شعار الموقع

شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري(97-463)

00:00
00:00
تحميل
108

قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [المعَارج: 19-21]{إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا *إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا *وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *}

ُ ئ ء ـ! ! ِ ضَجُورًا.

}7535{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، عَنْ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ، قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا، فَقَالَ: «إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي، أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ، مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» فَقَالَ عَمْرٌو: مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ.

 

هذه الترجمة فيها تفسير قول الله تعالى: « [المعَارج: 19]{هَلُوعًا *}» قال: «ضجورًا» ، ومقصود المؤلف رحمه الله بهذا الباب إثبات خلق الله للإنسان بأخلاقه من الهلع والمنع ـ والهلع: الجزع ـ وجميع أفعاله، قال تعالى: [المعَارج: 20-21]{إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا *وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا *}، فالإنسان لا يخلق فعل نفسه كما تقوله المعتزلة والقدرية، ففيه: الرد عليهم، بل الله خالق العباد وخالق أفعالهم وأخلاقهم كما قال سبحانه: [الصَّافات: 96]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *}.

 

}7535{ في هذا الحديث ـ حديث عمرو بن تغلب رضي الله عنه ـ يقول: «أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَالٌ فَأَعْطَى قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ» هذا المال إما من الفيء أو من الجزية أو من غيرهما، فأعطى قوما من هذا المال ومنع آخرين، والذين أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم هم الذين أسلموا حديثا، ودخلوا في الإسلام حديثا فيعطيهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتألفهم على الإسلام ويتقوى إيمانهم، كما في غزوة حنين فقد أعطى رؤساء القبائل مائةً مائة من الإبل وترك المهاجرين والأنصار[(906)]، والذين منعهم وكلهم إلى إسلامهم.

قوله: «فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ عَتَبُوا» يعني: انتقدوا عليه، قالوا: كيف يعطي هؤلاء ويتركنا؟ فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم، وبين لهم وجه ذلك فقال: «إِنِّي أُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الَّذِي أُعْطِي» ، يعني: الذي لا أعطيه أحب إلي من الذي أعطيه.

قوله: «أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْغِنَى وَالْخَيْرِ» ، يعني: الذين في قلوبهم جزع وهلع أعطيهم حتى يزول ما في نفوسهم، والذين جعل الله في قلوبهم غنىً وخيرًا وثباتًا لا أعطيهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ» ، يعني: من الذين لا أعطيهم، ومن الذين جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير؛ ففرح عمرو بهذه الكلمة وقال: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ» . حُمْر بإسكان الميم جمع أحمر، وإذا ضممت الميم ـ حُمُر ـ صارت جمع حمار فتغير المعنى، فهذا مما يختلف بالشكل، وحُمْر النعم يعني: الإبل الحمر، يعني: ما أحب أن لي بدل كلمة الرسول الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب وهذا مثال، والمعنى ما أحب أن لي بدلها الدنيا وما فيها.

والشاهد من الحديث قوله: «أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ» ، والجزع والهلع من صفات الإنسان، وهو شاهد الترجمة، وهو أن الله تعالى خلق الإنسان، وخلق فيه القدرة والإرادة ومن ذلك صفاته وأقواله وأفعاله من الهلع والمنع والإعطاء والصبر، ومن ذلك التلاوة، وأما القرآن المتلو فهو كلام الله المنزل غير مخلوق.

 ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ

}7536{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ، حَدَّثَنَا أَبُو زَيْدٍ سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الْهَرَوِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: «إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً».

}7537{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى، عَنْ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: رُبَّمَا ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، أَوْ بُوعًا».

وَقَالَ مُعْتَمِرٌ: سَمِعْتُ أَبِي سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل.

}7538{ حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ قَالَ: «لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ».

}7539{ حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، ح.

وقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ قَالَ: «لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ.

}7540{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سُرَيْجٍ، أَخْبَرَنَا شَبَابَةُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ، قَالَ: فَرَجَّعَ فِيهَا قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَقَالَ: لَوْلاَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ، يَحْكِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ: كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ: آآآثَلاَثَ مَرَّاتٍ.

 

قوله: «بَاب ذِكْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرِوَايَتِهِ عَنْ رَبِّهِ» هذه الترجمة المراد بها رواية النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه بدون واسطة جبريل، ويسمى هذا بالحديث القدسي.

فحديث النبي صلى الله عليه وسلم وحي من الله عز وجل؛ لقول الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: [النّجْم: 3-4]{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى *}، لكنها تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ما يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه فيقول: قال الله تعالى، فهذا يسمى بالحديث القدسي، وهو منسوب إلى الله عز وجل، فهو من كلام الله لفظًا ومعنى كالقرآن، إلا أن له أحكاما تختلف عن القرآن، فالقرآن متعبد بتلاوته والحديث القدسي غير متعبد بتلاوته، والقرآن لا يمسه إلا متوضئ والحديث القدسي يمسه غير المتوضئ، والقرآن معجز بلفظه والحديث القدسي غير معجز بلفظه.

القسم الثاني: الأحاديث غير القدسية، فهي من الله معنى ومن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظًا.

}7536{ قوله: «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ» هذا قول الله لفظًا ومعنى، «قَالَ: «إِذَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً»» ، وهذه الصفات تمر كما جاءت من غير تفسير لمعنى الكيفية، فهي صفات تليق بالله عز وجل لا يماثله فيها أحد من خلقه.

وقد فسر النووي رحمه الله ـ كما سبق ـ: معنى هذا أن الله أسرع بالخير من العبد، وأن الله لا يقطع الثواب عن العبد حتى يقطع العبد العمل، وهذا حقيقة ليس هو الصفة، وإنما هو أثر من آثار الصفة، فالصفة نثبتها، ونعلم معناها، وأما الكيفية فلا يعلمها إلا الله، كما قال الإمام مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواء قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فهذا يقال في جميع الصفات.

 

}7537{ هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه، والمعنى كما في الحديث السابق، واحد وفيه قوله: «قَالَ: رُبَّمَا ذَكَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:» أي: عن الله عز وجل.

 

}7538{ هذا أيضا حديث أبي هريرة رضي الله عنه وهو من الأحاديث القدسية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه.

قوله: «يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عز وجل» هذا من كلام الله لفظًا ومعنىً، فهو ـ أي: الكلام ـ صفة الله لفظا ومعنى ليس مخلوقا كما تقوله المعتزلة، ولا هو المعنى دون اللفظ كما تقوله الأشاعرة والكلابية، فالأشاعرة والكلابية والمعتزلة كلامهم باطل.

قوله: «لِكُلِّ عَمَلٍ كَفَّارَةٌ وَالصَّوْمُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» فيه: فضل الصوم؛ حيث إن الله تعالى أضافه إليه إضافة اختصاص، فالله تعالى يجزي بالصوم من غير حصر عدد كما قال بعض السلف: إن الله تعالى يجزي عن العمل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم؛ فإنه لا يعلم ثوابه إلا الله عز وجل، ولا ينحصر تضعيفه بسبعمائة؛ لأن الصوم سر بين العبد وبين ربه.

قوله: «وَلَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» خُلوف ـ بالضم والفتح ـ يعني: الرائحة التي تنبعث من فم الصائم عند خلو المعدة من الطعام والشراب، وهي رائحة مستكرهة في مشام الناس في الدنيا، لكنها أطيب عند الله من ريح المسك؛ لأنها ناشئة عن مرضاته وطاعته.

 

}7539{ هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: قوله: «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ» وهذا هو الشاهد من هذا الحديث أن هذا من كلام الله لفظًا ومعنىً.

قوله: «لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وفي لفظ آخر: «من قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب»[(907)] وذلك أن يونس عليه السلام لما دعا قومه وردوا عليه دعوته ذهب مغاضبا، وركب الفلك المشحون كما قص الله علينا، ثم سقط في بطن الحوت، وقد قال الله لنبيه: [القَلَم: 48]{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ}، وهو يونس، فقد يظن بعض الناس أنه خير من يونس، ومن ظن أنه خير من يونس بن متى فقد كذب؛ لأن يونس نبي كريم، ولا يمكن أن يقول هذا أحد من الصالحين، ولو قدر أن أحدًا قال ذلك فهو كاذب.

وفيه: نهي الإنسان أن يدعي أنه خير من نبي الله يونس عليه السلام.

قوله: «وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ» ؛ لأن بعض الناس يظن أن متى اسم أمه، وهو محكي عن وهب بن منبه وهو اسم أبيه.

 

}7540{ هذا حديث عبدالله بن المغفل رضي الله عنه، وفيه: قوله: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ» وهذا الشاهد من الحديث، فعبدالله بن المغفل يروي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أعم من أن يكون قرآنًا أو غيره، بدون الواسطة أو بالواسطة.

قوله: «يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ، قَالَ: فَرَجَّعَ فِيهَا» الترجيع: هو ترديد الصوت في الحلق، والجهر بالقول مكررًا بعد خفائه.

قوله: «قَرَأَ مُعَاوِيَةُ» وهو ابن قرة راوي الحديث «يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ، وَقَالَ: لَوْلاَ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَيْكُمْ لَرَجَّعْتُ كَمَا رَجَّعَ ابْنُ مُغَفَّلٍ، يَحْكِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ لِمُعَاوِيَةَ:» ، والقائل هو شعبة، «كَيْفَ كَانَ تَرْجِيعُهُ؟ قَالَ: آآآثَلاَثَ مَرَّاتٍ». قال ابن حجر: «وقال القرطبي: يحتمل أن يكون حكاية صوته عند هز الراحلة كما يعتري رافع صوته إذا كان راكبًا من انضغاط صوته وتقطيعه لأجل هز المركوب».

 مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا

مِنْ كُتُبِ اللَّهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وَغَيْرِهَا

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ُ ) ظ ط ض ص ش س ء ف! ! ِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا تَرْجُمَانَهُ ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ وَ [آل عِمرَان: 64]{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآْيَةَ.

}7542{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَِهْلِ الإِْسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا [البَقَرَة: 136]{آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ}» الآْيَةَ.

}7543{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ الْيَهُودِ قَدْ زَنَيَا، فَقَالَ لِلْيَهُودِ: مَا تَصْنَعُونَ بِهِمَا؟ قَالُوا: نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا وَنُخْزِيهِمَا، قَالَ: [آل عِمرَان: 93]{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *}، فَجَاءُوا، فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ: يَا أَعْوَرُ اقْرَأْ، فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، قَالَ ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهِ آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عَلَيْهِمَا الرَّجْمَ وَلَكِنَّا نُكَاتِمُهُ بَيْنَنَا، فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا فَرَأَيْتُهُ يُجَانِئُ عَلَيْهَا الْحِجَارَةَ.

 

قوله: «بَاب مَا يَجُوزُ مِنْ تَفْسِيرِ التَّوْرَاةِ وَغَيْرِهَا» يعني: مثل الإنجيل والزبور وبعض الصحف التي نزلت على بعض الأنبياء باللغات المختلفة.

وفيه: دليل على جواز ترجمة معاني القرآن بالعربية وغيرها لغير العرب حتى يفهموا المعنى، والترجمة من كلام الناس، وأما المترجم فهو كلام الله المفسر، وكلام الناس وأقوالهم وأفعالهم مخلوقة، والمترجم والمفسر وهو القرآن كلام الله غير مخلوق، وكلام الناس وأعمالهم تنسب إليهم لا إلى الله كما تقول الجبرية، والقرآن كلام الله لفظه ومعناه، لا المعنى فقط كما تقول الكلابية والأشاعرة، وليس مخلوقًا كما تقوله المعتزلة.

فالمقصود بهذه الترجمة أن القراءة فعل القارئ والمقروء هو كلام الله عز وجل ليس بمخلوق، فمن حلف بالقرآن فإنه حلف بكلام الله فيحنث إذا خالف اليمين، أما من حلف بأصوات الناس وأصوات الكفار ونداء المشركين فإنه لا يكون عليه يمين.

ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد في إبلاغ هرقل ما في الكتاب على من يترجم عنه بلسان المبعوث إليه ليفهمه، فترجمت الآية الكريمة: [آل عِمرَان: 64]{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ترجمت إلى هرقل، وهرقل ليس عربيا وإنما عنده مترجم ترجمها له بلسانه، ولا يشك في قراءة الكفار أنها من أعمالهم، وأما المقروء فهو كلام الله.

 

}7542{ وجه الدلالة من هذا الحديث: أن قراءتهم للتوراة وتلاوتها وتفسيرها بالعربية فعل لهم وعمل منسوب إليهم ولا يصدقون فيه ولا يكذبون، وأما المقروء والمفسر فهي التوراة كلام الله فدل على أنها فعل الإنسان، ومن ذلك قراءته وترجمته فهي كلها مخلوقة، وأما المقروء والمفسر والمترجم فهو كلام الله.

 

}7543{ قوله: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْ الْيَهُودِ قَدْ زَنَيَا» ، جاء اليهود بهما إلى النبي لأنه حاكم المدينة وولي الأمر وهو الذي ينفذ أحكام الله على عباده، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود قال: «مَا تَصْنَعُونَ بِهِمَا؟» يعني: ما تصنعون بالزاني والزانية في شريعتكم وكتابكم؟ فأخبروه بغير الواقع، فقالوا: «نُسَخِّمُ وُجُوهَهُمَا» التسخيم: تسويد الوجه، يعني: نطلي وجه كل واحد منهما بالسواد، «وَنُخْزِيهِمَا» ، يعني: نفضحهما بأن نركبهما على الحمار معكوسين، يعني: مثلاً أحدهما وجهه إلى خلف الحمار والآخر وجهه إلى رأس الحمار، وندور بهما في الأسواق، ونقول: هذه عقوبة الزاني والزانية.

قوله: «قَالَ: [آل عِمرَان: 93]{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *}» ، يعني: ائتوا بالتوراة إذا كان هذا الحكم عندكم، «فَجَاءُوا» بالتوراة، وفي لفظ آخر: «فأتوا بالتوراة فنشروها»[(908)] .

قوله: «فَقَالُوا لِرَجُلٍ مِمَّنْ يَرْضَوْنَ: يَا أَعْوَرُ اقْرَأْ، فَقَرَأَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ مِنْهَا» لما أتت آية الرجم «فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ» وقرأ ما قبلها وقرأ ما بعدها، فقال له: «ارْفَعْ يَدَكَ فَرَفَعَ يَدَهُ فَإِذَا فِيهِ آيَةُ الرَّجْمِ تَلُوحُ» ، فيه: دليل على أن اليهود قوم بهت، في الأول يقولون: عندنا نسخم الوجوه ونخزيهما هذا هو الحكم، فلما رفع يده ورأى آية الرجم تلوح «فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ عَلَيْهِمَا الرَّجْمَ وَلَكِنَّا نُكَاتِمُهُ بَيْنَنَا» ، وفي لفظ آخر أنه قال: «كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد قلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع»[(909)] فأبدلوا حكم الله بتسخيم الوجه وإخزائهما.

قوله: «فَأَمَرَ بِهِمَا فَرُجِمَا» ، أي: النبي صلى الله عليه وسلم تنفيذا لحكم التوراة، وهو حكم الله عز وجل، فلما رجما قال الراوي: «فَرَأَيْتُهُ» ، أي: الرجل «يُجَانِئُ عَلَيْهَا الْحِجَارَةَ» يعني: يكب عليها يقيها الحجارة، وهما في الموت فتكون الحجارة تضرب به وهو يقيها حتى ماتا.

والشاهد في الحديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا}، فتلاوة اليهود للتوراة من أفعالهم وأقوالهم وهي منسوبة إليهم وهي مخلوقة، وأما التوراة فهي كلام الله.

وفيه: دليل على أنه لا بأس بتفسير التوراة وغيرها بما يوضح المعنى.

 قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ»

}7544{ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ، حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ يَزِيدَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ».

}7545{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِْفْكِ مَا قَالُوا، وَكُلٌّ حَدَّثَنِي طَائِفَةً مِنْ الْحَدِيثِ قَالَتْ، فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّئُنِي، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي فِي نَفْسِي كَانَ أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل [النُّور: 11]{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} الْعَشْرَ الآْيَاتِ كُلَّهَا.

}7546{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ أُرَاهُ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ [التِّين: 1]{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ *} فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ.

}7547{ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَارِيًا بِمَكَّةَ، وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَإِذَا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: [الإسرَاء: 110]{وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}.

}7548{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ لَهُ: «إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ لِلصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ، وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ: أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.

}7549{ حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أُمِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِي وَأَنَا حَائِضٌ.

 

قوله: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ» يعني: الحاذق، والمراد جودة التلاوة مع حسن الحفظ، ويشمل هذا الرجل والمرأة، وهذا من فعل القارئ فيكون مخلوقًا.

قوله: «مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والمراد بالسفرة الكتبة جمع سافر مثل كاتب».

وفيه: نظر، والصواب أن السفرة يعني: حملة الوحي، وجبريل هو السفير بينه وبين الله؛ أما تفسير ابن حجر للسفرة بالكتبة فليس بواضح.

قوله: «وَزَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ» التزيين من فعل العبد، فالمقصود بهذه الترجمة إثبات كون التلاوة فعل العبد؛ حيث توصف بالتحسين، فيقال: فلان حسن الصوت أو يطرب بصوته أو يرجع أو يخفض أو يرفع أو يجهر، كل هذا من أفعال العبد، ولا ريب أن أفعال العباد مخلوقة لله تبارك وتعالى، كما أن العباد مخلوقون أفعالهم مخلوقة وأقوالهم وأعمالهم كلها مخلوقة، أما المقروء فهو كلام الله منزل غير مخلوق.

وفيه: الرد على المعتزلة القائلين بأن كلام الله مخلوق لفظه ومعناه، وعلى الأشاعرة القائلين بأن كلام الله هو المعنى، واللفظ ليس من كلام الله.

 

}7544{ قوله: «مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ» أذن بمعنى: استمع، فهو من صفات الله عز وجل الفعلية التي تليق بجلاله، أي: ما استمع الله لشيء ما استمع لنبي، والمراد جنس النبي، فليس المراد محمدًا صلى الله عليه وسلم فقط.

قوله: «حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» ، وفي لفظ آخر: «يتغنى به»[(910)] المعنى: ما استمع الله لشيء ما استمع لنبي من الأنبياء حسن الصوت يجهر به، ومن ذلك داود عليه الصلاة والسلام؛ فإنه أوتي مزمارًا فكان حسن الصوت، فكان إذا قرأ الزبور اجتمعت عليه الطيور والوحوش.

والشاهد من الحديث: إضافة حسن الصوت بالقرآن والجهر به إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: «حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ» فدل على أنه فعل له مخلوق، وأما المقروء فهو كلام الله منزل غير مخلوق.

 

}7545{ قوله: «حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِْفْكِ مَا قَالُوا» الإفك: هو أسوأ الكذب، وذلك حين رموها بالفاحشة لما تخلفت في بعض الغزوات، وأشاع المنافقون هذا الحديث، وتأخر الوحي شهرًا ابتلاء وامتحانًا، فاشتد الأمر على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى عائشة، وعائشة رضي الله عنها لما بلغها الخبر متأخرا صارت تبكي حتى إنها قالت: إني أظن أن البكاء فالق كبدي من شدة البكاء.

قوله: «وَأَنَا حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّئُنِي، وَلَكِنِّي وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى» ، كأنها تقول: أنا لا أستحق أن ينزل في قرآن، لكن لعل الرسول صلى الله عليه وسلم يرى رؤيا تكون فيها براءتي، وقد أنزل الله فيها: « [النُّور: 11]{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}» ؛ ولهذا قال العلماء: من رمى عائشة بالإفك بعد نزول الآيات وبعد أن برأها الله منه فقد كفر بالله العظيم؛ لأنه مكذب بالقرآن، والمكذب بالقرآن كافر بإجماع المسلمين؛ لأنه مكذب لله، ومن كذب الله كفر.

والشاهد قولها: «فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى» وقولها: «أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى» ، فالقرآن كلام الله لفظه ومعناه، أما التلاوة فهي فعل العبد وفعله مخلوق، والمتلو كلام الله غير مخلوق.

 

}7546{ قوله: «فَمَا سَمِعْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ صَوْتًا أَوْ قِرَاءَةً مِنْهُ» فيه: إضافة حسن الصوت والقراءة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الأصوات تختلف بالقراءة من جهة النغم، فهي فعل لهم وهي مخلوقة، أما المقروء فهو كلام الله، وهذا هو الشاهد في الحديث.

 

}7547{ هذا الحديث كرره المؤلف لاستنباط الأحكام والفوائد.

قوله: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَوَارِيًا بِمَكَّةَ» يعني: مختفيًا عن المشركين قبل الهجرة لقلة المسلمين، «وَكَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ» ، أي: في القراءة، «فَإِذَا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ وَمَنْ جَاءَ بِهِ» ، وإذا خفض صوته لا يسمعه أصحابه، «فَقَالَ اللَّهُ عز وجل لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا}، أي: ولا تسر بها حتى يسمعك أصحابك، ولكن [الإسرَاء: 110]{وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً *} أي: بين الجهر والإسرار.

والشاهد: إضافة الجهر والإسرار بالقراءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي فعل له والأصوات تختلف في الجهر والإسرار فهي مخلوقة، أما المقروء فهو كلام الله غير مخلوق.

ومما يؤكد أن المراد بالصلاة القراءة أن الفاتحة سميت صلاة في الحديث القدسي في قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: [الفَاتِحَة: 2]{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *} قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: [الفَاتِحَة: 3]{الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ *} قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: [الفَاتِحَة: 4]{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ *} قال: مجدني عبدي، وإذا قال: [الفَاتِحَة: 5]{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ *} قال: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: [الفَاتِحَة: 6-7]{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ *} قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل »[(911)] ، فقوله: «قسمت الصلاة» المراد: الفاتحة، ومن أسمائها الصلاة.

}7548{ قوله: «أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ لَهُ:» أي: لعبدالله بن عبدالرحمن بن أبي صعصعة «إِنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ أَوْ بَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ لِلصَّلاَةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلاَ إِنْسٌ، وَلاَ شَيْءٌ إِلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ: أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» . في هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان ورفع الصوت به.

ففيه: مشروعية الأذان، وأنه ينبغي لكل صلاة، حتى المسافر ولو كان وحده فلابد أن يؤذن، وبعض العلماء أوجبوا الأذان لكل صلاة إلا أن بعض المسافرين يتساهلون فيصلون بدون أذان.

وفيه: فضل الأذان، وأن المؤذن يشهد له من سمعه من الجن ومن الإنس ومن الجمادات؛ لعموم قوله: «وَلاَ شَيْءٌ».

ووجه الدلالة من الحديث: في قوله: «فَإِنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ» أخبر أن المؤذن له صوت ويشهد له، فإضافة الصوت إلى المؤذن والشهادة له دليل على أنه من عمله، فرفع الصوت بالقرآن أحق بالشهادة له وأولى، وصوته عمل له وفعل له فيكون مخلوقا، فكما أن المؤذن له صوت وله عمل مخلوق، فكذلك قارئ القرآن قوله وصوته مخلوق، والمقروء كلام الله غير مخلوق.

 

}7549{ قوله: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ الْقُرْآنَ» ووجه الدلالة: أنها أضافت قراءة القرآن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعلق القرآن بالظروف المكانية وهي حجر عائشة، فدل على أن القراءة مخلوقة، وأما المقروء فهو كلام الله غير مخلوق.

والحديث فيه: دليل على جواز قراءة القرآن للمضطجع، ويدل عليه أيضا قول الله تعالى: [آل عِمرَان: 191]{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ}.

وفي الحديث: حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وإيناسه لأهله بوضع رأسه على فخذ عائشة رضي الله عنها.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [المُزّمل: 20]{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}

}7550{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدَّثَنِي عُرْوَةُ أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ، وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ، حَدَّثَاهُ أَنَّهُمَا سَمِعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ: «أَرْسِلْهُ اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ».

 

قصد البخاري رحمه الله بهذه الترجمة أن يبين من قول الله تعالى: « [المُزّمل: 20]{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}» أن القراءة فعل القارئ؛ حيث نسبت القراءة إليه، ووصفت بأنها تتفاوت في الكمية والكيفية، وأن أفعال العباد مخلوقة أقوالهم وأفعالهم، ومن ذلك قراءتهم، وأما المقروء فهو كلام الله منزل غير مخلوق.

}7550{ قوله: «عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَبْدٍ الْقَارِيَّ» نسبة إلى بلدة قارة.

وهذا الحديث في هذه القصة وهي أن: «عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمٍ يَقْرَأُ» في الصلاة «سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» على حروف غير الحروف التي يقرؤها عمر رضي الله عنه، وهو معروف بقوته وشدته وصرامته في الحق، يقول: «فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاَةِ فَتَصَبَّرْتُ» يعني: كاد أن يأخذه ويجره وهو في الصلاة، لكنه تصبر.

قوله: «حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَبْتُهُ بِرِدَائِهِ» يعني: أخذ بردائه الذي على كتفيه، فجعل يجره بردائه كأنه يقوده به؛ لأن العرب كانوا في غالب أحوالهم يلبسون الأزر والأردية في غير الحج، والإزار قطعة من الثوب يشد بها النصف الأسفل، والرداء قطعة أخرى يجعلها على كتفيه مثل المحرم في الحج أو العمرة، وأحيانا يلبسون القمص، والقمص هي التي علينا الآن، وفوقه عمامة.

قوله: «مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ» يعني: أخطات «أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ» ، يقول عمر: «فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» أي: ما تركه، بل قاده حتى وصل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما وصل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله «إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا، فَقَالَ: أَرْسِلْهُ» ، يعني: اتركه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اقْرَأْ يَا هِشَامُ، فَقَرَأَ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: اقْرَأْ يَا عُمَرُ فَقَرَأْتُ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ: كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ» ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» اختلف العلماء في هذه الأحرف السبعة، فقال بعضهم: إنها لغات، كل حرف لغة، وقال آخرون: هذه الحروف هي أن الألفاظ تكون مختلفة والمعاني متقاربة مثل [آل عِمرَان: 153]{خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ *}، [البَقَرَة: 110]{إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *}، [البَقَرَة: 234]{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *}، [البَقَرَة: 29]{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ *}.

والقرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه جمع على الحروف السبعة، ثم جمع المرة الثانية في عهد عثمان رضي الله عنه على حرف واحد، وذلك أنه شكي إلى عثمان رضي الله عنه أن الناس اختلفوا في القراءة وهم في الغزو، فجاء حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وقال: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها اختلاف اليهود والنصارى؛ فأمر عثمان رضي الله عنه بجمع القرآن مرة أخرى على حرف واحد، وهو الحرف الذي عليه لغة قريش؛ ولهذا قال لهم عثمان رضي الله عنه: إذا اختلفتم في شيء فاكتبوه بلغة قريش، وهو الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة، فجبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في رمضان في كل سنة مرة، وفي السنة الأخيرة عارضه مرتين، فجمع على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة، وأمر عثمان رضي الله عنه أن تحرق بقية المصاحف، وهذا الحرف الذي جمع القرآن عليه مشتمل على القراءات السبع كلها.

وجاء في الحديث أن جبريل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأ على حرف واحد، فقال: «اللهم هون على أمتي»[(912)] وقال: مر أمتك أن تقرأ القرآن على حرفين حتى وصل إلى سبعة أحرف، وهذه توسعة من الله عز وجل.

والشاهد في الحديث قوله: «فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ» فإنه مناسب للترجمة: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [المُزّمل: 20]{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}» .

وقوله: «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ» فيه: تفاوت القراءة في الكيفية والكمية.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:

[القَمَر: 17]{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *}

وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» يُقَالُ مُيَسَّرٌ مُهَيَّأٌ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِكَ هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ عَلَيْكَ.

وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ [القَمَر: 17]{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *} قَالَ هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانَ عَلَيْهِ.

}7551{ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ يَزِيدُ حَدَّثَنِي مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: قُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ».

}7552{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ وَالأَْعْمَشِ سَمِعَا سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّهُ كَانَ فِي جَنَازَةٍ فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الأَْرْضِ، فَقَالَ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ قَالُوا أَلاَ نَتَّكِلُ قَالَ اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ [الليْل: 5]{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *} الآْيَةَ».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [القَمَر: 17]{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *}» المقصود بهذه الترجمة أن القراءة فعل القارئ وعمله؛ حيث وصفت القراءة بالتيسير، وعمله وفعله مخلوق، وأما القرآن المقروء فهو كلام الله غير مخلوق.

والفرق بين هذه الترجمة والترجمة السابقة أن الترجمة السابقة وهي: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [المُزّمل: 20]{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}» ، يعني: ما تيسر لكم، فالتيسير يعود للشخص، أي: اقرأ ما تيسر لك من القرآن، ثم إن هذه أيضًا في الصلاة؛ لأنه في آية سورة المزمل قال: [المُزّمل: 20]{إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} والقراءة في الصلاة، فيقرأ الإنسان الفاتحة؛ لأنه لابد منها في الصلاة، ثم بعد ذلك يقرأ ما تيسر.

أما هذه الترجمة وهي: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:: [القَمَر: 17]{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *}» فهذا التيسير من قِبَل الله عز وجل، ثم أيضًا هذا في الصلاة وخارج الصلاة.

وكل من الترجمتين يفيد أن القراءة فعل القارئ وعمله؛ حيث نسبت القراءة إليه ووصفت بالتيسير من قبله في الترجمة الأولى، وفي الترجمة الثانية وصفت بالتيسير من قبل الله عز وجل، وعمل الإنسان وفعله مخلوق، وأما المقروء فهو كلام الله غير مخلوق.

قوله: «وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»» فسر المؤلف «مُيَسَّرٌ» بقوله: «مُهَيَّأٌ» ، أي: هيأه الله لما خلق له، وهذا عام في القراءة وغير القراءة، فالله تعالى يسر كل إنسان لما خلق له، قال تعالى: [الليْل: 5-10]{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *} وثبت أن الصحابة رضوان الله عليهم قالوا: يا رسول الله ما يكدح الناس فيه ويعملون هل هو في أمر قد قضي وفرغ منه أم فيما يستقبل؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل في أمر قد قضي وفرغ منه» ، قالوا: يا رسول الله ففيم العمل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فسييسرون إلى عمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فسييسرون إلى عمل أهل الشقاوة»[(913)] ثم قرأ قوله تعالى: [الليْل: 5-10]{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *}.

فالمؤمن ميسر لعمل الطاعات، وأهل الشقاوة ميسرون لعمل المعاصي، ففي أمور الدنيا بعض الناس ميسر له العمل في التجارة، وبعض الناس ميسر له العمل في الزراعة، وكذلك الأعمال الصالحة فبعض الناس ينشرح صدره للصلاة فتجد عنده رغبة في الصلاة، فيصلي الضحى ويقوم الليل، وبعض الناس ينشرح صدره للصوم، ويصوم يوم الإثنين والخميس، تجده يصوم الثلاثة الأيام البيض وغيرها من الأيام المستحبة، وبعض الناس ميسر له الدعوة إلى الله، فأغلب وقته في الدعوة إلى الله، وبعض الناس ميسر له تعليم العلم، فكل وقته شغله في تعليم العلم، وبعض الناس ميسر له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتجده يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويلاحق أهل الفسق وأهل الجرائم ويصدهم عن مطلوبهم، وبعض الناس ميسر له الشفاعات، فتجده يشفع للمظلومين ويشفع للمسجونين ويجمع تبرعات لإخراج من عليه ديون وهكذا، فكل ميسر لما خلق له.

قوله: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ بِلِسَانِكَ» فسرها بقوله: «هَوَّنَّا قِرَاءَتَهُ عَلَيْكَ» ، وهذا التهوين تيسير من قبل الله، أما الترجمة في الأولى « [المُزّمل: 20]{فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}» يعني: ما تيسر لكم أيها المخاطبون.

وقال مطر الوراق: [القَمَر: 17]{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *} قال: هل من طالب علم فيعان عليه؟ لأن الذي يقرأ القرآن من غير تدبر بل يقرؤه بقلب غافل لاه فلا يستفيد، أما المتذكر والمتدبر للقرآن فيستفيد علمًا، فعندما يقرأ قول الله تعالى: [التّوبَة: 71]{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} ويتدبر يعلم أن هذه صفات الأخيار وصفات الرابحين.

 

}7551{ قوله: «فِيمَا يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»» ، هذا جواب السؤال، وإن كان الله تعالى قدر الأشياء كلها، لكن كل ميسر لما خلق له، فيشمل القراءة وغيرها.

والشاهد قوله: «مُيَسَّرٌ» ، والتيسير من قبل الله عز وجل، فهو شاهد الترجمة وهي قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [القَمَر: 17]{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *}» ، والقراءة عمل الإنسان وقراءته فعله وهو مخلوق، وأما المقروء فهو كلام الله غير مخلوق.

 

}7552{ قوله: «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ كَانَ فِي جَنَازَةٍ» ، جاء في اللفظ الآخر «ولما يلحد»[(914)] يعني: يحفرون القبر، وجلس النبي صلى الله عليه وسلم ينتظر حتى تدفن.

قوله: «فَأَخَذَ عُودًا فَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الأَْرْضِ» ، يعني: يحفر به الأرض، ثم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنْ النَّارِ أَوْ مِنْ الْجَنَّةِ» ، هذا فيه: إثبات القدر؛ لأن الله تعالى كتب كل شيء في اللوح المحفوظ كما في حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: «كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء»[(915)] فكل شيء مكتوب مفروغ منه قبل أن تخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

وكذلك أيضًا كتب التقدير الخاص على كل إنسان، وهو التقدير العمري كما ثبت في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في قصة خلق الإنسان وأنه: «يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك»[(916)] فهذه مائة وعشرون، «ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربع كلمات ويقال له: اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد»[(917)] .

وهناك تقدير سنوي، وهو ما يقدر في ليلة القدر في رمضان، يقدر الله فيها ما يكون في تلك السنة من حياة وموت، وصحة ومرض، وشقاوة وسعادة، وعز وإذلال، وغنى وفقر، يقدر كل ما يكون في تلك السنة، قال تعالى: [القَدر: 1]{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *} وسميت ليلة القدر؛ لأنه يقدر فيها ما يكون في تلك السنة، وقيل: سميت ليلة القدر؛ لعظم شأنها، ولا مانع من شمول الأمرين.

وهناك تقدير يومي كما قال تعالى: [الرَّحمن: 29]{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ *}، أي: يخفض ويرفع، ويعز ويذل، ويغني ويفقر، ويحيي ويميت سبحانه وتعالى.

قوله: «قَالُوا» يعني: الصحابة «أَلاَ نَتَّكِلُ» ، وفي لفظ: «ألا نتكل على كتابنا وندع العمل؟»[(918)] فقال عليه الصلاة والسلام: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ [الليْل: 5-10]{فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى *وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى *}.

والشاهد قوله: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ» والتيسير من الله عز وجل، وعمل الإنسان الذي يسره الله له ينسب إليه، فأعماله وأقواله وقراءته مخلوقة، أما المقروء فهو كلام الله منزل غير مخلوق.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد