(97)كِتَاب التَّوْحِيدِ
كِتَاب التَّوْحِيدِ
مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
}7371{ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ.
}7372{ وحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَْسْوَدِ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَيْفِيٍّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى؛ فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ؛ فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ؛ فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِ النَّاسِ».
}7373{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ وَالأَْشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، سَمِعَا الأَْسْوَدَ بْنَ هِلاَلٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا. أَتَدْرِي مَا حَقُّهُمْ عَلَيْهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَنْ لاَ يُعَذِّبَهُمْ».
}7374{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَجُلاً سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ».
زَادَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَخْبَرَنِي أَخِي قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}7375{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو، عَنْ ابْنِ أَبِي هِلاَلٍ، أَنَّ أَبَا الرِّجَالِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَدَّثَهُ عَنْ أُمِّهِ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، وَكَانَتْ فِي حَجْرِ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلاً عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لأَِصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «سَلُوهُ لأَِيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟» فَسَأَلُوهُ فَقَال: لأَِنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّه».
ختم البخاري رحمه الله كتابه بالتوحيد؛ لأنه لا يصح الإيمان إلا بالتوحيد فمن كان مؤمنًا بالله ورسوله، وختم حياته بالتوحيد فهو من أهل الجنة والسعادة.
جاء في بعض نسخ صحيح البخاري قول المؤلف رحمه الله: «كتاب رد الجهمية وغيرهم التوحيد» . كتاب مصدر كتب يكتب كتبًا وكتابة وهو من المصادر السيالة التي تأتي شيئًا بعد شيء، والمادة منه تدور على الجمع، ومنه قوله: تكتب بنو فلان إذا اجتمعوا، ومنه الكتيبة لجماعة الخيل، وسميت الكتابة كتابة لاجتماع الكلمات والحروف في مكان واحد، ويقال الكتاب للمعاني الموضوعة في كتاب واحد، فالكتاب هو الذي يجمع موضوعًا واحدًا من العلم وتحته أنواع.
هذا «كتاب رد الجهمية وغيرهم التوحيد» ، وفي نسخة: «كتاب التوحيد» ذكر المؤلف تحته ثمانية وخمسين بابًا، فجمع فيه موضوع التوحيد وتحته هذه الأبواب المتعددة.
والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيدًا إذا وحد الله وأفرده أي: جعله واحدًا منفردًا، وتوحيد الله يكون في ملكه وأفعاله، وسمي توحيدًا لأن الله واحد في ملكه وأفعاله لا شريك له، وهو واحد في ذاته وصفاته لا نظير له، وهو واحد في ألوهيته وعبوديته لا ند له، وهذه هي أنواع التوحيد الثلاثة التي جاء بها القرآن والسنة المطهرة، وهي متلازمة لا ينفك بعضها عن بعض ولا يكفي بعضها عن بعض فلابد للعبد من توحيد الله في ملكه وربوبيته وأفعاله.
وتوحيد الربوبية: هو أن توحد الله في أفعاله بأن تعتقد أن الله هو الرب وغيره مربوب، وأنه هو الخالق وغيره مخلوق، وأنه المالك وغيره مملوك، وأنه مدبِّر وغيره مدبَّر، وهذا النوع من التوحيد أقر به المشركون ولم ينكروه ولم يجحدوه وأقر به جميع طوائف بني آدم إلا من شذ من الدهرية والطبائعيين ومن يقول بالصدفة، فهؤلاء شذوا من المجموعة البشرية وإلا فجميع طوائف بني آدم مقرون بهذا التوحيد، ومع ذلك لم يدخل الكفار في الإسلام؛ لأنهم لم يقروا بلازمه وهو توحيد الألوهية.
وتوحيد الأسماء والصفات: بأن يقر الإنسان بوجود الله وأن الله له الأسماء الحسنى والصفات العلا على ما وردت في الكتاب والسنة، فيقر بأنه العليم القدير السميع البصير الحكيم الخبير الخالق الرازق المدبر المحيي المميت الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر البارئ المصور إلى غير ذلك من الأسماء والصفات.
وتوحيد الألوهية والعبادة: بأن يعتقد الإنسان أن الله هو المعبود بحق، وغيره معبود بالباطل، وأن يفرد الله بجميع أنواع العبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج وبر للوالدين وصلة للرحم وجهاد في سبيل الله، وهذا هو الذي وقعت فيه الخصومة بين الرسل وبين الأمم، وهذا هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره، وهذا هو الذي يدخل العبد في الإسلام ولا يصلح التوحيد والإيمان إلا إذا قام بهذا النوع والتزمه وعمل به، وهو معنى لا إله إلا الله؛ لأن معناها لا معبود بحق إلا الله، وهذا هو الذي افترق الناس من أجله إلى مؤمنين وكفار ومطيعين وفجار وأشقياء وسعداء، ولأجله قامت القيامة وحقت الحاقة ووقعت الواقعة وخلقت الجنة والنار، وهو الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، قال الله تعالى: [النّحل: 36]{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}، وقال سبحانه: [الأنبيَاء: 25]{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *}، فهذا التوحيد هو توحيد الألوهية وهو توحيد العبادة وهو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة، وهو الذي من مات عليه صار من أهل الجنة والسعادة والكرامة، ومن أنكره فهو من أهل النار والشقاوة، ومن أقر بتوحيد الربوبية فإنه يلزمه أن يقر بتوحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات دليل على توحيد الألوهية ووسيلة إليه قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ}، ثم جاء الدليل وهو قوله: [البَقَرَة: 21]{الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *}، وهذا أول الأوامر في القرآن الكريم، فأول الأوامر الأمر بتوحيد الله، قال الله تعالى: [البَقَرَة: 22]{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}.
فهذه أنواع التوحيد الثلاثة، وقد دل عليها استقراء النصوص وتتبعها، وقد يغالط بعض المشركين ويقول: هذا التقسيم لا دليل عليه، حتى بالغ بعض الكفرة وقال: هذا تثليث كتثليث النصارى، ولكن هذه الأنواع كلها مأخوذة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا التقسيم من باب التوضيح، ومن العلماء من جعل التوحيد نوعين:
توحيد المعرفة والإثبات وهو توحيد الربوبية.
وتوحيد الأسماء والصفات، ويقال له: التوحيد العلمي، ويقال له: التوحيد الخبري، ويقال له: التوحيد القولي والاعتقادي، كل هذه أسماء له.
وتوحيد الإرادة والقصد وهو توحيد العبادة والألوهية.
والإمام البخاري ركز على توحيد الأسماء والصفات؛ لأن البدع في توحيد الأسماء والصفات ونفي الأسماء والصفات قد انتشرت، فالمعطلة الذين أنكروا أسماء الله وصفاته وأنكروا كلام الله وقالوا: إن كلام الله مخلوق ـ انتشروا في زمنه أيضا فلهذا ركز على توحيد الأسماء والصفات.
وأما الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله فقد ذكر في كتاب «التوحيد» ستة وستين بابًا، وهو كتاب عظيم لم ينسج على منواله في بابه، سلك فيه مسلك البخاري رحمه الله في التبويب وفي الاستدلال بالنصوص من الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وركز فيه على توحيد العبادة والألوهية؛ لانتشار الشرك في زمنه في عبادة القبور وعبادة الأصنام والأوثان والنجوم والكواكب.
والمشركون السابقون كانوا يقرون بتوحيد الربوبية وكذلك كانوا يقرون بتوحيد الأسماء والصفات، ولكن جاء أنهم أنكروا اسم الله الرحمن، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره»: «والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم؛ فإنه قد وجد في أشعارهم في الجاهلية تسمية الله تعالى بالرحمن... وقال سلامة بن جندب الطهوي:
عجلتم علينا عجلتينا عليكم
وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق[(606)]
وقال الله تعالى: [الرّعد: 30]{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَانِ} من باب العناد والتعنت وإلا فإنهم يثبتون توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن بعض شراح البخاري وقع في تأويل الصفات، وهذا غلط على طريقة الأشاعرة، فإنهم يؤولون كثيرًا من الصفات ويقولون: هي مجاز، وليس في كلام الله ولا كلام رسوله صلى الله عليه وسلم مجاز، بل هو حقيقة، فيؤولون صفة الرضا فيقولون المراد الثواب، ويؤولون الغضب بالعقاب أو يفسرونها بالإرادة التي هي أحد الصفات السبع التي يثبتونها؛ لأن الأشاعرة يثبتون سبع صفات: الحياة والكلام والبصر والسمع والعلم والقدرة والإرادة، هذا المعروف عنهم، وأما ما عدا هذه السبع فإنهم يؤولونها مثل الغضب والرضا والمحبة والاستواء والنزول، فكل هذه يؤولونها بأحد أمرين إما أن يؤولوها بأثر الصفة من النعم والعقوبات فيفسرون الغضب بالانتقام والرضا بالثواب والرحمة بالإنعام، والانتقام أثر من آثار الغضب والثواب أثر من آثار الرضا والإنعام أثر من آثاره، فمثلاً يفسرون [المَائدة: 119]{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} أثابهم، فأولوا الرضا بالثواب. [الفَتْح: 6]{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} يقولون: انتقم منهم، وإذا شرح أحدهم حديث: «لله أرحم بعباده»[(607)] يقول: أنعم عليهم، فهذا تأويل.
وأحيانًا يفسرونها بالإرادة التي هي أحد الصفات السبع فيقولون: [المَائدة: 119]{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ} أراد أن يرضى عنهم [الفَتْح: 6]{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أراد أن يغضب.
فيفسرونها بالإرادة أو يفسرونها بأثر الصفة وهذا غلط فالواجب إثبات الصفات كما يليق بجلاله، وهم فعلوا هذا بشبهات عقلية فالغضب مثلا يفسرونه بالعقوبة، فيقال: لماذا فسرتم الغضب بهذا؟ فيقولون فرارًا من المشابهة: إن قلنا لله غضب والمخلوق له غضب فيكون بهذا قد شابهه، فيقال: وكذلك العقوبة فإن المخلوق له عقوبة وأنتم تثبتون لله العقوبة، فما فررتم منه وقعتم فيه، وتؤولون رحمة الله بالإنعام والمخلوق له إنعام فماذا تقولون؟ إن قلتم: مثل المخلوق وقعتم، وإن قلتم: عقوبة تليق بالله فمن الأول أثبتوا الصفة لله فأثبتوا الغضب على ما يليق بالله وتركوا التأويل الذي فروا منه ووقعوا فيه فيلزمهم فيما فروا إليه مثل الذي فروا منه فهو يلزم كل من أول الصفة.
كيف يثبتها الله سبحانه وتعالى لنفسه والرسول يثبتها صلى الله عليه وسلم ولا تليق به؟! [البَقَرَة: 140]{قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}، فالله تعالى أثبتها لنفسه قال: [المَائدة: 119]{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ}، فهل الشيء الذي يثبته الله لنفسه أو يثبته رسوله صلى الله عليه وسلم نقول عنه: هذا لا يليق به؟
وهذا يدعو المسلم وطالب العلم أن يعض على مذهب أهل السنة بالنواجذ ويحمد الله أن وفقه لمعتقد أهل السنة والجماعة فإن علماء كبارًا كالحافظ وغيره زلوا وغلطوا بسبب أنهم ظنوا أن هذا هو التنزيه وظنوا أن إثباتها فيه تشبيه لله، ولم يوفقوا في زمن الطلب لمن يرشدهم إلى معتقد أهل السنة والجماعة، وظنوا أن هذا هو الحق وهم لم يتعمدوا هذا ولهم أعمال عظيمة وحسنات ونفعوا الأمة، نرجو الله أن يعفو عنهم وأن يغفر لهم ويرحمهم! لكن هذا يدعو طالب العلم إلى العناية بمعتقد أهل السنة والجماعة وأن يحمد الله على ذلك كثيرًا، فهؤلاء العلماء الكبار كالحافظ والنووي والخطابي والكرماني من شراح الحديث وابن التين والداودي وغيرهم وقعوا في هذه الزلات والهفوات وأولوا الصفات وظنوا أن هذا هو الحق بقصد التنزيه لكنهم لم يوفقوا.
قوله: «بَاب مَا جَاءَ فِي دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى» هذا هو الباب الأول وفيه بيان توحيد العبادة والألوهية بأنواعها ثم تأتي الأبواب التي بعده كلها في توحيد الأسماء والصفات.
}7371{، }7372{ قوله: «لَمَّا بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى نَحْوِ أَهْلِ الْيَمَنِ قَالَ لَهُ: «إِنَّكَ تَقْدَمُ» بفتح الدال من قدم يقدم أي: يأتي القوم، وقدم يقدم بضم الدال يعني: يتقدم القوم، ومنه قوله تعالى في فرعون: [هُود: 98]{يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وقدُم يقدُم بمعنى صار قديمًا.
قوله: «عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» فيه: بيان أن الداعية ينبغي له أن يعلم حال المدعوين وأن الداعية لابد له من العلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن داعيًا ومبلغًا لشريعة الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومرشدًا ومفتيًا وقاضيًا وبين له حاله؛ ومعاذ من أعلم الناس بالحلال والحرام، فهو من علماء الصحابة، وقد قال الله تعالى: [يُوسُف: 108]{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}، والبصيرة هي العلم، وقال سبحانه وتعالى: [النّحل: 125]{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقال سبحانه: [فُصّلَت: 33]{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ *}، فالداعية لابد أن يتسلح بالعلم فإن كان جاهلاً فإنه يفسد أكثر مما يصلح، وليس للإنسان أن يدعو وهو لا يعلم، فلابد أن تعلم أن الشيء الذي تدعو إليه من الأوامر التي جاءت بها الشريعة، ولابد أن تعلم أن الشيء الذي تنهى عنه من المحرمات التي نهت عنها الشريعة، لكن الأمور المعلومة من الدين بالضرورة كل إنسان يدعو إليها مثل: وجوب الصلاة ووجوب الزكاة ووجوب الصوم ووجوب الحج، فكل هذه الأمور معلومة من الدين بالضرورة يعلمها الخاص والعام فيدعو إليها المسلم، وكذلك المحرمات المعلوم تحريمها من الدين بالضرورة كتحريم الزنا وتحريم الربا وتحريم شرب الخمر وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم والرشوة وأكل مال اليتيم والغيبة والنميمة والعدوان على النفس في الدماء والأموال والأعراض، فكل هذه أمور محرمة معلوم تحريمها من الدين بالضرورة فينهى عنها الإنسان، أما الأمور الدقيقة التي لا يعلمها الإنسان فليس له أن يدعو حتى يعلم حكمها من الشرع فلابد من العلم بها، وبين سبحانه وتعالى في صفات الرابحين أنهم يعلمون قال سبحانه: [العَصر: 1-2]{وَالْعَصْرِ *إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *}، أي: خسارة [العَصر: 3]{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا}، وليس هناك إيمان إلا بالعلم، فهذا الإيمان مبني على العلم، ولابد أن تعلم حال المدعوين حتى توقع الدعوة موافقة لحالهم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» ، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلمه بحال المدعوين وهو أنهم أهل كتاب، يعني: أهل علم ليسوا جهالاً، أي: فاستعد يا معاذ لمناظرتهم، وتسلح بالعلم حتى تقارع الحجة بالحجة.
قوله: «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى» فيه: البدء بالأهم فالمهم وأن أول ما يدعو به الداعية إذا كان المدعوون كفارًا هو التوحيد، فلا ينهاهم عن شرب الخمر إذا كانوا مشركين ويشربون الخمر أو يتعاملون بالربا أو يفعلون الزنا أو يسرقون، فلا ينفعهم لوتركوا الربا وتركوا الزنا وتركوا شرب الخمر وظلوا على كفرهم؛ لأن فعل الأوامر وترك النواهي لابد أن يرتكز على الإيمان والتوحيد الصحيح، فأول ما يدعى الكفرة إليه هو التوحيد والإيمان، فتوحيد الله والإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم هذا أصل الدين وأساس الملة وتبنى عليه الأعمال.
وفيه: دليل على أن أول واجب هو توحيد الله.
وفيه: الرد على أهل البدع الذين يقولون: إن أول واجب الشك، أي: تشك فيما حولك ثم تنتقل من الشك إلى اليقين، وهذا من أبطل الباطل، وبعضهم قال: إن أول واجب النظر أو القصد إلى النظر، يعني: تنظر وتتأمل ثم تنتقل بعد ذلك إلى اليقين، وهذا أيضًا باطل؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذا، بل قال: «فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَى أَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ تَعَالَى» ، فأول واجب هو توحيد الله تعالى، والرسل عليهم الصلاة والسلام كل واحد منهم دعا قومه إلى التوحيد، ولم يقولوا لهم شكوا ثم انظروا ثم انتقلوا من الشك إلى اليقين، وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله»[(608)] وفي لفظ آخر: «فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله»[(609)] ، والظاهر أن هذا الاختلاف من تصرف الرواة الناقلين عن الصحابة ومعناها واحد، وهذا يدل على أن المراد معنى الشهادة لا مجرد النطق واللفظ بل المراد خلع الأنداد التي تعبد من دون الله وإخلاص العبادة لله بالوحدانية والإقرار لنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة وهي داخلة في شهادة أن لا إله إلا الله إذا أطلقت، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تقبل منه، ومن شهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يشهد أن لا إله إلا الله لم تقبل منه، وإذا ذكرت إحداهما دخلت الأخرى فيها، ولهذا نفى الله تعالى الإيمان عن اليهود والنصارى لما لم يشهدوا لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة وإن كانوا يزعمون أنهم آمنوا بالله وأنهم وحدوا الله فقال سبحانه: [التّوبَة: 29]{قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ *}، فنفى عنهم الإيمان مع أنهم يزعمون أنهم آمنوا بالله؛ لأنهم لم يشهدوا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة.
قوله: «فَإِذَا عَرَفُوا ذَلِكَ» ، يعني: انقادوا ووحدوا الله.
قوله: «فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ» هذا فيه: دليل على أن الصلوات الخمس أفرض الفرائض وأوجب الواجبات بعد توحيد الله عز وجل.
قوله «فَإِذَا صَلَّوْا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً فِي أَمْوَالِهِمْ تُؤْخَذُ مِنْ غَنِيِّهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فَقِيرِهِمْ» هذا هو الركن الثالث من أركان الإسلام، وفيه: أن الزكاة تأتي بعد الصلاة وهي قرينة الصلاة في كتاب الله عز وجل في مواضع متعددة، ولم يذكر الصيام والحج، أما الحج فإن فرضه متأخر، وأما الصيام فقد شرع في السنة الثانية من الهجرة، وليس المراد أن يقتصر على هذه بل المراد أن من وحد الله وأدى الصلوات الخمس وزكى فإن إيمانه وتوحيده يدفعه إلى أن يؤدي بقية الواجبات، فهذه أركان وأسس من استقام عليها وأداها عن إخلاص وصدق ورغبة ورهبة بعثه ذلك ودفعه إلى أن يؤدي بقية الأركان وبقية شرائع الإسلام، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
وفيه: دليل على التدرج في الدعوة وأن الداعية يتدرج شيئا بعد شيء مع المدعوين فيبدأ بالأهم فالمهم، وهذا واضح، والحديث واضح صلته بالترجمة.
فهذا الحديث فيه: بيان التوحيد بأنواعه الثلاثة: توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته.
}7373{ هذا الحديث فيه: بيان حق الله وحق العباد وأن حق الله توحيده سبحانه وهو إخلاص العبادة له سبحانه وعبادته وعدم الإشراك به، وحق العباد أن لا يعذبَهم إذا وحدوه وأخلصوا له العبادة، ولكنْ هناك فرق بين الحقين فحق الله وهو التوحيد والإخلاص وعدم الإشراك به حق واجب لازم ليس للإنسان فيه الخيرة، وهو الأمر الذي خلق الله العباد من أجله قال تعالى: [الذّاريَات: 56]{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} وهو الذي من أجله بعثت الرسل وأنزلت الكتب، قال الله تعالى: [النّحل: 36]{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}. أما حق العباد على الله فهذا حق تفضل وإكرام، تفضل به سبحانه وتعالى وأوجبه على نفسه ولم يوجبه عليه أحد سبحانه وتعالى؛ لأنه ليس فوقه أحد، قال الشاعر[(610)]:
ما للعباد عليه حق واجب
كلا ولا سعي لديه ضائع
إن عذبوا فبعدله أو نعموا
فبفضله وهو الكريم الواسع
والنبي صلى الله عليه وسلم أتى هنا بصيغة الاستفهام لمعاذ: «أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟» ليكون أوقع في نفسه حتى يستعد للجواب، فقال معاذ: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» ، وجاء في «الصحيح» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا معاذ قال: لبيك وسعديك، ثم سار ساعة قال: يا معاذ قال: لبيك وسعديك ثم سار ساعة، قال: أتدري ما حق الله على العباد قال: الله ورسوله أعلم، ثم سار ساعة»[(611)] ثم أخبره وكل هذا ليستعد ويتأمل ويتشوق، وهذا تشريع للأمة كلها، ففيه: إخراج الفائدة مخرج السؤال؛ ليكون أوقع في نفس السامع.
وفيه: دليل على أن الصحابة رضي الله عنهم إذا سألهم النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» وهذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان ينزل عليه الوحي من الله فيخبره الله، أما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فيقال: الله أعلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مات وهو لا يعلم أعمال أمته، قال الله تعالى: [الزُّمَر: 30]{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ *}، وأما الحديث الذي فيه أنه تعرض أعمال الأمة على النبي صلى الله عليه وسلم فيستغفر لمسيئهم ويستبشر بمحسنهم[(612)]، فهذا حديث ضعيف لا يصح، والصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم أعمال أمته؛ ولهذا ثبت في «الصحيح» أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إذا وقف على الحوض يأتي أقوام قد غيروا وبدلوا فيذادون عن الحوض كما تذاد الإبل العطاش فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا رب أمتي أمتي»[(613)] ، وفي لفظ: «أصحابي أصحابي»[(614)] ، وفي لفظ: «أصيحابي أصيحابي»[(615)] فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فلو كان يعلم أعمال أمته ما قيل له: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، وعلى هذا فيقال: إذا سئل الإنسان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: الله أعلم ولا يقول: الله ورسوله أعلم؛ لأن هذا كان في حياته عليه الصلاة والسلام.
وفيه: البشارة للموحدين وأن من مات على التوحيد فهو من أهل الجنة والكرامة وهو سالم من العذاب، فإن مات على توحيد خالص سالم من الشرك والبدع والكبائر دخل الجنة من أول وهلة، فالصادق في توحيده هو الذي لا يصر على معصية ولا على كبيرة بل صدقه وإخلاصه يحرق الشبهات والشهوات فيموت على توحيد خالص، وأما إذا ضعف صدقه وإخلاصه ووجدت الكبائر فهو على خطر من دخول النار والعذاب في القبر، وعلى خطر من الأهوال والشدائد التي تصيبه في موقف القيامة، وهو تحت مشيئة الله كما قال تعالى: [النِّسَاء: 48]{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}، فهو على خطر، فقد يعفى عنه وقد لا يعفى عنه، فقد يعذب في القبر كما في قصة الرجلين في حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم مرعلى قبرين فقال: «إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير» أخبره الله عنهما ثم أتى صلى الله عليه وسلم بجريدة فشقها نصفين وغرز في كل قبر واحدة وقال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا»[(616)] وقد تصيبه أهوال وشدائد في موقف يوم القيامة، وقد يشفع فيه وقد لا يعفى عنه ولا يشفع فيه فيدخل النار، فإذا دخل النار فإنه يطهر بقدر جرائمه ومعاصيه، وقد يطول مكث بعض العصاة، وقد تواترت الأخبار بأنه يدخل النار جملة من أهل المعاصي من أهل التوحيد ماتوا على التوحيد لكنهم ماتوا على كبائر من غير توبة كمن مات على الزنا من غير توبة، ومن مات على السرقة من غير توبة، ومن مات على شرب الخمر من غير توبة، ومن مات على عقوق الوالدين من غير توبة، ومن مات على قطيعة الرحم من غير توبة، فكل هؤلاء يعذبون ولا تأكل النار وجوههم، فهم مؤمنون موحدون مصدقون مصلون ومع ذلك يعذبون بكبائر ماتوا عليها، لكن في النهاية لابد من خروجهم من النار إذا ماتوا على التوحيد وسلموا من الشرك الأكبر والنفاق الأكبر والكفر الأكبر، فلهم الجنة والكرامة في النهاية، ويشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم أربع مرات في كل مرة يحد الله له حدًّا فيخرجهم ويشفع بقية الأنبياء ويشفع الملائكة ويشفع الشهداء ويشفع الأفراد وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته فيقول: «شفعت الملائكة وشفعت النبيون ولم تبق إلا رحمتي وأنا أرحم الراحمين»[(617)] فيخرج قومًا من النار لم يعملوا خيرًا قط يعني: زيادة على التوحيد والإيمان، فإذا تكامل خروج العصاة من الموحدين ولم يبق أحد بعد ذلك أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم لا يخرجون منها أبد الآباد من اليهود والنصارى والوثنيين والشيوعيين والملاحدة والمنافقين، وهؤلاء في الدرك الأسفل منها، كما قال سبحانه وتعالى: [الهُمَزة: 8]{إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ *} يعني: مطبقة مغلقة، وقال سبحانه: [المَائدة: 37]{يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ *}، وقال سبحانه: [البَقَرَة: 167]{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ *}، وقال سبحانه: [الإسرَاء: 97]{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا *}، وقال سبحانه: [النّبَإِ: 23]{لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا *}، والأحقاب هي المدد المتطاولة كلما انتهت حقبة أعقبتها أخرى إلى ما لا نهاية، فإن مات على الشرك الأكبر والكفر الأكبر فلا حيلة فيه ولا تنفعه شفاعة الشافعين ولا ينقذه أحد من عذاب الله ولو افتدى بملء الأرض ذهبا ما نفعه كما قال الله تعالى: [المَائدة: 36-37]{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ *}، أما من مات على توحيد ضعف فيه الإخلاص والصدق حتى أصر على المعاصي فهو على خطر قال سبحانه وتعالى: [الأنعَام: 82]{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ *}، أي: وحدوا الله ولم يخلطوا توحيدهم بشرك فإذا ماتوا على توحيد خالص وصدقوا في توحيدهم وإيمانهم ولم يصروا على كبيرة فلهم الأمن التام والهداية الكاملة، وأما من مات على توحيد ملطخ بالكبائر والمعاصي فهذا له مطلق الأمن ومطلق الهداية، فهو يأمن من الخلود في النار لكن لا يأمن من دخولها فقد يدخلها لكن لا يخلد.
}7374{ هذا الحديث فيه: بيان فضل هذه السورة وهي سورة: [الإخلاص: 1]{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *}.
قوله: «عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَجُلاً سَمِعَ رَجُلاً يَقْرَأُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا» فيه: دليل على أنه لا بأس من تكرار قراءة السورة أو قراءة الآية وتكرارها حتى يتأمل ويتدبر ويخشع؛ ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل الذي يردد هذه السورة.
قوله «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» فيه: القسم على الأمر المهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أقسم وهو الصادق المصدوق وإن لم يقسم، لكنه أقسم لتأكيد الأمر والاهتمام به.
قوله: «إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ» ، يعني: في الفضيلة والأجر والثواب، وليس المراد أنها تعدل ثلث القرآن بأنها تكفي عن القرآن، فلو قرأ الإنسان في صلاته: [الإخلاص: 1]{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} ولم يقرأ الفاتحة لما صحت صلاته، وجاء في الحديث أن: «من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسماعيل»[(618)] وفي الحديث الآخر: «من قالها مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب»[(619)] فلو قالها عشر مرات وعليه رقبة لا تكفي عنه، بل لابد أن يعتق رقبة، ولكن المراد أنها تعدلها في الفضل والأجر لا أن تسقط عنه الرقبة التي في ذمته.
- ووجه كون هذه السورة: [الإخلاص: 1]{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} تعدل ثلث القرآن أن القرآن ثلاثة أنواع:
أحدها: العقيدة في الرب في صفاته وأسمائه وأفعاله وهو الاعتقاد بأن الله هو الأحد الصمد، وذكر في هذه السورة هذا النوع، قال الله تعالى: [الإخلاص: 3-4]{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *}.
ثانيها: أخبار الأمم الماضية والأخبار المستقبلة مما يكون من أشراط الساعة والبعث والجزاء والحساب والجنة والنار.
ثالثها: الأوامر والنواهي وهو حق الله.
وسورة الإخلاص دلت على النوع الأول وهي صفة الرحمن؛ ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن.
}7375{ في هذا الحديث: أن هذا الرجل كان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بـ [الإخلاص: 1]{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} يعني: يقرأ أي: سورة من القرآن ثم يقرأ بعدها: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدل على أنه لا بأس بقراءة سورتين في الركعة أو ثلاث أو أربع.
وفيه: دليل على أنه لا بأس بتكرار السورة الواحدة في الركعتين، أو في كل صلاة.
وفيه: أن ما يفعله بعض الأئمة من قراءة سورة الإخلاص في كل ركعة ثانية من صلاة التراويح في رمضان في بعض البلدان لا حرج فيه؛ أخذًا من قصة هذا الرجل الذي أقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لكن تركها أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعله، والصحابة ما كانوا يفعلونه.
وفيه: أن هذه السورة فيها صفة الرحمن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقره لما سألوه فقال لهم: «لأَِنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ» .
وجاء في سبب نزول هذه السورة أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: انسب لنا ربك؛ فنزلت هذه السورة: [الإخلاص: 1-4]{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} فهي سورة عظيمة اشتملت على هذه الأسماء.
وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *} يعني: قل يا محمد: هو الله أحد سبحانه وتعالى لا نظير له في ذاته ولا في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله، فهو الأحد المنفرد عن غيره.
وقوله: {اللَّهُ الصَمَدُ *} يعني: السيد الذي كمل سؤدده فصمدت إليه الخلائق في حوائجها، وهو صمد في نفسه سبحانه وتعالى كامل لا يحتاج إلى أحد، ولا يحتاج إلى شيء فلا يأكل ولا يشرب وليس له جوف، فهو قائم بنفسه ومقيم لغيره.
وقوله {لَمْ يَلِدْ} يعني: لم يتفرع منه شيء، وقوله: ُ [ گ ء ف! ! ِ يعني: لم يتفرع هو من شيء، فليس له ولد ولا أب تعالى الله بل هو واجب الوجود لذاته سبحانه وتعالى؛ لأن كل شيء يولد فلابد أن يموت والله تعالى هو الحي الذي لا يموت.
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} يعني: ليس له نظير ولا مثيل سبحانه وتعالى، فهذه السورة عظيمة فيها صفة الرحمن، ولهذا كانت هذه السورة تعدل ثلث القرآن.
وقد اشتملت على أسماء: الأحد والصمد، ثم اشتملت على النفي في قوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *} للرد على المشركين الذين نسبوا الولد إلى الله، قال الله تعالى: [الصَّافات: 151-157]{أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ *وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينِ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ *أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ *أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ *فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *}، ففي الآيات محاورة ورد، فالمشركون نسبوا الولد إلى الله فرد الله تعالى عليهم، وقبل أن تأتي الشبهة وقبل أن يأتي الكلام الباطل قال: {أَلاَ إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ} والإفك أسوأ الكذب، يعني: من كذبهم السيئ، [المؤمنون: 91]{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ}، وفي آية أخرى: [الطُّور: 39]{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ *}، وفي آية أخرى: [الزُّمَر: 4]{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاَصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ولو: حرف امتناع لامتناع، فلو أراد الله أن يصطفي شيئًا لاختار أعلى الصنفين، لكن هذا ممتنع على الله، فكيف يصطفي البنات التي هي أدنى الصنفين ويترك البنين؟! {مَا لَكُمْ} إنكار عليهم، {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *}؛ كل هذا من الإنكار عليهم، فمن أعظم الكفر نسبة الولد إلى الله عز وجل، كما قال الله سبحانه وتعالى في الآية الأخرى: [مَريَم: 90-91]{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا *} أي: تكاد السموات تتفطر وتنشق الأرض وتخر الجبال بهذه المقالة وهي نسبة الولد إلى الله، وكل من في السموات والأرض يأتي يوم القيامة معبدًا مقهورًا مذللاً مصرفًا مدينًا لله، تنفذ فيه قدرة الله ومشيئته، فكيف ينسبون الولد إلى الله؟ تعالى الله عما يقولون!
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّه» فيه: إثبات المحبة لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته لا يشابهه أحد من خلقه.
وفيه: الرد على من أنكر المحبة لله من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فالجهمية أنكروا المحبة وقالوا: معناها الفقر، وأنكروا الخلة وقالوا: خليل الله معناها الفقير إلى الله وهذا معنى تشترك فيه جميع المخلوقات حتى الأصنام فهي كلها فقيرة إلى الله، وكذلك أيضا المعتزلة أنكروا المحبة وكذلك الأشاعرة وفسروها بالإرادة قالوا: يعني: يريد أن يحبه فيرجعونها إلى الإرادة التي هي من الصفات السبع التي يثبتونها وهي: الحياة والكلام والبصر والسمع والإرادة والعلم والقدرة، فالمحبة يرجعونها إلى الإرادة، والصواب إثبات المحبة لله عز وجل على ما يليق بجلاله وعظمته لا يشبه فيها سبحانه وتعالى أحدًا من خلقه.
قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى:
[الإسرَاء: 110]{قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}
}7376{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ وَأَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ».
}7377{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عَاصِمٍ الأَْحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ، كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي الْمَوْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَمُرْهَا فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» فَأَعَادَتْ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».
قوله: «بَاب: قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: [الإسرَاء: 110]{قُلْ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَانَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}» فيه: إثبات اسمين من أسماء الرب وهما: الله والرحمن، فالله أعرف المعارف، وجميع الأسماء الحسنى تأتي صفة له، كما قال سبحانه وتعالى في سورة الحشر: [الحَشر: 22-24]{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيمُ *هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ *هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} فلفظ الجلالة يأتي أولا، ثم تأتي بقية الأسماء كالصفات له، حتى قيل: إنه الاسم الأعظم، ولا يسمى به غيره سبحانه وتعالى، والله معناه: كما يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين[(620)]، وبعضهم يقول: الله يعني: إله على وزن فعال ثم حذفت الهمزة وأبدلت بأل وأدغمت اللام في اللام وفخمت فصارت الله.
وكذلك الرحمن، اسم الله لا يسمى به غيره، وهو مشتمل على صفة الرحمة، وكل أسماء الله مشتقة ليست جامدة على الصحيح، بمعنى أن كل اسم مشتمل على صفة، فالله مشتمل على صفة الألوهية، والرحمن مشتمل على صفة الرحمة، والعليم مشتمل على صفة العلم، والقدير مشتمل على صفة القدرة، والحكيم مشتمل على صفة الحكمة، والعلي مشتمل على صفة العلو، وهكذا كل أسماء الله مشتقة مشتملة على الصفات، أما الصفات فلا يشتق منها اسم لله، فمثلاً قوله تعالى: [الأنفَال: 30]{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} لا يشتق لله اسم الماكر، وإنما يقال: يمكر الله بهم مكرًا، وقوله: [الطّارق: 15]{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا *} لا يقال: إن من أسماء الله الكائد.
وأسماء الله نوعان:
النوع الأول: أسماء خاصة به تعالى لا يسمى بها غيره، مثل: الله والرحمن ومالك الملك ورب العالمين وخالق الخلق والضار النافع والمعطي المانع، فهذه أسماء خاصة به لا يسمى بها غيره، ولهذا لما تسمى مسيلمة الكذاب بالرحمن لزمه وصف الكذب، فلا يذكر اسم مسيلمة إلا ويلصق به الكذب، يقال: مسيلمة الكذاب؛ إذ تسمى بالرحمن، فالرحمن خاص بالله.
النوع الثاني: أسماء مشتركة: مثل الحي تطلق على المخلوق وعلى الخالق، والملك يطلق على ملوك الدنيا وهو من أسماء الله، والعزيز وهكذا، وهذه مشتركة.
}7376{ قوله: «لاَ يَرْحَمُ اللَّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ» فيه: إثبات صفة الرحمة لله تعالى، وهذه صفة لا يشتق منها اسم، فلا يقال: من أسماء الله الراحم، بخلاف الاسم فإنه مشتمل على الصفة.
}7377{ هذا الحديث فيه: إثبات الرحمة لله عز وجل والرد على من أنكرها من أهل البدع أو تأولها تأويلاً باطلاً.
وفيه: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم «جَاءَهُ رَسُولُ إِحْدَى بَنَاتِهِ يَدْعُوهُ إِلَى ابْنِهَا فِي الْمَوْتِ» ، يعني: تطلب منه أن يحضر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارْجِعْ إِلَيْهَا فَأَخْبِرْهَا أَنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى» ، وهذا فيه: بيان التعزية، فهذه من ألفاظ التعزية، فإذا أردت أن تعزي شخصًا فقل له: «لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب»، فهكذا عزى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته في ابنها وأمر للرسول أن يقول لها هكذا.
قوله: «فَأَعَادَتْ الرَّسُولَ أَنَّهَا قَدْ أَقْسَمَتْ لَتَأْتِيَنَّهَا» فبر النبي صلى الله عليه وسلم بقسمها، وهذا فيه حسن خلقه عليه الصلاة والسلام.
قوله: «فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، وَقَامَ مَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، فَدُفِعَ الصَّبِيُّ إِلَيْهِ وَنَفْسُهُ تَقَعْقَعُ كَأَنَّهَا فِي شَنٍّ» هذا وصف لحركة خروج الروح، والشن: الجلد اليابس.
قوله: «فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» ، أي: فاضت عينا النبي صلى الله عليه وسلم بالدمع.
قوله: «فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا قَالَ: «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» ، فيه: دليل على أن دمع العين لا يلام عليه الإنسان عند المصيبة، وأنه ليس من النياحة، وإنما الممنوع الصياح والعويل والندب بتعداد محاسن الميت ولطم الخد أو شق الثوب أو نتف الشعر؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ابنه الصغير إبراهيم: «إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون»[(621)] وقال عليه الصلاة والسلام: «إنما يرحم الله بهذا أو يعذب»[(622)] وأشار إلى لسانه، ولما مات أبو سلمة دخل النبي صلى الله عليه وسلم على أهله وقال: «لا تقولوا إلا خيرًا فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون»[(623)] .
ولما أتى النبي صلى الله عليه وسلم نعي الأمراء الثلاثة الذين أرسلهم في غزوة مؤتة: عبدالله بن رواحة، وجعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة رضي الله عنهم جلس على المنبر يعرف في وجهه الحزن عليه الصلاة والسلام ونعاهم إلى الناس[(624)]، فالحزن ودمع العين لا يضر ولا ينافي الصبر، وهذا أكمل مما فعله بعض الناس كما نقل عن الفضيل بن عياض أنه لما مات ابنه جعل يضحك يعني: أنه لم يتأثر[(625)]، فحال النبي صلى الله عليه وسلم أكمل من حاله[(626)]، فيحزن القلب وتدمع العين ولاينافي هذا الصبر، فالصبر حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحبس الجوارح عما يغضب الله، أما كون العين تدمع والقلب يحزن فهذه طبيعة الإنسان وجبلة ورحمة جعلها الله في قلوب عباده.
والشاهد من الحديث قوله: «وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» فيه: إثبات الرحمة لله عز وجل والرد على من أنكرها كالأشاعرة الذين يفسرونها بالإنعام، فيقولون: الرحمة معناها الإنعام فيرحم، أي: ينعم، ويفسرون الرحمن فيقولون في معناه: المنعم. وهذا باطل، فالرحمة غير الإنعام، فالإنعام أثر للرحمة، والرحمن والرحيم اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر، والرحمن لا يسمى به إلا هو سبحانه وتعالى، وأما الرحيم فهو من الأسماء المشتركة كما قال الله سبحانه وتعالى في وصف نبيه صلى الله عليه وسلم: [التّوبَة: 128]{بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ *}.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
[الذّاريَات: 58]{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ *}
}7378{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمَْ».
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:: [الذّاريَات: 58]{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ *}» فيه: إثبات اسمين من أسماء الرب عز وجل، وهما: الرزاق والمتين، والمتين بمعنى القوي وهو دال على القدرة.
}7378{ قوله: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ» ، أصبر بالنصب خبر ما الحجازية، وما تكون حجازية وتكون تميمية فالتميمية لا تعمل، والحجازية تعمل عمل كان فترفع الاسم وتنصب الخبر، وهي هنا حجازية واسمها «أَحَدٌ» ، وخبرها «أَصْبَرُ» .
قوله: «يَدَّعُونَ لَهُ الْوَلَدَ ثُمَّ يُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمَْ» . وجه مطابقة الحديث لآية الترجمة اشتمال الحديث على صفتي الرزق والقوة الدالة على القدرة.
أما صفة القوة فمن قوله: «أَصْبَرُ» ففيه: إشارة إلى القدرة على الإحسان إليهم مع إساءتهم.
وأما صفة الرزق فمن قوله: «وَيَرْزُقُهُمَْ» ففيه: إثبات صفة الرزق.
وفيه: أن من أسماء الله الرزاق.
وفيه: أن المشركين حينما يدعون الولد وينسبونه لله أن هذا يؤذي الله سبحانه وتعالى، لكن لا يلزم من الأذى الضرر؛ لأن الله لا يلحقه ضرر، ولا يضره أحد من خلقه سبحانه وتعالى كما قال سبحانه: [الأحزَاب: 57]{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِيناً *}، وكذلك أيضًا المؤمنون الذين يؤذيهم الكفار بالكلام لا يضرهم ذلك، فلا يلزم من الأذى الضرر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله في الحديث: «أَصْبَرُ» أفعل تفضيل من الصبر، ومن أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى الصبور، ومعناه: الذي لا يعاجل العصاة بالعقوبة، وهو قريب من معنى الحليم، والحليم أبلغ في السلامة من العقوبة، والمراد بالأذى: أذى رسله وصالحي عباده؛ لاستحالة تعلق أذى المخلوقين به لكونه صفة نقص وهو منزه عن كل نقص».
هذا تأويل للحديث ليس بصحيح، فالأذى أذى لله، لكنه سبحانه لا يضره أحد من خلقه فلا يلزم من الأذى الضرر.
ثم قال رحمه الله: «ولا يؤخر النقمة قهرًا بل تفضلاً، وتكذيب الرسل في نفي الصاحبة والولد عن الله أذى لهم فأضيف الأذى لله تعالى للمبالغة في الإنكار عليهم والاستعظام لمقالتهم، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} فإن معناه: يؤذون أولياء الله وأولياء رسوله».
من المعلوم أنه لابد من دليل لإثبات أو نفي الصفة عن الله عز وجل، فقوله: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرُ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ مِنْ اللَّهِ» ، فيه: أن الأذى يكون لله، وفي الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فكيف نؤولها ونقول: الذين يؤذون الله يعني: يؤذون أولياءه المؤمنين؟! فهذا تأويل لا وجه له، وقولنا: لا يأكل ولا يشرب وليس له جوف دليله قوله تعالى: [الأنعَام: 14]{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ}، ولأنه صفة نقص والله تعالى له الكمال قال تعالى: [الشّورى: 11]{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} فإذا أكل أو شرب صار مثل المخلوقات، وهذا أعظم النقص.