شعار الموقع

شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري(97-458)

00:00
00:00
تحميل
142

}7447{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ، ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ. أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ يُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ ذَا الْحَجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلاَ فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَّلاً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبْلِغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ فَلَعَلَّ بَعْضَ مَنْ يَبْلُغُهُ أَنْ يَكُونَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ» فَكَانَ مُحَمَّدٌ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ صَدَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟».

 

في آية الترجمة والحديث إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة الآية: [القِيَامَة: 22-23]{وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *}. ورؤية الله في المنام ثابتة ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أنه أجمعت الطوائف كلها على أن الله يرى في المنام إلا الجهمية من شدة إنكارهم لرؤية الله أنكروا رؤية الله حتى في المنام وإلا فكل الطوائف تثبت هذا[(760)]، وقال شيخ الإسلام رحمه الله[(761)]: إن الإنسان يرى ربه على صورة تناسب اعتقاده وحاله فإن كان حاله حسنة رأى ربه في صورة حسنة وإن كان حاله سيئة رأى ربه في صورة تناسب حاله ولا يلزم من ذلك التشبيه، ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم أصح الناس اعتقادًا بربه قال: «رأيت ربي في أحسن صورة» هذا في النوم «فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟» وهو حديث اختصام الملأ الأعلى المعروف «فقلت: لا أدري يا رب فوضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله في صدري فعلمت فقلت: يا رب يختصمون في الكفارات ونقل الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة»[(762)] إلى آخر الحديث المعروف.

والمقصود أن المؤلف رحمه الله ساق هذه الترجمة لإثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة وصدره بالآية {وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *}، ناضرة من النضرة والبهاء، والحسن بالضاد أخت الصاد.{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} بالظاء أخت الطاء من النظر بالعين.

}7434{ ثم ساق المؤلف رحمه الله أحاديث كثيرة في إثبات رؤية المؤمنين لربهم؛ لأن هذه المسألة وهي مسألة الرؤية من المسائل التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع، فأراد المؤلف رحمه الله أن يرد على أهل البدع ويبطل شبهتهم ويبين أن شبهتهم داحضة وأن النصوص تبطل ما ذهب إليه أهل البدع من إنكار الرؤية وهذا حديث جرير رضي الله عنه وقد ساقه من ثلاث طرق:

الطريق الأولى: قوله: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ» لفظ: «لاَ تُضَامُونَ» روي بتشديد الميم وبفتح التاء وضمها: أي: لا تتزاحمون ولا تختلفون. وروي بتخفيف الميم، وأيضًا بفتح التاء وضمها: أي: لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض، فإنكم ترونه في جهاتكم كلها.

قوله: «فَإِنْ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لاَ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ» وهي صلاة الفجر. «وَصَلاَةٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ» وهي العصر «فَافْعَلُوا» أمر على سبيل الندب.

وفيه: دليل على أن من حافظ على هاتين الصلاتين الفجر والعصر فاز برؤية الله تعالى، وإن كانت المحافظة على جميع الصلوات مطلوبة ومن أسباب الكرامة والنعيم لكن هاتين الصلاتين ينبغي زيادة المحافظة عليهما لما لهما من الفضل برؤية الله عز وجل.

فهذه الترجمة فيها إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهذه الرؤية من الصفات التي اشتد النزاع فيها أيضًا بين أهل السنة وبين أهل البدع وقد قلنا: إن الصفات المتنازع فيها ثلاثة: صفة العلو وصفة الرؤية وصفة الكلام، فهذه من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدعة، فمن أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدع.

فالمقصود بهذه الترجمة إثبات رؤية الله يوم القيامة، وللناس في الرؤية ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: مذهب أهل السنة والجماعة أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة من فوقهم، فقد أثبتوا الرؤية وأثبتوا المقابلة وأثبتوا العلو.

المذهب الثاني: مذهب الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والرافضة وهم الإمامية وهم الاثنا عشرية؛ لأنهم يقولون بإمامة اثني عشر فكل هؤلاء ينكرون الرؤية وينكرون العلو جميعًا قالوا: لا يُرى وليس في العلو وأولوا الرؤية بالعلم. وهذا من أبطل الباطل. وجمهور المتأخرين ينفون الرؤية، وجمهور المتقدمين يثبتون الرؤية.

وقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالرؤية، فلو كان المراد زوال الشك عن الربوبية لم يكن هذا خاصًّا بالمؤمنين فكل الناس حتى الكفرة والملاحدة الذين أنكروا وجود الله إذا بعثوا يوم القيامة لا يشكون في ربوبية الله ويزول عنهم الشك.

المذهب الثالث: مذهب طائفة من الكلابية والأشاعرة يثبتون الرؤية وينكرون جهة العلو وقالوا: إن الله يرى لا في جهة وهم بهذا أرادوا أن يكونوا مع المعتزلة؛ لأنهم أنكروا العلو، وأرادوا أن يكونوا مع أهل السنة في إثبات الرؤية فعسر عليهم ذلك، فلجئوا إلى حجج سوفسطائية وهي التي توهم أنها حجة وليست بحجة فأثبتوا الرؤية وأنكروا الجهة، وتسلط عليهم المعتزلة وقالوا: أنتم بهذا قلتم قولاً لا يتصور ولا يعقل، فلا يمكن أن يكون رؤية المرئي إلا في جهة من الرائي، ويلزمكم أن تثبتوا الجهة فتكونوا أعداء لنا كأهل السنة أو تنفوا الرؤية وتكونوا أتباعًا لنا لا أن تكونوا مذبذبين، ولهذا يقال: إن الأشاعرة هم كالخنثى لا ذكر ولا أنثى لا مع المعتزلة ولا مع أهل السنة وهم في كثير من الصفات كانوا هكذا، وهم بهذا خرجوا عن ضرورات العقلاء فجميع العقلاء أنكروا عليهم، وضحك جمهور العقلاء من إثبات الرؤية ونفي الجهة قالوا: هذا غير متصور لا يعقل أن تكون الرؤية إلا بجهة من الرائي فكيف تثبتون الرؤية وتنفون الجهة؟!

ورؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة من أشرف مسائل أصول الدين وهي التي لأجلها شمر المشمرون، وهي أفضل وأعلى نعيم يعطاه أهل الجنة، والأدلة على هذا كثيرة من القرآن كقول الله تعالى: [القِيَامَة: 22-23]{وَجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ *} كما ذكر المؤلف فإنه أضاف النظر إلى الوجه الذي هو محله وعداه بأداة [ق: 35]{لَهُمْ مَا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ *} جاء في تفسير {مَزِيدٍ} أنه رؤية الله وكذلك قوله: [يُونس: 26]{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} فقد جاء في تفسير {وَزِيَادَةٌ} أنها النظر إلى وجه الله الكريم، كما جاء هذا في حديث صهيب عند مسلم[(763)]. ومن الأدلة قول الله تعالى: [المطفّفِين: 15]{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *}.

قال الشافعي وغيره: لما أن حجب هؤلاء للسخط دل على أن المؤمنين يرونه في الرضا.

والأدلة أيضًا من السنة متواترة ساقها العلامة ابن القيم رحمه الله في كتاب «الروح» وقال: إنها مروية في الصحاح والسنن والمسانيد رواها نحو ثلاثين صحابيًّا فهي متواترة، ومع ذلك أنكرها الجهمية والمعتزلة.

وقد كفر كثير من الأئمة من أنكر الرؤية وقالوا: من أنكر رؤية الله فهو كافر، هذا مروي عن الإمام أحمد وغيره من الأئمة، وهذا على العموم، أما المعين فلابد أن تقوم عليه الحجة.

 

}7435{ وهذه الطريق الثانية لحديث جرير رضي الله عنه وجاءت مختصرة وفيه قوله: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا» يعني: مشاهدة وهذا هو الشاهد. وفيه: إثبات رؤية المؤمنين لربهم وأنهم يرونه عيانًا يعني: معاينة بالعين. و «عِيَانًا» بكسر العين مصدر عاين يعاين عيانًا مثل قاتل يقاتل قتالاً.

وفيه: الرد على من أنكر رؤية الله بالعين كالمعتزلة الذين قالوا: إن المراد بالرؤية العلم.

 

}7436{ وهذه الطريق الثالثة لحديث جرير رضي الله عنه، فقوله: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا» يعني: القمر، وهذا فيه: دليل واضح على إثبات رؤية المؤمنين لربهم.

وقوله: «لاَ تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ» ومعلوم أننا نرى القمر من فوقنا رؤية واضحة، فوجب أن تكون رؤية الله كذلك من فوق رؤية واضحة، والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية، يعني: كما أننا نرى القمر رؤية واضحة من فوقنا فكذلك نرى الله رؤية واضحة من فوقنا دون تعب ولا ازدحام، وليس المراد تشبيه المرئي بالمرئي، ليس المراد تشبيه الله بالقمر، فالله لا يماثله أحد من خلقه.

و «تُضَامُونَ» بفتح التاء وضمها والميم مشددة ومخففة، والمعنى أنه لا يحصل ضيم ولا مشقة ولا تعب.

 

}7437{، }7438{ وهذا هو الحديث الثاني في الباب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: قوله «أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟» قالت المعتزلة: الرؤية معناها العلم. ولا شك أن الرؤية لها معان عدة: فتأتي بمعنى رؤية القلب وهي العلم مثل قوله تعالى: [الفِيل: 1]{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *} يعني: ألم تعلم.

وتأتي بمعنى الرؤية بالبصر كقوله تعالى: [الحَجّ: 63]{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً}. وأيضًا: [الحَجّ: 65]{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} فلا شك أن المطر الهابط من السماء والزرع الخارج من الأرض وكذلك السفن التي تمخر عباب البحار لا شك أن كل هذا يحتاج إلى رؤية البصر.

وتأتي الرؤية بمعنى الحلم في الليل كقوله تعالى: [يُوسُف: 43]{وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ} فهذه رؤية منامية كما دل عليها السياق.

إذًا فلابد من قرينة تبين المراد، فإذا وجدت قرينة تدل على أن المراد العلم فسرت بالعلم مثل قوله: [الفِيل: 1]{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *} لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أدرك أهل الفيل؛ لأن قصة أصحاب الفيل كانت في العام الذي ولد فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: «هَلْ تُضَارُّونَ فِي الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟» تضارون من الضرر، فلو كان المراد العلم ما كان هناك حاجة لرؤية القمر ليلة الإبدار. والرواية السابقة: «تضامون»[(764)] يعني: هل يحصل لكم ضرر في رؤية القمر ليلة البدر؟ والقمر حينما يكون وسط الشهر يسمى بدرًا؛ لأنه مستدير واضح والذي في أول الشهر يسمى هلالاً.

وفي حديث جرير رضي الله عنه أنه نظر إلى القمر ليلة البدر قال: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر»[(765)] يعني: ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر حينما يكون مستديرًا وسط الشهر.

قوله: «فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟» فلو كان المراد بالرؤية العلم ما احتاج أن يقول ليس دونها سحاب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يشبه رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة برؤية الشمس صحوًا ليس دونها سحاب، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم يقصد رؤية البصر، فالشمس ترى بالبصر وهذه قرينة قوية.

قوله: «فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ» وهذا واضح في إثبات رؤية المؤمنين لربهم بأبصارهم.

قوله: «يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» مصداقًا لقول الله تعالى: [التّغَابُن: 9]{يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ}.

قوله: «فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتْبَعْهُ» يعني: إذا جمع الله الناس يوم القيامة أمر كل من كان يعبد شيئًا أن يتبعه. فمن كان يعبد الشمس يتبع الشمس ويتساقطون في النار والشمس معهم ثم تلقى في النار.

ومن كان يعبد القمر يتبع القمر ويلقى معهم في النار. ومن كان يعبد الطواغيت يتبع الطواغيت.

قوله: «وَتَبْقَى هَذِهِ الأُْمَّةُ فِيهَا شَافِعُوهَا أَوْ مُنَافِقُوهَا» كما سيأتي والكفرة كلهم يتساقطون في النار [مَريَم: 86]{وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا *} مع من عبدوهم من دون الله.

هذا فيه: إثبات الإتيان لله وهو من الصفات الفعلية كما قال تعالى: [البَقَرَة: 210]{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ}، [الفَجر: 22]{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *} في المجيء والإتيان كلها من الصفات الفعلية التي تليق بجلال الله وعظمته لا يشابهه فيها أحد من خلقه.

وفيه: إثبات الصورة لله وهي من الصفات الذاتية، كل ذلك كما يليق بجلال الله وعظمته؛ لأن لله صورة «خلق الله آدم على صورته»[(766)] يأتيهم الله في صورته التي يعرفون، وكما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا[(767)] أن المؤمنين يرون ربهم في موقف القيامة أربع مرات:

المرة الأولى: يرونه في الموقف بعد خروجهم من القبور.

المرة الثانية: يرونه في غير الصورة التي يعرفون فينكرون ويقولون: نعوذ بالله منك هذا ليس ربنا.

المرة الثالثة: يأتيهم الله في صورته التي يعرفونها فيسجدون له والمنافقون لا يستطيعون السجود.

المرة الرابعة: يرفعون رءوسهم فيتحول في الصورة التي رأوه فيها أول مرة.

كما سيأتي في الحديث الذي بعد هذا أن الله جعل لهم علامة وهي كشف الساق يكشف عن ساقه سبحانه وتعالى فيعرفونه وهذه علامة بينهم وبينه يعرفونه بها. ويكون النبي صلى الله عليه وسلم أول من يمر على الصراط[(768)].

قوله: «شَكَّ إِبْرَاهِيمُ» هو إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف الزهري.

قوله: «وَفِي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، هَلْ رَأَيْتُمْ السَّعْدَانَ؟» وسيأتي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: «إن لها شوكة تكون في نجد»[(769)] أي: معروفة. يعني: تشبهها وتماثلها في الكيفية، أما قدر عظمها فلا يعلمه إلا الله.

قوله: «تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ» خطِف يخطَف من باب فرِح يفرَح وتعِب يتعَب.

قوله: «فَمِنْهُمْ الْمُوبَقُ بَقِيَ بِعَمَلِهِ، أَوْ الْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ، وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ أَوْ الْمُجَازَى أَوْ نَحْوُهُ» ، وهؤلاء هم أهل التوحيد الذين ماتوا على الكبائر من غير توبة إذا أراد الله أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئًا، يعني: من مات على التوحيد ممن أراد الله أن يرحم ممن يشهد أن لا إله إلا الله عن صدق وإخلاص ولا يقع في عمل شرك، مات على التوحيد لكن مات على كبيرة أو كبائر لم يتب منها كالزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو أكل الربا أو أكل مال اليتيم أو الغيبة والنميمة أو غيرها من الكبائر، فيدخلون النار بهذه المعاصي والنار تلفحهم لكنها لا تأكل أثر السجود إكرامًا للوجه الذي سجد لله.

قال: «فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النَّارِ بِأَثَرِ السُّجُودِ، تَأْكُلُ النَّارُ ابْنَ آدَمَ إِلاَّ أَثَرَ السُّجُودِ» ، وفي اللفظ الآخر: «حرم الله صورهم على النار»[(770)] يعني: وجوههم.

قوله: «فَيَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ قَدْ امْتُحِشُوا» يعني:ىقد احترقوا وصاروا فحما على صيغة المبني للفاعل، وفي اللفظ الآخر: «قد صاروا فحمًا يخرجون منها ضبائر»[(771)] وهذا في العصاة الموحدين فهم يمكثون في النار ما شاء الله يعذبون في النار ثم يخرجون منها بشفاعة الشافعين وبرحمة أرحم الراحمين.

قوله: «فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ، فَيَنْبُتُونَ تَحْتَهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ» ، بكسر الحاء يعني: البذرة، «فِي حَمِيلِ السَّيْلِ» ، حميل فعيل بمعنى مفعول يعني: فيما يحمله السيل إذا جرى في الوادي، يحمل معه عيدانًا وترابًا، وقد يكون فيه حبة صغيرة هذه الحبة تنبت وهذه تسمى الحبة، فإذا هذبوا ونقوا أدخلوا الجنة.

قوله: «وَيَبْقَى رَجُلٌ مِنْهُمْ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النَّارِ» ، هذا الرجل آخر أهل النار خروجًا منها، وآخر أهل الجنة دخولاً كما جاء في الحديث.

قوله: «أَيْ رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنْ النَّارِ فَإِنَّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا، وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا» يعني: آذاني حرها.

قوله: «لاَ وَعِزَّتِكَ» هذا قسم بعزة الرب أي: بصفة من صفاته، وهذا من الأدلة على جواز القسم بصفات الله يأخذ الله عليه العهود والمواثيق أنه ما يسأل غير هذا السؤال إن يصرف وجهه عن النار فيعطي الله العهود والمواثيق.

والله تعالى يعذره لأنه لا يستطيع أن يصبر وقد رأى الجنة.

في البداية أعطى ربه العهود والمواثيق أن يصرف وجهه عن النار ثم بعد ذلك سكت ما شاء الله ثم سأل الله مرة أخرى أن يقدمه قريبًا من باب الجنة، وفي الحديث الآخر فيه: «أنه ترفع له شجرة فيقول: رب قدمني منها ولا يزال يرفع بالشجرة حتى يصل إلى باب الجنة»[(772)] ويأخذ الله في كل مرة عليه العهود والمواثيق ألا يسأل غيرها ثم يقدمه الله إلى باب الجنة ثم يسكت ما شاء الله أن يسكت ثم يسأل السؤال الأخير يقول: يا رب أدخلني الجنة كما سيأتي.

قوله: «فَإِذَا قَامَ إِلَى بَابِ الْجَنَّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنَّةُ، فَرَأَى مَا فِيهَا مِنْ الْحَبْرَةِ وَالسُّرُورِ» أي: النعيم رأى شيئًا ما يصبر عليه فيعود مرة أخرى للسؤال وربه يعذره؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه.

قوله: «فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو حَتَّى يَضْحَكَ اللَّهُ مِنْهُ» وهذا فيه إثبات الضحك للرب عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته، وقد أنكر هذا أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة فقالوا: الضحك هذا من صفات المخلوق فلا يناسب الرب.

قوله: «فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ اللَّهُ لَهُ: تَمَنَّهْ» يعني: إذا سأل السؤال الأخير قال: رب أدخلني الجنة فإذا دخل الجنة قيل له أن يتمنى ما شاء وزال عنه كل شر وحصل على كل خير فيتمنى حتى تنقطع الأماني ويعطى ويذكره الله أشياء فيعطاها.

قوله: «ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ» وجاء في الحديث الآخر: «أن الله تعالى قال له: أما تحب أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا» قال: «بلى يا رب فيقول الله: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله خمس مرات» فيقول في الخامسة: «رضيت ربِّ، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله»[(773)] يعني: خمسين مرة فيكون مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة ولك مع ذلك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، وليس هناك موت ولا هموم ولا أكدار ولا بول ولا غائط ولا شيخوخة ولا هرم، بخلاف ملوك الدنيا، فملوك الدنيا عندهم هموم وأكدار وشيخوخة ومرض وموت وحزن وهم، لكن هذا يعطى مثل ملك من ملوك الدنيا خمسين مرة، وقد أمن من الموت أو من الأسقام وأمن من الأمراض وأمن من الأكدار وأمن من المنغصات وأمن من الحر والبرد ومن النوم ومن كل المكدرات، هذا آخر أهل الجنة دخولاً وآخر أهل النار خروجًا.

 

}7439{، }7440{ هذا الحديث الثالث في هذا الباب، وكلها أحاديث طويلة وقد انشرح صدر البخاري رحمه الله في هذا الباب وأطال في النصوص والأحاديث وكانت الأبواب السابقة قصيرة.

قوله: «هَلْ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ إِذَا كَانَتْ صَحْوًا؟ قُلْنَا: لاَ. قَالَ: فَإِنَّكُمْ لاَ تُضَارُونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ كَمَا تُضَارُونَ فِي رُؤْيَتِهِمَا» هذا صريح في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وأن الرؤية تكون بالبصر. وصريح في تعسف أهل البدع في تأويل الرؤية بالعلم.

وإذا رأى المؤمنون ربهم سبحانه وتعالى فإنهم يرونه ولكن لا يحيطون به رؤية كما قال تعالى: [الأنعَام: 103]{لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} فكما أنهم يعلمون أنهم لا يحيطون به علمًا فكذلك يرونه ولا يحيطون به رؤية، بل إن بعض المخلوقات تراها ولا تحيط بها رؤية.

والتكلم في مسائل الكلام والاستواء والنظر لا بأس به إذا دعت الحاجة إليه؛ ليتبين الحق من الباطل وما دلت عليه النصوص، ولكن الشيء الذي لا يفهمه العوام أو الذي يستنكرونه أو الذي قد يورث لهم شبهة لا ينبغي أن يحدث به، كما قال علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم[(774)]؟!

قوله: «فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ» هم النصارى الذين يعبدون الصليب يسقطون مع صليبهم في النار، فكل من كان يعبد شيئًا يساق معه إلى النار.

وهؤلاء النصارى يزعمون أن اليهود صلبوا عيسى على الصليب وهو لم يصلب قال الله عنه: [النِّسَاء: 158]{بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} فهم يعظمون الصليب وهذا من كفرهم ويزعمون أنه بعدما صلب قام بعد ثلاثة أيام وجلس إلى جنب أبيه هكذا يقول النصارى قبحهم الله وهذا من جهلهم، فإذا كانوا يزعمون أنه صلب فكيف يعظمون الصليب الذي صلب عليه نبيهم؟! لو كانوا عقلاء لكرهوا الصليب ولكسروه وأهانوه.

قوله: «حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ» ، أي: يبقى ممن هذه الأمة قسمان:

القسم الأول: الأبرار المطيعون.

القسم الثاني: الفجار العصاة وهم من مات موحدًا ولو كان عاصيًا يعني: لم يمت على الشرك ويبقون ويرون الله.

وقوله: «وَغُبَّرَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ» يعني: بقايا من أهل الكتاب ممن كان على الحق.

قوله: «ثُمَّ يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ تُعْرَضُ كَأَنَّهَا سَرَابٌ» ، تمثل جهنم كأنها سراب والسراب ما يتراءى للإنسان من بعيد حين يمشي في البرية، يراه كأنه ماء، فإذا جاءه لم يجده ماء.

وهكذا جهنم تمثل لهؤلاء فيظنون أنها ماء فيقولون: ربنا عطشنا «فَيُقَالُ: اشْرَبُوا» ألا تردون؟ فيساقون إلى جهنم «فَيَتَسَاقَطُونَ» فيها ثم يساق النصارى كذلك وجميع الكفرة ولا يبقى إلا من يعبد الله مطيعون وعصاة وهم من يدين لله بالتوحيد؛ لأن الكفار ليس لهم حسنات، فهم يساقون إلى النار سوقًا بخلاف المؤمنين الذين لهم حسنات وسيئات.

قوله: «حَتَّى يَبْقَى مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ» البر: المطيع، والفاجر: العاصي. «فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا يَحْبِسُكُمْ» ماذا تنتظرون؟ «وَقَدْ ذَهَبَ النَّاسُ؟» كل الكفرة يتساقطون، ما بقي إلا من يعبد الله «فَيَقُولُونَ: فَارَقْنَاهُمْ» ، يعني: في الدنيا، كنا نعبد الله وهم يعبدون غير الله «وَنَحْنُ أَحْوَجُ مِنَّا إِلَيْهِ الْيَوْمَ» في احتياج إلى الله يخلصنا مما نحن فيه «وَإِنَّا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِيَلْحَقْ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ» فذهب الناس إلى آلهتهم التي كانوا يعبدونها في الدنيا وبقينا نحن «وَإِنَّمَا نَنْتَظِرُ رَبَّنَا» لأننا كنا نعبد الله وحده.

قال: «فَيَأْتِيهِمْ الْجَبَّارُ فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ» يعني: رأوه أول مرة وهذه المرة الثانية.

وفيه: إثبات الصورة لله عز وجل والرد على من أنكرها، فكل موجود له صورة هو قائم عليها.

وفيه: أنهم يروه مرتين، وفي حديث آخر: أنهم يروه أربع مرات[(775)].

وفيه: إثبات الإتيان لله عز وجل.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقوله فيه: «فيأتيهم الله في صورة» استدل ابن قتيبة بذكر الصورة على أن لله صورة لا كالصور»[(776)] .

هذا هو الحق كما ثبت أنه شيء لا كالأشياء، فالصواب أن لله صورة لا كالصور.

ثم قال الحافظ رحمه الله: «كما ثبت أنه شيء لا كالأشياء، وتعقبوه وقال ابن بطال: تمسك به المجسمة فأثبتوا لله صورة».

هكذا يقولون ويسمون أهل السنة مجسمة.

ثم قال رحمه الله: «ولا حجة لهم فيه لاحتمال أن يكون بمعنى العلامة وضعها الله لهم دليلاً على معرفته كما يسمى الدليل والعلامة صورة وكما تقول: صورة حديثك كذا وصورة الأمر كذا والحديث والأمر لا صورة لهما حقيقة، وأجاز غيره أن المراد بالصورة الصفة وإليه ميل البيهقي، ونقل ابن التين أن معناه: صورة الاعتقاد، وأجاز الخطابي أن يكون الكلام خرج على وجه المشاكلة لما تقدم من ذكر الشمس والقمر والطواغيت».

تفسير الصورة بأنها العلامة أو تفسير الصورة بأنها صورة الحديث أو الصورة بمعنى الصفة كما ذكر البيهقي رحمه الله على طريقة الأشاعرة أو الصورة بمعنى صورة الاعتقاد أو الكلام خرج على وجه المشاكلة، فكل هذه أقوال باطلة، والصواب القول الأول الذي ذكره ابن قتيبة بأن لله صورة لا كالصور.

قوله: «فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقِهِ» ، الضمير يعود إلى الله سبحانه، والساق صفة من صفاته، كما دل عليه أيضًا قول الله تعالى: [القَلَم: 42]{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ *} فإذا كشف عن ساقه عرفوه فسجدوا له، والحديث صريح في إثبات الساق لله عز وجل، أما الآية فليست صريحة {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ليس فيها إضافة إلى الله لكن إذا ضممتها إلى الحديث دل على إثبات الصفة لله عز وجل، وهذه النصوص شجن في حلوق أهل البدع لا يطيقونها.

وقال الذين ينكرون الصفة: المراد منه شدة الأمر هكذا يؤولون الساق؛ لأن العرب تقول: كشفت الحرب عن ساقها إذا اشتد الأمر.

ولا شك أن في اللغة العربية يأتي كشف الساق بمعنى شدة الأمر، لكن المراد بالساق في الآية والحديث غير المعنى اللغوي المراد به إثبات الصفة وهذا هو الحق.

قوله: «فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ كَيْمَا يَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا» وهؤلاء هم المنافقون كانوا مع المؤمنين في الدنيا يصلون مع الناس ويتصدقون ويجاهدون وهم كفرة في الباطن فصاروا مع المؤمنين يوم القيامة، ذهب الكفار وسقطوا في النار وبقي المنافقون بقوا على خداعهم ظنوا أنهم سيبقون معهم، فلما رأوا الله سجد المؤمنون وأراد المنافقون أن يسجدوا فما استطاعوا فقد جعل الله ظهرهم طبقا واحدًا لا يستطيعون السجود ولا تنثني ظهورهم فتبين كفرهم ونفاقهم ثم صاروا بعد ذلك مع المؤمنين ومعهم نور، فلما صاروا معهم انطفأ نور المنافقين وبقي نور المؤمنين، وضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وكانوا يظنون أنه سينفعهم خداعهم حتى يوم القيامة لكن مكر بهم.

قوله: «ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجَسْرِ» هو الصراط المنصوب على متن جهنم.

قوله: «الْمُؤْمِنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَالرِّكَابِ» يعني: يمر المؤمن على الصراط كطرف البصر وكالبرق وكالريح وكأجاويد الخيل، كل على حسب الأعمال، وجاء في اللفظ الآخر: «أول زمرة تمر على الصراط كالبرق ثم كالطير ثم كالطرف ثم كالريح ثم كأجاويد الخيل، ثم كالرجل يعدو عدوًا ثم كالرجل يمشي مشيًا ثم كالرجل يزحف زحفًا»[(777)] .

قوله: «يَقُولُونَ: رَبَّنَا إِخْوَانُنَا كَانُوا يُصَلُّونَ مَعَنَا» يعني: إذا نجا المؤمنون ودخل النار بعض العصاة، ناشد المؤمنون الله عز وجل في الشفاعة فيشفعهم الله فيهم كما سيأتي.

قوله: «اذْهَبُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ» جعل الله لهم علامة يعرفون بها، فإذا وجدوا هذه العلامة عرفوا أن في قلبه مثقال دينار من إيمان فيشفعهم الله فيهم فيخرجونهم، وهذا في المرة الأولى ثم في المرة الثانية مثقال نصف دينار ثم في المرة الثالثة مثقال ذرة من إيمان يشفعون ثلاث مرات.

قوله: «وَيُحَرِّمُ اللَّهُ صُوَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» ، صورهم يعني: وجوههم؛ لأنها موضع السجود، فلا تأكل النار وجوههم، لكن تأكل الجهات الأخرى، تلهبهم النار من الخلف ومن اليدين أو الرجلين، فالصورة تطلق على الوجه وتطلق على الجسم كاملاً.

قوله: «وَبَعْضُهُمْ قَدْ غَابَ فِي النَّارِ إِلَى قَدَمِهِ وَإِلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ» هؤلاء العصاة على حسب أعمالهم بعضهم تصل النار إلى قدميه وتغطيهما وبعضهم إلى نصف ساقه بخلاف الكفرة فإن النار تغمرهم وتصلاهم من جميع الجهات نعوذ بالله [الأعرَاف: 41]{لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ}.

قوله: «فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ» ، وكذلك الأفراط يشفعون والشهداء «فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ، فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا» ، تبقى بقية ما كان لهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين بدون شفاعة من الموحدين «قَدْ امْتُحِشُوا» ، يعني: احترقوا.

قوله: «هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمْ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ، وَلاَ خَيْرٍ قَدَّمُوهُ» يعني: أدخلهم الله الجنة بغير عمل زيادة على التوحيد، لكن ماتوا على التوحيد، أما من مات على الشرك فلا حيلة فيه.

هذا حديث أنس رضي الله عنه ويسمى حديث الشفاعة وفيه قوله: «وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ» وهو من شيوخ البخاري رحمه الله ولكن الحديث معلق؛ لذا لم يقل: حدثنا؛ لأنه حصله إما في المذاكرة وإما في موضع آخر ولم يسمعه في مجلس التحديث، وهو موصول عند مسلم وغيره[(778)].

قوله: «يُحْبَسُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وهذا في الموقف «حَتَّى يُهِمُّوا» فيها وجهان؛ إما بضم الياء وفتح الهاء. أو بفتح الياء وضم الهاء.

قوله: «فَيَقُولُونَ: لَوْ اسْتَشْفَعْنَا إِلَى رَبِّنَا فَيُرِيحُنَا مِنْ مَكَانِنَا» ، الموقف عصيب والشمس تدنو من الرؤوس وحرها شديد والوقت وقت شدة وهم وكرب وغم.

قوله: «فَيَأْتُونَ آدَمَ» لأنه أبو البشر «فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ» هذه ميزة، «وَأَسْكَنَكَ جَنَّتَهُ» ، هذه ميزة ثانية، «وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ» ، ميزة ثالثة، «وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ» ، وهذه كلها مبررات حتى يستجيب لطلبهم «لِتَشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبِّكَ حَتَّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا» ، وهو موقف عظيم والشمس تدنو من الرؤوس ويزاد في حرارتها والمدة طويلة يطلبون منه أن يشفع لهم إلى الله حتى يحاسبهم وينصرفوا من هذا الموقف لكن الأمر عظيم «قَالَ فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ» ، وجاء في اللفظ الآخر أنه يقول: «إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله»[(779)] ثم يعتذر سيدنا آدم عليه السلام «قَالَ: وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ أَكْلَهُ مِنْ الشَّجَرَةِ وَقَدْ نُهِيَ عَنْهَا» يقول: إني أكلت من الشجرة التي نهاني ربي عنها مع أنه تاب ومع ذلك يعتذر. ذنب واحد تاب منه ويعتذر به والتائب من الذنب كمن لا ذنب له فكيف بنا نحن الآن نعمل ذنوبًا ولا نتوب منها؟!

قوله: «وَلَكِنْ ائْتُوا نُوحًا أَوَّلَ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الأَْرْضِ» ، وهذا من شفقة الوالد على ولده «فَيَأْتُونَ: نُوحًا فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ» كما قال أبوه آدم من قبل، وهذا من تواضعه عليه السلام، وجاء في اللفظ الآخر أنه يقول: «إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله»[(780)] ، ثم يعتذر سيدنا نوح عليه السلام «وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ، سُؤَالَهُ رَبَّهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ» ، يعني: حينما سأل ربه لما غرق الابن الكافر [هُود: 45]{فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} قال الله: [هُود: 46]{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وفي اللفظ الآخر أنه اعتذر فقال: «إني دعوت على أهل الأرض دعوة أغرقتهم»[(781)] وهنا في هذا الحديث اعتذر بأنه سأل ربه سؤالاً بغير علم. «وَلَكِنْ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَ الرَّحْمَنِ» وهذا أيضًا من شفقته عليه السلام «قَالَ: فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ» أيضًا كما قال من قبله، ويدل على تواضعه عليه السلام، وجاء في اللفظ الآخر أنه يقول: «إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله»[(782)] ثم يعتذر سيدنا إبراهيم عليه السلام.

قوله: «وَيَذْكُرُ ثَلاَثَ كَلِمَاتٍ كَذَبَهُنَّ» وهذه الكذبات يجادل بها عن دين الله كما سبق، والكذبات الثلاث هي:

الكذبة الأولى: كسر الأصنام التي يعبدونها ثم وضع الفأس على الصنم الكبير فقالوا له: من فعل هذا؟ قال: هذا، وأشار إلى الصنم الأكبر يعني: يريد أن يتأملوا هل الأصنام تنفع أو تضر؟ وهل تدافع عن نفسها؟ ومع ذلك اعتبرها كذبة.

الكذبة الثانية: أنه نظر في النجوم فقال: إني سقيم يوهمهم لما كانوا يعبدون النجوم؛ لأنها لا تنفع ولا تضر.

الكذبة الثالثة: قال عن زوجته سارة: إنها أختي، وتأول أنها أخته في الإسلام؛ لئلا يأخذها الملك الظالم ملك مصر في ذلك الزمان.

هذه الكذبات الثلاث يعتذر بها يوم القيامة وهي في الحقيقة تورية وليست كذبًا صريحًا، والآن كثير من الناس لا يبالي بالكذب ديدنه الكذب.

قوله: «وَلَكِنْ ائْتُوا مُوسَى عَبْدًا آتَاهُ اللَّهُ التَّوْرَاةَ، وَكَلَّمَهُ وَقَرَّبَهُ نَجِيًّا» ، وهذا من شفقة إبراهيم عليه السلام، «قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَى فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ هُنَاكُمْ» ، وهذا من تواضعه عليه السلام، وجاء في اللفظ الآخر قال: «إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله» ثم اعتذر موسى عليه السلام.

قوله: «وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الَّتِي أَصَابَ قَتْلَهُ النَّفْسَ» يعني: لما قتل القبطي، وهذا قبل النبوة لما خرج ورأى رجلين يقتتلان أحدهما إسرائيلي والثاني قبطي فاستغاثه الرجل الذي من بني إسرائيل من جماعة موسى على القبطي فأغاثه وقتل القبطي ثم هرب وخرج من ديار مصر وذهب إلى مدين، وكان هذا قبل النبوة.

قوله: «وَلَكِنْ ائْتُوا عِيسَى عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ وَرُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ» المسيح عليه السلام روح الله يعني: روح من الأرواح التي خلقها الله، وأضيف إلى الله للتشريف والتكريم مثل ناقة الله أضيفت الناقة إلى الله للتشريف، وإلا فهي مخلوقة ومثل بيت الله الكعبة، وكعبة الله مخلوقة وعيسى روح الله مخلوق بكلمة كن قال الله له: كن فكان وسمي كلمة الله؛ لأنه مخلوق بكلمة، قال الله تعالى: [آل عِمرَان: 59]{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *}، فعيسى مخلوق بالكلمة، وليس هو كلمة، والنصارى يقولون: عيسى نفس الكلمة فجعلوه جزءًا من الله ـ والعياذ بالله ـ وهذا كفر وضلال؛ لأن الكلام صفة الله والمسلمون يقولون: عيسى مخلوق بالكلمة، وليس هو الكلمة قال الله: [المَائدة: 17]{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} «قَالَ: فَيَأْتُونَ عِيسَى، فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ» ، وهذا من تواضعه عليه السلام، وجاء في اللفظ الآخر قال: «إن ربي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله» ، ولم يذكر عيسى عليه السلام ذنبًا ولا اعتذر عن شيء.

قوله: «وَلَكِنْ ائْتُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ» وهذا من شفقة عيسى عليه السلام.

قوله: «فَيَأْتُونِي فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ» يعني: في مكانه وهو فوق العرش، وهذه شجن في حلوق أهل البدع لا يطيقونها.

هذه شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق وأفضل الخلق وأوجه الناس عند الله، وإذا كان الله قال لموسى: [الأحزَاب: 69]{وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا *} فمحمد أشد وجاهة، ومع ذلك ما يستطيع أن يشفع إلا بعد الإذن قال تعالى: [البَقَرَة: 255]{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} يسجد أولاً تحت العرش ويحمد الله بمحامد يلهمه إياها ثم يأتيه الإذن من الله فيقول الله: «ارْفَعْ مُحَمَّدُ» على حذف حرف النداء «وَقُلْ يُسْمَعْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ» هو الشرط الأول إذن الله للشفيع أن يشفع.

ثم أيضًا الذي يشفع فيهم لابد أن يأذن الله فيهم ويرضى ولابد أن يحددوا له فلابد من شرطين:

الشرط الأول: إذن الله للشافع أن يشفع.

الشرط الثاني: رضاه عن المشفوع له.

ولا يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لواحد من أهل النار إلا بعد أن يأذن الله له ثم يحد الله له حدًّا، وكذلك المؤمنون أولا يأتيهم الإذن من الله ثم يجعل الله لهم علامة فيمن يشفعون فيه فتكون الشفاعة فيها فائدة وهي إكرام الله للشفيع بهذه الشفاعة والفضل من الله فهو الذي أذن وهو الذي رضي.

قوله: «فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ» يعني: أخرج من مكاني الذي أنا فيه من عند الله عز وجل إلى جهة النار فأخرجهم من النار وأدخلهم الجنة.

جاءت هذه العبارة ثلاث مرات في هذا الحديث، وفي بعض الأحاديث أنه يشفع أربع شفاعات[(783)].

قوله: «حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلاَّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ، أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ» وهم الكفار الذين حبسهم القرآن ووجب عليهم الخلود، فالكفار ما فيهم حيلة، قال الله تعالى: [المدَّثِّر: 48]{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ *} فمن مات على الكفر لا حيلة فيه فهو محبوس مخلد إلى أبد الآبدين لا يخرج من النار ولا تنفع فيه شفاعة، ولا يدفع عنهم عذاب الله أحد ولو افتدى بملء الأرض ذهبًا [المَائدة: 36-37]{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ *} وقال سبحانه: [البَقَرَة: 167]{كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ *} وقال سبحانه: [الإسرَاء: 97]{كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا *} فهذا مصير من مات على الكفر، ولا نصيب له في الشفاعة، ولا مدفع له من عذاب الله.

قوله: «وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ صلى الله عليه وسلم» والمقام المحمود الذي وعده نبينا صلى الله عليه وسلم في قوله: [الإسرَاء: 79]{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا *} فهو الشفاعة في أهل الموقف وقيل: المقام المحمود هو أن الرب يقعد نبيه صلى الله عليه وسلم معه على العرش، ووردت فيه أحاديث مرفوعة، قال شيخ الإسلام: «وفيها أشياء عن بعض السلف رواها بعض الناس مرفوعة، وهي كلها موضوعة، كحديث قعود الرسول على العرش. وإنما الثابت أنه عن مجاهد وغيره من السلف. وكان السلف والأئمة يروونه ولا ينكرونه»[(784)]. فالثابت إنما هو عن مجاهد رحمه الله[(785)].

وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: «وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما أنكره بعض الجهمية»[(786)].

$ر مسألة: لماذا لم يذكر المؤلف رحمه الله الشفاعة في أهل الموقف؟

_خ الجواب: يتضح من الحديث أنه بعد أن أتى الناس النبي صلى الله عليه وسلم ليشفع لهم انتقل إلى الشفاعة في إخراج العصاة من النار ولم يذكر الشفاعة في أهل الموقف.

قال العلماء: السبب في أن البخاري رحمه الله انتقل عن ذكر الشفاعة في أهل الموقف؛ لأن الشفاعة في هذا الموقف متفق عليها حتى العصاة وافقوا عليها لكن الشفاعة في إخراج العصاة من النار هذه خالف فيها الخوارج والمعتزلة وأنكروها وقالوا: من دخل النار لا يخرج منها، وقالوا: إن من العصاة مخلدين في النار كالكفرة، فأراد المؤلف رحمه الله أن يذكر الشفاعة التي فيها النص على إخراج العصاة من النار ردًّا على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بخلود العصاة في النار.

 

}7441{ قوله: «حَتَّى تَلْقَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» هذا الشاهد من الحديث وهو رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة؛ لأن اللقاء يكون معه رؤية، ولقاء الله لابد منه لكل أحد كما قال الله تعالى: [الانشقاق: 6]{يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ *} قيل: المعنى ملاق كدحك. وقيل: المعنى ملاق ربك.

لكن لقاء الله نوعان:

النوع الأول: نوع كامل للمؤمنين، وهو ملاقاة الله بالبعث والنشور والوقوف بين يديه والجزاء على الأعمال ويسمع كلامه.

النوع الثاني: نوع غير كامل، وهو لقاء الله لغير المؤمنين وهو لقاء الله بالبعث والنشور والوقوف بين يديه وسماع كلامه وتوبيخه ومحاسبتهم وجزاؤهم على الأعمال أما الرؤية فلا يرون الله كما قال الله سبحانه: [المطفّفِين: 15]{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *} وفيها إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة.

أما الكفار فاختلف العلماء هل يرون الله في الموقف؟

الجواب: على ثلاثة أقوال:

القول الأول: أن أهل الموقف كلهم يرون الله مؤمنهم وكافرهم ثم يحتجب عن الكفرة.

القول الثاني: أنه لا يراه إلا المؤمنون والمنافقون فقط كما سبق في الحديث أنهم يرونه ثم يسجدون.

القول الثالث: أنه لا يراه إلا المؤمنون خاصة. وأما الرؤية للمؤمنين في الجنة فهذه نعيم خاص بالمؤمنين.

 

}7442{ قوله: «ثَابِتُ بْنُ مُحَمَّدٍ» هو من شيوخ البخاري الكبار، قال عنه الحافظ في «التقريب»: صدوق يهم.

وثابت بن محمد وإن كان فيه كلام لكن الحديث ثابت وله شواهد وأخرجه المؤلف في التهجد ومسلم في صلاة الليل[(787)].

قوله: «أَنْتَ قَيِّمُ» رويت بلفظ: «أنت قيوم»[(788)] و في لفظ: «أنت قيام»[(789)] .

وزاد النووي في شرح مسلم على هذا الحديث في صلاة الليل لفظ رابع وهو: «قائم»[(790)] فيكون ورد بأربعة ألفاظ.

والمراد أن الله سبحانه وتعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره وأن قيام السموات والأرض به سبحانه وتعالى.

وحديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا نوع من أنواع الاستفتاحات التي كان يستفتح بها النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل وهو استفتاح طويل.

 

قوله: «وَلِقَاؤُكَ الْحَقُّ» هو الشاهد لرؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة؛ لأن اللقاء يكون معه رؤية كما جاء في الحديث السابق: «اصبروا حتى تلقوا الله ورسوله»[(791)] .

 

}7443{ قوله: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ وَلاَ حِجَابٌ يَحْجُبُه» والمعنى: أنه ما من أحد إلا وسيقف بين يدي الله وسيكلمه الله ليس بينه وبينه موانع. وفيه: إثبات رؤية المؤمنين لربهم وهو الشاهد.

و «تُرْجُمَانٌ» فيها لغات: فتكون بفتح التاء والجيم. وبضم أوله وثالثه. واللغة الثالثة فتح أوله وضم الجيم. وقال بعضهم: وفيه: لغة رابعة وهي: ضم التاء وفتح الجيم أي: ضم أوله وفتح ثالثه ولكن اللغة الرابعة في ثبوتها كلام.

وهو يطلق على الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة ويسمى المترجم ويطلق أيضًا على الذي يبلغ.

من ذلك أن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا جلس يحدث الناس ويستمع عنده خلق كثير وليس عندهم مكبرات صوت فكان له مبلغون يبلغون صوته لمن لا يسمع وكذلك المحدثون يجتمع عندهم في مجلس التحديث ألوف مؤلفة وليس عندهم مكبرات صوت لكن كان هناك مبلغون فكان الشيخ إذا حدث بالحديث يقول: حدثنا ثم يأتي المبلغ فيقول: حدثنا ثم يبلغ المبلغ الثاني فيقول: حدثنا ثم المبلغ الثالث: حدثنا حتى يصل إلى آخر القوم وهكذا هذا يسمى مبلغ ويسمى أيضا ترجمان.

 

}7444{ قوله: «وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْرِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ» رداء الكبر هذا صفة من صفاته سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظمته فإن الله يحتجب عن خلقه برداء الكبر.

وفيه: إثبات النظر إلى الله، وهذا هو الشاهد وأن المؤمنين يكشف الله لهم الحجاب فيرونه سبحانه وتعالى.

 

}7445{ قوله: «مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينٍ كَاذِبَةٍ لَقِيَ اللَّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» هذا فيه: الوعيد الشديد لمن أكل مال أخيه بيمين باطلة، وذلك كأن يكون الإنسان له حق على شخص وليس عنده بينة فيختصمان عند الحاكم الشرعي فيطلب منه البينة فلا يجد فتوجه اليمين إلى المنكر فيحلف وهو يعلم أن له عنده مالاً فيكون أكل مال أخيه بهذا اليمين.

والحاكم الشرعي معذور؛ لأنه ليس له إلا الظاهر يقول للمدعي: هل لك بينة؟ يقول: ما عندي بينة. فيقول للمنكر: احلف فإذا حلف انتهت الخصومة في الدنيا لكن الخصومة لا تنتهي بين يدي الله. وهذا الوعيد يدل على أن هذا من الكبائر.

ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداقه من كتاب الله: [آل عِمرَان: 77]{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}، ووجه الشاهد من الحديث هو لقاء الله في الآخرة والذي يستلزم النظر، والذي دلت عليه الآية الكريمة.

 

}7446{ هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ» ، وهذا فيه: الوعيد الشديد لهؤلاء الثلاثة، ويدل على أن كل واحد من هؤلاء الثلاثة ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب.

وفيه: إثبات النظر وهذا الشاهد من الحديث وهذا يفيد أن غيرهم ينظر إليهم الله، وهؤلاء لا ينظر إليهم نظر رضًا.

وقوله: «رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَةٍ لَقَدْ أَعْطَى بِهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى» فأعطي في الحديث في الموضعين فيها وجهان:

الوجه الأول: أعطى بفتح الهمزة والطاء، يعني: حلف لقد اشتريتها بأكثر مما أعطيتني الآن.

الوجه الثاني: أعطي بضم الهمزة وكسر الطاء، والمعنى: يحلف أنها سيمت وقدرت قبل أن تأتي بأكثر من مائة مثلاً.

وقوله «وَهُوَ كَاذِبٌ» يعني: يحلف أنه اشتراها وهو يكذب ما اشتراها بأكثر من مائة أو يكذب ما سامها إنسان بأكثر مما سامها فيغره ثم يزيده الآخر بناء على الحلف فيقول: ما دام أنك اشتريتها بأكثر من مائة وأنت تقول: اشتريتها بمائة وعشرة أعطيك مائة وعشرين؛ فيأكل زيادة حرامًا.

وقوله: «وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ كَاذِبَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ» قيدها بعد العصر؛ لأنه آخر النهار فيختم نهاره بهذه اليمين الكاذبة، والذي ينبغي على الإنسان أن يختم نهاره بعد العصر بالعمل الصالح من التسبيح والتهليل والتكبير، وهذا ختم يومه بيمين فاجرة، فحلف آخر اليوم بعد العصر ـ وهو وقت فاضل ـ عند القاضي أنه ما عندي لفلان حق. وهو كاذب فانتهت الخصومة؛ لأنه ما عنده بينة فاقتطع مال أخيه بهذه اليمين الكاذبة بعد العصر.

وقوله: «وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْيَوْمَ أَمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ» ، أي: يوم القيامة، وجاء في الحديث الآخر: «رجل عنده فضل ماء يمنعه ابن السبيل»[(792)] وابن السبيل: المسافر يأتي في البرية يريد ماء كأن يكون هناك غدير من السيل فيحجزه إنسان ويمنع الناس أن يأخذوا من هذا الماء.

فمن كان عنده فضل ماء فلا يجوز له أن يمنعه لمن يحتاجه حتى ولو كان في البلد مثل ماء العيون والأنهار والآبار. فإذا أراد إنسان أن يدلي دلوه ويأخذ الماء فلا تمنعه، خذ أنت حاجتك وما زاد تجعله لمن يحتاج إليه كأن يحتاج إليه ليشرب أو يسقي بهائمه، أما إذا كان يريد أن يأخذ ماء ليبيعه للناس فلا وذلك ممنوع، فأنت أولاً تبدأ بنفسك تأخذ ما تحتاجه وما زاد من ماء في البئر لا تمنعه قال صلى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ»[(793)] وهو حديث صحيح.

والمعنى أنه إذا كان عندك كلأ وعشب في البرية فلا تمنعه عن الناس إلا إذا احتششته وأخذته فلا بأس، أما في البقعة فلا تمنع الناس أن ترعى الإبل أو البقر أو الغنم، وكذلك الماء فإذا كان عندك شيء فاضل من الماء فلا تمنعه أحدًا فتأخذ حاجتك والباقي تعطيه لغيرك، وكذلك النار إن كان عندك نار وجاء واحد يأخذ منها ليستدفئ فلا تمنعه أن يأخذ جزءًا من النار وهذا لا يضر النار.

 

}7447{ هذا الحديث فيه: هذه الأسئلة الثلاثة عن البلد والشهر واليوم؛ لبيان عظم هذه الحرمات الثلاث: الدماء والأموال والأعراض، والصحابة يعرفون هذا يعرفون الشهر والبلد واليوم، لكن لا يدرون ماذا حصل هل غيرت هذه الأسماء أم لم تتغير؟

قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟» فقالوا: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» . قال صلى الله عليه وسلم: «أَلَيْسَ ذَا الْحَجَّةِ؟» قالوا: بلى قال: «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟» يعني: مكة قال: «أَلَيْسَ الْبَلْدَةَ؟» قالوا: بلى قال: «فَأَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟» قالوا: «اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» قال: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟» وهو يوم العيد أي: بلد حرام وهو مكة وشهر حرام وهو ذو الحجة ويوم حرام وهو يوم العيد، فيوم النحر من أعظم الأيام.

وقوله: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، قَالَ مُحَمَّدٌ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَأَعْرَاضَكُمْ، عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا» فالمعنى أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كما أن هذه الحرمات الثلاث عظيمة عند الله فكما أن الشهر له حرمة عند الله والبلد لها حرمة عند الله واليوم له حرمة عند الله فكذلك هذه الدماء والأموال والأعراض لها حرمة عند الله عز وجل فلا يجوز للإنسان أن ينتهكها ولا أن يعتدي عليها فلا يجوز للإنسان أن يعتدي على أخيه في جسده ولا في ماله ولا في عرضه، فلا يعتدي على أخيه في الدم بالقتل أو قطع العضو أو جرح الجسد أو هز السلاح ورفعه في وجهه أو يعتدي على ماله عن طريق الغصب أو السلب أو النهب أو السرقة أو الغش أو الربا أو الخداع أو أكل مال اليتيم أو جحد الحق والدين أو الرشوة إلى غير ذلك من أكل المال بالباطل، وكذلك لا يعتدي على عرضه بالغيبة والنميمة والسخرية والازدراء والاحتقار، فهذه الأشياء الثلاثة محرمات، وفي اللفظ الآخر: «كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه»[(794)] .

وقوله: «وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ» هذا هو الشاهد، ففيه: إثبات رؤية الرب ولقاء المؤمنين لربهم، ففي لقائهم معه رؤية له سبحانه وتعالى بخلاف لقاء الكافرين فلا رؤية معه لأنهم محجوبون عن رؤيته.

 مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

[الأعرَاف: 56]{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *}

}7448{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، حَدَّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ قَالَ: كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا، فَأَرْسَلَ إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَأَقْسَمَتْ عَلَيْهِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُمْتُ مَعَهُ، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا نَاوَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيَّ، وَنَفْسُهُ تَقَلْقَلُ فِي صَدْرِهِ حَسِبْتُهُ قَالَ: كَأَنَّهَا شَنَّةٌ، فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَتَبْكِي؟ فَقَال: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ».

}7449{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ الأَْعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اخْتَصَمَتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ إِلَى رَبّهِمَا فَقَالَتْ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ مَا لَهَا لاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟! وَقَالَتْ النَّارُ: يَعْنِي أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا. قَالَ: فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا فَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ؟ ثَلاَثًا حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطْ قَطْ قَطْ».

}7450{ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنْ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً، ثُمَّ يُدْخِلُهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ» يُقَالُ لَهُمْ: الْجَهَنَّمِيُّونَ.

وَقَالَ هَمَّامٌ، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

 

قوله: «بَاب مَا جَاءَ فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الأعرَاف: 56]{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *}» المقصود من هذه الترجمة إثبات الرحمة لله وأن الله تعالى يوصف بالرحمة كما يليق بجلاله وعظمته وهي نوعان: الرحمة التي هي صفة من صفات الله، ورحمة مخلوقة كالجنة كما في الحديث أن الله تعالى قال للجنة: «أنت رحمتي أرحم بك من أشاء»[(795)] فالرحمة هنا في الآية صفة من صفات الله ولا يماثله أحد من خلقه سبحانه.

}7448{ هذا حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: «كَانَ ابْنٌ لِبَعْضِ بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَقْضِي» ، يعني: في نزع الموت.

وقوله: «فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهَا» أي: أرسلت للنبي صلى الله عليه وسلم رسولاً فقالت: يا رسول الله إن ابني في الموت، ففي اللفظ الآخر: «يدعوه إلى ابنها في الموت»[(796)] تعني فاحضرنا، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليها الرسول وقال: «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى» هذه هي التعزية بعد الموت، وقبل الدفن، وبعد الدفن، في أي وقت، ولا يحتاج إلى الاجتماع للعزاء مثلما يفعل بعض الناس من اجتماع وذبائح، فهذا من البدع، لكن التعزية للإنسان تكون في البيت أو في الهاتف أو في المسجد يقال له: لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فلتصبر ولتحتسب، أحسن الله عزاءك، وجبر مصيبتك، ويكفي هذا. ولكنها لم تكتف بتعزية النبي صلى الله عليه وسلم لها «فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ فَأَقْسَمَتْ عَلَيْهِ» أي: تحلف عليه أن يحضر فبر النبي صلى الله عليه وسلم قسمها قال: «فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقُمْتُ مَعَهُ» ، أي: أسامة بن زيد راوي الحديث، قال: «وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، فَلَمَّا دَخَلْنَا نَاوَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِيَّ، وَنَفْسُهُ تَقَلْقَلُ فِي صَدْرِهِ» ، وفي اللفظ الآخر: «تقعقع»[(797)] ، يعني: حركة خروج الروح، قال: «حَسِبْتُهُ قَالَ: كَأَنَّهَا شَنَّةٌ» ، والشنة هي القربة البالية.

وقوله «فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فالمراد بالبكاء هنا دمع العين وهو لا بأس به، وليس ثمة مانع منه.

وكون الإنسان تدمع عينه ويحزن قلبه هذا شيء لا يلام عليه، ولما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العين تدمع وإن القلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون»[(798)] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما يرحم الله بهذا أو يعذب»[(799)] وأشار إلى لسانه. فالمحذور والممنوع أن يكون له صوت بصياح وعويل أو يعدد محاسن الميت أو يفعل شيئًا يغضب الله؛ فالممنوع النياحة برفع الصوت ولطم الخدود وشق الجيوب أو نتف الشعر، فهذا كله محرم.

وقوله: «فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: أَتَبْكِي؟» استنكار من سعد لبكاء النبي صلى الله عليه وسلم وكأنه ظن أنه لا يجوز البكاء على الميت.

وقوله: «إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ» هذا الشاهد من الحديث، فقد وصف الله عز وجل بأنه يرحم ففيه: إثبات صفة الرحمة له سبحانه.

 

}7449{ هذا الحديث فيه: أن الجنة والنار اختصمتا إلى ربهما، والله أعلم بكيفية هذا الاختصام.

وفيه: أن الجنة تكلمت والنار تكلمت «فَقَالَتْ الْجَنَّةُ: يَا رَبِّ مَا لَهَا لاَ يَدْخُلُهَا إِلاَّ ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ؟!» ، سقط الناس يعني: الذين لا يؤبه لهم والذين ليس لهم مكانة في المجتمع، لهذا يقال: من سقط المتاع يعني: الضعفاء والسقطة، لكن أعمالهم طيبة دخلوا الجنة بالتوحيد والإيمان والعمل الصالح، فكونه ليس له مكانة في المجتمع وليس غنيًّا فهذا لا يضره، والمراد الأغلب وإلا فقد يدخلها من الأشراف كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وليسوا من الضعفاء وليسوا من السقطة وقد يدخلها غيرهم.

وقوله: «وَقَالَتْ النَّارُ:» وفي لفظ آخر: «أوثرت بالمتكبرين»[(800)] فالنار أعدها الله للمتكبرين الذين تكبروا على الله وجحدوا حقه ولم يوحدوه ولم يؤمنوا به وأشركوا بالله فهؤلاء هم أهل النار.

وقوله «فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي» وفي لفظ: «فقال الله تبارك تعالى للجنة»[(801)] يعني: أخبر الله أن الجنة رحمته وهي رحمة مخلوقة وهي أثر من آثار رحمته التي هي صفة من صفاته؛ لأن الرحمة نوعان:

إحداهما: الرحمة التي هي صفة من صفات الله التي تليق بجلاله وعظمته كما في الآية: [الأعرَاف: 56]{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ *}.

الثانية: رحمة مخلوقة وهي الجنة، وكما في الحديث الآخر: «خلق الله مائة رحمة وأنزل إلى الأرض منها واحدة فبها يتراحم الخلق»[(802)] .

وقوله: «وَقَالَ لِلنَّارِ: أَنْتِ عَذَابِي أُصِيبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ» ، وهذا بعدل الله، فالله لا يظلم أحدًا من عباده شيئًا «ولكل واحدة منكما ملؤها» ، كأنه تطييب لهما.

وقوله: «قَالَ: فَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَإِنَّهُ يُنْشِئُ لِلنَّارِ مَنْ يَشَاءُ، فَيُلْقَوْنَ فِيهَا» هذا وهم وغلط من بعض الرواة وهو انقلاب وانتقال نظر وسبق لفظ من الجنة إلى النار كما حقق ذلك المحققون كالعلامة ابن القيم وغيره ففي الحديث: «إنه ينشئ للجنة أهلاً»[(803)] فانقلب على بعض الرواة فقال: «ينشئ للنار أهلاً» فالنار لا ينشئ الله لها أحدًا فالله تعالى لا يعذب أحدًا بغير ذنب، لكن الجنة يبقى فيها فضل فينشئ الله لها خلقًا فيخلقهم ويدخلهم الجنة. وهذا مثلما انقلب على بعض الرواة في «صحيح مسلم» قال: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله»[(804)] فأصل الحديث: «حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه»[(805)] فاليمين هي التي تنفق فانقلب على بعض الرواة وجعل الشمال هي التي تنفق.

وقوله: «حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ فَتَمْتَلِئُ» فيه: إثبات القدم لله عز وجل وفي بعض ألفاظ الحديث: «حتى يضع رجله»[(806)] .

وفيه: إثبات صفة الرجل لله كما يليق بجلاله وعظمته، وهذه النصوص شجًى في حلوق أهل البدع الذين لا يطيقون إثبات القدم لله فبعضهم قال: قوله: «حَتَّى يَضَعَ فِيهَا قَدَمَهُ» اسم للمتقدمين من الناس من أهل جهنم يقدمون فيها وكذلك الرجل للجماعة من المخلوقات يسمون الرجل فلا يثبتون الصفات والعياذ بالله ويظنون أن فيها تأويلاً.

أما أهل السنة فقد جعل الله البصيرة والطمأنينة في قلوبهم فأثبتوها وانشرحت صدورهم، فالله تعالى له قدم لا يماثلها قدم المخلوقين وله رجل كذلك والله تعالى لا يضره أحد من خلقه فإذا وضع الرب قدمه أو رجله فيها امتلأت النار قال: «وَيُرَدُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَتَقُولُ قَطْ قَطْ قَطْ» ، أي: يكفي يكفي وفي لفظ تقول: «حسبي»[(807)] .

 

}7450{ قوله: «لَيُصِيبَنَّ أَقْوَامًا سَفْعٌ مِنْ النَّارِ بِذُنُوبٍ أَصَابُوهَا عُقُوبَةً» ، وهؤلاء الذين يصيبهم سفع من النار هم عصاة الموحدين الذين دخلوا النار عقوبة لهم بسبب ذنوب عملوها في الدنيا «ثُمَّ يُدْخِلُهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ» لأن معهم أصل التوحيد والإيمان «يُقَالُ لَهُمْ: الْجَهَنَّمِيُّونَ» لأنهم خرجوا من جهنم، وفي لفظ آخر: «فيجعل في رقابهم الخواتيم»[(808)] ثم يسألون الله بعد ذلك فيزال عنهم ما فيهم.

والشاهد قوله: «بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ» ففيه: إثبات وصف الله عز وجل بالرحمة.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ}

}7451{ حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَ حَبْرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَْرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ وَالأَْنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ، ثُمَّ يَقُولُ: بِيَدِهِ أَنَا الْمَلِكُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: [الأنعَام: 91]{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}.

 

في هذه الترجمة ـ بما فيها من الآية والحديث ـ إثبات أن السموات والأرض يمسكها الله وإثبات الأصابع للرب تبارك وتعالى، وأن له سبحانه خمسة أصابع لا تشبه أصابع المخلوق بل تليق بجلال الله وعظمته.

}7451{ قوله: «جَاءَ حَبْرٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» الحبر: العالم، يقال: حَبر وحِبر بفتح الحاء وكسرها، يعني: عالمًا من علماء اليهود.

وقوله: «إِنَّ اللَّهَ يَضَعُ السَّمَاءَ» ، وفي لفظ آخر: «إن الله يمسك»[(809)] وبه تظهر مطابقة الحديث للترجمة: «عَلَى إِصْبَعٍ وَالأَْرْضَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالْجِبَالَ عَلَى إِصْبَعٍ وَالشَّجَرَ وَالأَْنْهَارَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلْقِ عَلَى إِصْبَعٍ» ، إصبع فيها عشر لغات: بتثليث الهمزة ومع كل حركة تثلث الباء فتكون تسعًا، هكذا: أُصبُع أُصبَع أُصبِع، وأَصبُع أَصبَع أَصبِع، وإِصبُع إِصبَع إِصبِع، والعاشرة: أُصبُوع بالضم. والجمع على أصابع وأصابيع.

وقوله: «ثُمَّ يَقُولُ: بِيَدِهِ أَنَا الْمَلِكُ» فيه: إثبات اسم الملك لله عز وجل.

وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم فضحك صلى الله عليه وسلم وقرأ هذه الآية: [الزُّمَر: 67]{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}.

وفي الحديث: إثبات صفة الأصابع واليد لله عز وجل كما يليق بجلاله وعظمته.

 مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَلاَئِقِ

وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ

وَكَلاَمِهِ وَهُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ

وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ

}7452{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا؛ لأَِنْظُرَ كَيْفَ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآْخِرُ أَوْ بَعْضُهُ قَعَدَ، فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَرَأَ [آل عِمرَان: 190]{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ *} ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ، ثُمَّ صَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلاَلٌ بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ.

 

قوله: «بَاب مَا جَاءَ فِي تَخْلِيقِ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْخَلاَئِقِ وَهُوَ فِعْلُ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَأَمْرُهُ فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَكَلاَمِهِ وَهُوَ الْخَالِقُ الْمُكَوِّنُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ» فهذه الترجمة فيها إثبات أن الرب تعالى قائم بصفاته وأسمائه وفعله وأمره، وهو الخالق المكون غير مخلوق وما سواه فهو مخلوق مفعول مكون بفعله وأمره وتخليقه وتكوينه، ففرق بين فعل الرب من تخليق السموات والأرض وهو قوله للشيء: كن فيكون وبين المفعول فإنه مخلوق منفصل عن الله، فالله تعالى يوصف بالخلق والرزق والإماتة والإحياء.

قوله: «وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ فَهُوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ» مثل السموات والأرضين، فالسموات كانت بفعله وخلقه وتكوينه، والأرضين كانت بفعله وخلقه وتكوينه، والشجر كان بفعله وخلقه وتكوينه، فكلها مخلوقة لله ومن فعله ففعل الرب تخليقه وفعله هذا وصفه سبحانه وتعالى.

وهذا من دقائق فقه البخاري رحمه الله فهو فقيه في النصوص، وفاق في هذا الكتاب العظيم بتراجمه العظيمة.

}7452{ هذا الحديث ساقه المؤلف في «صحيحه» في مواضع متعددة وفي بعضها أن ابن عباس رضي الله عنهما كان صغيرًا دون البلوغ، وبات في بيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وهي خالته، وفي اللفظ الآخر أنه قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله في طول الوسادة ونام ابن عباس في عرضها[(810)] وفيه: جواز نوم الصبي دون الحلم مع الرجل وأهله إذا كان محرمًا.

وقوله: «فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً، ثُمَّ رَقَدَ» فيه: استحباب حديث الرجل مع أهله قبل النوم ساعة لإيناسهم.

وقوله: «فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآْخِرُ أَوْ بَعْضُهُ قَعَدَ» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي آخر الليل، وفي اللفظ الآخر: «فلما انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهجد» [(811)].

وقوله: «فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَرَأَ [آل عِمرَان: 190]{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ *}» وتمام الآية: [آل عِمرَان: 190-191]{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ *الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *} فيه: مشروعية قراءة هذه الآيات العشر من آخر سورة آل عمران عند الاستيقاظ من النوم.

وقوله: «{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}» هذا هو شاهد للترجمة، فاستشهد المؤلف بهذه الآية ليبين أن فعل الله هو التخليق، وأما المخلوق المنفصل عن الله فهو السماوات.

ففعل الرب هو تخليق الخلائق وفعله صفة من صفاته فتخليقه فعل من أفعاله والله تعالى هو الخالق بصفاته وأفعاله، فهو الخالق المكون غير مخلوق.

فعيسى مخلوق منفصل، خلقه الله بكلمة كن، وكلمة كن هذه صفة من صفات الله.

وأهل البدع لا يفرقون بين الفعل وبين المفعول فعندهم الخلق هو المخلوق؛ فأراد البخاري رحمه الله أن يرد على أهل البدع، ففرق بين الفعل وبين المفعول، فالفعل غير المفعول، والخلق غير المخلوق، فالخلق فعل الله والفعل وصف لله، والمخلوق هذا مفعول منفصل، فالسموات كانت من فعله وتخليقه، فهي مفعول مخلوق منفصل عن الله.

وقوله: «ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ» يعني: استاك، وفيه: مشروعية الاستياك عند الوضوء وعند الصلاة، وفي الحديث الآخر: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة»[(812)] وفي لفظ: «مع كل وضوء»[(813)] .

وقوله: «ثُمَّ صَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً» فيه: هنا أنه صلى إحدى عشرة ركعة، كما في حديث عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة[(814)]، وفي حديث ابن عباس في غير هذا الموضع أنه صلى ثلاث عشرة ركعة[(815)]، وفي بعضها: أنه ربما أوتر صلى الله عليه وسلم بتسع ركعات، وربما أوتر بسبع[(816)]، وكان إذا غلبه نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة يشفعها بركعة[(817)]؛ لأن النهار ليس فيه وتر.

 قَوْلِهِ تَعَالَى: [الصَّافات: 171]{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ *}

}7453{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الأَْعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي».

}7454{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ، سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ وَهْبٍ، سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: «أَنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، أَوْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثُمَّ يُبْعَثُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيُؤْذَنُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: فَيَكْتُبُ رِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى لاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ إِلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا».

}7455{ حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: «يَا جِبْرِيلُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَزُورَنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا، فَنَزَلَتْ: [مَريَم: 64]{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} إِلَى آخِرِ الآْيَةِ قَالَ كَانَ هَذَا الْجَوَابَ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد