شعار الموقع

شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري(97-462)

00:00
00:00
تحميل
102

 

}7522{ قوله: «كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ» اليهود والنصارى «عَنْ كُتُبِهِمْ» أي: عن التوارة والإنجيل «وَعِنْدَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ أَقْرَبُ الْكُتُبِ عَهْدًا بِاللَّهِ» ، وهذا هو الشاهد للترجمة أن الله تكلم به قريبًا «تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ؟» المحض يعني: الخالص أي: خالصًا لم يشب بشيء من التحريف والتغيير والتبديل ولم يخالطه غيره، بخلاف كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل؛ لأنها حرفت وغيرت وبدلت فابن عباس ينكر على من يسأل أهل الكتاب.

 

}7523{ قوله: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ» فيه: إنكار ابن عباس رضي الله عنهما على من سأل أهل الكتاب عن كتبهم، وأهل الكتاب: هم اليهود والنصارى الذين عندهم التوراة والإنجيل وقد حرفوها وبدلوها وغيروها وعندكم «وَكِتَابُكُمْ» وهو القرآن الكريم «الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّكُمْ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ الأَْخْبَارِ بِاللَّهِ؟» ، وهذا هو الشاهد قوله: «أَحْدَثُ الأَْخْبَارِ» فقد وصفه بأنه أحدث الأخبار بالله، يعني: أن الله تكلم به بعد التوراة والإنجيل «مَحْضًا» يعني: خالصا «لَمْ يُشَبْ وَقَدْ حَدَّثَكُمْ اللَّهُ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ بَدَّلُوا مِنْ كُتُبِ اللَّهِ وَغَيَّرُوا، فَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكُتُبَ قَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِيَشْتَرُوا بِذَلِكَ ثَمَنًا قَلِيلاً» والثمن القليل هو الدنيا كلها، كما أخبر الله عنهم أنهم كتبوا بأيديهم ونسبوا ذلك إلى الله، قال الله تعالى في سورة آل عمران: [آل عِمرَان: 77-78]{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بَعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *}.

قوله: «أَوَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ» يعني: عندكم من العلم في كتاب الله وسنة رسوله أنه لا يجوز سؤالهم ومع ذلك تسألونهم «فَلاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلاً مِنْهُمْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ» أي: فهم لا يسألونكم عن القرآن وأنتم تسألونهم عن كتبهم.

يقول الإمام أحمد رحمه الله في رسالة «الرد على الجهمية والزنادقة»: «فلما قال الله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فجمع بين ذكرين ذكر الله وذكر نبيه، فأما ذكر الله إذا انفرد لم يجر عليه اسم الحدث ألم تسمع إلى قوله: [العَنكبوت: 45]{وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [الأنبيَاء: 50]{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} وإذا انفرد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه جرى عليه اسم الحدث ألم تسمع إلى قوله: [الصَّافات: 96]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *}، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم له عمل والله له خالق محدث، والدلالة على أنه جمع بين ذكرين لقوله: [الأنبيَاء: 2]{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} فأوقع عليه الحدث عند إتيانه إيانا وأنت تعلم أنه لا يأتينا بالأنباء إلا مبلغ ومذكر وقال الله: [الذّاريَات: 55]{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ *}، [الأعلى: 9]{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى *}، [الغَاشِيَة: 21]{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ *} فلما اجتمعوا في اسم الذكر جرى عليهم اسم الحدث، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم إذا انفرد وقع عليه اسم خلق وكان أولى بالحدث من ذكر الله الذي إذا انفرد لم يقع عليه اسم خلق ولا حدث فوجدنا دلالة من قول الله: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يعلم فعلمه الله فلما علمه الله كان ذلك محدثا إلى النبي صلى الله عليه وسلم»[(898)].

فالإمام أحمد يفسر قوله: {مُحْدَثٍ} يقول محدث بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا بالنسبة إلى الله ويقول: إذا اجتمع ذكران ذكر الله وذكر نبيه فيكون اسم الحدث بالنسبة لذكر نبيه، أما إذا انفرد ذكر الله فلا يقع عليه اسم الحدث.

والإمام البخاري يفسر بأن معنى {مُحْدَثٍ} يعني: محدث بالنسبة لكونه أن حدث وكونه محدث لا يشبه حدث المخلوق، هو محدث لأنه تكلم به وقت نزوله ولكن حدث الله لا يشبه حدث المخلوق، فكلام المخلوق محدث مخلوق وكلام الله محدث وهو صفة من صفاته وكلاهما جواب، وإن كان الذي يظهر أن جواب البخاري رحمه الله أرجح وأدق في هذا.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [القِيَامَة: 16]{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ}

وَفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ.

وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي حَيْثُمَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ».

}7524{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ.

فَقَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكَ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُمَا.

فَقَالَ سَعِيدٌ أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: [القِيَامَة: 16-17]{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *} قَالَ جَمْعُهُ فِي صَدْرِكَ ثُمَّ تَقْرَؤُهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ *} قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام اسْتَمَعَ، فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَقْرَأَهُ.

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [القِيَامَة: 16]{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} وَفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ» المقصود بهذه الترجمة أن أفعال العباد تنسب إليهم حقيقة لا مجازًا وأن أفعالهم لهم، يثابون على حسنها ويعاقبون على سيئها، وليست أفعالاً لله وإن كان الله خلقهم وخلق أفعالهم، الله خلق العباد وخلق فيهم القدرة والإرادة فباشروا العمل مختارين قال الله تعالى: [الصَّافات: 96]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *} فهم المباشرون لها والكاسبون لها بإرادتهم ومشيئتهم واختيارهم، والذي يضاف إلى الله الخلق والذي يضاف إلى العباد المفعول وهو المخلوق المنفصل؛ ولهذا قال المؤلف: «وَفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ يُنْزَلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ» يعني: يحرك شفتيه بالوحي خشية أن ينساه، فالله تعالى ضمن له ألا ينساه، وتحريك شفتيه من فعله صلى الله عليه وسلم.

والمؤلف رحمه الله يبين معتقد أهل السنة والجماعة الذي تدل عليه النصوص ويرد على طائفتين منحرفتين:

الطائفة الأولى: طائفة الجبرية الذين يقولون: الأفعال أفعال الله فهو المصلي والصائم، والعباد مجبرون على فعلهم، فالعباد عبارة عن وعاء تمر عليهم الأفعال، والله يُمر الأفعال عليهم كحركة المرتعش، هذا قول الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان، وهذا من أبطل الباطل وهذا المذهب يفضي إلى إبطال الشريعة.

الطائفة الثانية: طائفة القدرية المعتزلة الذين يقولون: العباد هم الذين خلقوا أفعالهم من خير وشر وطاعات ومعاصٍ عكس أولئك وهذا باطل أيضًا.

والصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة والذي تدل عليه النصوص وهو ما قرره المؤلف رحمه الله أن الله تعالى خلق العباد وخلق فيهم القدرة والإرادة والعباد باشروا الأفعال مختارين، فالأفعال أفعالهم تنسب إليهم، والله خالقهم وخالق أفعالهم كما قال سبحانه: [الصَّافات: 96]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *} وليسوا مجبرين، بل لهم قدرة واختيار.

قوله: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا مَعَ عَبْدِي» هذه معية خاصة تقتضي الحفظ والكلأ والتوفيق والتأييد، فالله مع الذاكرين وهو سبحانه فوق العرش.

قوله: «ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ» أي: ذكر اسمه، وهذا هو الشاهد أنه نسب الذكر إلى العبد لأنه فعله، فدل على أن أفعال العباد لهم وليست أفعالاً لله.

 

}7524{ هذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من حرصه على حفظ القرآن ـ إذا كان يقرأ جبريل ـ يحرك شفتيه، فضمن الله تعالى له الحفظ وأمره بالإنصات قال: [القِيَامَة: 16-17]{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ *}.

والشاهد من الآية والحديث: نسبة تحريك الشفتين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، وأن هذا فعله وليس فعلاً لله، ففيه: الرد على الجبرية القائلين بأن أفعال العباد هي أفعال الله فهو المصلي والصائم تعالى الله عما يقولون.

قوله: «فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَمَا أَقْرَأَهُ» فيه: أن القراءة فعل العبد، وأما المقروء فهو كلام الله.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [المُلك: 13-14]{وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ *أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *}

[طه: 103]{يَتَخَافَتُونَ} يَتَسَارُّونَ.

}7525{ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} قَالَ نَزَلَتْ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُخْتَفٍ بِمَكَّةَ، فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ: لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم [الإسرَاء: 110]{وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *}.

}7526{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} فِي الدُّعَاءِ.

}7527{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ وَزَادَ غَيْرُهُ يَجْهَرُ بِهِ».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [المُلك: 13-14]{وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ *أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ *}» ، المقصود بهذه الترجمة أن تلاوة الخلق تتصف بالسر والجهر وهي مخلوقة لله تعالى؛ حيث نسبها إليهم قال: {وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} فيه: إضافة الأقوال إلى العباد، [المُلك: 13]{وأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ *} فيه: إثبات علم الرب بما في الصدور وبما في مخلوقاته كلها.

ثم قال: [المُلك: 14]{أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}» فبين أنها مخلوقة ففيه: إثبات أن أفعال العباد مخلوقة، وأن الله سبحانه خلق العباد وخلق أفعالهم.

}7525{ قوله: [الإسرَاء: 110]{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}» يعني: بقراءتك، فسمى القراءة صلاة.

قوله: «فَكَانَ إِذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ» هذا هو الشاهد من الحديث وهو إضافة رفع صوته بالقرآن إليه، فدل على أن القراءة فعل القارئ، والمقروء كلام الله، ففرق بين القراءة والمقروء.

وفيه: الرد على الأشاعرة والمعتزلة، المعتزلة يقولون إن العباد خالقون لأفعالهم، والأشاعرة يرون أن القراءة ليست بحرف وصوت وإنما الكلام هو المعنى القائم بالنفس.

وفيه: أن أقوال العباد وأعمالهم تنسب إليهم، يحمدون على حسنها ويثابون عليه ويذمون على سيئها ويعاقبون عليه، ويدخل في ذلك قراءتهم للقرآن فهي داخلة في أقوالهم، فالأقوال أعم من أن يكون بالقرآن أو بغير القرآن.

 

}7526{ هذا التفسير هو أحد القولين في هذه الآية.

القول الثاني: أنها نزلت في قراءة القرآن كما في الحديث الأول وهو الصواب.

 

}7527{ قوله: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» أي: يحسن صوته، وقيل: معنى «يَتَغَنَّ» : يستغني به، والشاهد للترجمة من الحديث هو إضافة التغني بالقرآن إلى العبد وهو تحسين الصوت والجهر به، فهذا عمل العبد، والقراءة عمل العبد والمقروء كلام الله عز وجل خلافًا لمن قال: إن الأفعال أفعال الله.

قوله: «وَزَادَ غَيْرُهُ يَجْهَرُ بِهِ» يعني: هذا تفسير قوله: «يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» .

 قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ يَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، فَبَيَّنَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ»

وَقَالَ: [الرُّوم: 22]{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}.

وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: [الحَجّ: 77]{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *}.

}7528{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَحَاسُدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ».

}7529{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ».

سَمِعْتُ سُفْيَانَ مِرَارًا لَمْ أَسْمَعْهُ يَذْكُرُ الْخَبَرَ وَهُوَ مِنْ صَحِيحِ حَدِيثِهِ.

 

قوله: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ يَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا فَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، فَبَيَّنَ أَنَّ قِيَامَهُ بِالْكِتَابِ هُوَ فِعْلُهُ»» المقصود من هذه الترجمة أن أقوال العباد وأفعالهم تنسب إليهم؛ وذلك أنه أسند القيام إليه فدل على أنه من فعله، ومن ذلك قراءتهم للقرآن فهو أيضا من عملهم، وأما المقروء فهو كلام الله وهو غير مخلوق، وهذا كالتعميم بعد التخصيص، فالترجمة السابقة خاصة بتلاوة القرآن وهذه الترجمة عامة في تلاوة القرآن وغيرها.

قوله تعالى: « [الرُّوم: 22]{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ} الشاهد في هذه الآية أنه أضاف الألسن إليهم وهي تشمل الكلام كله فتدخل فيها القراءة.

قوله: «وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: [الحَجّ: 77]{وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *}» وجه الدلالة أنه أضاف الفعل إليهم، وعموم الخير يتناول القراءة وغير القراءة فهي عامة.

 

}7528{ قوله: «لاَ تَحَاسُدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ» ، المراد بالحسد هنا الغبطة وهو أن يتمنى أن يكون له مثله، فالحسد نوعان:

النوع الأول: حسد مذموم وهو تمني زوال النعمة من مال أو علم أو صحة عن المسلم، فهذا هو الذنب الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.

النوع الثاني: حسد محمود وهو حسد الغبطة، وهو أن يتمنى أن يكون مثله من غير أن تزول النعمة عنه.

قوله: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ» والثاني: «وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ فَيَقُولُ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ» وفي لفظ آخر: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار»[(899)] وفي لفظ آخر يقول: «لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه في هلكته في الحق»[(900)] .

والشاهد: أنه سمى تلاوة القرآن وإنفاق المال فعلا وأضافه إلى العبد قال: «ففَهُوَ يَتْلُوهُ» وقال: «فَهُوَ يُنْفِقُهُ» والتلاوة فعل العبد، والمتلو هو كلام الله.

 

}7528{ قوله: «فَهُوَ يَتْلُوهُ» هذا هو الشاهد من هذا الحديث حيث أضاف التلاوة إليه فدل على أن الأفعال تنسب إلى العباد.

وفيه: الرد على من قال: إن الأفعال أفعال الله، وفي الرجل الثاني قال: «فَهُوَ يُنْفِقُهُ» إذ الإنفاق فعل العبد وكذا التلاوة، فهي أفعال العباد وليست أفعالا لله، وإن كان الله تعالى خلق العباد وخلق أفعالهم إلا أنهم هم المباشرون لها والكاسبون لها، فقد أعطاهم الله القدرة والاختيار.

قوله: «سَمِعْتُ سُفْيَانَ مِرَارًا» القائل: هو علي بن عبدالله المديني شيخ البخاري.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [المَائدة: 67]{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}

وَقَالَ الزُّهْرِيُّ مِنْ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ.

وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: [الجنّ: 28]{لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ}.

وَقَالَ تَعَالَى: [الأعرَاف: 62]{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي}.

وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ُ ح خ د ذ ِ .

وَقَالَتْ عَائِشَةُ إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ فَقُلْ: [التّوبَة: 105]{اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ.

وَقَالَ مَعْمَرٌ: [البَقَرَة: 2]{ذَلِكَ الْكِتَابُ} هَذَا الْقُرْآنُ: [البَقَرَة: 2]{هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ *} بَيَانٌ وَدِلاَلَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: [المُمتَحنَة: 10]{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ} هَذَا حُكْمُ اللَّهِ [البَقَرَة: 2]{لاَ رَيْبَ فِيهِ} لاَ شَكَّ [البَقَرَة: 252]{تِلْكَ آيَاتُ} يَعْنِي: هَذِهِ أَعْلاَمُ الْقُرْآنِ وَمِثْلُهُ [يُونس: 22]{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} يَعْنِي: بِكُمْ.

وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ.

}7530{ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الرَّقِّيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، الثَّقَفِيُّ حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ، وَزِيَادُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ حَيَّةَ قَالَ الْمُغِيرَةُ :أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ.

}7531{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍن عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئًا مِنْ الْوَحْيِ فَلاَ تُصَدِّقْهُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: [المَائدة: 67]{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.

}7532{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ؟ قَالَ: « أَنْ تَدْعُوَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ » قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: « ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ » قَالَ: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: « أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ » فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَهَا: [الفُرقان: 68-69]{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً *} الآْيَةَ.

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [المَائدة: 67]{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}» هذه الترجمة المقصود بها أن تلاوة القرآن وتبليغه وترك التلاوة وترك التبليغ كل هذا من فعل العبد؛ ولهذا قال: {بَلَغَ} {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} وأفعال العبد مخلوقة، والمبلَّغ هو كلام الله غير مخلوق؛ لأن المبلِّغ ليس له من الكلام إلا مجرد التبليغ الذي هو فعله، وأما ابتداء الكلام فهو لمن أنشأه وابتدأه وهو الله وهو غير مخلوق.

وهذا الاستدلال من المؤلف رحمه الله من رسوخه في العلم؛ لأنه يتضمن أصلين ضل عنهم أهل الزيغ والضلال:

الأصل الأول: هو أن الرسول ليس له من الكلام إلا مجرد التبليغ؛ إذ لو كان أنشأ ألفاظه لم يكن مبلغا، وإنما يكون منشئا مبتدئا.

الأصل الثاني: أن التبليغ فعل المبلغ وتبليغه هو تلاوته بصوت نفسه، وحقيقة التبليغ أن يورد إلى الموصل إليه ما حمله إياه غيره فله مجرد إيصاله، فهذان الأصلان تتضمنتهما الترجمة، فأنت إذا قرأت قول امرئ القيس:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

تكون مبلغًا ولا تكون منشئًا؛ لأن هذا الكلام لامرئ القيس، وإذا قرأت: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»[(901)] تقول: هذا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فأنت مبلغ ليس لك إلا مجرد التبليغ، والكلام لمن أنشأه وابتدأه، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغنا كلام الله عز وجل فإنما له مجرد التبليغ والكلام لله عز وجل.

قوله: «وَقَالَ الزُّهْرِيُّ مِنْ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا التَّسْلِيمُ» يعني: الله تعالى هو الذي يكلفنا وهو الذي يأمرنا وينهانا وهو الذي أرسل إلى الرسول وأنزل عليه الكتاب وأوحى إليه السنة فالله عز وجل منه الرسالة، والرسول صلى الله عليه وسلم عليه تبليغ هذه الرسالة، ونحن علينا التسليم بها والانقياد لها.

وهذا كلام عظيم من كلام الإمام الزهري رحمه الله يكتب بماء الذهب، بل إن الذهب لا يساوي شيئا بالنسبة إلى هذا الكلام، والزهري إمام من أئمة أهل الحديث.

والشاهد قوله: «وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَلاَغُ» فأثبت أن التبليغ فعل الرسول فيكون مخلوقًا، والرسول مبلِّغ يبلغ كلام الله، أما المبلَّغ فهو كلام الله وهو غير مخلوق.

قوله: « [التّوبَة: 105]{فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ}» الشاهد فيه: إضافة العمل إلى العباد، فالضمير يعود إلى العباد، وأعمالهم مخلوقة ومن ذلك قراءتهم للقرآن فهي فعل لهم، والقرآن كلام الله غير مخلوق.

قوله: «وَقَالَتْ عَائِشَةُ إِذَا أَعْجَبَكَ حُسْنُ عَمَلِ امْرِئٍ» الشاهد منه قول عائشة رضي الله عنها: «عَمَلِ امْرِئٍ» حيث أضافت العمل إليه، وكذلك قوله: [التّوبَة: 105]{فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} حيث أضاف العمل إليهم؛ فأعمالهم مخلوقة، ومن ذلك قراءتهم للقرآن وكلام الله منزل غير مخلوق.

قوله: «وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ أَحَدٌ» يعني: لا تغتر.

قوله: «وَقَالَ مَعْمَرٌ» هو ابن المثنى أبو عبيدة اللغوي المعروف، وينقل عنه الإمام البخاري في تفسيره الكلمات والمعاني اللغوية، يعني: قال في تفسير قول الله تعالى: « [البَقَرَة: 2]{ذَلِكَ الْكِتَابُ}: هَذَا الْقُرْآنُ: [البَقَرَة: 2]{هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ *}» يعني: «بَيَانٌ وَدِلاَلَةٌ» يريد أن هذا اسم إشارة للقريب وذلك للبعيد، فإنه وإن كانت الإشارة للبعيد إلا أن معناها للقريب؛ ولهذا فسرها فقال: «هَذَا الْقُرْآنُ» وهذا أسلوب عربي وهو أنه قد يشار للقريب بالبعيد لعظمه وعلو شأنه، وإلا فالمراد هذا القرآن والقرآن قريب بين أيدينا، فأسماء الإشارة ينوب بعضها عن بعض.

ثم أراد أن يذكر النظائر بأن اسم الإشارة للبعيد يأتي ومعناه: للقريب ومن الأمثلة: «كَقَوْلِهِ تَعَالَى: [المُمتَحنَة: 10]{ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ}» {ذَلِكُمْ} الإشارة للبعيد ومعناه: «هَذَا حُكْمُ اللَّهِ» ، وقوله: « [البَقَرَة: 2]{لاَ رَيْبَ فِيهِ} لاَ شَكَّ» أي: فيه.

قوله: « [البَقَرَة: 252]{تِلْكَ آيَاتُ}» وفي الرواية الأخرى: «تلك الآيات» «يَعْنِي: هَذِهِ أَعْلاَمُ الْقُرْآنِ».

ثم أراد أن ينظر أيضًا فقال: «ومثله: [يُونس: 22]{حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} يَعْنِي: بِكُمْ» المعنى: وجرين بكم، فالخطاب لهم لكن ناب ضمير الغيبة عن ضمير الخطاب، فكما أن ضمير الغيبة ينوب عن ضمير الخطاب كذلك اسم الإشارة للبعيد ينوب عن اسم الإشارة للقريب.

قوله: « [البَقَرَة: 2]{هُدَىً لِلْمُتَّقِينَ *}» يقول: «بَيَانٌ وَدِلاَلَةٌ» والشاهد :أن الهداية نوع من التبليغ، والتبليغ فعل المبلِّغ والمبلِّغ أفعاله مخلوقة.

قوله: «وَقَالَ أَنَسٌ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَالَهُ حَرَامًا إِلَى قَوْمِهِ وَقَالَ: أَتُؤْمِنُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَعَلَ يُحَدِّثُهُمْ» الشاهد قوله: «أَتُؤْمِنُونِي أُبَلِّغُ رِسَالَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» فتبليغ حرام رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم هو فعله، والمبلغ ليس له إلا مجرد التبليغ، فكما أن الكلام للرسول صلى الله عليه وسلم وحرام هو المبلغ، فكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم إذا بلغ كلام الله فهو المبلِّغ.

 

}7530{ الشاهد من هذا الحديث قوله: «أَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا» فالرسالة من الله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم له التبليغ، فدل على أن التبليغ إنما هو فعل المبلِّغ والمبلغ في أقواله وأفعاله مخلوق.

 

}7531{ الشاهد من هذا الحديث: أن تبليغ الرسول صلى الله عليه وسلم من فعله والآمر له هو الله وهو المتكلم، والرسول صلى الله عليه وسلم فعله وأقواله مخلوقة ومن ذلك قراءته للقرآن، فدل على أن هناك فرق بين المبلِّغ والمبلَّغ، فالمبلَّغ كلام الله والتبليغ فعل المبلِّغ وفعله مخلوق.

 

}7532{ هذا الحديث فيه: عظم الشرك وأنه أعظم الذنوب وهو الذنب الذي لا يغفر، ثم يليه القتل وإذا كان القتل في الولد صار أعظم لأنه يجتمع فيه كبيرتان قتل النفس وقطيعة الرحم، ثم يليه الزنا بحليلة الجار، وهذا الزنا يجتمع فيه كبيرتان أيضًا: الزنا وأذى الجار؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: «لأن يزني الرجل بعشرة نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره»[(902)] .

والشاهد: إضافة أفعال العباد إليهم من دعاء الند وقتل الولد والشرك والزنا بحليلة الجار وأن هذه أفعال تنسب إليهم، فدل على أن أفعال العباد مخلوقة ومن ذلك قراءتهم للقرآن.

وفيه: الرد على الجبرية والقدرية، فالجبرية يقولون: الأفعال أفعال الله والعبد وعاء تنسب إليه الأفعال مجازا، والقدرية يقولون: العباد خالقون لأفعالهم، وهذان المذهبان باطلان، والصواب ما عليه أهل السنة والجماعة والذي تدل له النصوص من أن أفعال العباد وأقوالهم مخلوقة لله، والله تعالى خالق العباد وخالق أفعالهم لكن العباد لهم قدرة واختيار ولهم مشيئة تابعة لمشيئة الله، والله تعالى خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال سبحانه: [الصَّافات: 96]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *}.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

[آل عِمرَان: 93]{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا}

وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا، وَأُعْطِيَ أَهْلُ الإِْنْجِيلِ الإِْنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ، وَأُعْطِيتُمْ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ».

وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: [البَقَرَة: 121]{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، يُقَالُ: [النِّسَاء: 127]{يُتْلَى} يُقْرَأُ حَسَنُ التِّلاَوَةِ حَسَنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ [الواقِعَة: 79]{لاَ يَمَسُّهُ} لاَ يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلاَّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ، وَلاَ يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلاَّ الْمُوقِنُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [الجُمُعَة: 5]{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *}.

وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الإِْسْلاَمَ وَالإِْيمَانَ وَالصَّلاَةَ عَمَلاً، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لِبِلاَلٍ أَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِْسْلاَمِ؟» قَالَ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِي أَنِّي لَمْ أَتَطَهَّرْ إِلاَّ صَلَّيْتُ وَسُئِلَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ الْجِهَادُ ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ».

}7533{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنْ الأُْمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ. أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِْنْجِيلِ الإِْنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صُلِّيَتْ الْعَصْرُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيتُمْ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: هَؤُلاَءِ أَقَلُّ مِنَّا عَمَلاً وَأَكْثَرُ أَجْرًا، قَالَ اللَّهُ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ. قَالَ فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ُ ) ظ ط ض ِ » يعني: اقرءوها والمقصود من هذه الترجمة أن التلاوة للكتاب يراد بها القراءة ويراد بها العمل، فهي نوعان:

النوع الأول: القراءة وهذه عبادة.

النوع الثاني: العمل كما قال تعالى: [البَقَرَة: 121]{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} يعني: يعملون به حق العمل وهي بنوعيها عمل العامل وفعله وتنسب إليه يقال: حسن القراءة ويقال: رديء القراءة، وأما المتلو فهو كلام الله القرآن وفيه: الرد على الجبرية القائلين بأن أفعال العبد هي فعل الله بل لا فعل للعبد عندهم فالفاعل هو الله.

وفيه: الرد على القدرية المعتزلة القائلين بأن القرآن مخلوق ولا يفرقون بين القراءة التي هي فعل القارئ وبين المقروء الذي هو كلام البارئ.

قوله: «أُعْطِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا» يعني: بالتوراة، فأضاف العمل إليهم.

قوله: «وَأُعْطِيَ أَهْلُ الإِْنْجِيلِ الإِْنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ» يعني: بالإنجيل، فأضاف العمل إليهم.

قوله: «وَأُعْطِيتُمْ الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ» يعني: بالقرآن، فأضاف العمل إليهم، فدل ذلك على أن أعمالهم أفعال لهم وهي مخلوقة، وأما التوراة التي يقرؤها اليهود والإنجيل الذي يقرؤه النصارى والقرآن الذي يقرؤه المسلمون فهو كلام الله.

قوله: «وَقَالَ أَبُو رَزِينٍ: [البَقَرَة: 121]{يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} يَتَّبِعُونَهُ وَيَعْمَلُونَ بِهِ حَقَّ عَمَلِهِ، يُقَالُ: [النِّسَاء: 127]{يُتْلَى} يُقْرَأُ حَسَنُ التِّلاَوَةِ حَسَنُ الْقِرَاءَةِ لِلْقُرْآنِ» ومراده أن تلاوة القرآن تتنوع إلى نوعين:

النوع الأول: تلاوته بمعنى العمل به حق عمله وهذه تلاوة حكمية، وهي الغاية من إنزال القرآن قال تعالى: [البَقَرَة: 121]{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}.

النوع الثاني: تلاوته بمعنى قراءته وهذه عبادة، وهي وسيلة للعمل به ومن قرأ القرآن ولم يعمل به فقد قامت عليه الحجة.

ومن تفسير التلاوة بالعمل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا وضع الإنسان في قبره أتاه ملكان يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فالمؤمن يقول: ربي الله والإسلام ديني ومحمد نبيي» يعني: يثبته الله عز وجل: «وأما الفاجر فإذا قيل له: من ربك؟ قال: ها ها لا أدري، من نبيك؟ يقول: ها ها لا أدري، ما دينك؟ يقول: ها ها لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت»[(903)] وهذا هو الشاهد «لا دريت» يعني: لا علمت الحق بنفسك، «ولا تليت» يعني: لا تبعت من يعمل بالحق.

قوله: « [الواقِعَة: 79]{لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *} وهذا من دقة تفسير الإمام البخاري لقوله تعالى: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *} فأفاد أن له معنيين: معنى ظاهر ومعنى خفي، فالمعنى الظاهر: لا يمس المصحف بيده إلا المتوضئ، والمعنى الخفي: الذي فسره البخاري قال: «لاَ يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلاَّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ» وهذا تفسير بدلالة النص وإشارته وتنبيهه وبالقياس الجلي، وإلا فمعنى {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ *}: لا يحمله بيده إلا المتطهر من الأحداث، وإذا كان المحدث لا يمسه بيده فغير المؤمن به لا يجد نفعه وطعمه من باب أولى.

قوله: «وَلاَ يَحْمِلُهُ بِحَقِّهِ إِلاَّ الْمُوقِنُ» المعنى: لا يعمل به إلا الموقن، كقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} وهم اليهود {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} يعني: لم يعملوا بها، مثلهم: [الجُمُعَة: 5]{كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}.

قوله: «وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الإِْسْلاَمَ وَالإِْيمَانَ وَالصَّلاَةَ عَمَلاً» هذا تابع للترجمة، ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»[(904)] فسمى الإيمان والإسلام والصلاة عملاً، وعمل الإنسان مخلوق، ومن ذلك قراءة القرآن، فدل على أن كلام الله منزل غير مخلوق، وأما أفعال العباد وأقوالهم فهي مخلوقة لله عز وجل.

قوله: «أَخْبِرْنِي بِأَرْجَى عَمَلٍ عَمِلْتَهُ فِي الإِْسْلاَمِ؟» قَالَ مَا عَمِلْتُ عَمَلاً أَرْجَى عِنْدِي» الشاهد: فيه أنه أضاف العمل إلى نفسه، فصلاته عمل له، فدل على أن أفعال العباد مخلوقة.

قوله: «وَسُئِلَ» أي: النبي صلى الله عليه وسلم «أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ: «إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ الْجِهَادُ ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ»» ، الشاهد: فيه أنه سمى الإيمان والجهاد والحج عملا؛ فهي مخلوقة والله تعالى خالقهم وخالق أفعالهم.

 

}7533{ قوله: «إِنَّمَا بَقَاؤُكُمْ فِيمَنْ سَلَفَ مِنْ الأُْمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ» فيه: بيان نسبة بقاء هذه الأمة إلى ما سبق من الأمم، فالأمم السابقة نسبة المدة التي سبقوا إليها وقضوها من طلوع الشمس إلى العصر، وأما هذه الأمة فنسبة بقائها من صلاة العصر إلى غروب الشمس.

وفيه: أيضا فضل هذه الأمة وأن الله تعالى ضاعف لها الأجور؛ ولهذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بأنه: «أُوتِيَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ التَّوْرَاةَ فَعَمِلُوا بِهَا حَتَّى انْتَصَفَ النَّهَارُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيَ أَهْلُ الإِْنْجِيلِ الإِْنْجِيلَ فَعَمِلُوا بِهِ حَتَّى صُلِّيَتْ الْعَصْرُ، ثُمَّ عَجَزُوا فَأُعْطُوا قِيرَاطًا قِيرَاطًا، ثُمَّ أُوتِيتُمْ» ، أي: هذه الأمة «الْقُرْآنَ فَعَمِلْتُمْ بِهِ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَأُعْطِيتُمْ قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: هَؤُلاَءِ أَقَلُّ مِنَّا عَمَلاً وَأَكْثَرُ أَجْرًا» وفي اللفظ الآخر: «فغضبوا وقالوا: هؤلاء أقل منا عملاً وأكثر أجرًا!»[(905)] «قَالَ اللَّهُ هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ قَالُوا: لاَ. قَالَ فَهُوَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ» والشاهد: تسمية العمل بالتوراة والعمل بالإنجيل والعمل بالقرآن عملاً وإضافته إلى العباد، فهذا دليل على أن أعمال العباد وأقوالهم مخلوقة، والله تعالى خالقهم وخالق أفعالهم، كما قال سبحانه: [الصَّافات: 96]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *} فهو الذي أعطاهم القدرة والإرادة ومن ذلك أقوالهم وتسبيحهم وتهليلهم وقراءتهم للقرآن، وأما المقروء فهو كلام الله منزل غير مخلوق.

 وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ عَمَلاً

وَقَالَ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ.

}7534{ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ الْوَلِيدِ، ح. وحَدَّثَنِي عَبَّادُ بْنُ يَعْقُوبَ الأَْسَدِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الأَْعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: الصَّلاَةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

 

قوله: «بَاب وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الصَّلاَةَ عَمَلاً» تسمية الصلاة عملا دليل على أن أعمال العباد مضافة إليهم.

قوله: «وَقَالَ لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» والنفي للصحة لا للكمال، والمعنى: أنه لا تصح الصلاة إلا بفاتحة الكتاب، والشاهد أنه أسند القراءة إلى المصلي؛ فدل ذلك على أنها من فعله.

 

}7534{ هذا الحديث فيه: فضل الصلاة على وقتها وأنها من أفضل الأعمال، ثم يليها بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله، وفي هذا الحديث سمى النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصلاةَ عملاً، وسمى برَّ الوالدين عملاَ، وسمى الجهاد عملاً، وهي مضافة إلى العباد، تنسب إليهم فهي أفعالهم وأعمالهم كسبوها باختيارهم وليست أفعالا لله كما تقوله الجبرية، ولكن الله هو خالق العباد وهو خالق أفعالهم كما قال سبحانه: [الصَّافات: 96]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *} ومن أفعال العباد أقوالهم وتلاوتهم للقرآن، وأما الكلام المقروء فهو منزل كلام الله غير مخلوق.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد