من أحب الناس إليك؟ قال: عائشة، قيل: من الرجال؟ قال: أبوها [(55)].
وكان ﷺ يحب زيدًا وأسامة بن زيد؛ فأسامة هو حِب رسول الله وابن حب رسول الله ﷺ[(56)].
ولما كان إبراهيم خليل الله؛ فلا ينبغي أن يكون في قلبه متسع لغير الله، وكان مضى عليه مدة من عمره لم يأته ولد، ثم رزقه الله إسماعيل على كبر، قيل: إنه جاءه وعمره مائة وعشرون، فلما رزق الله تعالى إبراهيم الولد على الكبر مالت إليه شعبة من قلبه فأحبه، فامتحنه الله تعالى بذبحه ليصفي قلبه، حتى يصفو من ميله إلى غيره.
والولد إذا أتى على الكِبَر تكون محبته أشد وأعظم، فإذا أُمر بذبحه فالأمر يكون شاقًّا وصعبًا على النفس، ومن يتحمل هذا إلا من قدم محبة الله وآثرها؛ لذلك امتحن الله تعالى إبراهيم بذبح ولده.
قال الله عن إبراهيم في سورة الصافات: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ [الصَّافات: 101] وهو إسماعيل، وقد وصفه الله تعالى بالحلم. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: صار رجلاً يسعى[(57)]، فزاد حب إبراهيم له لما كبر، قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى، فقال الولد البار: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصَّافات: 102].
قال الله تعالى: وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ [الصَّافات: 103]، أي: أكبه على وجهه ليذبحه على قفاه وأجرى السكين.
فلما حصل المقصود وآثر إبراهيم محبة الله على محبة الولد، وزالت الشعبة التي مالت إليه، سلب الله خاصية القطع من السكين فلم تقطع.
وناداه الله: قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا [الصَّافات: 105]، أي: صدقت الرؤيا الآن وجُزْتَ الاختبار، وانتهى الأمر، ففداه الله بذبح قال الله تعالى: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ [الصَّافات: 106].
والحاصل أن رؤيا الأنبياء نوع من أنواع الوحي، ومن ذلك هذه الرؤيا التي رآها إبراهيم في المنام أن يذبح ولده فشرع في تنفيذها، فصدقه الله وقال: ُقَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا .
قوله: «ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ» أي: لما بُدئ عليه الصلاة والسلام بالرؤيا الصادقة حُبب إليه الخلاء ـ يعني: العزلة عن الناس ـ فصار ينعزل عن الناس، ولا يحب أن يجتمع معهم، وكان يتزود من خديجة الطعام ليومين وثلاثة، ويأتي إلى هذا الغار في حراء، ويجلس فيه يتعبد هذه المدة، فإذا انتهى طعامه ذهب إلى أهله وتزود بمثله، واستمر على هذا حتى فجأه الحق وجاءه الوحي، ونزل عليه جبريل في رمضان.
وكان التعبد أيام النبي ﷺ على ما عرف من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام[(58)]، ولم تذكر كيفية العبادة.
قوله: «حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ» ، وفي رواية: «حتى فَجِئَه الحق» [(59)]. يعني: نزل عليه الوحي، أي الملَك.
قوله: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ليس امتناعًا، بل مقصده الإخبار، يعني: لا أعرف القراءة.
قوله: فَغَطَّنِي يعني: ضمه وعصره؛ حتى يتأهب ويستعد للوحي الثقيل ولتبليغ الأمة؛ فهذه توطئة لذلك، ولما ضمه وعصره فَقَالَ: اقْرَأْ، قال مرة ثانية: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، أي لا أعرف القراءة، فضمه المرة الثانية وعصره حتى بلغ منه الجهد والمشقة؛ فهي توطئة أخرى وتهيئة لهذا الأمر العظيم، ثم قال في المرة الثالثة: اقْرَأْ فَقالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فضمه، ثم قال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العَلق: 1-4] وبذلك صار ﷺ نبيًّا.
ثم بعد ذلك لما نزل: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدَّثِّر: 1] صار رسولاً ـ كما سيأتي ـ فنبئ ﷺ بـ اقْرَأْ، وأرسل بالمدثر.
قوله: «فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ» يعني: يتحرك فؤاده؛ وذلك لأن هذا أمر عظيم ما عهده ﷺ؛ فرؤية جبريل على صورته التي خُلق عليها أمر عظيم، وقد روي أنه ﷺرآه على كرسي قد سد ما بين السماء والأرض[(60)]، ثم جاء إلى النبي ﷺوعصره ثلاث مرات، فرجع إلى أهله يرجف فؤاده من الرعب والخوف، وقال لأهله: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، أي: دثروني وغطوني، حتى ذهب عنه الروع، ثم قال لخديجة: لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي؛ فقالت رضي الله عنها: «كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» أي: والله لا يخزيك الله وأنت تتصف بهذه الصفات العظيمة؛ لأن من اتصف بها لا يمكن أن يخزيه الله أو يخذله، وهذا يدل على عظم شأن خديجة وقوة عقلها ووفور ذكائها رضي الله عنها وأرضاها، وهذا من جميل تسليتها للنبي ﷺ حين سلَّته وهدأت من روعه عليه الصلاة والسلام.
قوله: «فَزَمَّلُوهُ» يعني: دثروه، فجعلوا عليه غطاءً، كلحاف ونحوه.
والرَّوْع بالفتح: الخوف، ومنه قوله تعالى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ [هُود: 74]، أما الرُّوع بالضم: فهو القلب.
قوله: خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي، يعني خشيت هذا الأمر العظيم، وهو أن يأتيه ملك يملأ ما بين السماء والأرض ويعصره ثلاث مرات، وهذا الملك كان على خلقة عظيمة ليست كخلقة البشر.
والنبي ﷺ رأى جبريل مرتين على صورته التي خلق عليها وله ستمائة جناح[(61)]: مرة في الأرض عند بدء الوحي، ومرة في السماء ليلة المعراج، كما قال : وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى [النّجْم: 13] يعني: مرة أخرى، أي: رأى النبيُّ جبريلَ عند سدرة المنتهى.
قول خديجة: «كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» .
هذه الصفات العظيمة استدلت بها خديجة رضي الله عنها على أن الله لا يخزيه، وأنه لابد أن يُؤيَّدَ ويُنْصَرَ من كان يتصف بهذه الصفات العظيمة من إحسان إلى الأقارب وغير الأقارب، وإعانة الضعفاء، وصلة الرحم، والقيام بنوائب الحق، وإكساب المعدوم من الأقارب ومن الأجانب.
قوله: «إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ» ، الكَلّ: الضعيف الذي لا يستطيع أن يقوم بنفسه، كاليتيم والأرملة وغيرهما، أي: إنك تحمل أثقالهم وتعينهم وتأتي بحوائجهم.
قوله: «وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ» ، المعدوم: الفقير، أي: إنك تعطي الفقير من المال حتى يكون عنده شيء.
قوله: «وَتَقْرِي الضَّيْفَ» ؛ يعني: تقوم بقِرَى الضيف وإكرامه إذا نزل فتعطيه حقه.
وهذا يدل على قوة ذكاء السيدة خديجة، وعلمها، ووفور عقلها رضي الله عنها وأرضاها.
قوله: «فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى ابْنَ عَمِّ خَدِيجَةَ» ، وإنما ذهبت بالنبي ﷺ إلى ورقة بن نوفل؛ لأن ورقة كان قد تنصر في الجاهلية وكان عنده شيء من علوم وكتب السابقين، وصفة النبي ﷺ موجودة في التوراة والإنجيل، فذهبت به حتى ينظر هل هذه الصفات تنطبق على ما قرأ في الكتب السابقة؟
قوله: «فَيَكْتُبُ مِنْ الإِْنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ» أي متمكن من كتابته بالعبرانية كتمكنه من كتابته بالعربية.
والعبرانية: لغة اليهود، والسريانية: لغة النصارى.
قوله: «هَذَا النَّامُوسُ» والناموس: صاحب السر، والمراد به جبريل عليه الصلاة والسلام، أي أن ورقة بن نوفل قال: هذا الذي جاءك هو صاحب الوحي الذي ينزل على الأنبياء؛ فأنتَ نبي، وآمن به كما سيأتي.
قول ورقة: «يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ» هذا تمنٍّ من ورقة بن نوفل؛ حيث كان شيخًا كبيرًا قد عمي وكبرت سنه، وقربت وفاته، فقال للنبي ﷺ: أنت نبي هذه الأمة، يا ليتني كنت جذعًا حين يخرجك قومك فأنصرك نصرًا مؤزرًا. فتعجب النبي ﷺ، فأخبره ورقة عن السبب، ذلك أنه لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي.
ويروى له في ذلك أبيات، منها:
يا لَيتَني فيها جَذَع | أَخُبُّ فيها وَأَضَع |
فآمن رحمه الله ورضي عنه، ثم توفي بعد ذلك؛ فيكون بذلك من أول من آمن من هذه الأمة، وهو معدود من الصحابة ، وكذلك خديجة رضي الله عنها أول من آمن من النساء.
قول ورقة: «وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا» أي: لو يدركني اليوم الذي يخرجك قومك فلأنصرنك نصرًا مؤزرًا أي: قويًا من الأزر، وهو القوة[(62)]، وهذا تمنٍّ من ورقة .
المتن:
الشرح:
قوله: فَإِذَا الْمَلَكُ الَّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيٍّ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَْرْضِ الملك هو جبريل عليه الصلاة والسلام، فبعد فترة بدء الوحي رأى النبي ﷺ الملك الذي جاءه في غار حراء وهو جبريل مرة أخرى، وكان جالسًا على كرسِيّ بين السماء والأرض على صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح كل جناح يملأ ما بين السماء والأرض، ولقد رآه النبي ﷺ على هذه الصورة مرتين: مرة في الأرض في أول البعثة عند غار حراء، ومرة ليلة المعراج عند سدرة المنتهى لما عرج به ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى جاوز السبع الطباق، كما قال الله تعالى في سورة النجم: نَزْلَةً أُخْرَى [النّجْم: 13] أي: مرة أخرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى [النّجْم: 14-15].
ولقد رأى النبي ﷺ جبريل مرات كثيرة في صور متعددة؛ لأن الملائكة أعطاهم الله القدرة على التشكل والتصور بالصور المختلفة، فأحيانًا كان يأتيه على صورة دحية الكلبي، وكان رجلاً جميلاً، وأتاه مرة على صورة رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، ثم سأل النبي ﷺ عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان وعن الساعة وعن أماراتها، حتى رآه الصحابة رضوان الله عليهم؛ لكن لم يره على صورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين، كما تقدم.
قوله: فَرُعِبْتُ بضم الراء وكسر العين على ما لم يم فاعله ورواها الأصيلي بفتح الراء وضم العين وهما صحيحتان حكاهما الجوهر[(63)] يعني: خفت، من الرعب، وهو الخوف.
قوله: زَمِّلُونِي يعني: غطوني ولفوني بالثياب؛ بسبب الرعب والخوف من هذه الصورة العظيمة، ودثروني وزملوني بمعنى واحد.
وقد صار محمد ﷺ رسولاً بإنزال قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ [المدَّثِّر: 1-2] إلى قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدَّثِّر: 5] وكان قبل ذلك نبيًّا، وذلك عندما أنزل الله عليه: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العَلق: 1-2]، فنُبِّئ ﷺ بـ اقْرَأْ، وأرسل بالمدثر.
والمقصود أن النبي ﷺ لم يؤمر بالإنذار في أول الأمر عندما نزل عليه قول الله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العَلق: 1-4]؛ ولكنه صار نبيًّا بهذه الآية، ثم جلس مدة لم يدع أحدًا حتى انقضت فترة الوحي ـ والتي جاء ما يدل على أنها ثلاث سنين ـ فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ، فأمره الله تعالى بالإنذار فصار بذلك رسولاً إلى الناس؛ لينذرهم ويحذرهم من الشرك ويأمرهم بالتوحيد.
قوله: «تَابَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ وَأَبُو صَالِحٍ وَتَابَعَهُ هِلاَلُ بْنُ رَدَّادٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَقَالَ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ: بَوَادِرُهُ» يعني: أن في رواية يونس ومعمر «ترجف بوادره» بدلاً من «يرجف فؤاده».
ففي الرواية الأولى: «فرجع إلى خديجة يرجف فؤاده» يعني قلبه، وفي هذه الرواية: «ترجف بوادره» ، والبوادر هي اللحمة التي بين المنكب والعنق ـ أي الكتف ـ ويقال: إنها متصلة بالقلب وهي تضطرب عند الفزع، فاضطربت لرعبه ﷺ عند رؤية جبريل في هذه الصورة العظيمة في المرة الأولى عندما عصره وقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ[العَلق: 1]، فقال النبي ﷺ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فغطه ـ أي عصره ـ حتى بلغ منه الجهد ليستعد ويتهيأ لهذا الأمر العظيم الكبير.
وقوله: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، ليس امتناعًا وإنما هو بيان لحاله، يعني ما تعلمت القراءة والكتابة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أميًّا لا يقرأ ولا يكتب، ثم قال له: اقرأ، قال: مَا أَنَا بِقَارِئٍ ثلاث مرات كل مرة يغطه حتى يبلغ منه الجهد؛ حتى يتهيأ لهذا الأمر العظيم، ثم قال له في المرة الثالثة: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العَلق: 1-4].
فحصل للنبي ﷺ شدة عظيمة، وجاء إلى خديجة «يرجف فؤاده» من هول هذا الأمر العظيم الذي فجأه ولم يكن له به عهد، فهدأت خديجة رضي الله عنها من روعه وقالت: «كَلاَّ وَاللَّهِ مَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا» ؛ أي لا تظن أن الله تعالى سيخذلك ويخزيك؛ لأنك متصف بصفات عظيمة من اتصف بها فلا يخزى؛ «لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» .
ثم رآه في المرة الثانية «فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ» وأوحى إليه من كلام الله : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ *قُمْ فَأَنْذِرْ [المدَّثِّر: 1-2] إلى آخر الآيات؛ فصار بذلك رسولاً، ثم تتابع الوحي بعد ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فائدة: وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي: أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين، وبه جزم ابن إسحاق، وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر. وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة».
أي: أن الوحي كان أول الأمر رؤيا يراها النبي ﷺ في النوم، واستمرت مدة الرؤيا ستة أشهر من ربيع الأول الذي بلغ فيه النبي ﷺ سن الأربعين حتى شهر رمضان؛ فكان النبي ﷺ يرى الرؤيا في النوم فتتحقق في النهار مثل فلق الصبح[(64)]، لا يرى رؤيا إلا وتحققت، ثم بعد ستة أشهر نزل عليه جبريل بالوحي.