وقوله: «وَالَّذِي يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ حَتَّى يُصَلِّيَهَا مَعَ الإِْمَامِ أَعْظَمُ أَجْرًا مِنْ الَّذِي يُصَلِّي ثُمَّ يَنَامُ» هل هذا فيه: دليل على أن الجماعة غير واجبة؟ وهل فيه منافاة لما سبق من الأدلة على أن صلاة الجماعة واجبة؟
هذا الحديث تكلم عليه سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله فقال: «ينبغي أن يحمل هذا الحديث على معنى يوافق الأحاديث الأخرى، كأن يحمل مثلاً على المعذور».
وظهر لي أن هذا الحديث كحديث ابن عمر السابق: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» [(269)] ولا يلزم من التفاضل عدم وجوب صلاة الجماعة؛ فإن وجوب صلاة الجماعة يؤخذ من النصوص الأخرى، فكذلك هذا الحديث فيه المفاضلة بين من يصلي مع الإمام في جماعة وبين من يصلي وحده ثم ينام، مع قطع النظر من كونه يأثم أو لا يأثم، فظهر لي بعد التأمل أنه ليس هناك منافاة بين هذا الحديث وبين النصوص الدالة على وجوب الجماعة؛ فهذا الحديث فيه بيان الفضل، أما مسألة الإثم وكون الصلاة واجبة فيؤخذ من الأدلة الأخرى.
; فَضْلِ التَّهْجِيرِ إِلَى الظُّهْرِ
}652{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ سُمَيٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَه.
}653{ ثُمَّ قَالَ: الشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَقَالَ: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَْوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا لاَسْتَهَمُوا عَلَيْهِ ُُوَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا».
هذه الترجمة فيها فضل التهجير إلى الظهر ـ يعني: التبكير إليها ـ والتهجير مطلقًا: التبكير إلى الصلوات، وقيده المصنف هنا بالتبكير لصلاة الظهر.
وشاهد الترجمة من الحديث هو قوله: «وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ لاَسْتَبَقُوا إِلَيْهِ» . ولكن المصنف جاء بالحديث كاملاً لأن موضع الشاهد في آخره.
}652{ وفي الحديث فضل إزالة الشوك والأذى عن طريق المسلمين، وهو من شعب الإيمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «الإيمان بضع وسبعون ـ وفي لفظ: وستون ـ شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» [(270)] وفي هذا الحديث قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِي بِطَرِيقٍ وَجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ عَلَى الطَّرِيقِ فَأَخَّرَهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَه» فجعل إماطة الأذى عن الطريق من أسباب المغفرة.
وقوله: «فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ» فيه: إثبات الشكر لله كما يليق بجلاله، وهو من الصفات الفعلية.
وقول الشارح رحمه الله: «معنى: «فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ» أي: رضي الله بفعله» تأويل على طريقة الأشاعرة، أما أهل السنة والجماعة فإنهم يثبتون الصفات لله على ما يليق بجلاله وعظمته، ولا يتأولونها ولا يحرفونها.
}653{ ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الشهداء فقال: «لشُّهَدَاءُ خَمْسَةٌ» يعني هؤلاء من الشهداء، وليسوا كل الشهداء «الْمَطْعُونُ وَالْمَبْطُونُ وَالْغَرِيقُ وَصَاحِبُ الْهَدْمِ وَالشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
فالأول: المطعون: وهو من مات بالطاعون، ويسمى هذا المرض في زمننا «الكوليرا» وهو بثرات تخرج في مناطق من الجسد كالإبط والكف، ثم يموت الإنسان على إثرها، ومن مات بالطاعون فهو شهيد، كما جاء في الحديث الآخر: «الطاعون شهادة لكل مسلم» [(271)].
والثاني: المبطون: وهو من أصابه الإسهال ثم يموت، والظاهر أن المطعون أيضًا يصيبه الإسهال، ويقال: يصيبه القيء المستمر.
والثالث: الغريق: وهو من مات بالغرق في الماء.
والرابع: صاحب الهدم: وهو من يسقط عليه الحائط، ويلحق به من مات في حوادث السيارات ونحوها، فهذا يرجى له أن يكون شهيدًا؛ لأنه من جنس صاحب الهدم.
والخامس: الشهيد في سبيل الله.
وكل هؤلاء يغسلون ويصلى عليهم إلا شهيد المعركة؛ فإنه يدفن بدمائه وثيابه ولا يغسل ولا يصلى عليه كما فُعل بشهداء أحد؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بشهداء أحد ألا يغسلوا ولا يصلى عليهم، وأمر أن يدفنوا بثيابهم ودمائهم[(272)]، وهذه هي السنة في شهيد المعركة إذا مات في المعركة، أما إذا تأخر فيغسل ويصلى عليه، ويكون حكمه حكم المريض.
وأما ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته أنه صلى على شهداء أحد صلاة الميت[(273)]، فالمراد: أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إليهم بعد ثمان سنوات ودعا لهم كالمودع للأحياء والأموات.
قوله: «لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الأَْوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلاَّ أَنْ يَسْتَهِمُوا لاَسْتَهَمُوا عَلَيْهِ» الاستهام: الاقتراع. وفيه: فضل النداء ـ أي الأذان ـ فلو علم الناس ما في الأذان من الأجر لتسابقوا إليه وتشاحنوا عليه، حتى تفصل بينهم القرعة.
وفيه: فضل الصف الأول، وبيان ما فيه من الأجر، فلو جاء ثلاثة أو أربعة أو خمسة إلى المسجد، وكان بالصف الأول فرجة لا تسع إلا اثنين، وكل واحد يريد الصف الأول، ولم يجدوا إلا القرعة لتفصل بينهم، فإنه يجرى بينهم القرعة، ومن وقعت عليه القرعة كان في الصف الأول.
وقوله: «وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي التَّهْجِيرِ» التهجير: التبكير إلى الصلوات عمومًا، ويدخل في ذلك التبكير إلى صلاة الظهر، فلو يعلم الناس ما في التهجير لاستبقوا إليه؛ وذلك لأن المهجر أو المبكر للصلوات يحصل على خير عظيم؛ فهو يتقدم ويصلي السنة الراتبة، ويصلي ما كتب له، ويتلو ما تيسر من القرآن، وهو في حكم المصلي ما انتظر الصلاة، والملائكة تصلي عليه وتدعو له: «اللهم اغفر له ، اللهم ارحمه » [(274)]، وهذه الفضائل تفوت المتأخر.
والتهجير ليس خاصًّا بالظهر بل في كل الصلوات، لكن جاء ما يدل على فضله في الظهر في بعض الروايات.
وقوله: «وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِي الْعَتَمَةِ وَالصُّبْحِ لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» يعني: لو يعلمون ما فيهما من الأجر.
والعتمة: صلاة العشاء، وفيه: دليل على أنه لا بأس بتسميتها العتمة في بعض الأحيان، وأما ما جاء في الحديث الآخر: «لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، إنما هي العشاء ولكنهم يعتمون عن إبلهم» [(275)] المراد: لا يغلب عليكم تسميتها بالعتمة، وإذا سميت بالعتمة في بعض الأحيان فلا بأس.
وقوله: «لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا» أي على الرُّكب، وفيه: فضل حضور هاتين الصلاتين وأن فيهما من الأجر أكثر من غيرهما.
; احْتِسَابِ الآْثَارِ
}655{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ».
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: [يس: 12]{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قَالَ: خُطَاهُمْ.
}656{ وَقَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ فَيَنْزِلُوا قَرِيبًا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْرُوا فَقَالَ: «أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ».
قَالَ مُجَاهِدٌ: خُطَاهُمْ آثَارُهُمْ أَنْ يُمْشَى فِي الأَْرْضِ بِأَرْجُلِهِمْ.
قوله: «بَاب احْتِسَابِ الآْثَارِ» ومعنى الترجمة: احتساب الإنسان خطواته إلى المسجد؛ فيمشي إلى المسجد البعيد ويحتسب الأجر في ذلك.
}655{ قوله: «يَا بَنِي سَلِمَةَ» وسلِمة ـ بكسر اللام ـ بطن من الأنصار، «أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ» يعني: خطواتكم.
}656{ في هذا الحديث: «أَنَّ بَنِي سَلِمَةَ أَرَادُوا أَنْ يَتَحَوَّلُوا» ، وفي اللفظ الآخر: أن البقاع خلت حول المسجد فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد ويسكنوا قريبًا منه، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال لبني سلمة: «دياركم تكتب آثاركم» وكررها[(276)] يعني: الزموا دياركم تكتب خطواتكم إلى المسجد.
قوله: «فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْرُوا» أي: يجعلوها خالية فقال صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ» .
وفي الحديث: احتساب الآثار والخُطَا إلى المسجد أو إلى طلب العلم أو زيارة الأقارب وأهل الخير، ولو بعُد المكان وكان فيه مشقة، فعلى المؤمن أن يحتسب ذلك عند الله في طلبه للعلم وذهابه إلى الدروس العلمية والمحاضرات والدورات العلمية حتى ولو سافر إلى ذلك؛ فقد كان العلماء يرحلون من قطر إلى قطر لطلب العلم، فالإمام أحمد رحمه الله رحل من العراق إلى اليمن على رجليه وكتبه على ظهره، والشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله أيضًا رحل من بلد إلى بلد وذهب إلى البصرة وطرد منها، وجعل يمشي في الرمضاء، وغيرهم من أهل العلم كانوا يحتسبون آثارهم وخطواتهم وأسفارهم في طلب العلم، وكذلك في زيارة الأقارب وأهل الخير والذهاب إلى المساجد.
قوله: «قَالَ مُجَاهِدٌ في قوله تعالى: [يس: 12]{وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} قَالَ: خُطَاهُمْ» فالخُطَا تكتب؛ فينبغي للإنسان أن يحتسب الأجر ويصبر، وأن يقارب بين الخُطَا؛ حتى تكثر الخطوات.
; فَضْلِ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ
}657{ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ صَلاَةٌ أَثْقَلَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْفَجْرِ وَالْعِشَاءِ وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ آخُذَ شُعَلاً مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لاَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ بَعْدُ».
}657{ فيه: فضل صلاة العشاء في جماعة، وفضل أدائها في المسجد.
قوله: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ الْمُؤَذِّنَ فَيُقِيمَ ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً يَؤُمُّ النَّاسَ ثُمَّ آخُذَ شُعَلاً مِنْ نَارٍ فَأُحَرِّقَ عَلَى مَنْ لاَ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ بَعْدُ» : هذا عام في جميع الصلوات فدل على وجوب صلاة الجماعة، وفيه: دليل على أنه لابد من أدائها في المسجد وأنه لا يكفي أداؤها في البيت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « فأحرق على من لا يخرج إلى الصلاة بعد» يعني: في المسجد ولم يقل: على من لم يصل جماعة في بيته؛ لأنه قل أن يكون بيت إلا وفيه اثنان يصليان جماعة؛ ولأنه لو صلى الناس في بيوتهم لأفضى هذا إلى تعطيل المساجد التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.
فينبغي أن يخرج العمال وغيرهم إلى المسجد إذا كان المسجد قريبًا، أما إذا كانوا كثيرين أو كان المسجد بعيدًا أو لا يسعهم، أو كان المكان الذي يصلون فيه معدًّا للصلوات الخمس فلا بأس أن يصلوا فيه، فإذا كانوا يسمعون النداء سماعًا بدون مكبر الصوت فإنه يجب عليهم أن يجيبوا، فمن سمع النداء فلا صلاة له إلا في المسجد، أما إذا لم يكن حولهم مسجد أو كانت المساجد بعيدة فلا يسمعون النداء إلا من المكبر من مسافة بعيدة فإنهم يصلون في مكانهم، لكن الأفضل أن يذهبوا إلى المسجد إن تيسر لهم ذلك.; اثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ
}658{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا».
}658{ هذا الحديث استدل به المؤلف رحمه الله على أن الاثنين جماعة؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا» والمراد: يؤذن أحدكما كما في الرواية الأخرى: «ليؤذن أحدكما وليؤمكما أكبركما» [(277)].
وقوله: «ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» هذا محمول على تساويهما في القراءة وتساويهما في العلم بالسنة؛ ولهذا جاء في بعض روايات الحديث: «ونحن شببة متقاربون» [(278)] يعني: في القراءة وفي العلم بالسنة، أما إن لم يكونوا في القراءة سواء فيقدم الأقرأ ثم الأعلم بالسنة؛ كما جاء في الحديث الآخر: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة» [(279)] وفي لفظ آخر: «فأقدمهم سلمًا، فإن كانوا في ذلك سواء فأكبرهم سنًّا» [(280)] فمالك بن الحويرث وصاحبه متساويان في القراءة وفي العلم بالسنة؛ ولهذا قال: «ثُمَّ لِيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا» .
; مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ وَفَضْلِ الْمَسَاجِدِ
}659{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ مَا دَامَتْ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ، لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ.
}660{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ: الإِْمَامُ الْعَادِلُ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».
}661{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ هَلْ اتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا؟ فَقَالَ: نَعَمْ أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ بَعْدَ مَا صَلَّى فَقَالَ: «صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا» قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ.
}659{ الحديث فيه: فضل عظيم لمن ينتظر الصلاة، وأن الملائكة يصلون عليه ويدعون له، ودعاؤهم مقبول؛ لأن الله أمرهم بذلك، فكيف يفوت الإنسان على نفسه هذا الفضل العظيم؟!
قوله: «الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ» يعني: تدعو له ما دام ينتظر الصلاة، كما صرح به في الرواية الأخرى في كتاب الطهارة، ويشمل ذلك أيضًا جلوسه بعد الصلاة.
وقوله: «مَا لَمْ يُحْدِثْ» يعني: ما لم ينتقض وضوءه، فإذا انتقض وضوءه وقفت الملائكة، وفي اللفظ الآخر: «ما لم يؤذ أحدًا» [(281)] فإذا آذى أحدًا وقفت الملائكة عن الدعاء.
إذن فالملائكة تدعو له بشرطين:
الشرط الأول: ألا يؤذي أحدًا.
الشرط الثاني: ألا ينتقض وضوءه.
وجاء في الحديث الآخر تفسير الحدث بأنه: «فساء أو ضراط» [(282)] وكلاهما يخرج من الدبر.
قوله: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ» : هذا هو دعاء الملائكة له.
قوله: «لاَ يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَةٍ» يعني: في حكم المصلي «مَا دَامَتْ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ» أي إذا كانت الصلاة هي التي تمنعه، « لاَ يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ الصَّلاَةُ» هذا تحديد لصفة المنتظر، وهو أن ينتظر الصلاة ولا يمنعه من الذهاب إلى أهله إلا الصلاة.
}660{ الحديث فيه: فضل هؤلاء السبعة، والمراد بقوله: «سَبْعَةٌ» أي: سبعة أنواع أو أصناف، وليس المراد سبعة أفراد، وهو عام للرجال والنساء.
قوله: «يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ» أي أن هؤلاء السبعة أصناف موعودون بهذا الثواب من الله.
الصنف الأول : «الإِْمَامُ الْعَادِلُ» يعني: أن إمام المسلمين إذا عدل فله هذا الفضل؛ لأنه إذا عدل أنصف المظلوم من الظالم، وأقام الحدود؛ فتأمن به السبل، وتؤدى بواسطته الواجبات، فالإمام العادل له فضل عظيم؛ ولهذا بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم.
الصنف الثاني : «وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ رَبِّهِ» ؛ وذلك لأن الشباب في الغالب يكون عندهم نزوات، وعندهم قوة واندفاع، فإذا كبح جماح نفسه ونشأ في عبادة الله واستمر في طاعة الله صار له هذا الفضل.
الصنف الثالث : «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ» : وليس المراد أنه لا يخرج من المسجد، بل يذهب إلى أعماله وتكون عنده عناية واهتمام بالصلاة فلا يتساهل فيها فكلما أدى فريضة صارت الأخرى على باله، ويظل يرقب الوقت حتى يؤديها في المسجد.
الصنف الرابع : «وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ» : المراد الوصف، وهو التَّحابُّ والاجتماع على محبة الله سواء كان المتحابون من الرجال أو النساء، وسواء كانوا اثنين أو أكثر أو جماعات إذا كانت محبتهم في الله وليست للتجارة والقرابة والمصالح الدنيوية.
الصنف الخامس : «وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ» : فإذا كانت المرأة ذات منصب وحسب وجمال يكون الداعي إليها أشد، فإذا كبح المسلم جماح نفسه وقال: «إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ» دل هذا على قوة إيمانه؛ فهو بهذا يستحق الفضل العظيم من الله.
الصنف السادس: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ أَخْفَى حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» وفي اللفظ الآخر: «ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» [(283)] وقد انقلب هذا على بعض الرواة فقال: «حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله» [(284)] فهذا انقلاب؛ لأن التي تنفق هي اليمين وليست الشمال.
الصنف السابع : «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ» وقوله: «خَالِيًا» لأن هذا أدعى للخشوع؛ لأنه إذا كان أمام الناس فقد يدخله الرياء.
والشاهد للترجمة قوله: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ» .
وقوله: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ» اختلف العلماء في هذا الظل على ثلاثة أقوال :
أحدها: أنه ظل العرش، وهذا قول أكثر العلماء.
الثاني: أنه ظل الله فيكون صفة لله تعالى، لأن الله أضافه إليه، والأصل فيما يضاف إلى الله أن يكون صفة لله تعالى .
الثالث: أنه ظل يخلقه الله يوم القيامة.
والراجح : أنه ظل العرش، لما جاء في رواية الحديث: «سبعة يظلهم الله في ظل عرشه» وقد رواها سعيد بن منصور كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله[(285)]، ورواها محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتابه العرش وما روي فيه[(286)]، والطحاوي في شرح مشكل الآثار[(287)]، والبيهقي في الأوسط[(288)]، والأسماء والصفات[(289)]، وتمام في فوائده[(290)]، وابن شاذان في مشيخته الصغرى[(291)]، وأبو نعيم في فضيلة العادلين[(292)]، وابن عبدالبر في التمهيد[(293)]، بأسانيد متعددة مرفوعة من حديث أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري، وموقوفة على سلمان، فهذه متابعات يقوي بعضها بعضا، هذا مع قول الذهبي رحمه الله: وقد بلغ في ظل العرش أحاديث تبلغ التواتر[(294)]، والله أعلم.
}661{ الحديث فيه: فضل الصلاة في المسجد، وفضل انتظارها، والشاهد واضح في قول أنس رضي الله عنه: «أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاَةَ الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ بَعْدَ مَا صَلَّى فَقَالَ: صَلَّى النَّاسُ وَرَقَدُوا وَلَمْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مُنْذُ انْتَظَرْتُمُوهَا» فمنتظر الصلاة في خير، وفي صلاة؛ فلا ينبغي للإنسان أن يتضجر إذا تأخر الإمام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة إلى قرب نصف الليل.
قال أنس رضي الله عنه: «فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ خَاتَمِهِ» وكان خاتمًا من ذهب، وكان أولاً مباحًا ثم حرم؛ فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم ولبس خاتمًا من فضة، ونقشه: محمد رسول الله[(295)].
ولبس الخاتم الأقرب فيه أنه من العادات، ولا يقال: إنه سنة أو مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما اتخذه لما قيل له: إن الأعاجم لا يقبلون كتابًا إلا إذا كان مختومًا فاتخذ الخاتم ونقش فيه: محمد رسول الله[(296)].
; فَضْلِ مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَمَنْ رَاحَ
}662{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ».
}662{ الحديث فيه: فضل الذهاب والرواح إلى المسجد يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنْ الْجَنَّةِ» ونُزْلَهُ بسكون الزاي أي: ضيافةً، وفي لفظ: «نُزُلَه» بضم الزاي، يعني: مكانًا في الجنة، وهذا فضل عظيم، ومن يصلي في بيته يفوته هذا الفضل.
وقد يقال: إن من غدا إلى المسجد لطلب العلم يحصل له هذا الفضل أيضًا؛ لأنه أتى للعبادة، وهذا قول ليس ببعيد؛ فقد ذكر الحافظ أن هذا الحديث ظاهره حصول الفضل لمن أتى المسجد مطلقًا، لكن المقصود من الحديث اختصاصه بمن يأتيه للعبادة، والصلاة رأسها.
; إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَلاَ صَلاَةَ إِلاَّ الْمَكْتُوبَةَ
}663{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَالِكٍ ابْنِ بُحَيْنَةَ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَالَ: وحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ حَفْصَ بْنَ عَاصِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلاً مِنْ الأَْزْدِ يُقَالُ لَهُ: مَالِكُ ابْنُ بُحَيْنَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً وَقَدْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لاَثَ بِهِ النَّاسُ وَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الصُّبْحَ أَرْبَعًا الصُّبْحَ أَرْبَعًا».
تَابَعَهُ غُنْدَرٌ وَمُعَاذٌ عَنْ شُعْبَةَ فِي مَالِكٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ سَعْدٍ عَنْ حَفْصٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ بُحَيْنَةَ.
وَقَالَ حَمَّادٌ: أَخْبَرَنَا سَعْدٌ عَنْ حَفْصٍ عَنْ مَالِكٍ.
هذه الترجمة لفظ لحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» [(297)] ومعنى قوله: «إِذَا أُقِيمَتْ» يعني إذا شرع في الإقامة.
وقوله: «فَلاَ صَلاَةَ» يحتمل أن يكون المعنى: لا صلاة صحيحة، أو: لا صلاة كاملة. وقد يقال: إن الأول أولى؛ لأنه أقرب إلى نفي الحقيقة، لكن لما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل بقطع صلاته واقتصر على الإنكار دل هذا على أن المراد نفي الكمال أي فلا صلاة كاملة، ويحتمل أن النفي في الحديث بمعنى النهي، يعني إذا أقيمت الصلاة فلا تصل غيرها، ويؤيده حديث أنس: «ونهى أن يصلى إذا أقيمت الصلاة» [(298)] والنهي في الحديث للتحريم أو للتنزيه، وثمرة الخلاف أنه إذا قيل: المعنى: فلا صلاة صحيحة؛ فإنه بمجرد الإقامة تبطل النافلة، وإذا قيل: فلا صلاة كاملة؛ فإنها لا تبطل بالإقامة إلا إذا قطعها.
والصواب: أنها لا تبطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أبطل صلاة هذا الرجل بل أنكر عليه؛ قال: «الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟» لكن على المصلي أن يعمل بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وأن يقطع الصلاة، سواء قيل: النهي للتحريم، أو قيل: النهي للتنزيه، وأما قول بعض الفقهاء: إنه يتمها خفيفة فلا وجه له، وإذا أتمها فهي صحيحة لكن يأثم أو يكره.
}663{ قوله صلى الله عليه وسلم: «الصُّبْحَ أَرْبَعًا؟» استفهام، والمد أصله: أالصبح أربعًا؟! يعني هذه الصلاة التي تصليها بعد الإقامة ركعتان، والفريضة ركعتان، فكأنك جعلت الصبح أربعًا.
وفي الحديث: دليل على أنه إذا أقيمت الصلاة وهو يصلي النافلة فعليه أن يقطعها، إلا إذا رفع رأسه من الركوع وهو يصلي الركعة الأخيرة؛ لأن الصلاة قد انتهت وما بقي منها شيء؛ لأن أقل الصلاة ركعة وهي الوتر.
وأما إذا أقيمت الصلاة وأنت في الركعة الأولى فإنك تقطع الصلاة، ولا تحتاج حينئذ إلى التسليم، بل تقطع الصلاة بالنية.
; حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ
}664{ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَْسْوَدِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَذَكَرْنَا الْمُوَاظَبَةَ عَلَى الصَّلاَةِ وَالتَّعْظِيمَ لَهَا قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَأُذِّنَ فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَأَعَادَ فَأَعَادُوا لَهُ فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: «إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى فَوَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنْ الْوَجَعِ فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَكَانَكَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ قِيلَ لِلأَْعْمَشِ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَتِهِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ بِرَأْسِهِ: نَعَمْ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ بَعْضَهُ.
وَزَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا.
}665{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فَأَذِنَّ لَهُ فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ الأَْرْضَ وَكَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَرَجُلٍ آخَرَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لاِبْنِ عَبَّاسٍ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ: فَقَالَ لِي: وَهَلْ تَدْرِي مَنْ الرَّجُلُ الَّذِي لَمْ تُسَمِّ عَائِشَةُ؟ قُلْتُ: لاَ قَالَ: هُوَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ.
هذه الترجمة، وهي قول المصنف رحمه الله: «بَاب حَدِّ الْمَرِيضِ أَنْ يَشْهَدَ الْجَمَاعَةَ» اختلف العلماء في المراد بها، والأقرب والأرجح أن المراد: الحد الذي للمريض أن يأخذ فيه بالعزيمة في شهود الجماعة بغير أن يشق عليه الحضور، فإن شق عليه الحضور سقطت عنه الجماعة؛ لأنه ليس كل مرض يمنع من شهود الجماعة؛ فقد يكون مرضًا خفيفًا فيكون صداعًا خفيفًا أو زكامًا أو وجع ضرس، فهذا عليه أن يشهد الجماعة، أما إذا وصل إلى حد يشق معه الحضور فإنه تسقط عنه الجماعة وإن تجشم الحضور وأتى فلا حرج كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد جاء يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض من الوجع، وكما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «ولقد كان الرجل ـ يعني منَّا ـ يؤتى به يهادى بين اثنين حتى يقام في الصف» فإذا تجشم المشقة وصبر فله أجره، وإلا فإنه إذا شق عليه الحضور ولم يستطع المجيء أو ليس له أحد يلازمه أو يساعده فإنه تسقط عنه الجماعة.
}664{ في حديث عائشة رضي الله عنها: أنهم لما تذاكروا المواظبة على الصلوات والتعظيم لها قالت: «لَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ» مَرِض على وزن فَرِح، وبعض الناس يقرؤها: لما مرُض، وهو خطأ، «فَحَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَأُذِّنَ» يعني: أذن لها، «فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» واستفاد الصحابة رضي الله عنهم من ذلك وأخذوا منه أن أبا بكر هو الأحق بالإمامة العظمى لما قدمه للإمامة في الصلاة؛ ولهذا لما ذهب عمر وأبو عبيدة وأبو بكر ي إلى سقيفة بني ساعدة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له: رضيك النبي صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟!
قوله: «فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ» يعني: رقيق رحيم يبكي ولا يملك عينيه من البكاء، فلا يسمعه الناس من البكاء، وجاء في اللفظ الآخر أن عائشة رضي الله عنها هي التي قالت ذلك، ثم قالت لحفصة: «قولي له يقدم عمر» [(299)].
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل هذه الإشارة من عائشة رضي الله عنها، فأعاد عليهم فقال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» فأعادت عليه عائشة «فَأَعَادَ الثَّالِثَةَ» فقال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» ثم قال: «إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» يعني: مثل صواحب يوسف في إظهار خلاف ما في الباطن ـ يعني تظهرن شيئًا وتردن غيره ـ وجاء في اللفظ الآخر أن عائشة أرادت أن تصرف الإمامة عن أبيها حتى لا يتشاءم الناس برجل يقوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: «إن الناس إذا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد لا بد أن يتشاءموا به» [(300)] فهي أظهرت أنه رجل أسيف لا يملك عينه من البكاء، ولا يسمع الناس تكبيره، أما في الباطن فأرادت أن تصرف الإمامة عن أبيها حتى لا يتشاءم الناس به.
كما أن امرأة العزيز ـ التي راودت يوسف عن نفسه ـ دعت النسوة إلى وليمة وجمعتهن وأظهرت إكرامهن، لكنها في الباطن تريد أن يرين يوسف وجماله، وأن يعذرنها في حبه.
وهذا فيه: دليل على أنه ينبغي للإنسان ألا يأخذ بقول المرأة حتى يظهر له وجه المصلحة؛ لأن المرأة قد تقول شيئًا وتريد به شيئًا آخر، فإذا ظهر وجه المصلحة يؤخذ بقولها؛ كما في قصة الحديبية لما أحرم النبي صلى الله عليه وسلم وأحرم الصحابة وجاءوا معتمرين فلما كانوا بالحديبية على حدود الحرم ـ وتسمى الآن: الشميسي على طريق جدة ـ منعهم المشركون واصطلحوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من الصلح أن يرجعوا في عامهم ولا يعتمروا، لكنهم أحرموا، ولا حيلة للمعتمر إذا كان محصرًا إلا أن يذبح ويتحلل؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للناس: «اذبحوا وتحللوا» لكن الناس لم يفعلوا شيئًا من ذلك ـ لا عصيانًا له صلى الله عليه وسلم، ولكن رجاء أن يسمح لهم ـ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل على أم سلمة فقالت: ما لك غضبان يا رسول الله؟! قال: «ما لي لا أغضب؛ آمر الناس بأمر فلا يأتمروا» ، فقالت أم سلمة: يا رسول الله! تريد أن يفعلوا؟ قال: «نعم» ، قالت: لا تكلم أحدًا، اخرج إلى الناس، وابدأ بنفسك؛ اذبح واحلق رأسك، والناس يقتدون بك. ففعل النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج على الناس، وأمر بأن يذبح هديه فذبح الهدي وحلق رأسه، فتتابع الناس حتى كادوا أن يقتتلوا[(301)] فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأي أم سلمة وكان رأيها موفقًا.
أما قول عائشة رضي الله عنها فلم يظهر فيه وجه مصلحة؛ ولذلك لم يأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: «إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» .
وكان الأمر غير ما توقعت عائشة؛ لأن أبا بكر صلى بالناس؛ فظهر بذلك محل أبي بكر من الإمامة والعلم والديانة، وأنه أحق الناس بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف الناس مكانته.
قوله: «فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ فَصَلَّى فَوَجَدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَأَنِّي أَنْظُرُ رِجْلَيْهِ تَخُطَّانِ مِنْ الْوَجَعِ» أي: أنه صلى الله عليه وسلم جاء بين رجلين يعضدانه، أحدهما عن يمينه يأخذ بعضده اليمنى، والآخر عن يساره يأخذ بعضده اليسرى من شدة المرض.
وهذا فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم تجشم المشقة وحضر الصلاة، ورجلاه تخطان في الأرض؛ لأن بيته صلى الله عليه وسلم كان بجوار المسجد، فقد كان له باب على المسجد.
قوله: «فَأَرَادَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَتَأَخَّرَ» أي: حينما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ـ لأن حجرته صلى الله عليه وسلم كانت مقابلة للإمام يراها من جهة اليسار ـ أراد أن يتأخر عن الإمامة ليتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، «فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ مَكَانَكَ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ حَتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِهِ» أي: أتي بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه، وفي رواية أنه جلس عن يساره[(302)]، وهذا فيه: دليل على أن موقف المأموم الواحد من الإمام يكون عن يمين الإمام، فصار أبو بكر مأمومًا، وصار النبي صلى الله عليه وسلم إمامًا، وتحوُّلُ أبي بكر رضي الله عنه من كونه إمامًا إلى كونه مأمومًا فيه دليل على أنه لا بأس أن يتحول الإمام مأمومًا إذا كان قد دخل ليصلي بالناس ثم جاء الإمام الراتب وتقدم.
والنبي صلى الله عليه وسلم جلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه ليبلغ أبو بكر عنه؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس جالسًا وأبو بكر يصلي قائمًا يبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإذا كبر النبي صلى الله عليه وسلم كبر أبو بكر، فأبو بكر يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بأبي بكر رضي الله عنه.
وأخذ العلماء من هذا الحديث جواز التبليغ عن الإمام، وهو أن يرفع أحد المأمومين صوته بالتكبير إذا كان صوت الإمام ضعيفًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إمامًا، وكان أبو بكر عن يمينه يصلي بصلاته ويرفع صوته تبليغًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصلى الناس بصلاة أبي بكر رضي الله عنه، وفي الحرمين الآن يرفع المؤذن صوته بالتكبير بدلالة هذا الحديث وأمثاله.
وقوله: «رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ» هو: أبو داود الطيالسي.
قوله: «وَزَادَ أَبُو مُعَاوِيَةَ جَلَسَ عَنْ يَسَارِ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي قَائِمًا» هذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم جلس عن يسار أبي بكر.
واحتج العلماء بهذا على أن الإمام إذا ابتدأ الصلاة قائمًا ثم جلس لعلة أو مرض فإن الناس يصلون قيامًا، أما إذا ابتدأ بهم الصلاة وهو قاعد فإنهم يصلون قعودًا جمعًا بين الحديثين؛ لأن أبا بكر ابتدأ الصلاة قائمًا، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم وصار إمامًا فجلس، فاستمر الناس يصلون قيامًا، وأما في مرضه الأول لما سقط عن فرسه وجحش شقه صلى الله عليه وسلم ابتدأ الصلاة قاعدًا فصلى الناس قيامًا فأومأ إليهم: أن اجلسوا فلما صلى قال: «كدتم تفعلوا كما تفعل الأعاجم يقفون على رءوس ملوكهم وهم جلوس، إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر كبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون» [(303)].
وهناك أقوال أخرى لأهل العلم في الجمع بين الحديثين:
منها: أن أمره صلى الله عليه وسلم لهم بالقعود في مرضه الأول منسوخ بما فعله في مرضه الأخير؛ فإنه في مرضه الأخير أقرهم على القيام، وهذا اختيار الإمام البخاري وجماعة كما سيأتي نقله عن شيخه الحميدي.
ومنها: أن أمره لهم بالقعود في مرضه الأول محمول على الاستحباب، وفعلهم في مرضه الأخير قيامًا محمول على الجواز، والذي صرف الأمر إلى الاستحباب تركه إياهم في مرضه الأخير قيامًا، فدل على أنه إذا صلى الإمام الراتب جالسًا فهم مخيرون بين أن يصلوا جلوسًا أو يصلوا قيامًا، فإن صلوا قعودًا فهو أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك، وإن صلوا قيامًا جاز ذلك.
}665{ في هذا الحديث من الفوائد: أن الأنبياء تصيبهم الأمراض والأوجاع والأسقام ولا يعلمون الغيب، فدل على أنهم لا يصلحون للعبادة وليسوا آلهة؛ لأن الإله كامل لا يلحقه نقص، فلا يلحقه مرض ولا خوف ولا جوع ولا سقم؛ فهو منزه عن ذلك كله، ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم بشرٌ قوله تعالى: [الكهف: 110]{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فليس إلهًا يعبد ولكنه نبي كريم يطاع ويتبع، ويُحب أعظم من محبة النفس والولد والأهل ـ فالعبادة حق الله ـ فهو صلى الله عليه وسلم يمرض ويموت [الزُّمَر: 30]{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ *}.
وفيه: دليل على أن من له زوجات ومرض ولم يستطع القسم فإن له أن يستأذن أزواجه أن يكون عند واحدة ـ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد استأذن أزواجه أن يكون عند عائشة؛ لأنه يشق عليه أن يقسم ـ وإذا لم يأذنَّ يقرع بينهن، فمن خرجت لها القرعة كان عندها، وكذلك إذا سافر فإنه يقرع بين زوجاته فمن خرجت لها القرعة سافر بها.
وفيه: دليل على أن القسم بين الزوجات واجب حتى في حق المريض، لكن إذا شق ذلك عليه فإنه يستأذنهن.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم تجشم المشقة وصلى وهو مريض، وذلك من حرصه على الجماعة وعنايته بها، حتى إنه لم يستطع المشي فقام يتهادى بين اثنين؛ أحدهما يأخذ بعضده اليمنى، والثاني يأخذ بعضده اليسرى، ورجلاه تخطان في الأرض، لا يستطيع أن يقف على الأرض من شدة المرض، ومع ذلك فقد جاء صلى الله عليه وسلم وجلس يصلي بالناس.
; الرُّخْصَةِ فِي الْمَطَرِ وَالْعِلَّةِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي رَحْلِهِ
}666{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ أَذَّنَ بِالصَّلاَةِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ بَرْدٍ وَرِيحٍ ثُمَّ قَالَ: أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُ الْمُؤَذِّنَ إِذَا كَانَتْ لَيْلَةٌ ذَاتُ بَرْدٍ وَمَطَرٍ يَقُولُ: «أَلاَ صَلُّوا فِي الرِّحَالِ».
}667{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ الأَْنْصَارِيِّ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ كَانَ يَؤُمُّ قَوْمَهُ وَهُوَ أَعْمَى وَأَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا تَكُونُ الظُّلْمَةُ وَالسَّيْلُ وَأَنَا رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَصَلِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فِي بَيْتِي مَكَانًا أَتَّخِذُهُ مُصَلَّى فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ؟» فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ مِنْ الْبَيْتِ فَصَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
}666{ الحديث فيه: دليل على أن هناك رخصة في المطر والبرد الشديد أن يصلي الإنسان في رحله في السفر أو في بيته في الحضر، ويكون هذا عذرًا في سقوط صلاة الجماعة.
وفيه: دليل على أن الجماعة واجبة؛ لأن الرخصة لا تكون إلا من شيء واجب، فإذا وجد مطر أو برد جاز للإنسان أن يصلي في بيته، ومن تجشم المشقة وجاء إلى المسجد فإن الإمام يصلي بمن حضر، والرخصة تكون من مطر يبل الثياب أو برد شديد وكذلك أيضًا الريح الشديدة في السفر، فإذا كانوا جماعة مسافرين ولهم مخيمات متعددة فإنهم يصلون جماعة، لكن إذا كان هناك مطر أو برد شديد أو ريح شديدة فكل يصلي في خيمته ولو كانوا متقاربين؛ لأن هذا عذر.
والمطر عذر عام في السفر والحضر، بخلاف البرد والريح من دون مطر فهذا خاص بالسفر، اللهم إلا أن يكون بردًا لا يحتمل، أو ريحًا شديدة خارجة عن العادة فهذا يكون عذرًا في الحضر أيضًا.
وأما وقت قول المؤذن: ألا صلوا في الرحال، ففيه ثلاثة أقوال:
القول الأول: بعد قوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح. يقول: صلوا في الرحال، صلوا في الرحال، أو: صلوا في بيوتكم، صلوا في بيوتكم.
القول الثاني: أن يقولها بدل حي على الصلاة، فإذا قال: أشهد أن محمدًا رسول الله يقول: صلوا في الرحال، صلوا في الرحال، كما جاء عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في ليلة مطيرة: «إذا قلت: أشهد أن محمدًا رسول الله فلا تقل: حي على الصلاة، ولكن قل: صلوا في بيوتكم».
القول الثالث: أن يكمل الأذان على حاله، ثم يقول: صلوا في الرحال، صلوا في الرحال.
وكل هذا جائز، والأكمل أنه يكمل الأذان ثم يقول: صلوا في الرحال.
والعبرة في سقوط الجماعة بالمطر بالمشقة، وهذا يختلف باختلاف الأحوال واختلاف الأمكنة والأزمنة؛ ففي القرى التي فيها طين بمجرد أن يأتي مطر يشق على الناس، كما قال ابن عباس: «كرهت أن أخرجكم تدوسون الطين إلى ركبكم»، وفي بعض الأمكنة ـ مثل مجتمعاتنا الآن ـ الشوارع مرصوفة، وأكثر الناس معهم سيارات، فقد يكون هناك مطر كالسيول ولا يضر ولا يشق على الناس، ففي هذه الحالة لا ينبغي أن تترك الجماعة.
والمطر عذر في التخلف عن الجماعة في جميع الصلوات، حتى صلاة الجمعة؛ كما في حديث عبدالله بن الحارث قال: «خطبنا ابن عباس في يوم ردغ، فلما بلغ المؤذن حي على الصلاة، فأمره أن ينادي: الصلاة في الرحال فنظر القوم بعضهم إلى بعض، فقال: فعل هذا من هو خير منه، وإنها عزمة» [(304)] وهذا وقع من ابن عباس رضي الله عنهما في يوم جمعة، فدل على أن المطر عذر في التخلف عن الجمعة والجماعة، وفيه مشروعية قول: «الصلاة في الرحال» في يوم المطر؛ والمطر عذر في التخلف عن الجمعة والجماعة حتى ولو لم يقل المؤذن ذلك، لكن إذا قال ذلك يكون من باب البيان والإيضاح. وقوله: «إنها عزمة» أي الجمعة عزمة، يعني ضد الرخصة والمعنى أن الجمعة والجماعة واجبة لولا العذر، لكن المطر عذر ورخصة في التخلف عن الجمعة والجماعة، ومن تجشم المشقة وحضر من الناس فإن الإمام يخطب بهم الجمعة، ويصلون، ومن لم يحضر معذور، وكذلك في الجماعة يصلي بمن حضر ومن صلى في بيته فهو معذور.
}667{ الحديث فيه: أن عتبان بن مالك اعتذر بالظلمة والسيل، وفيه: الرخصة للأعمى في المطر والسيل أن يصلي في بيته.
وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم لعتبان، ولم يرخص لعبد الله بن أم مكتوم عندما قال: إني رجل ضرير البصر شاسع الدار، وليس لي قائد يلائمني، فهل تجد لي رخصة في أن أصلي في بيتي فقال: «هل تسمع النداء؟». قال: نعم. قال: «أجب» [(305)]، وفي لفظ: «لا أجد لك رخصة» [(306)] فلم يرخص لابن أم مكتوم؛ لأنه ما ذكر إلا العمى فقط، والعمى ليس عذرًا تسقط معه الجماعة؛ لأنه قد يكون بعض العميان يعرف الطريق فيذهب ويعود وحده ولو لم يكن معه أحد، فدل هذا على أن الجماعة واجبة على الأعمى والبصير، لكن عتبان رضي الله عنه له عذر آخر وهو أنه كان رجلا ضخما ـ كما سيأتي ـ، فطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في مكان في بيته من باب التبرك ـ وهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم ـ حتى يتخذه مصلى في الليلة التي يكون فيها الظلمة والسيل.
; هَلْ يُصَلِّي الإِْمَامُ بِمَنْ حَضَرَ
وَهَلْ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَطَرِ
}668{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ:سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ: خَطَبَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ فِي يَوْمٍ ذِي رَدْغٍ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ لَمَّا بَلَغَ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ قَالَ: قُلْ الصَّلاَةُ: فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فَقَالَ: كُأَنَّكُمْ أَنْكَرْتُمْ هَذَا إِنَّ هَذَا فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي يَعْنِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم إِنَّهَا عَزْمَةٌ وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُحْرِجَكُمْ.
وَعَنْ حَمَّادٍ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: كُرِهْتُ أَنْ أُؤَثِّمَكُمْ فَتَجِيئُونَ تَدُوسُونَ الطِّينَ إِلَى رُكَبِكُمْ.
}669{ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ: جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ السَّقْفُ وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ.
}670{ حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَساً يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ الأَْنْصَارِ: إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الصَّلاَةَ مَعَكَ وَكَانَ رَجُلاً ضَخْمًا فَصَنَعَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا فَدَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ فَبَسَطَ لَهُ حَصِيرًا وَنَضَحَ طَرَفَ الْحَصِيرِ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ آلِ الْجَارُودِ لأَِنَسٍ: أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ مَا رَأَيْتُهُ صَلاَّهَا إِلاَّ يَوْمَئِذٍ.
}668{ قوله: «عَزْمَةٌ» يعني واجبة، والمراد: صلاة الجمعة.
قوله: «كُرِهْتُ أَنْ أُؤَثِّمَكُمْ فَتَجِيئُونَ تَدُوسُونَ الطِّينَ إِلَى رُكَبِكُمْ» هو سبب الرخصة حيث المشقة التي تحصل من الطين والمطر، وهذا يدل على أن بعضهم حضر وصلى بهم، وبعضهم لم يحضر؛ ففيه دليل على أن الإمام يصلي بمن حضر ويخطب يوم الجمعة بهم ولو كان في المطر، والذي لا يحضر له رخصة أن يصلي في بيته.
وهذه الواقعة التي ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما كانت في يوم جمعة، وهذا يدل على أنه يجوز أن يصلي في الرحال جمعة أو جماعة، لكن بشرط أن يكون له عذر واضح فيه مشقة، ولا يكون شيئًا يسيرًا.
وفي المطر تصلى الجمعة في البيت أربعًا؛ فالجمعة إنما تكون جمعة إذا تقدمها خطبتان، وصليت مع الإمام، أما الذي يصلي في البيت فإنه يصلي أربعًا مثل المريض، وكذلك المرأة في بيتها تصلي أربعًا، ومن فاتته الجمعة كذلك بأن جاء وقد رفع الإمام رأسه من الركوع الثاني في صلاة الجمعة فإنه يقضي أربع ركعات.
}669{ سأل أبو سلمة أبا سعيد الخدري عن ليلة القدر فقال: «سَأَلْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ فَقَالَ: جَاءَتْ سَحَابَةٌ فَمَطَرَتْ حَتَّى سَالَ السَّقْفُ» يعني فوق مسجد النبي صلى الله عليه وسلم «وَكَانَ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ».
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بمن حضر في المطر؛ لأن بعضهم صلى في البيت وبعضهم حضر فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فدل ذلك على أن الإمام يصلي بمن حضر في وقت المطر جمعة أو جماعة ومن لم يحضر فله عذر.
وقوله: «فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ» يعني: بعد الصلاة، وفيه: أن المصلي لا يمسح التراب عن جبهته إلا بعد الصلاة، أما ما يفعله بعض الناس من كونه إذا سجد مسح جبهته فهذا من العبث، لكن إذا انتهى من الصلاة فلا بأس؛ ولهذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم وأثر الطين في جبهته، وكانت هذه الليلة ليلة إحدى وعشرين من رمضان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم خطب قبل ذلك وقال عن ليلة القدر: «إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين» [(307)].
وفيه: دليل على أن ليلة القدر متنقلة، فكانت في ذلك العام ليلة إحدى وعشرين، وقد تكون ليلة ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين.
وينبغي للإنسان ألا يتسرع وألا يتعجل في الجمع بين الصلوات حتى يغلب على ظنه أن المشقة واضحة؛ لأنه في هذه الأيام، وفي أحوالنا الآن ـ والحمد لله ـ تجد الشوارع واسعة مرصوفة والمشقة ليست شديدة، فإن لم يكن المطر شديدًا فلا يجمع، أما إذا كان المطر شديدًا والمشقة واضحة فإنه يجمع أخذًا بالرخصة.
والخلاصة: أن الجماعة تسقط بالمطر، لكن من حضر إلى المسجد فتكون في حقه سنة ويصلي الإمام بمن حضر، وإذا لم يأت الإمام يقدم الناس من يصلي بهم.
}670{ قوله: «رَجُلاً ضَخْمًا» هو: عتبان بن مالك.
قوله: «إِنِّي لاَ أَسْتَطِيعُ الصَّلاَةَ مَعَكَ» ذكر عتبان رضي الله عنه علة تخلفه عن الجماعة في المسجد في حديث آخر وهي: ظلمة الليل وسيل الوادي.
وعتبان رضي الله عنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم ـ وكان ذلك ضحى ـ ليصلي في مكان في بيته؛ ليتخذه مصلى يتبرك به، فجاء ومعه أبو بكر، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أين تحب أن أصلي؟» قال: في هذا المكان. فنضح الحصير وصلى عليه ركعتين وصلى خلفه عتبان وأبو بكر رضي الله عنهما[(308)]؛ فدل ذلك على جواز صلاة النافلة جماعة أحيانًا إذا لم تتخذ عادة؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الضحى جماعة.
فإذا كان عند الإنسان بعض الضيوف وأحبوا أن يصلوا النافلة جماعة فلا حرج، أما أن يكون ذلك باستمرار يوميًّا فهذا ممنوع وغير مشروع، ولا يشرع إلا في صلاة الفريضة، وصلاة العيدين والجمعة والاستسقاء والكسوف وصلاة التراويح في رمضان، فهذه صلوات تشرع فيها الجماعة، أما ما عدا ذلك فإذا صلى في بعض الأحيان جماعة من غير أن يتخذها عادة فلا بأس، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم لما دعاه عتبان وصلى بهم جماعة.
وفيه: جواز الصلاة على الحصير أو على السجادة أو على الفرش، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير؛ ففي قصة أنس لما زاره النبي صلى الله عليه وسلم وصلى بهم، وصارت أم أنس خلفهم حيث قال: فصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز خلفنا، وقال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم على حصير لنا قد اسود من طول ما لبس[(309)] أي: صلى على حصير أسود من طول ما جلس عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي على الحصير، ويصلي على التراب، ويصلي على السجادة، كيفما اتفق، ولا يتكلف، فإن كان المكان مفروشًا صلى عليه، وإن كان غير مفروش صلى على التراب.
وفيه: دليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى لقوله: «أَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي الضُّحَى؟ قَالَ مَا رَأَيْتُهُ صَلاَّهَا إِلاَّ يَوْمَئِذٍ» والصواب: أنه صلاها كما ثبت عن عائشة ل أنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعًا ويزيد ما شاء الله[(310)]، وجاء عن عائشة رضي الله عنها أيضًا أنها قالت: ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الضحى[(311)] فيحمل على أنها نسيت.
وهي ثابتة بوصيته أبا الدرداء[(312)] وأبا هريرة[(313)] بثلاثة أمور: بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وأن يوترا قبل أن يناما، كما صلى يوم الفتح ثمان ركعات، وصلى بأنس وأمه[(314)]، وصلى بعتبان الضحى[(315)]، لكنه كان لا يداوم لئلا يشق على أمته، والسنة تثبت بالقول وبالفعل وبالتقرير؛ فإذا حث على صلاة الضحى اكتفي بذلك لإثبات السنية ولو لم يفعله صلى الله عليه وسلم.
; إِذَا حَضَرَ الطَّعَامُ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِالْعَشَاءِ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: مِنْ فِقْهِ الْمَرْءِ إِقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلاَتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ
}671{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ».
}672{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ فَابْدَءُوا بِهِ قَبْلَ أَنْ تُصَلُّوا صَلاَةَ الْمَغْرِبِ وَلاَ تَعْجَلُوا عَنْ عَشَائِكُمْ».
}673{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَابْدَءُوا بِالْعَشَاءِ وَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ».
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُوضَعُ لَهُ الطَّعَامُ وَتُقَامُ الصَّلاَةُ فَلاَ يَأْتِيهَا حَتَّى يَفْرُغَ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ الإِْمَامِ.
}674{ وَقَالَ زُهَيْرٌ وَوَهْبُ بْنُ عُثْمَانَ: عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ».
رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ وَهْبِ بْنِ عُثْمَانَ وَوَهْبٌ مَدِينِيٌّ.
}671{، }672{ في هذين الحديثين: دليل على أنه كانت عادة أهل المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يتعشون قبل المغرب، وربما أخروا العشاء إلى بعد المغرب، وكان هذا حال الناس هنا في نجد قبل سنين، قبل أن تفتح الدنيا على الناس، وقبل أن توجد الوظائف لما كان أكثر الناس فلاحين كانوا يتعشون بعد العصر أو بعد المغرب، والغداء يكون في الضحى، وليس هناك إلا أكلتان، وكانوا بعد العِشاء ينامون كما كان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة يفعلون، فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى العِشاء أوى إلى فراشه[(316)]، ولا يسهرون مثلنا الآن، يقول الأطباء: إن العَشاء الصحي هو ما كان الناس عليه سابقًا حيث كانوا يتعشون بعد العصر أو بعد المغرب، أما العَشاء في نصف الليل فهذا ليس عَشاءً صحيًّا، لكن الناس اضطروا إلى هذا من أجل الأعمال ومن أجل اتساع البلد، فصار الناس لا يأتون إلا متأخرين بعد العِشاء.
والمقصود من الحديث أنه إذا قدم العَشاء أو الغداء أو أي طعام وقد أقيمت صلاة فيبدأ بالطعام.
}673{ قوله: «حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهُ» أي: يأكل نهمته وحظه من الطعام؛ لأنه لو صلى صارت نفسه تتوق إلى الطعام فيكون ذهنه مشوشًا، وتكون صلاته مكروهة.
}674{ قوله: «حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ» يعني :حتى تسكن نفسه ويقبل على صلاته وقلبه فارغ.
وهكذا لو كان يدافع بولاً أو غائطًا أو ريحًا فإنه يبدأ بها قبل الصلاة حتى لا يتشوش، ثم بعد ذلك يصلي.
وهذه الأحاديث تدل على أنه إذا حضر الطعام وأقيمت الصلاة أو حضرت فإنه يبدأ بالطعام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ فَلاَ يَعْجَلْ حَتَّى يَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهُ وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ» .
لكن لا ينبغي للإنسان أن يتعمد تقديم الطعام بعد الأذان، فيقول لأهله: هاتوا السفرة؛ فهذا معناه تعمد ترك الجماعة، لكن لو قدم له قدرًا أو من دون طلب ونفسه تتوق إلى الطعام فإنه يبدأ بالطعام ...