شعار الموقع

شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري(97-453)

00:00
00:00
تحميل
180

قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

[الجنّ: 26]{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *}

وَ [لقمَان: 34]{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وَ{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ}

[فَاطِر: 11]{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فُصّلَت: 47]{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ}.

قَالَ يَحْيَى الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.

}7379{ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ، لاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَْرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّهَ».

}7380{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: [الأنعَام: 103]{لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}، وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَقَدْ كَذَبَ وَهُوَ يَقُولُ لاَ يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ.

 

هذا الباب أراد به المؤلف رحمه الله بيان إثبات علم الله تعالى، وهو من صفات ذاته، فذكر المؤلف آيات فيها إثبات العلم لله عز وجل وهي: قوله تعالى: « [الجنّ: 26-27]{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا *}.

وقوله تعالى: « [لقمَان: 34]{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}» .

وقوله تعالى: [النِّسَاء: 166-167]{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا *إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلاَلاً بَعِيدًا *}.

وقوله تعالى: « [فَاطِر: 11]{وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}» .

وقوله تعالى: « [فُصّلَت: 47]{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ}» ، فهذه الآيات الخمس فيها إثبات العلم لله عز وجل.

قوله: «قَالَ يَحْيَى» هو ابن زياد الفراء النحوي المشهور، قال هذا في كتابه «معاني القرآن» قال: «الظَّاهِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا وَالْبَاطِنُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا» فالمعنى أن الله يعلم الظواهر والبواطن ولا يخفى عليه شيء من خلقه.

 

}7379{ قوله: «مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ، لاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَْرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ» يعني: ما تنقص الأرحام وما يكون فيها، وهذا قبل أن يؤمر الملك بنفخ الروح في الجنين، فإذا أمر الله الملك فنفخ فيه الروح سأل ربه فقال: يارب أذكر أم أنثى؟ أشقي أم سعيد؟ ما الرزق؟ ما الأجل؟ فحينئذ يعلم الملك، وقد يعلم الأطباء بعد ذلك، أما قبل ذلك عندما كان نطفة أو علقة أو مضغة قبل أن يخلق وقبل أن ينفخ فيه الروح فلا أحد يعرف هل هو ذكر أو أنثى؟

قوله: «وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّهَ» قال بعضهم: إن هذه المفاتيح الخمس فيها بيان إشارة إلى حصر العوالم، ففي قوله: «لاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَْرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ» إشارة إلى ما يزيد في النفس وينقص، وفي قوله: «وَلاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ» إشارة إلى أنواع الزمان وما فيها من الحوادث، وفي قوله: «وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ» إشارة إلى أمور العالم العلوي، وفي قوله: «وَلاَ تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِلاَّ اللَّهُ» إشارة إلى أمور العالم السفلي، وفي قوله: «وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّهَ» إشارة إلى علوم الآخرة فجمعت الآية أنواع الغيوب، وأزالت جميع الدعاوى التي يدعيها بعض الناس، فعلم الغيب مختص بالله فمن ادعى أن هناك أحدًا يعلم الغيب غير الله فهو كافر؛ لأنه مكذب لله، قال الله تعالى: [النَّمل: 65]{قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ}، وقال: [الجنّ: 26]{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا *} حتى الرسل لا يعلمون إلا ما علمهم الله، وهناك بعض الطوائف الكافرة ينسبون علم الغيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إنه يعلم الغيب، وهي طائفة اسمها الطائفة البريلوية في الهند، وهذا كفر وضلال؛ لأنه تكذيب لله، قال الله تعالى على لسان نبيه: [الأعرَاف: 188]{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ *}.

 

}7380{ قوله: «مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، وَهُوَ يَقُولُ: [الأنعَام: 103]{لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}» هذا الذي ذكرته عائشة رضي الله عنها من كون النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج هو المعتمد الذي دلت عليه النصوص، كحديث أبي ذر في «صحيح مسلم» أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: «نور أنى أراه»[(627)] وفي لفظ: «رأيت نورا»[(628)] ، وفي حديث أبي موسى: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور ـ وفي لفظ: النار ـ لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه»[(629)] وهذا عام، ومحمد صلى الله عليه وسلم من خلقه، ويدل عليه قول الله تعالى: [الشّورى: 51]{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} فالله تعالى كلم نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من وراء حجاب ولم يره؛ لأن الله تعالى يحتجب عن خلقه بحجب كثيرة الله أعلم بها، ولا يستطيع البشر أن يَثْبتوا لرؤية الله في الدنيا؛ ولهذا لما سأل موسى عليه السلام ربه: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} قال الله: {لَنْ تَرَانِي} يعني: في الدنيا فلا تستطيع ببشريتك الضعيفة رؤية الله، {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا} فالجبل تدكدك ولم يثبت لرؤية الله مع صلابته وقوته {فَلَمَّا أَفَاقَ} من الغشية [الأعرَاف: 143]{قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ *}، أي: بأنه لا يراك أحد في الدنيا إلا مات، لكن في الآخرة تبدل الصفات ويُنشِّئ الله المؤمنين تنشئة قوية يثبتون فيها لرؤية الله، ولأن الرؤية نعيم لأهل الجنة، والذي عليه المحققون ما قالته عائشة رضي الله عنها: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم ير ربه ليلة المعراج وإنما رآه بقلبه[(630)].

وقال آخرون من أهل العلم: إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما[(631)] وفي رواية عن الإمام أحمد[(632)]، واختار هذا الهروي[(633)] والقاضي عياض[(634)] والنووي[(635)] وجماعة[(636)]، والصواب أنه لم ير ربه، ويجمع بين الآثار بأن ما جاء عن السلف والصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه أنه رآه بعين قلبه، وما جاء من الروايات أنه لم ير ربه أنه لم يره بعين رأسه، وبهذا تجتمع الروايات ولا تختلف، فما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه ليس فيه تصريح بأنه رآه بعين رأسه، فالمقصود أنه رآه بقلبه[(637)]، وكذلك ما روي عن الإمام أحمد مطلق، وأحيانا يقيد برؤية فيقال: رآه بقلبه[(638)].

- وأما قول عائشة رضي الله عنها: «وَهُوَ يَقُولُ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} » فعائشة استدلت بالآية على نفي الرؤية في الدنيا، وهذا ذهب إليه بعض أهل العلم.

وقال آخرون من العلماء: إن الآية نفت الإدراك وهو الإحاطة، والإدراك أخص من الرؤية، فالرؤية أعم من الإدراك، ونفي الأخص لا يلزم منه نفي الأعم، لأن الإدراك المراد منه الإحاطة، والمعنى أن الله لا يحاط به لكمال عظمته، فإنه يُرى يوم القيامة ولكن لا يدرك فلا يحاط به رؤية كما أن البستان يراه الإنسان ولا يحيط به رؤية، والجبل يراه الإنسان ولا يحيط به، فأنت في الرياض اليوم ترى المدينة لكن لا تحيط بها رؤية، فإذا كانت بعض المخلوقات تُرى ولا يحاط بها رؤية فالخالق أولى وأعظم.

وأما الدليل على نفي الرؤية في الدنيا فدلت عليه نصوص الأحاديث الكثيرة كهذا الحديث.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الحَشر: 23]{السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ}

}7381{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ، حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَقُولُ السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلاَمُ. وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ، السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .

 

هذه الترجمة فيها إثبات اسمين من أسماء الله وهما {السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ}» ، وفي بعض التراجم {السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ}، فيكون في الترجمة إثبات هذه الأسماء؛ لأن المؤلف أراد من سياق آية الحشر [الحَشر: 23]{السَّلاَمُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ} التي ختمت بقوله: [الحَشر: 24]{لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أن الأسماء الحسنى ليست محصورة في عدد معين، فالسلام والمؤمن والمهيمن كلها من أسماء الله.

والسلام معناه: السالم في نفسه من كل نقص وعيب، وهو المسلم لعباده من الآفات، وقيل: السلام الذي سلم المؤمنون من عقوبته، والمؤمن معناه: الذي صدق نفسه أو صدق أولياءه أو صدق رسله، وتصديقه علمه بأنهم صادقون وأنه صادق، وقيل: المؤمن الذي أمن المؤمنون من عقوبته، والمهيمن معناه: الرقيب على كل شيء الحافظ له، والهيمنة القيام على الشيء، فالله تعالى رقيب على كل شيء وحافظ له، وهذه من أسماء الله عز وجل.

}7381{ قوله: «كُنَّا نُصَلِّي خَلْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَقُولُ السَّلاَمُ عَلَى اللَّهِ» ، هذا في أول الهجرة كانوا يقولونه في الصلاة إذا جلسوا للتشهد، وفي لفظ نقول: السلام على الله، السلام على جبريل وميكائيل، السلام على فلان وفلان، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «لا تقولوا: السلام على الله فإن الله هو السلام ومنه السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله»[(639)] فكانوا في أول الإسلام يقولون: السلام على الله، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السلام دعاء بطلب السلامة، والله تعالى ليس فوقه أحد حتى يدعى له بالسلامة، ولا يلحقه نقص ولا عيب ولا آفة سبحانه وتعالى، فكيف يقال: السلام على الله؟! فالله تعالى لا يدعى له، بخلاف المخلوق الناقص فإنه يدعى له، فهو سبحانه الذي يطلب منه السلامة وأن يسلم عباده من الآفات والنقائص.

قوله: «وَلَكِنْ قُولُوا: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ» ، يعني: جميع التعظيمات وجميع أنواع التحيات ملكًا واستحقاقًا.

قوله: «وَالصَّلَوَاتُ» أي: الصلوات الخمس، وقيل: الدعوات لله.

قوله: «وَالطَّيِّبَاتُ» ، أي: الأعمال الطيبة وأقوال الخير كلها لله يتقرب بها إليه، «إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا»[(640)] .

وقوله: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ» ينبغي مراعاة الترتيب، فيأتي أولا تعظيم الله، ثم يأتي بعده السلام على الرسول صلى الله عليه وسلم و «السَّلاَمُ عَلَيْكَ» دعاء وطلب من الله أن يسلم نبيه صلى الله عليه وسلم، وقوله: «أَيُّهَا النَّبِيُّ» هذا فيه دليل على أن نبينا صلى الله عليه وسلم عبد وليس إلها يعبد، فتطلب له السلامة كما استدل بهذا الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله قال في قوله: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ» قال: «تدعو للنبي صلى الله عليه وسلم بالسلامة والرحمة والبركة، والذي يدعى له ما يدعى مع الله»[(641)] ، فهو صلى الله عليه وسلم معبود ناقص يحتاج إلى السلامة، فنسأل ربنا أن يسلمه من الآفات والنقائص والعيوب.

وقوله: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ» هذا استحضار في الذهن «وَرَحْمَةُ اللَّهِ» تدعو له بالرحمة «وَبَرَكَاتُهُ» تدعو له بالبركة، فهو نبي كريم عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يطاع ويتبع ولا يعبد، فليس له من العبادة شيء بل العبادة حق الله.

وقوله: «السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ» تشمل كل عبد صالح في السماء والأرض، فبعدما تسلم على النبي صلى الله عليه وسلم تسلم على نفسك، ثم بعد ذلك تأتي بالشهادة لله بالوحدانية: «أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ» ، يعني: أقر وأعترف بأنه لا معبود بحق إلا الله، «وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» ، أي: أعترف بأن محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم القرشي العربي المكي ثم المدني عبد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو التشهد الأول، ثم التشهد الثاني يصلى فيه على النبي صلى الله عليه وسلم.

والشاهد قوله: «السَّلاَمُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، السَّلاَمُ عَلَيْنَا» فأنت تطلب الدعاء والسلامة للنبي صلى الله عليه وسلم والرحمة والبركة، وتسأل السلامة لك ولكل عبد لله صالح في السماء والأرض، فالله تعالى هو السلام، فهو اسم من أسماء الله عز وجل، ومنه السلام، والسلام دعاء بالسلامة.

 قوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النَّاس: 2]{مَلِكِ النَّاسِ *}

فِيهِ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

}7382{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَقْبِضُ اللَّهُ الأَْرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَْرْضِ؟».

وَقَالَ شُعَيْبٌ وَالزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ مُسَافِرٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ مِثْلَهُ.

 

هذه الترجمة فيها إثبات اسم من أسماء الله وهو اسم الملك، وهذا الاسم من الأسماء المشتركة التي تطلق على الخالق قال تعالى: [النَّاس: 2]{مَلِكِ النَّاسِ *} وقال سبحانه: [الحَشر: 23]{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ}، ويطلق على المخلوق قال في القرآن العظيم: [يُوسُف: 54]{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}. فأسماء الله كما سبق نوعان:

النوع الأول: قسم خاص به لا يسمى به غيره، مثل: الله والرحمن وخالق الخلق ومالك الملك ورب العالمين وذو الجلال والإكرام.

النوع الثاني: قسم مشترك، مثل: الحي والعزيز والملك وما أشبه ذلك، وما ماثل هذه الأسماء فإنها مشتركة تطلق على الله وتطلق على غيره.

}7382{ قوله: «يَقْبِضُ اللَّهُ الأَْرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فيه: إثبات صفة القبض لله، وهي من الصفات الفعلية من كمال قدرة الله وعظمته.

وقوله: «وَيَطْوِي السَّمَاءَ بِيَمِينِهِ» فيه: إثبات اليمين لله وأن لله تعالى يدين يمينًا وشمالاً كما في الأحاديث الأخرى، ولكن كلتا يديه يمين قال تعالى: [المَائدة: 64]{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} وقال تعالى: [ص: 75]{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} فإن الغالب أن الشمال تكون ضعيفة وفيها نقص، أما الله سبحانه وتعالى فيداه كلتاهما يمين في الفضل والشرف وعدم النقص والضعف، بخلاف المخلوق.

قوله: «ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَْرْضِ؟» فيه: إثبات اسم الملك، والشاهد قوله: «أَنَا الْمَلِكُ» وفيه: إثبات الكلام لله وأن الله يتكلم متى شاء.

وفيه: الرد على من أنكر كلام الله، والرد على من قال: إن كلام الله مخلوق من المعتزلة وغيرهم؛ لأن الله يقول هذا بعد موت المخلوقين وبعد موت كل نفس فيها روح، فبعد أن يؤمر إسرافيل بالنفخ في الصور ويصعق الناس ويموتون ولا يبقى في الأرض أحد إلا مات يقول الله: «أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ مُلُوكُ الأَْرْضِ؟» والقول بأن القرآن مخلوق كفر وضلال، فقد كفر العلماء من قال: إن القرآن مخلوق على وجه العموم فقالوا: من قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر[(642)].

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [إبراهيم: 4]{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *}

[الصَّافات: 180]{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *}

[المنَافِقون: 8]{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ}

وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ.

وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَقُولُ جَهَنَّمُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ».

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا».

قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ».

وَقَالَ أَيُّوبُ: وَعِزَّتِكَ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ.

}7383{ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلِّمُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِْنْسُ يَمُوتُونَ».

}7384{ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الأَْسْوَدِ، حَدَّثَنَا حَرَمِيٌّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَزَالُ يُلْقَى فِي النَّارِ» ح.

وقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ مُعْتَمِرٍ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَزَالُ يُلْقَى فِيهَا [ق: 30]{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ *} حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ، فَيَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، ثُمَّ تَقُولُ: قَدْ. قَدْ. بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ وَلاَ تَزَالُ الْجَنَّةُ تَفْضُلُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [إبراهيم: 4]{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *}» ؛ هذه الترجمة كما سبق فيها إثبات اسمين من أسماء الرب عز وجل، ففيها إثبات صفتي العزة لله تعالى والحكمة، وأنه سبحانه عزيز بعزة حكيم بحكمة، وفيها الرد على المعتزلة القائلين: إنه عزيز بلا عزة وحكيم بلا حكمة فأثبتوا لله أسماء بلا صفات.

وهي من الأسماء المشتركة التي يسمى بها الخالق ويسمى بها المخلوق، والله تعالى له الكمال المطلق، فالمخلوق له ما يناسبه والخالق له ما يناسبه من هذا الاسم وهذا الوصف.

قوله: « [الصَّافات: 180]{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *}» في هذه الآية إضافة العزة إلى رب العزة سبحانه وتعالى.

وفي الآية الثالثة: « [المنَافِقون: 8]{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ}» إثبات العزة لله تعالى، أما كيفية اتصاف الرب بها فلا يعلم الكيفية إلا هو سبحانه وتعالى كما قال الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول، وهذا يقال في جميع الصفات فمعناها معلوم فالعزة معناها القوة والقهر والغلبة، وأما كيفية اتصاف الرب بها فهي مجهول لنا والإيمان بها واجب والسؤال عن الكيفية بدعة.

قوله: «وَمَنْ حَلَفَ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ» يعني: لا بأس أن يحلف الإنسان بعزة الله؛ لأنها من صفاته كما ساق المؤلف الأدلة.

قوله: «وَقَالَ أَنَسٌ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَقُولُ جَهَنَّمُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ»» ، هذا الحديث مختصر من حديث طويل، فالبخاري رحمه الله يقطع الأحاديث حتى يستشهد ويستدل بها على تراجمه التي يبوبها وعلى الأحكام التي يستنبطها ويأتي بالأدلة، وهذا الحديث جاء في موضع آخر ساقه المؤلف بطوله، وهنا أتى بموضع الشاهد والحديث من أوله: «لا تزال جهنم تلقى فيها وهي تقول: هل من مزيد حتى يضع فيها رب العزة قدمه فتقول: قط قط وعزتك»[(643)] .

قوله: «قَطْ قَطْ» يعني: يكفي يكفي، يعني: امتلأت وفي لفظ: «حسبي حسبي»[(644)] .

قوله عن جهنم أنها تقول: «وَعِزَّتِكَ» هذا هو الشاهد أن جهنم أقسمت بعزة الله، فالواو واو القسم.

قوله: «وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «يَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ آخِرُ أَهْلِ النَّارِ دُخُولاً الْجَنَّةَ» يعني: آخر الناس خروجًا من النار وآخر أهل الجنة دخولاً فيها، وهو حديث طويل ساقه المؤلف رحمه الله في موضع آخر بطوله، وذلك أنه حينما يخرج من النار يوجه وجهه إلى النار فيؤذيه ريحها وحرها فيقول: «يا رب اصرف وجهي عن النار فقد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها، فيأخذ الله عليه المواثيق ألا يسأل غيرها فيعطيه المواثيق فيصرف الله وجهه عن النار، ثم ترفع له شجرة فيسكت ما شاء الله، ثم يسأل الله أن يدنيه منها» ، وهكذا يأخذ عليه العهود والمواثيق حتى يقرب من الجنة: «فإذا أقبل من الجنة ورأى ما فيها من النعيم والثمار والأشجار فيسكت ما شاء الله ثم يقول: رب أدخلني الجنة، يقول الله: ويلك يا ابن آدم ما أغدرك، يقول له: وعزتك لا أسألك غيرها» . وهذا هو الشاهد قوله: «وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا» فهو حلف فالواو واو القسم، والعزة صفة من صفات الله، أقسم بعزة الله فيدخله الله الجنة «وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر له، فإذا أدخله الله الجنة قال له: تمن، فيقول، أما ترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا فيقول: بلى رضيت يارب، يقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله خمس مرات، ثم يقول له: لك ذلك وعشرة أمثاله»[(645)] يعني: إن لك خمسين مرة مثل ملك من ملوك الدنيا، ولك مع ذلك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، وليس في الجنة موت ولا هرم ولا شيخوخة ولا مرض ولا أسقام ولا هموم ولا أحزان ولا أكدار، وهذا آخر أهل الجنة دخولا يعطى مثل ملك من ملوك الدنيا بمقدار خمسين مرة مع الفارق؛ لأن الملك من ملوك الدنيا ليس مؤمنا من الموت ولا من المرض ولا من الهرم ولا من الأسقام ولا من الهموم ولا من الأكدار، وليس ملكه دائمًا وأيضًا فيه أكدار ومنغصات وبول وغائط، فالجنة سالم أهلها من هذا كله فهي صحة دائمة وحياة دائمة وشباب دائم ونعيم دائم وسرور دائم، ورشح العرق أطيب من ريح المسك فتضمر بطونهم فيأكلون وهكذا.

قوله: «قَالَ أَبُو سَعِيدٍ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل لَكَ ذَلِكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ»» يعني: يقول للذي هو آخر أهل الجنة دخولاً: لك ذلك وعشرة أمثاله.

قوله: «وَقَالَ أَيُّوبُ وَعِزَّتِكَ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ» هذا أيضًا فصله المؤلف رحمه الله من حديث صحيح ساقه بطوله وفيه: «أن أيوب عليه الصلاة والسلام يغتسل عريانًا فخر عليه رجل جراد من ذهب» ، وهذا من قدرة الله العظيمة «فجعل يحثو فناداه ربه: ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك قال: وعزتك»[(646)] وفي لفظه الذي ساقه المؤلف قال أيوب: «وَعِزَّتِكَ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ».

والشاهد في قوله: «وَعِزَّتِكَ» أن أيوب حلف بعزة الله.

وفيه: جواز الاغتسال عريانًا إذا كان الإنسان ليس عنده أحد، فقد اغتسل أيوب عريانًا عليه الصلاة والسلام، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان يغتسل عريانًا إذا لم يكن عنده أحد؛ فقد ورد أنه كان صلى الله عليه وسلم يغتسل هو وعائشة وهي تقول: دع لي، وهو يقول: دعي لي في إناء يسع ثلاثة آصع[(647)] وكذلك موسى عليه السلام اغتسل عريانًا ففر الحجر بثوبه حتى مر على أناس من بني إسرائيل، فالمقصود أنه لا بأس بالاغتسال عريانًا إذا لم يكن عنده أحد، إنما المحذور كونه يغتسل عريانًا بين الناس، وهذا خلاف لمن قال: إنه يكره أن يغتسل عريانا وقالوا: إنه ينبغي للإنسان أن يغتسل وعليه ثيابه، وهذا فيه تلويث للثياب.

قوله في رواية الحديث المطولة: «فناداه ربه» فيه: أن الله كلم أيوب هنا من دون واسطة قال: «ألم أكن أغنيتك عن هذا؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك» يعني: وهذا من بركتك.

 

}7383{ قوله: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَقُولُ: «أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِْنْسُ يَمُوتُونَ»» . الشاهد فيه قوله: «أعوذ بعزتك» وفيه: أنه لا بأس بالاستعاذة بصفات الله؛ لأن هذا توسل، فالحلف بذات الله وصفاته والاستعاذة بعزة الله وصفاته لا بأس به، إنما المحظور مناداة الصفة ودعاء الصفة بأن يقول: يا رحمة الله ارحميني يا قدرة الله أنقذيني، فهذا لا يجوز حتى قال شيخ الإسلام: «وأما دعاء صفاته وكلماته فكفر باتفاق المسلمين»[(648)] .

وفيه: أن الله سبحانه وتعالى حي لا يموت: «أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالإِْنْسُ يَمُوتُونَ» ، واستدل به بعضهم على أن الملائكة لا يموتون، والصواب أنهم يموتون كما قال الله تعالى: [الرَّحمن: 26-27]{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ *} إلا من استثناهم الله ممن خلق للبقاء مثل الجنة والنار فلا تفنيان، والحور والولدان في الجنة والروح إذا خرجت من الإنسان بقيت إما في نعيم أو في عذاب ولا تفنى، والعرش والكرسي والقلم كل هذا مستثنى.

 

}7384{ قوله: «لاَ يَزَالُ يُلْقَى فِيهَا [ق: 30]{وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ *} حَتَّى يَضَعَ فِيهَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَدَمَهُ» فيه: إثبات القدم لله عز وجل.

وفيه: أن الله تعالى يضع قدمه في النار، والله تعالى لا يضره أحد من خلقه، وفي اللفظ الآخر: «حتى يضع رب العزة رجله»[(649)] ففيه: إثبات الرجل والقدم وأن لله تعالى قدمًا وله رجل وهو لا يشابه أحدا من خلقه سبحانه وتعالى، وبعض أهل الكلام استنكروا أن يكون القدم والرجل لله وأولوا ذلك تأويلات باطلة، فبعضهم قال: الرجل يطلق على الجماعة من الناس، وعليه فقوله: «رجله» يعني: جماعة من أهلها، وكذلك القدم يعني: من يتقدم من أهلها، وهذا تأويل باطل، وإذا كان هؤلاء العلماء وهم كبار قد أولوا هذه التأويلات بسبب أنهم لم يوفقوا لمن ينشئهم على معتقد أهل السنة والجماعة، فهذا يفيد طالب العلم في أن يحذر من الوقوع فيما وقعوا فيه، وأن يحرص على معتقد أهل السنة والجماعة، وأن يتتلمذ على أهل السنة والجماعة، وأن يحذر من شبهات أهل البدع حتى لا يقع فيما وقع فيه هؤلاء العلماء الكبار الذين أولوا هذه التأويلات.

والحديث فيه: إثبات القدم لله كما يليق بجلاله وعظمته وليس قدم المخلوقات الذين هم أهل النار فالقدم صفة لله.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «تَقُولُ: قَدْ. قَدْ» بفتح القاف وسكون الدال وبكسرها أيضا بغير إشباع»، أي: بالإسكان وبالكسر.

وهذا الحديث استدل به المؤلف رحمه الله على جواز القسم بعزة الله، وذلك أن النار أقسمت بعزة الله قالت: «بِعِزَّتِكَ وَكَرَمِكَ» فأقسمت بعزة الله وكرمه فدل على أنه لا بأس بالقسم بعزة الله.

وفيه: أن الجنة يبقى فيها فضل «حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا فَيُسْكِنَهُمْ فَضْلَ الْجَنَّةِ» وقد انقلب هذا على بعض الرواة فقال: «سيبقى في جهنم فضل فينشئ الله لها خلقًا»[(650)] وهذا باطل؛ لأن الله تعالى لا يعذب أحدًا بغير جرم ولا يخلق خلقًا ويعذبهم، وإنما هذا في الجنة فيبقى فيها فضل فيخلق الله خلقا فيسكنهم الجنة، وفي هذا: إثبات الجنة وأن الجنة والنار حق وأنهما داران مخلوقتان دائمتان لا تفنيان ولا تبيدان، هذا هو الحق الذي عليه أهل السنة والجماعة.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

[الأنعَام: 73]{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}

}7385{ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو مِنْ اللَّيْلِ: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ، لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ قَوْلُكَ الْحَقُّ وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لاَ إِلَهَ لِي غَيْرُكَ».

حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا وَقَالَ: «أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الأنعَام: 73]{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ}» أي: بكلمة الحق وهو قوله: [الأنعَام: 73]{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ} كما ورد ذلك في تفسير الآية.

وهذه الترجمة فيها إثبات الكلام للرب سبحانه وتعالى، وأنه حق، وأنه صفة من صفاته به تكون المخلوقات، فهو سبحانه يخلق بالكلام كما قال تعالى: [يس: 82]{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}.

}7385{ هذا الحديث فيه:

1- مشروعية الاستفتاح بهذا الدعاء عند قيام الليل، وهو نوع من أنواع الاستفتاحات الكثيرة.

2- التوسل بربوبية الرب سبحانه وتعالى رب السموات والأرض، وأنه قيمها، وأنه نور السموات والأرض، وأن لقاء الله حق والجنة حق والنار حق.

3- إثبات الحمد لله.

4- الاعتماد على الله والتوكل عليه.

وهذا استفتاح عظيم، وهو استفتاح طويل كان يستفتح به النبي صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، فكان إذا قام يتهجد كبر ثم قال هذا الاستفتاح: «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ» ، وهذا توسل بربوبيته، «لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ قَيِّمُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ» ، وفي لفظ: «قيوم»[(651)] وفي لفظ: «قيّام»[(652)] والمعنى واحد، «لَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ قَوْلُكَ الْحَقُّ» هذا هو الشاهد من الترجمة وهو إثبات القول الحق للرب عز وجل «وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ، وَبِكَ خَاصَمْتُ، وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَأَسْرَرْتُ وَأَعْلَنْتُ، أَنْتَ إِلَهِي لاَ إِلَهَ لِي غَيْرُكَ» .

وكذلك ورد من حديث عائشة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح في صلاة الليل وكان يقول: «اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم»[(653)] ، لكن في صلاة الفرائض ينبغي للإنسان أن يستفتح بالاستفتاحات القصيرة ولا سيما إذا كان إماما حتى لا يشق على الناس، وكذلك إذا كان مأمومًا؛ لأنه قد يركع الإمام وهو ما زال يستفتح هذا الاستفتاح الطويل.

وأصح ما ورد من الاستفتاحات ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كبر سكت هنيهة فسألته ما تقول فذكر صلى الله عليه وسلم هذا الاستفتاح المشهور المعروف وهو: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالثلج والماء والبرد»[(654)] ومن الاستفتاحات الأخرى: «سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك»[(655)] وهذا أيضًا أفضل الاستفتاحات في ذاته وأخصرها وكله ثناء، فقوله: «سبحانك اللهم وبحمدك» تنزيه لله سبحانه، وقوله: «وتبارك اسمك» يعني: البركة تكون بذكر اسمك، وقوله: «وتعالى جدك» يعني: ارتفعت عظمتك، وقوله: «ولا إله غيرك» يعني: لا معبود بحق سواك، وبعض العامة يزيد: ولا معبود سواك، وهذه الزيادة غلط؛ لأن «ولا إله غيرك» فيها معنى لا معبود بحق سواك، وقد ثبت أن عمر كان يعلمه الناس على منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى كل فإن حديث أبي هريرة: «اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب» أصحها؛ لأنه اتفق عليه الشيخان.

وهذه الترجمة فيها إثبات الكلام لله عز وجل، والمؤلف رحمه الله سيأتي بتراجم كثيرة فيها إثبات الكلام لله عز وجل؛ لأن صفة الكلام من الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وأهل البدع، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع، فمن أثبت الكلام لله فهو من أهل السنة، ومن نفاه فهو من أهل البدعة، فالمعتزلة يقولون: كلام الله مخلوق، والأشاعرة يقولون: الكلام معنى قائم بنفسه ليس بحرف ولا صوت، فيقولون: إن الله لا يتكلم بحرف ولا صوت، وإنما هذا القرآن كلام جبريل، فجبريل اضطره الله ففهم المعنى القائم بنفسه، فعبر بهذا القرآن، وأحيانًا يقولون: عبر به محمد، وأحيانًا يقولون: أخذه جبريل من اللوح المحفوظ والله لم يتكلم بكلمة.

أما أهل السنة فيقولون: كلام الله ألفاظ ومعان وحروف، فهو يتكلم بحرف وصوت يسمع، هذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص.

قوله: «أَنْتَ الْحَقُّ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ» فيه: إثبات اسم الحق للرب عز وجل وأنه من أسمائه الحسنى.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النِّسَاء: 134]{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *}

وَقَالَ الأَْعْمَشُ عَنْ تَمِيمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَْصْوَاتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم [المجَادلة: 1]{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}.

}7386{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا فَقَالَ: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا» ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ؛ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ أَوْ قَالَ أَلاَ أَدُلُّكَ بِهِ».

}7387{، }7388{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي. قَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

}7389{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها حَدَّثَتْهُ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ جِبْرِيلَ عليه السلام نَادَانِي قَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النِّسَاء: 134]{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *}» ، هذه الترجمة فيها إثبات اسمين من أسماء الرب عز وجل وهما السميع والبصير، وأن الرب ليس أصم بل يسمع الأصوات وأنه سبحانه ليس غائبًا، وفيها إثبات صفتي السمع والبصر؛ لأن أسماء الله مشتقة ليست جامدة، فكل اسم يشتمل على صفة، فالسميع يشتمل على إثبات صفة السمع، والبصير يشتمل على صفة البصر، فالسميع والبصير من أسماء الله وكونه سميعا بصيرا يتضمن أنه يسمع بسمع ويبصر ببصر، خلافًا للمعتزلة الذين يقولون: إنه سميع بلا سمع بصير بلا بصر.

وفي هذه الترجمة الرد على من قال: إن معنى السميع البصير عليم، فبعضهم فسر السميع البصير بأنه عليم بالعلم.

وهذان الاسمان من الأسماء المشتركة فيطلق على المخلوق سميع ويطلق على الخالق سميع، والبصير يطلق على المخلوق وعلى الخالق، قال الله تعالى في المخلوق: [الإنسَان: 2]{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *}، وقال سبحانه عن نفسه: [النِّسَاء: 134]{وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا *}، لكن إذا سمي بها الخالق فله الكمال سبحانه وتعالى، وإذا سمي بها المخلوق فهو على ما يليق به.

قوله: «وَقَالَ الأَْعْمَشُ عَنْ تَمِيمٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الأَْصْوَاتَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: [المجَادلة: 1]{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}» فيه: إشارة إلى حديث خولة المجادلة التي جاءت تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وقد ظاهر منها زوجها أوس بن الصامت، وقالت: أشكو إلى الله صبية إن ضممتهم إلي جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يرد ويقول: «ما أراك إلا قد حرمت عليه»[(656)] فجعلت تشتكي إلى الله.

قالت عائشة رضي الله عنها: وكان يخفى علي شيء من كلام خولة رضي الله عنها، ولكن الله سمع كلامها من فوق سبع سموات فأنزل هذه الآية: [المجَادلة: 1]{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ *}، ثم نزلت آيات الظهار فأنزل الله الفرج، فكفر أوس بن الصامت رضي الله عنه كفارة الظهار ورجع إلى زوجته.

 

}7386{ قوله: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ، فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا» يعني: إذا ارتفعنا فوق تل مثلا كبرنا، وهذا هو السنة للمسافر.

وفيه: بيان أن الله أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وإذا هبط المسافر يسبح فيقول: سبحان الله؛ تنزيها لله عن السفول.

قال أبو موسى رضي الله عنه: «فَكُنَّا إِذَا عَلَوْنَا كَبَّرْنَا» فكأنهم يرفعون أصواتهم رفعا يشق عليهم، فكانوا يصرخون صراخًا كما في الحديث الآخر أنهم رفعوا أصواتهم بالتكبير[(657)] فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ» يعني: ارفقوا ولا تشقوا على أنفسكم برفع الصوت؛ «فَإِنَّكُمْ لاَ تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلاَ غَائِبًا، تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا» .

وقوله: «تَدْعُونَ سَمِيعًا بَصِيرًا قَرِيبًا» فيه: إثبات السمع والبصر لله، وهذا هو الشاهد من الحديث، وهو أن الرب ليس أصم، بل يسمع الأصوات سبحانه وتعالى، وليس غائبا لا يرى ولا يعلم، بل هو عالم حاضر يرى ويبصر عباده ويبصر أعمالهم من فوق عرشه سبحانه وتعالى، وفي اللفظ الآخر: «أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته»[(658)] وهذا فيه: إثبات المعية لله تعالى والقرب من داعيه، وهي معية خاصة وقرب خاص، فالله تعالى قريب من الداعين بالإجابة وقريب من العابدين بالإثابة؛ ولهذا قال سبحانه وتعالى: [العَلق: 19]{وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ *}، أي: من ربك، فالساجد قريب من الله والداعي قريب من الله؛ ولذا قال الله تعالى: [البَقَرَة: 186]{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}، فالله مع الخلق كلهم معية عامة بعلمه وإحاطته واطلاعه ونفوذ قدرته ومشيئته، وهو مع المؤمنين ومع المتقين ومع المحسنين بنصره وعونه وتأييده، وهذه هي المعية الخاصة.

قال أبو موسى رضي الله عنه: «ثُمَّ أَتَى عَلَيَّ وَأَنَا أَقُولُ فِي نَفْسِي: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَقَالَ لِي: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ قُلْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» ، هذا فيه: علامة من علامات النبوة حيث أخبره بما في نفسه، فأبو موسى يقول في نفسه: لا حول ولا قوة إلا بالله، فجاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم فعلم ما يقول في نفسه فنادى عليه فقال: «قُلْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ، فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ أَوْ قَالَ أَلاَ أَدُلُّكَ بِهِ» ، وفيه: فضل هذه الكلمة، ومعنى كونها «كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» أن ثوابها كنز من كنوز الجنة؛ لما فيه من التجرد من الحول والقوة إلا بالله.

وقوله: «لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ» يعني: لا تحول من حال إلى حال إلا بالله، فلا تحول من المعصية إلى التوبة إلا بالله، ولا تحول من الشدة إلى الرخاء إلا بالله، ولا تحول من الفقر إلى الغنى إلا بالله، وتقال هذه الكلمة عند الشدائد والكربات، ويسن الإكثار منها فهي كلمة عظيمة.

 

}7387{، }7388{ هذا الحديث فيه: أن الصديق رضي الله عنه قال: «يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاَتِي» ، وفي حديث آخر قال: «أدعو به في صلاتي وفي بيتي»[(659)] فهذا الدعاء يقال في البيت، وفي الصلاة، وفي السجود، وبين السجدتين، وفي آخر التشهد.

وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أبا بكر هذا الدعاء: «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا» ، وفي لفظ: «كبيرًا»[(660)] ، وهو دعاء عظيم، فيه إثبات السمع والبصر لله؛ فإن الله يسمع الدعاء ويجيب، والله يبصر العبد الذي يدعوه.

وفيه: فضل هذا الدعاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الصديق أبا بكر وهو أفضل الأمة، فإذا كان الصديق يعلم هذا الدعاء فغيره من باب أولى.

وقوله: «وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» فيه: أن من أسماء الله الغفور والرحيم.

وفيه: إثبات صفتي المغفرة والرحمة لله تعالى؛ لأن الصفات مشتقة، فكل اسم مشتمل على صفة، فالغفور مشتمل على صفة المغفرة، والرحيم مشتمل على صفة الرحمة.

وفي هذا الحديث: التوسل بظلم الإنسان لنفسه وفقره وحاجته إلى ربه «اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي» ، فهذا من التوسلات المشروعة، وفي هذا الحديث عدة توسلات:

أولاً: الاعتراف بظلم النفس.

ثانيًا: أنه ظلم كثير وفي رواية «كبير» .

ثالثًا: أنه لا يقدر على مغفرة الذنوب إلا الله «وَلاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ» .

رابعًا: سؤال المغفرة «فَاغْفِرْ لِي» .

خامسًا: أنها من عند الله «مِنْ عِنْدِكَ مَغْفِرَةً» .

سادسًا: التوسل باسمه الغفور «إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ» .

سابعًا: التوسل باسمه الرحيم، فهو دعاء عظيم.

وفيه: أنه يشرع للمسلم أن يتوسل بأسماء الله وصفاته، والتوسل بالأعمال الصالحة، كالثلاثة من بني إسرائيل الذين انطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بأعمالهم الصالحة، فأحدهم توسل ببره بوالديه، والثاني توسل بعفته عن الزنا، والثالث توسل بإحسانه وأدائه الأمانة[(661)]، فلك أن تتوسل بعملك الصالح بصلاتك وبصومك وبحجك، وتتوسل بإيمانك كما توسل المؤمنون [آل عِمرَان: 16]{رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} وتتوسل بالتوحيد: أشهد أن لا إله إلا أنت، وتتوسل بدعاء الحي الحاضر، فيدعو وأنت تؤمن، أما أن يتوسل الإنسان بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو بذات فلان أو بجاه فلان أو حرمة فلان فهذا من البدع، ومن ذلك قول الخطيب يوم الجمعة: اللهم إنا نسألك بهذا الجمع، والصواب أن يقول: اللهم إنا نسألك لهذا الجمع.

كما أنه لا يجوز المناداة بالصفات، مثل: يا رحمة الله أدركينا، يا قدرة الله أدركينا، قال شيخ الإسلام: «وأما دعاء صفاته وكلماته فكفر باتفاق المسلمين»[(662)] ، وإنما يتوسل بأسماء الله وبصفاته أو يستعيذ بأسماء الله وصفاته مثل: «أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك» [(663)].

 

}7389{ وهذا الحديث: في إثبات السمع لله وأن الله يسمع أقوالهم ويرى أحوالهم.

قوله: «إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ» فيه: إثبات السمع والبصر، وهو الشاهد من الترجمة.

فهو سبحانه وتعالى يسمع أصوات عباده، ويرى مكانهم وهو بذاته سبحانه فوق العرش، كما جاءت النصوص الكثيرة بإثبات العلو وسيأتي أن الأدلة التي تثبت علو الله على المخلوقات أفرادها أكثر من ثلاثة آلاف دليل بخلاف الجهمية قبحهم الله القائلين بأن الله مختلط بالمخلوقات فيقولون: إن الله في السماء وفي الأرض وفي كل مكان حتى قال الجهم قبحه الله: إن الله هو هذا الهواء الذي في كل مكان تعالى الله عما يقولون علوًّا كبيرًا!

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد