هذا وكان النبي ﷺ قد طبع على مكارم الأخلاق، وما توارثه من دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام؛ فكان يصل الرحم، ويحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، فكان ﷺ يعين على كل حق، وكل خير، وكل معروف.
يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» النوائب: جمع نائبة، وهي الحادثة والنازلة خيرًا أو شرًّا؛ وإنما قال: «نوائب الحق »؛ لأنها تكون في الحق والباطل، قال لبيد[(65)]:
نَوائِبُ مِن خَيرٍ وَشَرٍّ كِلَيهِما | فَلا الخَيرُ مَمدودٌ وَلا الشَرُّ لازِبُ |
تقول: ناب الأمر نوبة: نزل، وهي النوائب والنوب».
فأضاف النوائب للحق؛ ليخرج نوائب الشر؛ لأن النوائب قد تكون في الشر، فالأمور التي تتعلق بالشر شر، والأمور التي تتعلق بالخير خير.
ومعنى «وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ» أي: النوازل والحوادث التي تنزل بالإنسان من الحقوق التي تجب عليه الخير يعينه ﷺ عليها، مثل ضيف نزل به فيعينه على ضيافته، أو إنسان عنده أرملة فيعينه على نفقتها، أو مظلوم ظُلم فيعينه حتى ينتصر، أو مدين عليه دين فيعنيه ليقضيه.
المتن:
الشرح:
5 قوله: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة: 16] قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ» أي: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان في أول الأمر يجد من التنزيل مشقة وشدة؛ فإذا نزل جبريل بالوحي صار النبي ﷺ يحرك لسانه حرصًا على حفظ الوحي حتى يستقر في ذهنه، وحتى يجتمع في صدره؛ خشية أن ينساه؛ فأنزل الله تعالى عليه: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة: 17]، يعني: جمعه لك في صدرك، وهذا وعد من الله، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة: 18] يعني: فاستمع ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 19] يعني: علينا بعد ذلك أن نجعلك تستحضره، فكان بعد ذلك عليه الصلاة والسلام يستمع وينصت، فإذا انطلق جبريل قرأه ولم يفته ﷺ منه شيء، فيظل محفوظًا مجموعًا في صدره، وهذا من حفظ الله تعالى وإحسانه لنبيه عليه الصلاة والسلام.
وقول الله تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ، أضاف الله تعالى القراءة إليه، وهي قراءة جبريل ؛ لأن الله تعالى تكلم بالوحي وأرسل جبريل بذلك، فجعل قراءة جبريل كأنها قراءة له، وهذا معروف في لغة العرب على عادة العظماء في إسناد ضمائر عبيدهم وأمرائهم إليهم، فكما أن الملوك والرؤساء يسندون ما يفعله عبيدهم وأمراؤهم إليهم؛ فالله تعالى أسند قراءة جبريل إليه على عادة العرب، والقرآن نزل بلغة العرب.
قوله: «فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ» أي: حَرَّك كلٌّ من ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير شفتيه وهو يروي الحديث وهذا يسمى مسلسلاً؛ لكنه هنا ليس مسلسلاً تامًّا؛ لأن المسلسل هو أن يتفق الرواة في صفة من الصفات، كأن يحرك كل واحد من الرواة لسانه، مثلما كان النبي ﷺ يحرك لسانه، فيقول ابن عباس: أنا أحرك لساني كما كان النبي ﷺ يحركه، ثم يأتي سعيد بن جبير فيقول: أنا أحرك لساني كما كان يحركه ابن عباس، ثم يأتي من بعده، وهكذا، ومثل أن يقول الرسول ﷺ حديثًا فيضحك، فيرويه الصحابي فيضحك، ثم يرويه التابعي فيضحك، ثم يرويه تابع التابعي فيضحك، وهكذا، فهذا هو المقصود بالمسلسل، أما هنا فاقتصر الأمر على اثنين فقط من الرواة ابن عباس وسعيد بن جبير؛ فكان مسلسلاً ناقصًا.
المتن:
الشرح:
6 قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ» كان النبي ﷺ أفضل الناس في جميع الصفات؛ فكان أجود الناس، وأكرم الناس، وأشجع الناس، وأتقى الناس لله ، وأعلم الناس به .
وكان جوده ﷺ يتضاعف في رمضان؛ لأن جود ربه سبحانه متضاعف ويتضاعف أكثر في رمضان، فكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن الله جبله على ما يحبه من الصفات.
وكان جود النبي ﷺ يتضاعف أيضًا بسبب مدارسة القرآن؛ لأنه كان يتصل بجبريل ويخالطه، والمخالطة لها تأثير؛ فالمخالِط يتأثر بالمخالَط، وهو ينزل بالوحي من الله فيتأثر بمخالطته وبمدارسته له.
فكان النبي ﷺ أجود ما يكون في رمضان، وذلك حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن في كل ليلة، فكان أحدهما يقرأ و الآخر يستمع حتى يثبت في قلبه ﷺ، وعارضه جبريل القرآن في السنة التي توفي فيها مرتين عليه الصلاة والسلام.
قوله: «فَلَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ» أي: كما أن الريح المطلقة تعم بروحها وخيرها، فكذلك كان جوده عليه الصلاة والسلام متنوعًا يعم جميع أنواع الخير: من بذل العلم، وبذل المال في تبليغ رسالة الله ، وتحمل أثقال الناس، فيأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويطعم الجائع، ويحلم على الجاهل، ويتصدق على المحتاج، ويدعو إلى الله؛ فكان عليه الصلاة والسلام يجود بالعلم وبالمال وبالبدن وبالشفاعة؛ ليشمل جوده جميع أنواع الخير؛ ولهذا قال: «أجود بالخير من الريح المرسلة» ، فينبغي للأمة أن تقتدي به عليه الصلاة والسلام.
المتن:
7 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ الحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّأْمِ فِي المُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ، فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ، فَدَعَاهُمْ فِي مَجْلِسِهِ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، ثُمَّ دَعَاهُمْ وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ، فَقَالَ: أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ أَنَا أَقْرَبُهُمْ نَسَبًا، فَقَالَ: أَدْنُوهُ مِنِّي، وَقَرِّبُوا أَصْحَابَهُ فَاجْعَلُوهُمْ عِنْدَ ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا عَنْ هَذَا الرَّجُلِ، فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ. فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْهُ.
ثُمَّ كَانَ أَوَّلَ مَا سَأَلَنِي عَنْهُ أَنْ قَالَ: كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ، قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا القَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لاَ قَالَ: فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقُلْتُ بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ، وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدَّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا، قَالَ: وَلَمْ تُمْكِنِّي كَلِمَةٌ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئًا غَيْرُ هَذِهِ الكَلِمَةِ، قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيَّاهُ؟ قُلْتُ: الحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالٌ، يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ. قَالَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَقُولُ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَاتْرُكُوا مَا يَقُولُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ وَالصِّلَةِ.
فَقَالَ لِلتَّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ: سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ، فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْلَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ، لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، قُلْتُ فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ، وَسَأَلْتُكَ، هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، فَقَدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ أَشْرَافُ النَّاسِ اتَّبَعُوهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ أَيَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ. وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَذَكَرْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ بِمَا يَأْمُرُكُمْ، فَذَكَرْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَنْ عِبَادَةِ الأَوْثَانِ، وَيَأْمُرُكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالعَفَافِ، فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنَّهُ خَارِجٌ، لَمْ أَكُنْ أَظُنُّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، فَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُ أَنِّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمِهِ.
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ، فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ: سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ، وَ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ، وَفَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الكِتَابِ، كَثُرَ عِنْدَهُ الصَّخَبُ وَارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ وَأُخْرِجْنَا، فَقُلْتُ لِأَصْحَابِي حِينَ أُخْرِجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ. فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِسْلاَمَ.
وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ، صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ، سُقُفًّا عَلَى نَصَارَى الشَّأْمِ يُحَدِّثُ أَنَّ هِرَقْلَ حِينَ قَدِمَ إِيلِيَاءَ، أَصْبَحَ يَوْمًا خَبِيثَ النَّفْسِ، فَقَالَ بَعْضُ بَطَارِقَتِهِ: قَدِ اسْتَنْكَرْنَا هَيْئَتَكَ، قَالَ ابْنُ النَّاظُورِ: وَكَانَ هِرَقْلُ حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ: إِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ حِينَ نَظَرْتُ فِي النُّجُومِ مَلِكَ الخِتَانِ قَدْ ظَهَرَ، فَمَنْ يَخْتَتِنُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ؟ قَالُوا: لَيْسَ يَخْتَتِنُ إِلَّا اليَهُودُ، فَلاَ يُهِمَّنَّكَ شَأْنُهُمْ، وَاكْتُبْ إِلَى مَدَايِنِ مُلْكِكَ، فَيَقْتُلُوا مَنْ فِيهِمْ مِنَ اليَهُودِ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى أَمْرِهِمْ، أُتِيَ هِرَقْلُ بِرَجُلٍ أَرْسَلَ بِهِ مَلِكُ غَسَّانَ يُخْبِرُ عَنْ خَبَرِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَلَمَّا اسْتَخْبَرَهُ هِرَقْلُ قَالَ: اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ، فَنَظَرُوا إِلَيْهِ، فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ، وَسَأَلَهُ عَنِ العَرَبِ، فَقَالَ: هُمْ يَخْتَتِنُونَ، فَقَالَ هِرَقْلُ: هَذَا مُلْكُ هَذِهِ الأُمَّةِ قَدْ ظَهَرَ. ثُمَّ كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى صَاحِبٍ لَهُ بِرُومِيَةَ، وَكَانَ نَظِيرَهُ فِي العِلْمِ، وَسَارَ هِرَقْلُ إِلَى حِمْصَ، فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ حَتَّى أَتَاهُ كِتَابٌ مِنْ صَاحِبِهِ يُوَافِقُ رَأْيَ هِرَقْلَ عَلَى خُرُوجِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَنَّهُ نَبِيٌّ، فَأَذِنَ هِرَقْلُ لِعُظَمَاءِ الرُّومِ فِي دَسْكَرَةٍ لَهُ بِحِمْصَ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَبْوَابِهَا فَغُلِّقَتْ، ثُمَّ اطَّلَعَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، هَلْ لَكُمْ فِي الفَلاَحِ وَالرُّشْدِ، وَأَنْ يَثْبُتَ مُلْكُكُمْ، فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ؟ فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ إِلَى الأَبْوَابِ، فَوَجَدُوهَا قَدْ غُلِّقَتْ، فَلَمَّا رَأَى هِرَقْلُ نَفْرَتَهُمْ، وَأَيِسَ مِنَ الإِيمَانِ، قَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ مَقَالَتِي آنِفًا أَخْتَبِرُ بِهَا شِدَّتَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْتُ، فَسَجَدُوا لَهُ وَرَضُوا عَنْهُ، فَكَانَ ذَلِكَ آخِرَ شَأْنِ هِرَقْلَ رَوَاهُ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَيُونُسُ، وَمَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
الشرح:
7 قوله: «فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ» «مادَّ» أي: صالح، يعني: بذلك المدة التي عقد فيها الصلح بين رسول الله ﷺ وبين كفار قريش في صلح الحديبية، وكان أبو سفيان إذ ذاك مشركًا على دين قومه، وكان هو القائد لجيوش قريش بعدما قُتل صناديد قريش، وهذه المدة كانت في السنة السادسة من الهجرة، ووقع فيها الصلح بين النبي ﷺ وبين قريش على أن تضع الحرب أوزارها عشر سنين، ويعرف هذا الصلح بصلح الحديبية، وكان فيه غضاضة على المسلمين، ولكن النبي ﷺ قَبِل الشروط التي فيها غضاضة؛ لأنه يأتمر بأمر الله ، والله تعالى يعلم ما في هذا الصلح من الخير؛ ولهذا سماه فتحًا، قال تعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِيناً [الفَتْح: 1]، وسئل النبي ﷺ: أفتح هو؟ قال: نعم [(66)]؛ لأن النبي ﷺ لما عقد الصلح بين المسلمين وبين الكفار أمن الناس، ووضعت الحرب أوزارها، واختلط المشركون بالمسلمين وسمعوا القرآن، وتفرغ النبي ﷺ للكتابة لأمراء القبائل والعشائر، وفتحت خيبر، ثم بعد ذلك نقضت قريش العهد فغزاهم النبي ﷺ في مكة بعد سنتين.
وكان من الشروط التي فيها غضاضة على المسلمين: أن من جاء من قريش مسلمًا يرد إليهم، ومن جاء من المسلمين إلى كفار قريش مرتدًّا لا يرد إليهم، فقبل النبي ﷺ هذه الشروط على ما فيها من الغضاضة.
وقد شق ذلك على بعض الصحابة؛ فقال عمر : يا رسول الله، ألسنا على الحق؟ أليسوا هم على الباطل؟ فلماذا نعطي الدنية في ديننا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إِنِّي عَبدُ اللَّهِ رَسُولُهُ، وَلَنْ يُضَيِّعَنِي [(67)].
وفي هذه المدة التي فيها الصلح سافر أبو سفيان إلى الشام في تجارة وكان معه بعض أصحابه من قريش، وفي تلك الأثناء جاء إلى هرقل كتاب رسول الله ﷺ يدعوه فيه إلى الإسلام، فلما قرأ هرقل الكتاب، قال: هل هنا أحد من العرب؟ قالوا: نعم، فإذا أبو سفيان وجماعته، فقال: عليَّ بهم، فأدخلوا عليه، «فَأَتَوْهُ وَهُمْ بِإِيلِيَاءَ» ، يعني أتوا هرقلَ، وإيلياء: مكان بالشام.
قوله: «وَدَعَا بِتَرْجُمَانِهِ» والترجمان هو: الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة، وفيه ثلاث لغات: تَرجَمان بفتح التاء والجيم، وتُرجُمان بضمهما، وتَرجُمان بفتح التاء وضم الجيم، وقال بعضهم: هناك لغة رابعة: تُرجَمان بضم التاء وفتح الجيم.
وعلى هذا تكون اللغات أربع: تَرجَمان وتُرجُمان وتَرجُمان وتُرجَمان، لكن اللغة الرابعة فيها كلام.
فقال هرقل ـ بواسطة الترجمان ـ لما دخل عليه أبو سفيان وأصحابه: «أَيُّكُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا بِهَذَا الرَّجُلِ؟» فقال أبو سفيان: أنا، فقال: قدموه فتقدم، وقال هرقل لأصحابه بواسطة الترجمان: اجلسوا خلفه، ثم قال: إني سوف أسأل هذا الرجل أسئلة، فإذا كذب علي فكذبوه.
قوله: «فَوَاللَّهِ لَوْلاَ الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ» فهو يتحاشى الكذب وهو كافر في ذلك الوقت، ويقول: لولا الحياء أن يأثر الناس، ويتحدث الناس في مكة وبين قومه أنه يكذب لكذب، فإذا كان كافر يتحاشى الكذب، فكيف يليق بمسلم أن يكذب وقد مَنَّ الله عليه بالإيمان؟! والله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التّوبَة: 119] أي: في الأقوال والأعمال والاعتقادات.
وهذه الأسئلة التي سألها هرقل لأبي سفيان تدل على كبر عقله وأن لديه شيئًا من علوم الأنبياء السابقين.
واستدل هرقل بهذه الأسئلة التي وجهها لأبي سفيان وأجوبة أبي سفيان عنها أن محمدًا ﷺ نبي، وقال: إني كنت أعلم أنه نبي وأنه سيخرج، وما كنت أظن أنه سيخرج فيكم، فما كنت أظن أنه من العرب، ولكن لو أستطيع لذهبت إليه، وغسلت عن قدميه.
فما قاله هرقل دليل على أنه أراد أن يسلم في أول الأمر لكنه شحَّ بملكه، وآثر الدنيا والرياسة على الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فبقي على كفره، كما سيأتي.
قوله: «كَيْفَ نَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ» هذا سؤال من هرقل وجواب من أبي سفيان، وسيأتي أن هرقل استدل بهذا السؤال وجوابه على نبوة محمد ﷺ؛ لأن الأنبياء تبعث في أنساب قومها؛ فلم يُبعث نبيٌّ مغموص في نسبه، كما استدل هرقل على نبوة محمد ﷺ من خلال باقي الأسئلة التي سألها لأبي سفيان: «فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ مِنْكُمْ أَحَدٌ قَطُّ قَبْلَهُ؟» ، «فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟» ، «فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟» ، «أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟» ... إلى آخر الأسئلة.
قوله: «فِي مُدَّةٍ قَالَ» يعني: مدة الصلح.
قوله: «لاَ نَدْرِي مَا هُوَ فَاعِلٌ فِيهَا» ، أي نحن في عهد لا ندري ماذا يفعل فيه؟ هل يستمر في عهده معنا بالصلح، أم سينقض العهد والصلح؟ يقول أبو سفيان: هذه الكلمة التي استطعت أن أتنفس فيها.
قوله: «تُمْكِنِّي» بالتاء الفوقانية المضمومة، والميم الساكنة والكاف المكسورة.
قوله: «يَنَالُ مِنَّا وَنَنَالُ مِنْهُ» ، تفسير السِّجال؛ فالسجال: يعني مرة نغلبه ومرة يغلبنا، فمرة ننتصر عليه ومرة ينتصر علينا.
واستدل هرقل ـ كما سيأتي ـ بهذا السؤال وجوابه كذلك على نبوة محمد ﷺ ؛ لأن الأنبياء تكون العاقبة الحميدة لهم.
وقد أعاد هرقل الأسئلة والأجوبة مرة ثانية، وقال لترجمانه: قل لأبي سفيان: «سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فَذَكَرْتَ أَنَّهُ فِيكُمْ ذُو نَسَبٍ فَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا» ، أي: في أحساب قومها؛ فكل الأنبياء أشراف، وليس هناك نبي يبعث مغموصًا في نسبه؛ لأن هذا يوجب الطعن في نبوته، والأنبياء ليس فيهم مطعن.
وقوله: «لَوْ كَانَ أَحَدٌ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَسِي بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ» يعني: لو كان أحد مثله ادعى هذه الدعوى لقلنا: يقتدي بمن قبله، وهذا الاستنتاج والاستدلال يدل على كبر عقل هرقل.
قوله: «فَلَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ أَبِيهِ» أي: لو كان آباؤه ملوكًا لقلنا: رجل يطلب ملك أبيه، فلما لم يكن آباؤه ملوكًا دل على أنه نبي.
ولما سأل هرقل أبا سفيان: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يدعي النبوة؟ فأجابه أبو سفيان: لا؛ فالنبي ﷺ كان يسمى الصادق الأمين قبل النبوة. فهنا قال هرقل: لا يمكن أن يترك الكذب على الناس ثم يكذب على الله، فهذا مستحيل، وهذا استنتاج عظيم من هرقل استدل به على نبوة محمد ﷺ.
كما استدل هرقل على نبوة محمد ﷺ عندما سأل أبا سفيان: هل أشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فأجابه أبو سفيان: بل ضعفاؤهم؛ لأن الضعفاء هم أتباع الأنبياء في الغالب؛ لأنهم ليس عندهم ما يمنعهم من الإيمان، بخلاف الرؤساء والأغنياء تمنعهم رياستهم وشهواتهم من الإيمان؛ لأنهم لا يريدون أن يضحُّوا بشهواتهم ورئاساتهم ومناصبهم، فيستكبرون عن الإيمان. كما قال الله تعالى عن قوم نوح: قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاء: 111-112].
ومن الضعفاء الذين اتبعوا النبي ﷺ من السابقين الأولين بلال وصهيب وعمار بن ياسر وغيرهم ، ومن الأشراف الذين اتبعوا النبي ﷺ من السابقين الأولين أبو بكر .
قوله: «وَكَذَلِكَ أَمْرُ الإِْيمَانِ حَتَّى يَتِمَّ» ، يعني: يزيد شيئًا فشيئًا حتى يتم.
فالإيمان إذا خالطت بشاشته القلب وتذوق القلب حلاوته فإنه يقبله ولا يسخطه؛ فلا يرتد بعد أن يدخل فيه.
وفي آخر النقاش قال هرقل مخاطبًا أبا سفيان: «فَإِنْ كَانَ مَا تَقُولُ: حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ»، أي يفتح بلاد الروم، وقد وقع ذلك ففتحت بلاد الروم، وجيء بكنوز كسرى وقيصر في زمن عمر بن الخطاب .
فهرقل يعرف أنه نبي، وأن هذا زمانه، والعلامات كلها واضحة فيه، لكن قال: ما كنت أظن أنه عربي وأنه سيخرج من العرب.
قوله: «ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ، هذا الكتاب كتاب مختصر جمع المعاني الغزيرة في ألفاظ وجيزة؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أُوتي جوامع الكلم، واختصرت له الحكمة اختصارًا.
بدأ الكتاب بقوله ﷺ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، ويعلم منه أن الأصل في الرسالة أن يكتب المُرسل اسمه أولاً فيقول: من فلان إلى فلان، والآن غلب في الرسائل أن يكتب المرسل اسمه آخر الكتاب ولا بأس به، لكن الأول أولى.
وسمي هرقل: عَظِيمِ الرُّومِ؛ لأنه ملكهم، وقال ﷺ: مِنْ مُحَمَّدٍ رسول الله؛ لأن الله تعالى أرسله إلى جميع الناس إنسهم وجنهم؛ فهو عليه الصلاة والسلام يبلغ رسالة ربه.
ثم قال: سَلاَمٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى وفيه: أن الكافر لا يلقى السلام عليه، فكتاب المسلم إلى مسلم يبدأ فيه بـ«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، وكتاب المسلم إلى كافر يبدأ فيه بـ«سلام على من اتبع الهدى».
قوله: أَمَّا بَعْدُ وهي كلمة تشرع في الخطب والرسائل، وكان النبي ﷺ إذا خطب يقول: أَمَّا بَعْدُ فهي تشرع بعد: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ لبدء الكلام في موضوع الخطبة أو الرسالة، وهي أفضل من قول بعضهم: «وبعد».
وقد اختلف في أول من قالها، فقيل: داود عليه الصلاة والسلام، وهي «فصل الخطاب» الذي أُوتيه في قوله تعالى: وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ [ص: 20]، وقيل غيره.
والمقصود أن النبي ﷺ كان يستعمل «أما بعد» في خطبه وفي رسائله، فكان في خطب الجمعة يقول: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا [(68)].
قوله: أَسْلِمْ تَسْلَمْ، هذه دعوة؛ أي أسلم تسلم من العذاب في الدنيا ومن العقوبة في الآخرة؛ فتسلم من الغزو والجهاد في الدنيا، فلا يجاهدك المسلمون ولا يقاتلونك، وتسلم من عذاب النار في الآخرة.
قوله: يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ؛ لأنه من أهل الكتاب؛ حيث آمن برسوله السابق وآمن بمحمد ﷺ، كما قال الله في آخر سورة الحديد: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحَديد: 28].
وقد جاء في الحديث: ثَلاَثَةٌ لَهُمْ أَجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ، آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالعَبْدُ المَمْلُوكُ إِذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقَّ مَوَالِيهِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا، وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا [(69)]، فهؤلاء الثلاثة كل واحد منهم يعطى أجره مرتين: رجل آمن من أهل الكتاب يؤتى أجره مرتين؛ لأنه آمن بنبيه السابق وآمن بمحمد ﷺ، والمولى: أي العبد الذي يقوم بحق الله وحق سيده يؤتى أجره مرتين، والمسلم إذا كان عنده أَمَة أدبها وأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها يؤتى أجره مرتين.
قوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتَ، أي أعرضت عن الإسلام.
قوله: فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَْرِيسِيِّينَ الأريسيين: جمع أريس، وهو الفلاَّح، وسموا فلاحين لأنهم كانوا في الغالب يستعملون الحرث والزراعة، أي عليك إثم الضعفاء والأتباع، وقيل: المراد بالأريس: الأمير، والمراد: أمراء الأقاليم وغيرهم تبع لهم.
والمعنى: إن توليت فإن عليك إثم الرعية؛ أتباعك الذين تبعوك في الكفر تقليدًا لك، وهذا فيه تخويف ووعيد.
قوله: يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. [آل عِمرَان: 64].
وأمر هرقل بأن يقرأ هذا الكتاب، فقرئ وسمعه الروم وعظماؤهم وغيرهم؛ فحصل لغط وضجيج وأصوات مختلفة، واختلف هرقل مع عظماء الروم، وأُخرج أبو سفيان ومن معه؛ فقال أبو سفيان لأصحابه: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه يخافه ملك بني الأصفر.
قوله: «أَمِرَ أَمْرُ» ، أي: عظم أمره.
قوله: «ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ» يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام؛ فقد كانت قريش تنسب النبي ﷺ إلى جد غامض من قِبل أبيه أو من قِبل أمه من الرضاع احتقارًا له، وهذا من شدة عداوة الكفار للنبي ﷺ؛ فهم لا ينسبونه إلى أبيه، ولا ينسبونه إلى جده، فلا يقولون: محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب؛ بل ينسبونه إلى جد غامض بعيد لا يعرف من باب الاستهانة، ومن ذلك أن بعض المبتدعة النفاة في العصر الحاضر ينسبون ابن القيم إلى جد غامض أسوة بالمشركين، فيسمونه ابن الزفيل، ومنهم حسن السَّقّاف، الذي يؤول الصفات على طريقة الجهمية، وهو الآن في الأردن، له مؤلفات في تأويل الصفات يرد فيها على ابن القيم، ويقول: قال ابن الزفيل كذا؛ من شدة كراهته له، وهذا الداء داء قديم؛ ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ.
قوله: «إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَْصْفَرِ» وهو ملك الروم والنصارى، وقال ذلك لأنه حصل لغط وضجيج وكلام واختلاف من أجل محمد ﷺ، فعجب من أمره ﷺ وكيف يخافه ملك هذه الدولة العظيمة ويخشاه.
ثم قال أبو سفيان: «فَمَا زِلْتُ مُوقِنًا أَنَّهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ عَلَيَّ الإِْسْلاَمَ» ، وفي لفظ: «وأنا كاره» [(70)].
قوله: «وَكَانَ ابْنُ النَّاظُورِ صَاحِبُ إِيلِيَاءَ وَهِرَقْلَ» .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وكان ابن الناطور» هو بالطاء المهملة، وفي رواية الحموي بالظاء المعجمة».
ففيه روايتان: «الناطور» و «الناظور» : بالطاء والظاء، لكن المقدم الطاء.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهو بالعربية حارس البستان، ووقع في رواية الليث عن يونس «ابن ناطورا» بزيادة ألف في آخره، فعلى هذا هو اسم أعجمي».
قوله: «سُقُفًّا» بكسر القاف المشددة في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: «سُقُفا» بضم أوله وثانيه.
والبطارقة والسُّقُف كلها أسماء لرؤساء النصارى.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: « «سُقُفًّا» بضم السين والقاف كذا في رواية غير أبي ذر، وهو منصوب على أنه خبر كان، و «يحدث» خبر بعد خبر. وفي رواية الكشميهني «سُقِّف» بكسر القاف على ما لم يسم فاعله، وفي رواية المستملي والسرخسي مثله لكن بزيادة ألف في أوله، والأسقف والسقف لفظ أعجمي ومعناه رئيس دين النصارى، وقيل: عربي، وهو الطويل في انحناء».
قوله: «حَزَّاءً يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ» أي: منجم ينظر في النجوم، وكان يقرأ في كتب السابقين وعنده علم منها.
وقوله: «اذْهَبُوا فَانْظُرُوا أَمُخْتَتِنٌ هُوَ أَمْ لاَ فَنَظَرُوا إِلَيْهِ فَحَدَّثُوهُ أَنَّهُ مُخْتَتِنٌ» .
وذلك أن هرقل كان حزاء ينظر في النجوم، فقال: ظهر ملك الختان، فقال له قومه: ما أحد يختتن إلا اليهود؛ فلا يهمنك شأنهم، وأرسل لهم من يقتلهم، فبينما هم يتحدثون جاءهم شخص من العرب، فقال: اكشفوا عنه؛ لتنظروا أمختتن هو، فكشفوا عن مؤتزره ليروا فرجه -وكانوا لا يبالون- فوجدوه مختتنًا، فقال: إن العرب كلهم يختتنون؛ فعرفوا أن الملك في العرب لا في اليهود.
قوله : «فَلَمْ يَرِمْ حِمْصَ» يعني: ما جاوزها.
قوله: «فَتُبَايِعُوا هَذَا النَّبِيَّ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: « «فتبايعوا» بمثناة وموحدة، وللكشميهني بمُثناتين وموحدة ـ أي: فتتابعوا، وللأصيلي: «فنبايع» بنون وموحدة، «لهذا النبي» كذا لأبي ذر وللباقين بحذف اللام».
وعلى هذا ففيها روايات: «فتبايعوا» ، و «فتتابعوا» ، و «فنبايع» .
والمعنى على رواية «فُتتَابِعُوا» : تتبعوه على دينه، وعلى رواية «فتبايعوا» : تبايعوه.
وفي الحديث: أن هرقل أراد أن يسلم فجمع دساكرته وعظماء الروم في دسكرة له في قصر وجلسوا في أمكنتهم التي يعتادونها فأراد أن يختبرهم، فإن استجابوا وأسلموا أسلم، فهذه كانت نيته ـ والله أعلم ـ ثم احتاط لنفسه فأمر بالأبواب فغلقت وأخذ مفاتيحها وجعلها عنده قبل أن يتكلم، واطلع عليهم من فوق ـ وهذه عادة العظماء يجلسون في أمكنتهم على كراسيهم فوق الناس ـ ثم قال هرقل: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح وأن يثبت ملككم مع ما ادخر الله من الأجر العظيم والثواب الجزيل في الآخرة؛ فلتتبعوا هذا النبي وتبايعوه، فإنه نبي هذا الوقت ونبي هذه الأمة وهذه هي أوصافه عندكم وهذه هي علاماته كلها واضحة مثل الشمس لا يخفى عليكم؛ فإنكم علماء تقرءون الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل وتعرفونه كما تعرفون أبناءكم.
قوله: «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الْوَحْشِ» ، الحمر: جمع حمار.
والمعنى: أن الدساكرة سمعوا كلام هرقل؛ فحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب يريدون أن يخرجوا ثم يقتلوه؛ لأنه ترك دينه، فوجدوا الأبواب قد أغلقت ولا حيلة لهم في الخروج؛ فإنه احتاط لنفسه.
فلما رأى نفرتهم وأنهم نفروا من الحق، وأيس منهم وأنه لا حيلة فيهم قال: «رُدُّوهُمْ عَلَيَّ» وقال: اجلسوا، فجلس كل منهم مكانه، فاطلع عليهم مرة أخرى وقال: إنما قلت هذا الكلام لأختبر شدتكم على دينكم وثباتكم عليه وصبركم عليه، وقد ظهر لي الآن أن عندكم ثباتًا وصبرًا على دينكم؛ فسجدوا له ورضوا عنه. وهذا آخر أمره.
فبخل وشح بملكه وقدمه على الإيمان ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ فإنه كاد أن يسلم لكن الله لم يرد ذلك.
وروي أن هرقل جعل كتاب النبي ﷺ في كذا وكذا؛ أي في شيء مذهَّب، واعتنى به، ولم يكن مثل كسرى ملك الفرس لما جاءه كتاب النبي ﷺ مزقه فدعا عليه النبي ﷺ وقال: اللَّهُمَّ مَزِّقْهُ كُلَّ مُمَزَّقٍ [(71)]؛ فمزق الله ملكه، أما هرقل فقد عظم كتاب النبي ﷺ ولم يمزقه؛ فبقي ملكه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح: «ذكر السهيلي أنه بلغه أن هرقل وضع الكتاب في قصبة من ذهب تعظيمًا له، وأنهم لم يزالوا يتوارثونه حتى كان عند ملك الفرنج الذي تغلب على طليطلة، ثم كان عند سبطه، فحدثني بعض أصحابنا أن عبد الملك بن سعد أحد قواد المسلمين اجتمع بذلك الملك فأخرج له الكتاب، فلما رآه استعبر وسأل أن يمكنه من تقبيله فامتنع. قلت: وأنبأني غير واحد عن القاضي نور الدين بن الصائغ الدمشقي قال: حدثني سيف الدين فليح المنصوري قال: أرسلني الملك المنصور قلاون إلى ملك الغرب بهديةٍ، فأرسلني ملك الغرب إلى ملك الفرنج في شفاعة فقبلها، وعرض علي الإقامة عنده فامتنعت، فقال لي: لأتحفنك بتحفةٍ سنية، فأخرج لي صندوقًا مصفحًا بذهبٍ، فأخرج منه مقلمة ذهب، فأخرج منها كتابًا قد زالت أكثر حروفه وقد التصقت عليه خرقة حرير فقال: هذا كتاب نبيكم إلى جدي قيصر، ما زلنا نتوارثه إلى الآن، وأوصانا آباؤنا أنه ما دام هذا الكتاب عندنا فلا يزال الملك فينا، فنحن نحفظه غاية الحفظ ونعظمه ونكتمه عن النصارى ليدوم الملك فينا».
ومناسبة ذكر هذا الحديث في كتاب بدء الوحي أنه لما أوحى الله إلى النبي ﷺ أن يقوم فينذر كتب إلى هرقل ينذره ويحذره ويأمره بالتوحيد؛ وذلك تبليغًا منه ﷺ للرسالة.
قال العيني: «ما قيل إن قصة أبي سفيان مع هرقل إنما كانت في أواخر عهد البعثة؛ فما مناسبة ذكرها لما ترجم عليه الباب وهو كيفية بدء الوحي؟ وأجيب بأن كيفية بدء الوحي تعلم من جميع ما في الباب، وهو ظاهر لا يخفى».
فكيفية بدء الوحي أن الله تعالى نبأه بـاقْرَأْ وأرسله بـالْمُدَّثِّرُ.