شعار الموقع

شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري(97-465)

00:00
00:00
تحميل
94

 

}7562{ قوله: «يَخْرُجُ نَاسٌ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ» وهؤلاء هم الخوارج، والترقوة: الكتف، وفي لفظ آخر: «لا يجاوز حناجرهم»[(941)] .

وقوله: «يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ» ، يعني: أنت إذا رميت بالسهم فإنه يخرج بسرعة من القوس، فكذلك هؤلاء الخوارج يمرقون من الدين كما يمرق السهم بسرعة.

قوله: «ثُمَّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ حَتَّى يَعُودَ السَّهْمُ إِلَى فُوقِهِ» يعني: أن السهم الذي خرج لا يمكن أن يعود، فهؤلاء الخوارج يمرقون من الدين كما يمرق السهم أو كما يخرج الرصاص، ثم لا يعودون إليه إلا إذا رجعت الرصاصة، ولا ترجع.

واحتج به بعض العلماء على كفر الخوارج، قالوا: هذا يدل على أنهم كفار؛ لأن الذي يمرق من الدين ولا يرجع إليه كافر، وقالوا: مما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد»[(942)] فشبههم بعاد وهم قوم كفار، وقال: «من لقيهم فليقتلهم؛ فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم»[(943)] قالوا: هذا يدل على كفرهم، وهي رواية عن الإمام أحمد[(944)] أنهم كفار، والجمهور على أنهم مبتدعة وعلى أنهم عصاة؛ لأنهم متأولون والصحابة عاملوهم معاملة المبتدعة العصاة لما حاربوهم، فما استحلوا دماءهم ولا أموالهم، قالوا: لأنهم متأولون، واستدلوا كذلك بقول علي رضي الله عنه لما سئل: هل الخوارج كفار؟ قال: من الكفر فروا، والقول بتكفيرهم قول قوي واضح من النصوص، لكن الجمهور على أنهم مبتدعة.

قوله: «قِيلَ: مَا سِيمَاهُمْ؟» يعني: علامتهم، أي: الخوارج، «قَالَ: «سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ» أَوْ قَالَ: «التَّسْبِيدُ»» يعني: هكذا علامتهم، فهذا شك من الراوي، والتحليق يعني: حلق الرأس، وهذه علامة لهم دائمًا فالرأس محلوق أبيض، وليس كل من حلق الرأس يكون من الخوارج، وإنما خاصتهم في ذلك أنهم يوجبون حلق الرأس ويتعبدون به ويشددون فيه ويتخذونه ديدنا فصار شعارًا لهم عرفوا به، و «التَّسْبِيدُ» : هو استئصال الشعر حتى لا يبقى شيء منه، حتى أصول الشعر يحلقه بالموسى حتى يكون أبيض، ويلزمون الناس بهذا ويجعلونه ديدنًا لهم، وحلق الرأس مباح، وقال بعض العلماء: مكروه كراهة تنزيه، والأولى عدم الحلق، والنبي صلى الله عليه وسلم ما كان يحلق رأسه إلا في حج أو عمرة، وقال الإمام أحمد رحمه الله[(945)]: إنه سنة، يعني: إبقاء الشعر، لكن له كلفة ومشقة، لو نقوى عليه لاتخذناه، يعني: يحتاج إلى غسل ودهن وغير ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من كان له شعر فليكرمه»[(946)] ، ومن حلق فلا بأس ولا سيما إذا جُعل الشعر شعارًا لبعض الفسقة؛ فإنه يحلق حتى لا يتشبه بالفسقة.

ومناسبة الحديث للترجمة أن الخوارج يقرءون القرآن، وقراءتهم لا تجاوز تراقيهم، والمؤمن يقرأ القرآن وتجاوز قراءته ذلك وترفع إلى السماء، فدل على التفاوت في التلاوة، فدل على أن التلاوة عمل التالي وعمله مخلوق، وأما المتلو فهو كلام الله غير مخلوق.

 قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الأنبيَاء: 47]{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}

وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ.

وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْقُسْطَاسُ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ، وَيُقَالُ: الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ وَهُوَ الْعَادِلُ، وَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ الْجَائِر.

}7563{ حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِشْكَابٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ».

 

قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ُ 4 3 عع = ژ ِ » والقسط: العدل.

والمقصود بهذه الترجمة أن كلام الإنسان عمل من أعماله ينسب إليه، ويوزن يوم القيامة في ميزان الأعمال، وعمله مخلوق، ومن ذلك تلاوته للقرآن وتسبيحه وتهليله وتكبيره، وأما القرآن المتلو فهو كلام الله منزل غير مخلوق.

قوله: «وَأَنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ وَقَوْلَهُمْ يُوزَنُ» ، ومن ذلك تلاوتهم للقرآن.

قوله: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْقُسْطَاسُ الْعَدْلُ بِالرُّومِيَّةِ» ووقع عند القسطلاني: «الْقُسْطَاسُ» وذلك في قوله تعالى: [الإسرَاء: 35]{وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ}، يعني: زنوا بالعدل، وكلمة القسطاس كما قال مجاهد: كلمة رومية في الأصل وتعني: العدل، ثم استعملها العرب في لغتهم، وهذا لا ينافي أن الله عز وجل أنزل القرآن بلسان عربي مبين، قال العلماء: إن وجدت الكلمة والكلمتين فلا تخرجه عن كونه عربيًا، ثم أيضًا إن هذه الكلمات استعملها العرب فصارت من لغتهم، وقد يقال: إن هذه مما اتفقت فيه اللغات، فالكلمة تكتب فيها عدة لغات فتكون القسطاس من لغة العرب ومن لغة الروم.

قوله: «الْقِسْطُ مَصْدَرُ الْمُقْسِطِ وَهُوَ الْعَادِلُ» ، القسط: مصدر من قسط يقسط الثلاثي إذا ظلم وجار، وأما المقسط: فهو اسم فاعل من أقسط أي: عدل، والإقساط هو المصدر.

قوله: «وَأَمَّا الْقَاسِطُ فَهُوَ الْجَائِر» ، فالمقسط اسم فاعل من الفعل الرباعي أقسط والذي مصدره الإقساط، ومنه قول الله تعالى: [المُمتَحنَة: 8]{لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ *}، وفي وصف عيسى عليه السلام قال صلى الله عليه وسلم: «ينزل فيكم ابن مريم حكمًا مقسطًا»[(947)] يعني: عادلاً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «المقسطون على منابر من نور، الذين يعدلون في حكمهم وفي أهليهم وما ولوا»[(948)] وأما القاسط: فهو اسم فاعل من الثلاثي قسط، وهو الظالم الجائر، ومنه قوله تعالى: [الجنّ: 15]{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا *}.

فالبخاري رحمه الله دقيق، يفيد طالب العلم حتى في الكلمات اللغوية وما يترتب عليها من معانٍ.

 

}7563{ هذا آخر حديث في «صحيح الإمام البخاري» وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ» يعني: هذه الكلمة لها ثلاثة أوصاف:

الأول: «كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ» يعني: أن الله يحبهما.

وفيه: إثبات المحبة لله عز وجل، والرد على من أنكر المحبة من المعتزلة والأشاعرة والجهمية وغيرهم.

الثاني: «خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ» : ما تكلف شيئا.

الثالث: «ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ» : لعظم أجرهما، وقدم حب الرب؛ لأنه سابق، وذكر العبد وخفته؛ لأنه تالٍ.

وفيه: إثبات الميزان يوم القيامة، وأنه حسي له كفتان توزن فيهما أعمال العباد، والميزان يوم القيامة ميزان عظيم، جاء في وصفه أن كفتيه كأطباق السموات والأرض، وله لسان، توزن فيه أعمال العباد، ويوزن الأشخاص على حسب العمل كما في الحديث: «يؤتى بالرجل السمين العظيم لا يزن عند الله جناح بعوضة»[(949)] لسوء عمله، ولما كشفت الريح عن ساقي عبد الله بن مسعود فإذا هما دقيقتان فضحك الصحابة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مم تضحكون؟» قالوا: يا رسول الله من دقة ساقيه، فقال عليه الصلاة والسلام: «لهما في الميزان أثقل من جبل أحد يوم القيامة»[(950)] لأن عمله صالح.

وأنكرت المعتزلة الميزان وقالوا: ليس هناك ميزان أبدًا فكذبوا بالميزان، وقالوا: لا يحتاج الله إلى ميزان، والذي يحتاج إلى ميزان البقال والفوال، وقالوا: معنى الميزان: العدل، أما الميزان الحسي فلا وجود له، وكلامهم هذا باطل ومن أبطل الباطل، ومما يدل على ذلك حديث البطاقة قال صلى الله عليه وسلم: «يؤتى برجل يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا، كل سجل مد البصر كلها سيئات فتوضع في كفة ثم يخرج له البطاقة» وفيها الشهادة لله تعالى بالوحدانية «فتوضع في الكفة الأخرى، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة»[(951)] فهذا معناه: أن الميزان حسي.

$ر مسألة: هل هناك موازين كثيرة أو ميزان واحد؟

_خ الجواب: القول الأول: هناك موازين ولكل شخص ميزان.

القول الثاني: أنه ميزان واحد، لكنه جمع بين الموازين في قوله تعالى: [الأنبيَاء: 47]{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ} نظرًا لتعدد الأعمال الموزونة.

وهذه الترجمة فيها أن كلام الإنسان عمل من أعماله وينسب إليه، ويوزن يوم القيامة، وأن التسبيح عمل له يوزن، وإذا كان تسبيحه عمل له يوزن فكذا قراءته للقرآن عمل له يوزن، وعمله مخلوق، أما المقروء والمتلو فهو كلام الله غير مخلوق.

ومناسبة هذا الحديث للترجمة أن هاتين الكلمتين توزنان؛ لأنهما عمل ينسب للإنسان.

وختم المؤلف رحمه الله كتابه «الصحيح» بـ «كتاب التوحيد» ؛ لأن أصل العصمة أولاً وآخرًا هو توحيد الله قال عليه الصلاة والسلام: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله»[(952)] والتوحيد كذلك هو آخر الأمور التي يظهر فيها فلاح الإنسان وثقل الموازين وخفتها فجعلها آخر تراجم الكتاب.

وافتتح كتابه الصحيح بحديث «إنما الأعمال بالنيات»[(953)] لأن النيات هي الأساس التي تبنى عليها الأعمال، وختمها بوزن الأعمال يوم القيامة.

وقال الكرماني: «ختم المؤلف رحمه الله بمباحث كلام الله؛ لأنه مدار الوحي، وبه تثبت الشرائع، وافتتح كتابه بـ «بدء الوحي» ، وختمه بإثبات الكلام لله عز وجل فافتتح بما ابتدأ به، وانتهى إلى ما فيه الابتداء، وختم ونعم الختم بها».

وهذه الأبواب التي مرت بنا في «كتاب التوحيد» من صحيح الإمام البخاري رحمه الله بيَّن فيها المؤلف رحمه الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأثبت الصفات لله عز وجل، ورد على أهل البدع، وركز على صفات منها صفة العلو وأن الله تعالى فوق السماوات وفوق العرش، وأهل البدع أنكروا إثبات العلو وقالوا: إنما نثبت لله علو القدر وعلو القهر، أما علو الذات فلا نثبته، وجعلوا الله في كل مكان، تعالى الله عما يقولون، أو نفوا عنه النقيضين، وأما أهل السنة فإنهم يثبتون ما دلت عليه النصوص من أن الله فوق العرش، ومن ثمرة إثبات هذه الصفة تعظيم الرب عز وجل، وتحصيل الخوف منه، وتحصيل العمل الصالح، فإن المسلم إذا علم أن ربه فوقه، وأنه مستو على العرش بائن من خلقه، وأنه يسمع كلامه ويرى حاله فالإيمان بهذه الصفة يثبت خوفه من الله عز وجل الخوف الذي يحمل الإنسان على أداء الفرائض والانتهاء عن المحارم، ويثمر الرجاء، فالراجي هو الذي يعمل قال تعالى: [البَقَرَة: 218]{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ}، والذي يحسن ظنه بالله يعمل، والخائف يعمل.

كذلك أيضًا دلت النصوص على إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وأنكرها أهل البدع كالمعتزلة وغيرهم، مع أن الرؤية من أعظم نعيم يعطاه أهل الجنة، وهذا يفيد المؤمن، فيحثه الشوق إلى الله عز وجل على العمل الصالح والرغبة فيما عنده وتقواه وأداء الفرائض والانتهاء عن المحارم، والذي لا يثبت الرؤية ليس عنده شوق، وليست عنده رغبة فيما عند الله عز وجل؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن هؤلاء الذين ينكرون الرؤية أخلق بهم أن يحجبوا عن الله، وأن يكونوا داخلين في قوله: [المطفّفِين: 15]{كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *}.

وكذلك أثبت المؤلف رحمه الله من الصفات الإلهية المشيئة والإرادة، والإيمان بهذه الصفة يثبت تعظيم الرب عز وجل، ومعناه: أن الله سبحانه وتعالى لا يقع في ملكه إلا ما يريد، وأن كل شيء في هذا الوجود أراده الله، بخلاف الذين أنكروا الإرادة.

وكذلك أثبت أن القرآن كلام الله، ونوع التراجم وأكثر منها، فتراجم «كتاب التوحيد» كلها في إثبات هذه الصفة، وأنه كلام الله منزل غير مخلوق.

وفيه: تعظيم لله عز وجل، فمن أثبت كلام الله، وأن كلام الله باللفظ والمعنى بحرف وصوت يسمع فقد عظم الله عز وجل وعظم كتابه، بخلاف المعتزلة الذين قالوا: القرآن مخلوق، فما عظموا الله، والذين يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس وليس في القرآن كلام لله ما عظموا الله، وليس للمصحف عندهم احترام ولا تقدير، فالإيمان بهذه الصفة العظيمة يثمر العمل الصالح والشوق إلى لقاء الله عز وجل، ويثمر الخوف الصحيح الذي يحمل صاحبه على تقوى الله عز وجل ومراقبته وأداء حقوقه والانتهاء عن محارمه، ويثمر الرجاء وحسن الظن بالله عز وجل.

وعمل الإنسان كله من الإيمان، أقواله باللسان وتصديقه وإقراره واعترافه بالقلب، وعمل الجوارح كلها من الإيمان خلافا للمرجئة، وقد انتشر الإرجاء عند كثير من الناس، وبعض الناس يقولون: إن الإيمان هو تصديق القلب فقط، والأعمال ليست من الإيمان؛ ولهذا يأتي السكير العربيد ويقول: أنا مؤمن كامل الإيمان، إيماني كإيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وكإيمان جبريل وميكائيل، فإذا قلت له: كيف؟! هناك فرق كبير بينك وبينهم، قال: أنا مصدق وأبو بكر مصدق، فإذا قلنا له: أبو بكر له عمل عظيم، قال: ليس لي شأن بالعمل، العمل شيء آخر والمهم التصديق، فمذهب المرجئة مذهب باطل، وهم طائفتان:

الطائفة الأولى: المرجئة المحضة، وهم الذين يقولون: الإيمان تصديق وإقرار بالقلب فقط، بل يقولون: الإيمان معرفة الرب بالقلب، وأما الأعمال فليست مطلوبة، فلو فعل جميع المنكرات والكبائر بل لو فعل نواقض الإسلام بأن قتل الأنبياء وهدم المساجد وسب الله ورسوله لا يكون كافرا ما دام أنه قد عرف ربه بقلبه، ولا يكفر إلا إذا جهل ربه بقلبه.

وهذه الطائفة تنسب للجهم بن صفوان قبحه الله، وهو إمام الجهمية يتزعم أربع فرق، وله أربع عقائد خبيثة اشتهر بها:

العقيدة الأولى: عقيدة نفي الصفات.

العقيدة الثانية: عقيدة الجبر؛ وهي أن الإنسان مجبور على أفعاله وأقواله وأفعاله من الله.

العقيدة الثالثة: عقيدة الإرجاء؛ وهي أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، فالإيمان معرفة الرب بالقلب، والكفر جهل الرب بالقلب.

العقيدة الرابعة: القول بفناء الجنة والنار.

قال العلماء: يلزم على مذهب الجهم أن يكون إبليس مؤمنا؛ لأنه يعرف ربه بقلبه قال: [الحِجر: 36]{قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي}، ويلزم على قوله أيضا أن يكون فرعون مؤمنا؛ لأن الله قال: [النَّمل: 14]{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا}، ويلزم على قوله أيضا أن يكون اليهود مؤمنين؛ لأنهم يعرفون الرب سبحانه وتعالى، قال سبحانه: [البَقَرَة: 146]{الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، وهذا من أبطل الباطل.

الطائفة الثانية: مرجئة الفقهاء وهم من أهل السنة، وهم أبو حنيفة رحمه الله وأصحابه الذين يقولون: الإيمان تصديق القلب وعمل الجوارح مطلوب، لكن ليس من الإيمان، فالإنسان عليه واجبان؛ واجب الإيمان وواجب العمل، فكونه يعمل ويصلي ويصوم فهذا واجب، وكونه ينتهي عن المحرمات ويتركها فهذا واجب آخر، لكن ليس من الإيمان.

والأحناف يقولون: الصلاة واجبة وليست من الإيمان، والزكاة واجبة وليست من الإيمان، والحج واجب وليس من الإيمان، وترك الزنا وترك السرقة وترك الخمر كل هذا واجب وليس من الإيمان، وهم طائفتان:

طائفة تقول في رواية عن الإمام أبي حنيفة والتي عليها جمهور أصحابه أن الإيمان شيئان: إقرار باللسان وتصديق بالقلب، وأما أعمال الجوارح فليست من الإيمان.

وطائفة تقول: إن الإيمان تصديق بالقلب فقط، وأما الإقرار باللسان فهو ركن زائد مطلوب وليس من الإيمان، والعمل مطلوب وليس من الإيمان.

وأهل السنة يقولون: العمل واجب وهو مع ذلك من الإيمان؛ فالصلاة واجبة ومن الإيمان.

ويقول شارح «الطحاوية»: «إن الخلاف بينهم وبين الجمهور خلاف لفظي؛ لأنهم متفقون على أن الأعمال مطلوبة ولكن التسمية في الإيمان فقط هل يسمى منها أو لا يسمى منها؟»[(954)] .

والحقيقة أنه ليس خلافًا لفظيًا كما يقول ابن أبي العز الحنفي بل الخلاف له آثار تترتب عليه، فمن آثاره:

أولاً: أن الجمهور وافقوا الكتاب والسنة في اللفظ والمعنى، والأحناف خالفوا الكتاب والسنة في اللفظ ووافقوهما في المعنى، ولا يجوز للإنسان أن يخالف الكتاب والسنة لا في اللفظ ولا في المعنى، بل الواجب التأدب مع النصوص، فالنصوص واضحة في إدخال الأعمال في مسمى الإيمان.

ثانيًا: أن مرجئة الفقهاء كأبي حنيفة وأصحابه فتحوا باب المرجئة المحضة؛ فلما قالوا: إن الأعمال ليست من الإيمان دخل المرجئة المحضة وقالوا: ليست مطلوبة، وهم الجهمية.

ثالثًا: أنهم فتحوا بابا للفسقة؛ فعندما يقولون: إن الأعمال ليست من الإيمان يأتي السكير العربيد فيقول: أنا مؤمن كامل الإيمان، وإيماني كإيمان أبي بكر وعمر م؛ لأن الإيمان هو التصديق فقط.

رابعًا: الاستثناء في الإيمان وهو قول: أنا مؤمن إن شاء الله، فالأحناف يقولون: لا تقل: أنا مؤمن إن شاء الله، ويقولون: من قال: أنا مؤمن إن شاء الله فهذا شك في إيمانه، والذين يقولون: إن شاء الله يسمونهم الشكاكة.

وأما جمهور أهل السنة فيقولون: هناك تفصيل؛ فإن قصد الشك في إيمانه فهذا ممنوع، أما إذا قصد أن أعمال الإيمان كثيرة ومتشعبة والواجبات كثيرة ولا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه ولا يزكي نفسه فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه راجع إلى شعب الإيمان ـ فهذا صحيح لا بأس به ـ.

وهذه من الآثار التي تترتب على ثمرة الخلاف، والمقصود أن مذهب المرجئة مذهب باطل، والواجب على المسلم أن يعتقد أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وأن الإيمان قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان كما قاله أئمة أهل السنة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد