قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
[البُرُوج: 21-22]{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *}
[الطُّور: 1-2]{وَالطُّورِ *وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ *} قَالَ قَتَادَةُ: مَكْتُوبٌ.
[القَلَم: 1]{يَسْطُرُونَ *} يَخُطُّونَ.
[الزّخرُف: 4]{فِي أُمِّ الْكِتَابِ} جُمْلَةِ الْكِتَابِ وَأَصْلِهِ.
[ق: 18]{مَا يَلْفِظُ} مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ كُتِبَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَبُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ: [المَائدة: 13]{يُحَرِّفُونَ} يُزِيلُونَ، وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عز وجل، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ.
دِرَاسَتُهُمْ تِلاَوَتُهُمْ. [الحَاقَّة: 12]{وَاعِيَةٌ *} حَافِظَةٌ.
[الحَاقَّة: 12]{وَتَعِيَهَا} تَحْفَظُهَا [الأنعَام: 19]{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ} يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ [الأنعَام: 19]{وَمَنْ بَلَغَ} هَذَا الْقُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ.
}7553{ وقَالَ لِي خَلِيفَةُ بْنُ خَيَّاطٍ: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ سَمِعْتُ أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا عِنْدَهُ غَلَبَتْ أَوْ قَالَ سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ».
}7554{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي غَالِبٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ أَبَا رَافِعٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه يَقُولُ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي فَهُوَ مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ».
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [البُرُوج: 21-22]{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *}» المقصود بهذه الترجمة أن القرآن كيفما تصرف فهو كلام الله غير مخلوق، وهو محفوظ في الصدور، موعى في القلوب، مسطر في اللوح وفي المصحف، مقروء بالألسن، منزل على النبي صلى الله عليه وسلم، والصدور والقلوب واللوح والمداد والورق والنبي صلى الله عليه وسلم والقارئ كل هذا مخلوق لله، والقرآن منزل غير مخلوق.
قوله: « [الطُّور: 1-2]{وَالطُّورِ *وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ *} قَالَ قَتَادَةُ مَكْتُوبٌ» هذا تفسير لكلمة مسطور، إذًا فالقرآن مسطور في الكتاب.
قوله: « [القَلَم: 1]{يَسْطُرُونَ *}» فسرها فقال: «يَخُطُّونَ».
قوله: « [الزّخرُف: 4]{فِي أُمِّ الْكِتَابِ}» فسرها فقال: «جُمْلَةِ الْكِتَابِ وَأَصْلِهِ».
قوله: « [ق: 18]{مَا يَلْفِظُ}: مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ كُتِبَ عَلَيْهِ» تفسير لقوله تعالى: [ق: 18]{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ *}.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُكْتَبُ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ: [المَائدة: 13]{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ} : يُزِيلُونَ» يشير إلى قوله تعالى: [المَائدة: 13]{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} وعلق البخاري رحمه الله على كلام ابن عباس رضي الله عنهما فقال: «وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عز وجل، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ» ففسر قول ابن عباس بتحريف المعنى لا تحريف اللفظ، مثل استوى على العرش يقولون: استولى، فلا يستطيع أن يمحوها من المصحف ويزيلها، لكن يزيل المعنى فيحرفه.
وكتب الله التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ومعروف أن التوراة والإنجيل حرفت وغيرت وبدلت، والأناجيل وصلت إلى أربعين إنجيلاً، والله تعالى أنزل إنجيلاً واحدًا، فكيف يقول البخاري: «لا أحد يستطيع أن يزيل لفظ كتاب من كتب الله» ونحن نرى أنهم أزالوا ألفاظًا كثيرة من التوراة والإنجيل؟!
إن قيل: إن التوراة التي بين أيديهم هي التي حرفت وبدلت أما التي عند الله فلا يستطيع أحد أن يمسها قلنا: هذا ليس فيه إشكال، وإنما الإشكال في التوراة التي أنزلت والإنجيل الذي أنزل، فالذي كتبوه بأيديهم نسبوه إلى الله لكن الذي أنزله الله لم يستطيعوا أن يحرفوا لفظه.
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله الأقوال في ذلك فقال: «قوله: «وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عز وجل، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ» ، في رواية الكشميهني: «يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ» ؛ قال شيخنا ابن الملقن في شرحه: هذا الذي قاله أحد القولين في تفسير هذه الآية، وهو مختاره ـ أي: البخاري رحمه الله ـ، وقد صرح كثير من أصحابنا بأن اليهود والنصارى بدلوا التوراة والإنجيل، وفرعوا على ذلك جواز امتهان أوراقهما، وهو يخالف ما قاله البخاري هنا. انتهى. وهو كالصريح في أن قوله: «وَلَيْسَ أَحَدٌ» إلى آخره من كلام البخاري رحمه الله ذيل به تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، وهو يحتمل أن يكون بقية كلام ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية. وقال بعض الشراح المتأخرين: اختلف في هذه المسألة على أقوال:
أحدها: أنها بدلت كلها وهو مقتضى القول المحكي بجواز الامتهان، وهو إفراط وينبغي حمل إطلاق من أطلقه على الأكثر وإلا فهي مكابرة. والآيات والأخبار كثيرة في أنه بقي منها أشياء كثيرة لم تبدل من ذلك قوله: [الأعرَاف: 157]{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} الآية، ومن ذلك قصة رجم اليهوديين.
وفيه: وجود آية الرجم ويؤيده قوله تعالى: [آل عِمرَان: 93]{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *}».
يعني: لم يحرف كل ذلك، فهناك شيء مكتوب لم يبدلوه، وقصة رجم اليهوديين اللذين زنيا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإتيان بالتوراة ونشروها فإذا فيها آية الرجم تلوح[(919)] مما لم يبدل.
ثم قال رحمه الله: « ثانيها: أن التبديل وقع ولكن في معظمها، وأدلته كثيرة، وينبغي حمل الأول عليه».
يعني: الأول أنها حرفت وبدلت كلها، والثاني أنه بدل معظمها، وينبغي حمل الأول عليها، أما تبديلها كلها فليس بصحيح.
ثم قال رحمه الله: « ثالثها: وقع في اليسير منها ومعظمها باق على حاله».
يعني: الذي بدل القليل منها، فهذا عكس الأول.
ثم قال رحمه الله: «ونصره الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله في كتابه «الرد الصحيح على من بدل دين المسيح»[(920)] .
رابعها: إنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا في الألفاظ وهو المذكور هنا».
وهذا الذي يتمشى مع قول البخاري أنه إنما وقع التبديل والتغيير في المعاني لا في الألفاظ.
ثم قال رحمه الله: «وقد سئل ابن تيمية رحمه الله عن هذه المسألة مجردًا، فأجاب في فتاويه[(921)] أن للعلماء في ذلك قولين، واحتج للثاني من أوجه كثيرة: منها قوله تعالى: [الأنعَام: 115]{لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ}، وهو معارض بقوله تعالى: [البَقَرَة: 181]{فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}، ولا يتعين الجمع بما ذكر من الحمل على اللفظ في النفي وعلى المعنى في الإثبات؛ لجواز الحمل في النفي على الحكم وفي الإثبات على ما هو أعم من اللفظ والمعنى.
ومنها أن نسخ التوراة في الشرق والغرب والجنوب والشمال لا يختلف، ومن المحال أن يقع التبديل فيتوارد النسخ بذلك على منهاج واحد، وهذا استدلال عجيب؛ لأنه إذا جاز وقوع التبديل جاز إعدام المبدل، والنسخ الموجودة الآن هي التي استقر عليها الأمر عندهم عند التبديل، والأخبار بذلك طافحة، أما فيما يتعلق بالتوراة فلأن بختنصر لما غزا بيت المقدس وأهلك بني إسرائيل ومزقهم بين قتيل وأسير وأعدم كتبهم حتى جاء عزير فأملاها عليهم، وأما فيما يتعلق بالإنجيل فإن الروم لما دخلوا في النصرانية جمع ملكهم أكابرهم على ما في الإنجيل الذي بأيديهم.
وتحريفهم المعاني لا ينكر بل هو موجود عندهم بكثرة، وإنما النزاع هل حرفت الألفاظ أم لا؟ وقد وجد في الكتابين ما لا يجوز أن يكون بهذه الألفاظ من عند الله عز وجل أصلاً، وقد سرد أبو محمد ابن حزم في كتابه: «الفصل في الملل والنحل» أشياء كثيرة من هذا الجنس[(922)]، من ذلك أنه ذكر أن في أول فصل في أول ورقة من توراة اليهود التي عند رهبانهم وقرائهم وعاناتهم وعيسويهم حيث كانوا في المشارق والمغارب لا يختلفون فيها على صفة واحدة لو رام أحد أن يزيد فيها لفظة أو ينقص منها لفظة لافتضح عندهم متفقًا عليها عندهم إلى الأحبار الهارونية الذين كانوا قبل الخراب الثاني، يذكرون أنها مبلغة من أولئك إلى عزرا الهاروني، وأن الله تعالى قال لما أكل آدم من الشجرة: هذا آدم قد صار كواحد منا في معرفة الخير والشر، وأن السحرة عملوا لفرعون نظير ما أرسل عليهم من الدم والضفادع، وأنهم عجزوا عن البعوض، وأن ابنتي لوط عليه السلام بعد هلاك قومه ضاجعت كل منهما أباها بعد أن سقته الخمر فوطئ كلا منهما فحملتا منه، إلى غير ذلك من الأمور المنكرة المستبشعة، وذكر في مواضع أخرى أن التبديل وقع فيها إلى أن أعدمت، فأملاها عزرا المذكور على ما هي عليه الآن، ثم ساق أشياء من نص التوراة التي بأيديهم الآن الكذب فيها ظاهر جدا، ثم قال: وبلغنا عن قوم من المسلمين ينكرون أن التوراة والإنجيل اللتين بأيدي اليهود والنصارى محرفتان، والحامل لهم على ذلك قلة مبالاتهم بنصوص القرآن والسنة، وقد اشتملا على أنهم [المَائدة: 13]{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}، [آل عِمرَان: 75]{وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *}، [آل عِمرَان: 78]{وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، [آل عِمرَان: 71]{تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *}، ويقال لهؤلاء المنكرين: قد قال الله تعالى في صفة الصحابة: [الفَتْح: 29]{ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} إلى آخر السورة، وليس بأيدي اليهود والنصارى شيء من هذا، ويقال لمن ادعى أن نقلهم نقل متواتر: قد اتفقوا على أن لا ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم في الكتابين فإن صدقتموهم فيما بأيديهم لكونه نقل نقل المتواتر فصدقوهم فيما زعموه أن لا ذكر لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه، وإلا فلا يجوز تصديق بعض وتكذيب بعض مع مجيئهما مجيئًا واحدًا، انتهى كلامه وفيه: فوائد.
وقال الشيخ بدر الدين الزركشي رحمه الله: اغتر بعض المتأخرين بهذا، يعني: بما قال البخاري رحمه الله فقال: إن في تحريف التوراة خلافًا هل هو في اللفظ والمعنى أو في المعنى فقط؟ ومال إلى الثاني، ورأى جواز مطالعتها، وهو قول باطل، ولا خلاف أنهم حرفوا وبدلوا، والاشتغال بنظرها وكتابتها لا يجوز بالإجماع، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها شيء من التوراة، وقال: «لو كان موسى صلى الله عليه وسلم حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني»[(923)] ولولا أنه معصية ما غضب فيه.
قلت: إن ثبت الإجماع فلا كلام فيه، وقد قيده بالاشتغال بكتابتها ونظرها، فإن أراد من يتشاغل بذلك دون غيره فلا يحصل المطلوب؛ لأنه يفهم أنه لو تشاغل بذلك مع تشاغله بغيره جاز، وإن أراد مطلق التشاغل فهو محل النظر، وفي وصفه القول المذكور بالبطلان مع ما تقدم نظر أيضًا، فقد نسب لوهب بن منبه رحمه الله وهو من أعلم الناس بالتوراة، ونسب أيضا لابن عباس ترجمان القرآن، وكان ينبغي له ترك الدفع بالصدر والتشاغل برد أدلة المخالف التي حكيتها، وفي استدلاله على عدم الجواز الذي ادعى الإجماع فيه بقصة عمر رضي الله عنه نظر أيضا سأذكره بعد تخريج الحديث المذكور».
ثم قال رحمه الله: «ويدل على ذلك نقل الأئمة قديما وحديثا من التوراة وإلزامهم اليهود بالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم بما يستخرجونه من كتابهم، ولولا اعتقادهم جواز النظر فيه لما فعلوه وتواردوا عليه، وأما استدلاله للتحريم بما ورد من الغضب ودعواه أنه لو لم يكن معصية ما غضب منه ـ فهو معترض بأنه قد يغضب من فعل المكروه ومن فعل ما هو خلاف الأولى إذا صدر ممن لا يليق منه ذلك كغضبه من تطويل صلاة الصبح بالقراءة[(924)] وقد يغضب ممن يقع منه تقصير في فهم الأمر الواضح مثل الذي سأل عن لقطة الإبل[(925)]، وقد تقدم في «كتاب العلم» «الغضب في الموعظة»» .
وعلى كل حال فقول البخاري رحمه الله: «وَلَيْسَ أَحَدٌ يُزِيلُ لَفْظَ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ عز وجل، وَلَكِنَّهُمْ يُحَرِّفُونَهُ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ» لا شك أن فيه إشكالاً؛ لأن تحريف ألفاظ التوراة والإنجيل معروف، ولأن الله سبحانه وتعالى ضمن حفظ القرآن فقال: [الحِجر: 9]{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ *} وهذا خاص بالقرآن، أما في التوراة فإن الله سبحانه وتعالى لم يتكفل بحفظها، وإنما وكل حفظها إلى الأحبار فضيعوها، فالله تعالى قال: [المَائدة: 44]{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}، فالله تعالى استحفظهم فلم يحفظوها، فيحمل قول البخاري على أنه لا يستطيع أحد أن يزيل جميع كتاب من كتب الله؛ بحيث إنهم يزيلون التوراة كلها أو الإنجيل كله ولا يبقى منه شيء، بل لابد أن يبقى منه شيء.
وعندما يخرج عيسى في آخر الزمان يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ويكون فردًا من أفراد الأمة المحمدية وليست له حاجة إلى التوراة؛ لأن التوراة نسخت.
ودراسة الكتب المحرفة من التوراة والإنجيل للرد عليهم وتبيين شبههم في هذا الزمان إذا كان الإنسان من أهل العلم وعنده أهلية ورأى أن الرد يفيد فلا بأس، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه «الجواب الصحيح فيمن بدل دين المسيح»، أما عامة الناس فلا يجوز لهم ذلك.
قوله: « [الأنعَام: 156]{دِرَاسَتِهِمْ}» يشير إلى قوله تعالى: [الأنعَام: 156]{وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ *} فسر دراستهم بأنها: «تِلاَوَتُهُمْ» .
قوله: « [الحَاقَّة: 12]{وَاعِيَةٌ *}» فسر واعية بأنها: «حَافِظَةٌ» ، يعني: تحفظها أذن حافظة.
قوله: « [الأنعَام: 19]{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ}» هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله أن يقول هذا لأهل مكة.
قوله: {وَمَنْ بَلَغَ}» أي: من بلغه «هَذَا الْقُرْآنُ فَهُوَ لَهُ نَذِيرٌ» .
فالشاهد نسبة التلاوة والدراسة والوعي والحفظ والإنذار والتبليغ إلى العبد، فالإنذار والتبليغ والتلاوة والدراسة كل ذلك فعل من أفعال الرسول، فهي أعمال منسوبة إليه فهي مخلوقة، أما القرآن المتلو والمحفوظ والموعى في القلوب المنذر به المبلغ إلى الناس فهو كلام الله غير مخلوق.
}7553{ قوله: «لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ كِتَابًا» فيه: إثبات الكتابة لله وأن الله يكتب، وهي صفة فعلية لله تليق بجلال الله وعظمته.
قوله: «سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي» فيه: أنه ينبغي للإنسان أن يرجو ربه ويحسن الظن به لكن مع العمل، فمن حسن عمله حسنت ظنونه، ومن ساء عمله ساءت ظنونه، قال تعالى: [الكهف: 110]{فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا *} وقال سبحانه: [البَقَرَة: 218]{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} فيرجون رحمة الله بالأسباب التي سبقت.
}7554{ هذا الحديث فيه: إثبات صفة الرحمة وصفة الغضب لله، وهما صفتان من الصفات الفعلية، تتعلق كل منهما بمشيئة الله واختياره سبحانه وتعالى.
قوله: «إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ كِتَابًا» فيه: إثبات الكتابة وأن الله تعالى يكتب، وهو من الصفات الفعلية، فالرحمة والغضب والكتابة كلها صفات فعلية تليق بجلال الله وعظمته.
ومناسبة الحديثين لآيتي الترجمة [البُرُوج: 21-22]{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ *} أن القرآن مكتوب في المصاحف وهو كلام الله، وأن المكتوب غير المحل الذي كتب فيه، فالله تعالى كتب في اللوح المحفوظ كلامه، أما المحل المكتوب وهو اللوح المحفوظ فيه فهو مخلوق.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الصَّافات: 96]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *}
[القَمَر: 49]{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *}
وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ [الأعرَاف: 54]{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بَأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *}.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بَيَّنَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنْ الأَْمْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}.
وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الإِْيمَانَ عَمَلاً، قَالَ: أَبُو ذَرٍّ وَأَبُو هُرَيْرَةَ سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ الأَْعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ.
وَقَالَ: [السَّجدَة: 17]{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}.
وَقَالَ: وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: مُرْنَا بِجُمَلٍ مِنْ الأَْمْرِ إِنْ عَمِلْنَا بِهَا دَخَلْنَا الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِالإِْيمَانِ، وَالشَّهَادَةِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَمَلاً.
}7555{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، وَالْقَاسِمِ التَّمِيمِيِّ عَنْ زَهْدَمٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ هَذَا الْحَيِّ مِنْ جُرْمٍ وَبَيْنَ الأَْشْعَرِيِّينَ وُدٌّ وَإِخَاءٌ، فَكُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ كَأَنَّهُ مِنْ الْمَوَالِي فَدَعَاهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ، فَحَلَفْتُ لاَ آكُلُهُ، فَقَالَ: هَلُمَّ فَلأُْحَدِّثْكَ عَنْ ذَاكَ إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الأَْشْعَرِيِّينَ، نَسْتَحْمِلُهُ قَالَ: وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بِنَهْبِ إِبِلٍ فَسَأَلَ عَنَّا، فَقَالَ: أَيْنَ النَّفَرُ الأَْشْعَرِيُّونَ فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى، ثُمَّ انْطَلَقْنَا، قُلْنَا: مَا صَنَعْنَا حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا، ثُمَّ حَمَلَنَا تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، وَاللَّهِ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ، فَقُلْنَا لَهُ: فَقَالَ: «لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ، وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَتَحَلَّلْتُهَا».
}7556{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ الضُّبَعِيُّ، قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ، وَإِنَّا لاَ نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي أَشْهُرٍ حُرُمٍ، فَمُرْنَا بِجُمَلٍ مِنْ الأَْمْرِ، إِنْ عَمِلْنَا بِهِ دَخَلْنَا الْجَنَّةَ وَنَدْعُو إِلَيْهَا، مَنْ وَرَاءَنَا قَالَ: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، آمُرُكُمْ بِالإِْيمَانِ بِاللَّهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِْيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَإِقَامُ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَتُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ، وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ لاَ تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ وَالْحَنْتَمَةِ».
}7557{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ».
}7558{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ».
}7559{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «قَالَ اللَّهُ عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً».
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الصَّافات: 96]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ *}» يعني: خلقكم وخلق عملكم.
ومقصود المؤلف من هذه الترجمة إثبات أن أفعال العباد وأقوالهم مخلوقة لله كما أنهم مخلوقون لله، ففيه: الرد على القدرية القائلين بأن العبد يخلق فعله، وأن كلام الله مخلوق، فالعباد مخلوقون وأعمالهم مخلوقة، ومن عملهم قراءتهم القرآن، وأما القرآن فهو كلام الله ووصف له، منزل غير مخلوق.
والله تعالى أعطى العبد الاختيار والقدرة على العمل، وخلقه وخلق قدرته وإرادته.
وقوله تعالى: [القَمَر: 49]{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *} يعني: أن كل شيء خلقه الله بقدر قدَّره، ولا يدخل في هذا صفات الله من الكلام وغيره فهي صفاته سبحانه وتعالى، وهو الخالق بذاته وصفاته، وإنما يدخل فيها المخلوقات.
قوله: «وَيُقَالُ لِلْمُصَوِّرِينَ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» فيه: عقوبة المصورين، وتعجيزهم بأمرهم بإحياء خلقهم، وخلقهم هو عملهم من التصوير والتقدير، وهذا الأمر للتعجيز والتعذيب، فهم لا يستطيعون إحياء ما صنعوا، يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: «ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقًا كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة»[(926)] .
ووجه الدلالة: أنه أضاف إليهم عملهم من التصوير والتقدير في قوله: «أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» ففيه: الرد على المعتزلة، وليس فيه دليل للمعتزلة الذين يقولون: إن العباد يخلقون أفعالهم، ونسب الأفعال إليهم؛ لأنهم باشروها باختيارهم.
وقوله تعالى: [الأعرَاف: 54]{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بَأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ *} الشاهد فيه: أن الله تعالى فرق بين الخلق والأمر، فعطف الأمر على الخلق، فالخلق هم المخلوقات والأمر هو الكلام، فلو كان الكلام مخلوقا كما تقوله المعتزلة والقدرية لم يفرق الله بينهما، فلما فرق الله بينهما وعطف الأمر على الخلق دل على أنهما شيئان مختلفان.
قوله: «قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ بَيَّنَ اللَّهُ الْخَلْقَ مِنْ الأَْمْرِ» يعني: فصل هذا عن هذا؛ «لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [الأعرَاف: 54]{أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ}» فعطف هذا على هذا.
قال ابن عيينة في اللفظ الآخر: «فرق الله بين الخلق والأمر، فمن جمع بينهما فقد كفر»[(927)] ، والأمر هو كلام الله فدل على أن كلام الله صفة من صفاته ليس بمخلوق كما تقوله القدرية.
قوله: «وَسَمَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الإِْيمَانَ عَمَلاً» وذلك أنه لما سئل صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله»[(928)] فسماه عملاً، فنطقه وإقراره وتصديقه وقراءته كلها عمله كل ذلك ينسب إليه، فهو مخلوق، ومن ذلك قراءته القرآن، وأما المقروء فهو كلام الله منزل غير مخلوق.
قوله: «سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ الأَْعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ» الشاهد: أنه سمى الإيمان والجهاد عملا للإنسان فهو مخلوق، ومن ذلك أقواله التي تدخل في الإيمان من الإقرار والتصديق والنطق بالشهادتين، ومن ذلك قراءته للقرآن أيضا فهي عمل له، فأعماله مخلوقة، وأما كلام الله فهو منزل غير مخلوق.
قوله: «وَقَالَ: [الواقِعَة: 24]{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}» الشاهد فيه أنه أضاف العمل إليهم، فأعمالهم مخلوقة، والله تعالى خلقهم وخلق أعمالهم.
قوله: «وَقَالَ: وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ» لما جاءوا إلى رسول الله «وقالوا: يا رسول الله لا نستطيع أن نأتيك إلا في شهر حرام؛ بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فمرنا بجمل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة، فقال: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة»[(929)] وفي لفظ: «وصوم رمضان»[(930)] فجعل ذلك كله عملاً، الإيمان والشهادة والصلاة والزكاة والصوم من أعمال الإنسان فهي مخلوقة له، والله خلق الإنسان وخلق عمله ومن ذلك قراءته للقرآن، أما القرآن فهو كلام الله منزل غير مخلوق.
}7555{ قوله: «هَذَا الْحَيِّ مِنْ جُرْمٍ» بفتح الجيم: بطن من قبيلة طيء.
قوله: «وُدٌّ وَإِخَاءٌ» : يعني: كان بين جرم والأشعريين مودة ومحبة وتآخٍ.
قوله: «فَكُنَّا عِنْدَ أَبِي مُوسَى الأَْشْعَرِيِّ فَقُرِّبَ إِلَيْهِ الطَّعَامُ فِيهِ لَحْمُ دَجَاجٍ، وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَيْمِ اللَّهِ» وفي اللفظ الآخر: «أحمر»[(931)] ، «كَأَنَّهُ مِنْ الْمَوَالِي فَدَعَاهُ إِلَيْهِ» ، أي: دعا أبو موسى هذا الرجل ليأكل من الطعام الذي فيه لحم دجاج، فقال الرجل الذي هو أحمر من بني تيم الله: «إِنِّي رَأَيْتُهُ يَأْكُلُ شَيْئًا فَقَذِرْتُهُ، فَحَلَفْتُ لاَ آكُلُهُ» ، يعني: رأيت هذا الدجاج يأكل شيئًا فقذرته فحلفت ألا آكله، فقال أبو موسى: «هَلُمَّ فَلأُْحَدِّثْكَ عَنْ ذَاكِ» ، يعني: تعال أحدثك عن يمينك، «إِنِّي أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي نَفَرٍ مِنْ الأَْشْعَرِيِّينَ، نَسْتَحْمِلُهُ» ، يعني: نطلب منه أن يحملنا للجهاد في سبيل الله، فهم يريدون أن يجاهدوا، ولكن ما عندهم خيول ولا إبل فقد كانوا فقراء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَاللَّهِ لاَ أَحْمِلُكُمْ وَمَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ» ، أي: ليس عندي ما أعطيكم، وحلف ألا يحملهم.
قوله: «فَأُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، بِنَهْبِ إِبِلٍ» يعني: بغنيمة من الإبل، وليس المراد بالنهب السرقة، «فَسَأَلَ عَنَّا، فَقَالَ: أَيْنَ النَّفَرُ الأَْشْعَرِيُّونَ» أي: الذين جاءوا يستحملون؛ فقد جاء الله بالرزق، فجاءوا.
قوله: «فَأَمَرَ لَنَا بِخَمْسِ ذَوْدٍ غُرِّ الذُّرَى» يعني: خمس من الإبل بيض السنام، فلما أخذوا الإبل تحدثوا فيما بينهم «مَا صَنَعْنَا حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أَنْ لاَ يَحْمِلَنَا وَمَا عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا، ثُمَّ حَمَلَنَا» ، أي: كيف نفعل هذا؟! «تَغَفَّلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمِينَهُ، وَاللَّهِ لاَ نُفْلِحُ أَبَدًا فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ، فَقُلْنَا لَهُ» أي: قلنا: يا رسول الله حلفت ألا تحملنا وحملتنا الآن! فقال: «لَسْتُ أَنَا أَحْمِلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَمَلَكُمْ» ، وهذا هو الشاهد من الحديث.
وفيه: الرد على القدرية الذين يزعمون أن العباد يخلقون أفعالهم.
قوله: «وَإِنِّي وَاللَّهِ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَتَحَلَّلْتُهَا» ، أما اليمين فأنا كفرت عن يميني، وفي اللفظ الآخر: «إلا تحللت عن يميني وأتيت الذي هو خير»[(932)] فإذا حلف الإنسان ألا يأكل طعام فلان ولا يزور جاره أو صديقه، فإن عليه أن يكفر ويزوره ويأكل طعامه، فاليمين لا تمنع من فعل الخير، وبعض الناس يلج في يمينه فيقطع رحمه أو يهجر جاره؛ لأنه حلف ألا يدخل بيته، والصواب أن اليمين لا تمنع من فعل الخير فعليه أن يكفر عن يمينه ويفعل الخير كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
}7556{ هذا حديث وفد عبد القيس، وكان مكانهم في الأحساء، وهو معروف الآن، وقد أسلموا قديمًا في جُواثى حتى إن الجمعة الثانية جمعت في جواثى بعد الجمعة الأولى التي جمعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تسمى سابقًا البحرين.
وكان بينهم وبين المدينة مسافة طويلة ولا يستطيعون أن يأتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت الحروب قائمة بين كفار مضر فلا يأتون إلا في الأشهر الحرم التي يقف فيها القتال وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ـ وهذه متوالية ـ ورجب، فقالوا يا رسول الله: «إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ مُضَرَ، وَإِنَّا لاَ نَصِلُ إِلَيْكَ إِلاَّ فِي أَشْهُرٍ حُرُمٍ» يعني: إذا وقفت الحرب «فمرنا بجمل من الأمر» ، يعني: أعطنا جوامع الكلم «إِنْ عَمِلْنَا بِهِ دَخَلْنَا الْجَنَّةَ» ، وهذا هو الشاهد وهو نسبة العمل إليهم، وذكر من أعمالهم الإيمان بالله والشهادة والصلاة والزكاة وإعطاء الخمس، فدل على أن أعمال العباد منسوبة إليهم؛ لأنهم هم الذين باشروها باختيارهم، وليسوا خالقين لأفعالهم كما تقول المعتزلة، بل الله تعالى خلقهم وخلق أعمالهم، ومن ذلك تلاوة القرآن، وأما القرآن فهو منزل غير مخلوق.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم جوامع الكلم فقال: «آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: آمُرُكُمْ بِالإِْيمَانِ بِاللَّهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِْيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَإِقَامُ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَتُعْطُوا مِنْ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ» ، ففسر الإيمان بهذه الأمور الأربعة: بالشهادتين والصلاة والزكاة وإعطاء الخمس، وفي اللفظ الآخر: «وصوم رمضان»[(933)] فدل على أن الأعمال إذا أطلقت دخل فيها الإيمان، كما أن الإسلام إذا أطلق وحده دخل فيه الاعتقاد والعمل ـ أعمال القلوب وأعمال الجوارح ـ والإيمان كذلك إذا أطلق، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل.
قوله: «وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: لاَ تَشْرَبُوا فِي الدُّبَّاءِ وَالنَّقِيرِ وَالظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ وَالْحَنْتَمَةِ» كانت العرب يعصرون من العنب عصيرًا فيشربونه، ومن التمر ويسمى المريس، وكذلك من غيره من الشعير ومن الذرة، ويشربون يومًا أو يومين، وفي شدة الحر في اليوم الثالث يقذف الزبد ويكون خمرًا، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يشربوا في الظروف الصلبة، فهناك ظروف صلبة وظروف غير صلبة، والظروف غير الصلبة مثل السقاء، إذا وضعت العصير في الجلد ثم مكث ثلاثة أيام ففي اليوم الثالث يقذف الزبد فيتشقق الجلد، لكن إذا وضعته في الظرف الصلب يتخمر ولا تعلم عنه فتشربه خمرا؛ فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا في الأوعية الصلبة «فِي الدُّبَّاءِ» وهو القرع الطويل، إذا يَبُس يؤخذ اللب الذي في وسطه، ثم يعصر فيه العصير فإذا تخمر فإنه لا يتمزق مثل الجلد لأنه صلب، «وَالنَّقِيرِ» هو جذع النخلة يقرونه ويضعون فيه العصير، وهو صلب أيضا، إذا تخمر لا تشعر به، وكذلك «وَالظُّرُوفِ الْمُزَفَّتَةِ» ، وفي رواية: «الظروف المزفتة»[(934)] وهي المطلية بالزفت إذا جعل فيه العصير وتخمر لا يشعر به، وكذلك «وَالْحَنْتَمَةِ» وهو الطين القوي الذي يعمل منه الفخار مثل الأزيار، فإذا تخمر لا يشعر به؛ فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يشربوا العصير في الدباء والنقير والظروف المزفتة والحنتم خشية أن يتخمر وهم لا يشعرون، ولكن يجعلونها في الأواني الرقيقة التي تتمزق، وهذا كان في أول الإسلام، ثم بعد ذلك لما استقر الإسلام في نفوسهم وعلموا أن المسكرات يجب تجنبها وأنه ينبغي لهم العناية بهذا الأمر رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتبذوا في كل وعاء فقال: «اشربوا في كل وعاء، ولا تشربوا مسكرا»[(935)] .
}7557{، }7558{، }7559{ هذه الأحاديث الثلاثة كلها في المصورين، وفيها تحريم الصور، وأنه لا يجوز للإنسان أن يصور ذوات الأرواح؛ لأن تصوير ذوات الأرواح من كبائر الذنوب، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله»[(936)] وفي الحديث الآخر: «كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسًا فتعذبه في جهنم»[(937)] والمراد بالصور ذوات الأرواح من الآدميين والحيوانات والحشرات والطيور والحيتان، أما ما ليس له روح فلا بأس بتصويره كما قال ابن عباس: وإن كان لابد فصور الشجر، وما لا روح فيه مثل صورة سيارة أو شجر أو بيت أو بحر أو سماء أو أرض.
ومن رضي بالصور فحكمه حكم المصور، ويستثنى من هذا ما دعت إليه الضرورة مثل الصورة في بطاقة الأحوال ورخصة القيادة والشهادة العلمية والأوراق النقدية؛ فهذه ضرورة قال الله تعالى: [الأنعَام: 119]{وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} أما إذا زاد على الضرورة فلا يجوز، فلا يجوز ما يفعله بعض الناس من كونه يصور أولاده ويجعله في إطار أمامه، وبعض الناس يصور في حافظة ويقول: صور للذكرى، إن قوم نوح ما عبدوا الأصنام إلا لما صوروا للذكرى، تذكروا العبادات فعبدوهم من دون الله، قال علي رضي الله عنه لأبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ألا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته[(938)].
وفي هذه الأحاديث أن المصورين يعذبون يوم القيامة، «وَيُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» وهذا أمر تعجيز وتعذيب، وفي الحديث القدسي: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً» هذا فيه: دليل على أنه من أظلم الناس.
ومناسبة الأحاديث الثلاثة للترجمة بيان أنه ليس فيها ما يدل على مذهب المعتزلة والقدرية من أن العبد يخلق فعل نفسه، ولا متمسك لهم من قوله: «أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» ، وقوله: «يَخْلُقُ كَخَلْقِي» ، كما أنه لا متمسك لهم بقوله تعالى: [المؤمنون: 14]{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *} ـ فإن المعتزلة والقدرية احتجوا بها على تعدد الخالقين ـ لأن معنى الخلق في الآية والأحاديث التصوير والتقدير مضاهاةً بخلق الله، وليس المراد بالخلق في هذه النصوص الإيجاد والإنشاء والاختراع؛ وذلك أن الخلق له إطلاقان ومعنيان:
الأول: الإيجاد والإنشاء والاختراع وهذا خاص بالله لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى، كقوله عز وجل: [الزُّمَر: 62]{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} أي: منشئ وموجد، وكقوله: [القَمَر: 49]{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ *} أي: أوجدناه وأنشأناه، وكقوله: [النّحل: 70]{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ} أي: أنشأكم وأوجدكم.
الثاني: التقدير والتصوير وضم الأشياء بعضها إلى بعض من غير إنشاء وإيجاد للذرات المقدرة والمصورة كما في هذه الأحاديث: «أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ» أي: صورتم وقدرتم، وكما في قوله تعالى: [المؤمنون: 14]{فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *} أي: المقدرين والمصورين لا المنشئين الموجدين المخترعين، وكما في قول الله تعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام: [المَائدة: 110]{تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} أي: تصور وتقدر لا تنشئ وتوجد وتخترع، فعيسى عليه الصلاة والسلام يصور من الطين على هيئة الطير، فينفخ فيه فيجعل الله فيه الروح؛ فيصير طيرًا بإذن الله، والله تعالى هو الذي يخلقه طيرًا وعيسى عليه السلام له التقدير والتصوير والله تعالى له الإيجاد والإنشاء؛ لأن الخالق هو الله ولا يشاركه أحد في صفة الخلق، وهذا هو الجمع بين النصوص في هذا الباب، وقد التبس الأمر على القدرية والمعتزلة.
قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاَوَتُهُمْ
لاَ تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ
}7560{ حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، حَدَّثَنَا أَنَسٌ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالأُْتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلاَ رِيحَ لَهَا وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ وَلاَ رِيحَ لَهَا».
}7561{ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا هِشَامٌ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ ح.
وحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ، حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ، قَالَتْ: عَائِشَةُ رضي الله عنهما، سَأَلَ أُنَاسٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: عَنْ الْكُهَّانِ فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا» قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ».
}7562{ حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ سِيرِينَ يُحَدِّثُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ، ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ» قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ: «سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ» أَوْ قَالَ: «التَّسْبِيدُ».
قوله: «بَاب قِرَاءَةِ الْفَاجِرِ وَالْمُنَافِقِ وَأَصْوَاتُهُمْ وَتِلاَوَتُهُمْ لاَ تُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» المقصود بهذه الترجمة أن التلاوة من عمل القارئ بدليل أنها متفاوتة؛ فالمنافق والفاجر قراءته لا تجاوز حنجرته، وأما المؤمن فتلاوته ترفع إلى السماء وعمله يقبل؛ إذًا فالتلاوة متفاوتة فدل على أنها مخلوقة، وأما المتلو فكلام الله غير مخلوق.
}7560{ في الحديث قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس من جهة تلاوة القرآن وعدم تلاوته إلى أربعة أقسام:
الأول: «الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ» مثله «الأُْتْرُجَّةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ» ، هذا هو الإيمان، «وَرِيحُهَا طَيِّبٌ» ، وهذا قراءة القرآن.
الثاني : المؤمن «الَّذِي لاَ يَقْرَأُ كَالتَّمْرَةِ طَعْمُهَا طَيِّبٌ» هذا هو الإيمان، «وَلاَ رِيحَ لَهَا» يعني: ليس معه القرآن.
الثالث : «الْفَاجِرِ» وهو المنافق حيث جعله قسيما للمؤمن، ويؤيده ما جاء في الرواية الأخرى «مثل الفاجر أو المنافق» بالشك، «الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ» ، هذا قراءة القرآن، «وَطَعْمُهَا مُرٌّ» ؛ لأنه منافق كافر خبيث.
الرابع : «وَمَثَلُ الْفَاجِرِ الَّذِي لاَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَمَثَلِ الْحَنْظَلَةِ طَعْمُهَا مُرٌّ» ، هذا هو الكفر والنفاق، «وَلاَ رِيحَ لَهَا» لأنه ليس معه القرآن.
والشاهد: قوله «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ» حيث أضاف القراءة إلى القارئ، والقراءة عمل من عمله فهي مخلوقة، وأما المقروء فهو كلام الله غير مخلوق.
}7561{ هذا الحديث: في بيان حال الكهان، والكهان جمع كاهن، وهو الذي له رئي من الجن، ويخبر عن المغيبات في المستقبل ويدعي علم الغيب، وهو كافر؛ ولهذا جاء في الحديث: «من أتى كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم»[(939)] .
والساحر: هو من يدعي علم العقد والنفث فيها ويتصل بالجن.
والعراف هو من يدعي علم الغيب عن طريق معرفة الأمور التي يستدل بها على المسروق ومكان الضال.
والرمال: هو الذي يخط في الرمل، أو يضرب بالحصا، والذي يقرأ في الفنجان، والذي يحضر الجن، أو يقرأ في الكف، أو يصب الرصاص.
وكل هؤلاء إذا كانوا يدعون الغيب أو يصرفون نوعًا من أنواع العبادة لغير الله فهم كفرة، سواء كان كفرهم عن طريق السحر، أو عن طريق الكهانة، أو عن طريق العرافة أو التنجيم بأن ينظر في النجوم، أو يدعي علم الغيب، أو ينظر في الكف أو الفنجان، أو يحضر الجن، أو يصب الرصاص، فكل من ادعى علم الغيب بأي وسيلة فهو كافر.
قوله: «لَيْسُوا بِشَيْءٍ» يعني: أخبار الكهان لا يوثق بها، ولا يصدقون فيها، ولا ينبغي تصديقهم ولا سؤالهم؛ لأن في هذا رفعًا من شأنهم.
قوله: «فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ يَكُونُ حَقًّا» فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْحَقِّ يَخْطَفُهَا الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلِيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجَةِ فَيَخْلِطُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ» وجاء في الحديث الآخر: «والشياطين بعضهم فوق بعض»[(940)] هكذا وصفهم أبو سفيان بكفه، فحرفها ومدد بين أصابعه واحدًا فوق واحد غير متلاصقين، فإذا تكلم الله تعالى بالوحي تكلم به الملائكة، ثم يتكلم به أهل السماء، وأحيانًا يتكلمون به في السحاب فيسمع الشيطان الفوقاني كلام الملائكة بالوحي الذين في السحاب أو في السماء الدنيا، فيلقيها على الشيطان الذي بعده، والثاني يلقيها على من بعده، والثالث على من بعده، والشياطين كثيرون يولد منهم في الساعة الكثير، فيلقي الشيطان الأسفل الكلمة في أذن الكاهن فيقرقرها كقرقرة الدجاجة قر قر قر قر هكذا في أذن وليه، والشهب تلاحقهم فتحرقهم، فالشيطان الأسفل الذي يلقيها في أذن الكاهن أحيانًا يحرقه الشهاب قبل أن يلقي الكلمة في أذن الكاهن، وأحيانًا يلقيها قبل أن يدركه الشهاب، فإذا وصلت إلى أذن الكاهن كذب معها مائة كذبة، وحدث بهذا الحديث الناس جميعا، فإذا حدث الناس بهذا الحديث ووقعت الكلمة التي سمعت من السماء صدق الناس الكاهن بجميع كذبه، فإذا قيل: كيف تصدقون الكاهن في جميع الكذب؟ قالوا: ألم يخبرنا يوم كذا فوقع، قال العلماء: هذا فيه قبول النفس للشر والباطل؛ إذ كيف يعتبرون بواحدة ولا يعتبرون بالمائة؟! وكيف يصدقونه في الكذب الكثير من أجل واحدة والعبرة بالأغلب؟!
ومناسبة الحديث للترجمة أن تلفظ الكاهن بالكلمة من الوحي التي يخبره بها الجني مغاير لتلفظ الجني ومغاير لتلفظ الملك، فالتلفظ متفاوت، والمتلفظ به وهو الوحي واحد، كما أن تلفظ المنافق بالقرآن مغاير لتلفظ المؤمن فتختلف تلاوتهما والمتلو واحد، فدل على أن المتلو غير التلاوة، فالمتلو كلام الله منزل غير مخلوق والتلاوة عمل العبد وعمله مخلوق.