بين مذهب المعتزلة وبين مذهب أهل السنة، فأرادوا أن يوافقوا المعتزلة في إنكار الفوقية، قالوا: إن الله ليس فوق، ولم يجرؤوا أن ينكروا الرؤية لوضوح الأدلة، فقالوا: نثبت الرؤية، وننفي الجهة. نقول: إن الله يرى، لا في الجهة، كيف يرى من فوق، ويكون من تحت لا، يمين لا، شمال لا، أمام لا، خلف لا؟ من أين يرى؟ يقولون: لا يرى في الجهة؛ هذا غير معقول، وغير متصور؛ ولهذا أنكر عليهم العقلاء، وضحك جماهير العقلاء من قول الأشاعرة في هذا، وقالوا: إن المرئي لا بد أن يكون في جهة من الرائي، ولا بد أن يكون مباين له، فرؤية شيء لا يكون في جهة من الرائي غير معقول، غير متصور.
(المتن)
(الشرح)
هل عندك تعليق في الشرح؟
هذا مستحيل؛ ليس بصحيح، الصواب: أن رؤية الله ممكنة، لكنها غير واقعة، لو كانت الرؤية مستحيلة لما سألها موسى، موسى قال: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف/143]؛ لا تستطيع ببشريتك الضعيفة، الصواب الذي أقره أهل العلم: أن رؤية الله جائزة وممكن في الدنيا، لكنها غير واقعة شرعًا، وأما رؤية الله في الآخرة فجائزة عقلًا، وواقعة شرعًا، في الدنيا رؤية الله ممكنة؛ بمعنى أنها غير مستحيلة، المستحيل لا يطلب، كيف يطلب موسى شيئًا مستحيلًا؟ لو كانت الرؤية مستحيلة لما سألها موسى، قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف/143]؛ لا تستطيع ببشريتك الضعيفة؛ لأن الناس لا يستطيعون رؤية الله في الدنيا، ولا يستطيع أحد أن يثبت لرؤية الله .
ولهذا نبينا ﷺ لما عرج به، سأله أبو ذر هل رأيت ربك؟ قال: نُورٌ أَنَّىٰ أَرَاهُ، وفي رواية: رَأَيتُ نُورًا، وفي حديث أبي موسى في صحيح مسلم، حِجَابُهُ النُّورُ أَو النَّارُ، لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، ما يستطيع أحد أن يثبت لرؤية الله في الدنيا، ولهذا لما سأل موسى ربه الرؤية، قال الله: قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف/143]. ما تستطيع أن تثبت، وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ماذا حصل للجبل؟ وهو صخر تدكدك، وموسى صعق، خرَّ موسى صعقًا وتدكدك الجبل، فلما فاق موسى قال: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف/143]. يعني لا يراك أحدًا في الدنيا إلا مات، فالرؤية ممكنة؛ يعني جائزة عقلًا، والدليل على جوازها: أن موسى سأله، ولو كانت مستحيلة لما سأله، لكنها غير واقعة شرعًا.
ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ، قال: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا، فهي ممكنة، وجائزة عقلًا، غير مستحيلة، المستحيل لا يمكن، لا يسأل، فهي جائزة عقلًا في الدنيا وفي الآخرة، وأما شرعًا: فهي غير واقعة في الدنيا، وواقعة في الآخرة، في الآخرة جائزة عقلًا وشرعًا، في الدنيا جائزة عقلًا، وممتنعة شرعًا، والمستحيل على إطلاقه فيه نظر؛ من أراد الاستحالة العقلية؛ فهذا ممنوع، أما شرعًا: نعم.
(المتن)
ورؤية الله في الآخرة ثابتة بالكتاب والسنة وإجماع السلف. قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة/22-23]. وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين/15]. فلما حجب الفجار عن رؤيته دلَّ على أن الأبرار يرونه وإلا لم يكن بينهما فرق.
وقال النبي ﷺ: إنكم سترَوْنَ رَبَّكُم كّمَا تَرَوْنَ هَذَا القّمَرَ لا تُضَامُّون في رُؤْيِتَه متفق عليه، وهذا التشبيه للرؤية بالرؤية لا للمرئي بالمرئي؛ لأن الله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ولا شبيه له ولا نظير.
(الشرح)
التشبيه للرؤية بالرؤية؛ يعني ترون ربكم رؤية واضحة كما أنكم ترون القمر رؤية واضحة، وليس المراد تشبيه الله بالقمر، لا، الله ليس له مثيل، فهذا تشبيه الرؤية بالرؤية؛ يعني ترون ربكم رؤية واضحة كما أن الإنسان يرى القمر الذي فوقه رؤية واضحة، وليس المراد تشبيه الله بالقمر، هذا معنى قول أهل العلم: تشبيه الرؤية بالرؤية: لا للمرئي بالمرئي.
(المتن)
(الشرح)
هذا ثابت؛ فالرؤية ثابتة بالكتاب، والسنة والإجماع.
(المتن)
(الشرح)
عرصات: يعني مواقف ومشاهد القيامة يرونه في مواقف القيامة، ويرونه بعد دخول الجنة ، المؤمنين يرون الله في مواقف القيامة وبعد دخولهم الجنة.
أما الكفرة؛ ففيهم خلاف على ثلاثة أقوال:
قال بعض العلماء: إن الكفار يرونه في مواقف القيامة، ثم يحتجب عنه.
وقال آخرون: لا يراه إلا المؤمنون والمنافقون؛ كما جاء في الحديث الآخر حينما يتجلى للمؤمنين والمنافقين فيسجد المؤمنون، والمنافقون لا يستطيعون السجود.
وقال آخرون: إن الرؤية خاصة بالمؤمنين في الموقف، وفي الجنة.
الطالب: الصواب في الموقف؟
الشيخ: في الموقف؛ الخلاف مشهور الحديث في الصحيحين واضح في رؤية المنافقين حينما يتجلى، يراه المؤمنون والمنافقون هذا قول قوي.
(المتن)
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمًّا بعد:
فقال المؤلف حفظه الله:
فصل رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة
والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، ويزورونه، ويكلمهم ويكلمونه، قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة/22-23]. وقال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين/15]. فلما حجب أولئك في حال السخط، دَلَّ على أنَّ المؤمنين يرونه في حال الرضى، وإلا لم يكن بينهما فرق.
(الشرح)
وهذا هو الصواب الذي عليه أهل السنة والجماعة في النصوص: أن المؤمنين يرون ربهم يرم القيامة، يرونه، ويراهم ، ويزورونه؛ الله تعالى يقول: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة/22-23]. وقال النبي ﷺ: إنكم سترَوْنَ رَبَّكُم كّمَا تَرَوْنَ هَذَا القّمَرَ لا تُضَامُّون في رُؤْيِتَه. وفي اللفظ الآخر: تَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسِ صَحواً لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ.
وقال سبحانه عن الكفرة: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين/15]. استدل بذلك الشافعي؛ بهذه الآية على الرؤية، قال: لما حجب هؤلاء في حال السخط؛ يعني الكفرة، دلَّ على أن المؤمنين يرونه كل يوم، ولو كان المؤمنين محجوبين عن الله لتساوى هم وأعداؤهم في الحجب، لما حجب الكفرة؛ دلَّ على أن المؤمنين يرون ربهم؛ هذا معتقد أهل السنة والجماعة، والذي تدل عليه النصوص، والآيات واضحة في هذا، والأحاديث متواترة في إثبات رؤية المؤمنين لربهم؛ كما ذكر ذلك العلامة ابن القيم في كتاب "الروح "، وقال: إن رواها عن النبي ﷺ ثلاثون صحابيًا، أكثر من ثلاثين صحابيًا في الصحاح، والسنن، والمساند.
(المتن)
(الشرح)
وهذا خطاب للمؤمنين.
(المتن)
(الشرح)
يعني ليس المراد: تشبيه الله بالقمر تعالى الله، فالله لا يشبه أحدًا من خلقه، ولكن تشبيه الرؤية بالرؤية؛ يعني كما أنكم ترون القمر رؤية واضحة، فكذلك ترون الله رؤية واضحة، وليس المراد: أن الله يشبه القمر؛ لأن الله ليس له مثيل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى/11]؛ لا يماثل أحدًا من خلقه .
(المتن)
فإن الله تعالى لا شبيه له ولا نظير.
الشرح:
رؤية الله في الآخرة:رؤية الله في الدنيا مستحيلة لقوله تعالى لموسى وقد طلب رؤية الله: لَنْ تَرَانِي [الأعراف/143].
(الشرح)
الصواب: أنه ليست مستحيلة، بل ممكنة وجائزة، لكنها غير واقعة، المستحيل هو الذي لا يمكن وقوعه، لو كانت مستحيلة لما سألها موسى؛ لأن موسى لا يسأل المستحيل قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف/143]. لكنها غير واقعة، وغير ممكن شرعًا؛ لأن البشر لا يتحملون رؤية الله في الدنيا ببشريتهم الضعيفة، لكن يوم القيامة ينشئون تنشئة قوية يتحملون فيها رؤية الله.
فالصواب: أن رؤية الله ممكنة وجائزة عقلًا في الدنيا والآخرة، رؤية الله جائزة؛ غير مستحيلة، ولو كانت مستحيلة لما سألها موسى، لأن موسى لا يسأل المستحيل، ولو كانت مستحيلة لقال الله: ما تراني، أو لا أرى، أو لا يمكن رؤيتي، لكن قال: قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف/143]؛ يعني في الدنيا؛ يعني هي غير مستحيلة، ممكنة، لكنها غير واقعة شرعًا، وأما في الآخرة: فهي ممكنة عقلًا، وواقعة شرعًا، ممكنة وواقعة، في الدنيا ممكنة غير واقعة؛ لا تقع، لكن لا يقال: إنها مستحيلة.
هذا كلام من المستحيلة تعبير من؟ لا، هذه خطأ، نص العلماء على أنها ليست مستحيلة، وإنما هي ممكنة، رؤية الله في الدنيا ممكنة غير واقعة، لا يقال: إنها مستحيلة، المستحيل هو الذي لا يمكن وقوعه، لا يتصور وقوعه، رؤية الله ممكنة، والصواب: أنها ممكنة في الدنيا غير واقعة، وممكنة في الآخرة وواقعة، فرؤية الله جائزة عقلًا في الدنيا والآخرة، وشرعًا غير واقعة في الدنيا، وواقعة في الآخرة، فالإمكان العقلي جائز في الدنيا والآخرة، الإمكان ضد الاستحالة، أما الوقوع: فإنها ليست واقعة في الدنيا، ولكنها واقعة في الآخرة، واضح هذا؟
(المتن)
(الشرح)
ثابتة وواقعة؛ هذا لا إشكال فيه.
(المتن)
(الشرح)
يعني الكفرة هم محجوبون عن الله.
(المتن)
(الشرح)
وهذا في الجنة، لا شك أن المؤمنين يرون ربهم ويرونهم، وأن ذلك خاص به.
وأما رؤية الله في مواقف القيامة فاختلف العلماء على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يراه أهل الموقف جميعًا؛ مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار.
القول الثاني: إنه لا يراه إلا المؤمنون والمنافقون، لما جاء في الأحاديث: أن الله تعالى يتجلى، وأن الكفرة يتبعون معبوداتهم، ويتساقطون في النار، فتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها؛ فيتجلى الله لهم، يرونه، ثم يسجدون له، فيسجد المؤمنون، والمنافق يجعل الله ظهره طبقًا؛ فلا يستطيع السجود يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم/42]، ثم بعد ذلك يحتجب عن المنافقين.
والقول الثالث: إنه لا يراه إلا المؤمنون خاصة في مواقف القيامة.
وكذلك كلام الله في مواقف القيامة فيه ثلاث أقوال لأهل العلم: القول الأول: إنه يراه أهل الموقف؛ مؤمنون وكافرون، ثم يحتجب عن الكفرة. القول الثاني: إنه يراه المؤمنون والمنافقون خاصة. القول الثالث: إنه لا يراه إلا المؤمنون.
وكذلك التكليم؛ تكليم الله:
قيل: إن الله تعالى يكلم أهل الموقف ومنهم الكافرون.
وقيل: لا يكلم إلا المؤمنون والمنافقون.
وقيل: لا يكلم إلا المؤمنين؛ ثلاثة أقوال لأهل العلم.
الأقرب والله أعلم أنه يراه المؤمنون والمنافقون؛ لأن ثبت في الصحيح: أن المنافقين حينما يرونه لا يستطيعوا أن يسجدوا، كما ثبت في الحديث الطويل، كثير من المحققين رجحوا القول: إنه لا يرى إلا المؤمنين خاصة، وكان ميل شيخ الإسلام رحمه الله: إنه يراه أهل الموقف ثم يحجب عنهم بعد ذلك، ولا تفيدهم هذه الرؤية، بل تكون عذابًا لهم، كما أن السارق إذا أتي به إلى الأمير، ثم رآه وتكلم معه بتوبيخ زاده عذابًا.
(المتن)
(الشرح)
يعني ليس المراد تشبيه الله بالقمر، وإنما المراد تشبيه رؤية الناس بالقمر كرؤية الله يوم القيامة؛ المراد: أن الرؤية واضحة؛ كما أنك الآن ترى القمر رؤية واضحة، ولا فيه إشكال، ولا تعب، ولا مزاحمة، كل واحد يرفع رأسه يرى القمر، كذلك الناس يرون بهم رؤية واضحة يوم القيامة بدون ضيم، لا تُضَامُّونَ في رُؤْيَتِهِ، وليس المراد إن الله يشبه القمر، فإن الله لا شبيه له، ولا مثيل.
(المتن)
(الشرح)
بعد دخول الجنة هذا بالإجماع، أما في عرصات يوم القيامة فيها خلاف الأقوال الثلاثة كما سبق.
(المتن)
وهي رؤية حقيقية تليق بالله.
وفسرها أهل التعطيل بأن المراد بها رؤية ثواب الله أو أن المراد بها رؤية العلم واليقين.
(الشرح)
المعتزلة، قالوا: المراد بالرؤية: الثواب، بعضهم قال المراد بالرؤية العلم ترَوْنَ رَبَّكُم كّمَا تَرَوْنَ القّمَرَ؛ تعلمون ربكم كما تعلمون أن هذا القمر قمر، لا تشكون في العلم به؛ فسر الرؤية بالعلم؛ المعتزلة، بعضهم قال: المراد بالرؤية الثواب وهذا باطل إنكم سترَوْنَ رَبَّكُم كّمَا تَرَوْنَ هَذَا القّمَرَ لا تُضَامُّون في رُؤْيِتَه. يقولون: المعنى: إنكم تعلمون أن لكم ربًا لا تشكون فيه كما أنكم لا تشكون في القمر أنه قمر؛ هذا من أبطل الباطل؛ لأن في موقف القيامة ليس هناك شك حتى الكفرة الجاحدون إذا بعثوا يوم القيامة زال عنهم الشك.
والرسول ﷺ خص المؤمنين، وإلا لا؟ خصَّ المؤمنين بالرؤية، والشك يزول حتى عن الكفرة، إذا بعثوا يوم القيامة أيقنوا؛ عرفوا ربهم، والرسول ﷺ بشر المؤمنين خاصة، فما الفائدة من تبشير المؤمنين والشك زائل عن جميع الناس يوم القيامة؟! الشك في الربوبية زائل عن الكفرة وعن المؤمنين، حتى الكفار الجاحدون إذا بعثوا يوم القيامة زال عنهم الشك، فكيف يفسروا الرؤية بالعلم؟! ما قيمة بشرى النبي ﷺ للمؤمنين؟!
(المتن)
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمًّا بعد:
فقال المؤلف رحمه الله:
وأجمع السلف على رؤية المؤمنين لله تعالى دون الكفار بدليل الآية الثانية، يرون الله تعالى في عرصات القيامة وبعد دخول الجنة كما يشاء الله تعالى، وهي رؤية حقيقية تليق بالله.
وفسرها أهل التعطيل بأن المراد بها رؤية ثواب الله، أو أن المراد بها رؤية العلم واليقين، ونرد عليهم باعتبار التأويل الأول بما سبق في القاعدة الرابعة وباعتبار التأويل الثاني بذلك.
وبوجه رابع أن العلم واليقين حاصل للأبرار في الدنيا وسيحصل للفجار في الآخرة.
(الشرح)
رؤية المؤمنين لربهم ثابتة في الكتاب والسنة والإجماع، وإثبات الرؤية والكلام، والعلو من العلامات الفارقة بين أهل السنة وأهل البدع، فمن أثبت رؤية الله، وأثبت كلامه، وأثبت العلو؛ فهو من أهل السنة، ومن أنكرها هو من أهل البدع؛ هذه الصفات من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدعة؛ الرؤية، والكلام، والعلو.
والرؤية؛ رؤية الله ثابتة بالكتاب قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة/22-23]. قال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]. كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين/15]. زيادة النظر إلى وجه الله الكريم.
وثابتة أيضًا في السنة كما ذكر العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه " الروح "، قال رواها نحو ثلاثين صحابيًا، وهي متواترة في الصحاح، والسنن، والمساند.
وأجمع أهل السنة والجماعة قاطبة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة قبل مجيء المعتزلة؛ المنكرين للرؤية، وأجمع أهل السنة قاطبة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، بل إن أهل السنة قالوا: من أنكر رؤية الله؛ فهو كافر، كفر العلماء من أنكر رؤية الله تعالى في الآخرة؛ لأنه أنكر النصوص الواضحة من الكتاب، والنصوص المتواترة من السنة، وكما سبق أن رؤية المؤمنين يوم القيامة لا إشكال فيها.
وأما رؤية بقية غير المؤمنين في موقف القيامة للعلماء فيها ثلاثة أقوال كما سبق.
القول الأول: إنه لا يراه إلا المؤمنون.
والقول الثاني: إنه يراه المؤمنون والمنافقون خاصة؛ لأن المنافقين كانوا مع المؤمنين في الدنيا؛ فكانوا معهم في الآخرة على هذا الحال؛ في حديث إن الله تعالى يتجلى لهم ثم يسجدون له، والمنافق يجعل الله ظهره طبقًا، لا يستطيع السجود، كما قال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم/42].
والقول الثالث: إنه يراه أهل الموقف جميعًا؛ مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار.
وكذلك كلام الله لأهل الموقف فيه الأقوال الثلاثة.
وأما أهل البدع؛ المعتزلة أنكروا الرؤية، فسروه بالعلم، قالوا: إنكم ترَوْنَ رَبَّكُم كّمَا تَرَوْنَ القّمَرَ لا تُضَامُّون في رُؤْيِتَه، المعنى: تعلمون أن لكم ربًّا لا تشكون في ربوبيته كما لا تشكون في القمر أنه قمر؛ هذا قول المعتزلة؛ وهذا من أبطل الباطل؛ لأن الشك زائل عن المؤمن والكافر؛ وهذه بشرى خاصة للمؤمنين، النبي ﷺ بشر المؤمنين، قال: إنكم ترَوْنَ رَبَّكُم كّمَا تَرَوْنَ القّمَرَ لا تُضَامُّون في رُؤْيِتَه.وفي لفظ آخر: كَمَا تَرَوْنَ الشَّمْسِ صَحواً لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ..
وقول المعتزلة: إن المراد بالرؤية هنا: العلم، والمعرفة؛ تعلمون أن لكم ربًّا لا تبتليكم فيه الشكوك والريب، كما تعلمون القمر أنه قمر؛ هذا باطل؛ لأن زوال الشك زائل عن المؤمنين والكافرين يوم القيامة، حتى الملاحدة الذين ينكرون وجود الله إذا بعثوا يوم القيامة زال عنهم الشك، فلو كان المراد كما يقوله هؤلاء لما كان هناك بشرى خاصة بالمؤمنين؛ لأن الشك يزول عن أهل الموقف جميعًا، وهذه بشرى خاصة بالمؤمنين، كذلك أيضًا تأويلهم الرؤية بالثواب؛ من أبطل الباطل.
(المتن)
فصل القضاء والقدر
ومن صفات الله تعالى: أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته.
(الشرح)
الطالب: رؤية النائم لربه ، هل يرى النائم ربه؟
الشيخ: نعم، رؤية المنام حق، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما أنكر رؤية الله في المنام أحد من الطوائف أبدًا إلا الجهمية لشدة إنكارهم حتى أنكروا رؤية الله في المنام، فجميع الطوائف أثبتوا رؤية الله في المنام، فثبت أن النبي ﷺ قال: رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ.
ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون الإنسان حينما يرى ربه أن يكون على الصورة التي رآها، وإنما يرى ربه على صورة تشبه عمله، على حسب عمله، إن كان عمله حسناً رأى ربه في صورة حسنة، وإن كان عمله سيئاً رأى ربه في صورة تخالف؛ يعني ما يلزم من هذا التشبيه، الرؤية حق، لكن ما يلزم من ذلك أن يكون ما رآه أن يكون الله على الصورة التي رآها، ولما كان النبي ﷺ أحسن الناس عملًا رأى ربه في صورة حسنة، كما في الحديث: رَأَيْتُ رَبِّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟ فَقُلْتُ: لَا أَدْرِي فوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ أَنَامِلِهِ بَيْنَ صَدرِي، فَعَلَمتُ، إلى آخر الحديث. وهذا الحديث صحيح، وهو ثابت رواه الإمام أحمد وغيره، وقد شرحه العلامة ابن رجب رحمه الله في رسالته الخاصة، وهو حديث فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلَأُ الأَعْلَى؟
(المتن)
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمًّا بعد:
فقال المؤلف رحمه الله:
فصل: القضاء والقدر
ومن صفات الله تعالى: أنه الفعال لما يريد، لا يكون شيء إلا بإرادته، ولا يخرج شيء عن مشيئته، وليس في العالم شيء يخرج عن تقديره ولا يصدر إلا عن تدبيره، ولا محيد عن القدر المقدور، ولا يتجاوز ما خط في اللوح المسطور، أراد ما العالم فاعلوه، ولو عصمهم لما خالفوه، ولو شاء أن يطيعوه جميعًا لأطاعوه، خلق الخلق وأفعالهم، وقدر أرزاقهم وآجالهم، يهدي من يشاء بحكمته، قال الله تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ[الأنبياء/23]. قال الله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر/49]. وقال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان/2]. وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد/22]. وقال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجا [الأنعام/125].
وروى عمر أن جبريل قال للنبي ﷺ: ما الإيمان؟ قال: أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ فقال جبريل صَدَقتَ. رواه مسلم.
(الشرح)
والإيمان بالقضاء والقدر أصل من أصول الإيمان التي لا يصح الإيمان ولا يستقيم إلا بها، من لم يؤمن بالقدر فليس له إيمان؛ لم يصح إيمانه.
الإيمان له أصول ستة: الإيمان بالله، والإيمان بالملائكة، والإيمان بالكتب، والإيمان بالرسل، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، من لم يؤمن بالقدر فليس بمؤمن؛ ولهذا قال ابن عمر لبعض التابعين الذين أخبروه أن أُناسًا يتقفرون العلم يطلبون العلم، ويقولون: لا قدر، وإنما الأمر أنف؛ مستأنف وجديد؛ أي ليس هناك قدر، قال: " أخبرهم أني منهم بريء، وأنهم برآء مني، والذي نفسي بيدي لو أنفق أحد مثل أُحد ذهبًا ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ".
والإيمان بالقدر له مراتب أربع: لا بد من الإيمان بهذه المراتب الأربع:
المرتبة الأولى: مرتبة العلم؛ وهي اعتقاد المسلم أن الله تعالى علم الأشياء كلها، وأنه ليس شيئًا في الوجود إلا قد علمها الله، وأن الله علم الأشياء قبل كونها، وعلم الأشياء الماضية، ويعلم الأشياء المستقبلية، ويعلم أيضًا الأشياء التي لم تكن، ويعلم ما كان سبحانه، ويعلم ما يكون، يعلم ما يكون في الماضي، ويعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، حتى الأشياء التي لم تكن يعلمها لو كانت، قال الله تعالى في المنافقين في غزوة تبوك: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة/46-47]. هم ما خرجوا، لكن بيَّن الله ما يحصل لو خرجوا، الله علم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم لو خرجوا ماذا يكون منهم، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة/47].
وقال في حق الكفار الذين سألوا الله أن يردهم إلى الدنيا حتى يعملوا صالحًا: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام/28]. هذا علمه بما لم يكن لو كان كيف يكون ، هو يعلم الأشياء الماضية، ويعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون.
والمرتبة الثانية من مراتب القدر: الكتابة؛ كتابة الله للأشياء في اللوح المحفوظ، الله تعالى كتب كل شيء، كل ما يحصل ويجري في هذا الكون كله مكتوب في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ كما ثبت في الحديث الصحيح، حديث عبد الله بن عمر بن العاص عن النبي ﷺ قال: كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، رواه مسلم في صحيحه.
وثبت في الحديث الصحيح: أن الله تعالى أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَجَرَى فِي تِلكَ السَّاعَةِ بَمَا هُوَ كَائِنُ إِلَى يَومِ القِيِامَةِ.
هاتان المرتبتان؛ وهما العلم والكتابة من لم يؤمن بهما هو كافر، وقد أنكر هاتان المرتبتان غلاة القدرية؛ الذين قال فيهم الإمام الشافعي وغيره رحمهم الله: " ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقرُّوا به خصموا، وإن أنكروه كفروا ".
قال الله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج/70]؛ الآية فيها إثبات العلم والكتابة. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج/70]. وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد/22]. وقال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس/12]، الإمام المبين هو اللوح المحفوظ.
المرتبة الثالثة من مراتب القدر: إرادة الله لجميع الأشياء التي تقع في الكون، لا يقع شيئًا في الكون إلا الله أراده، فهو سبحانه يفعل ما يريد، لا يكون فيه شيء إلا أراده سبحانه كونًا وقدرًا، والإرادة هنا الكونية، والمراد: المشيئة.
المرتبة الرابعة: الخلق والإيجاد؛ وهو الإيمان بأن الله خلق كل شيء في هذا الوجود، كل شيء في هذا الوجود الله خالقه، قال سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان/2]. وقال سبحانه: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر/62].
فهذه مراتب القدر الأربع، المرتبتان الأوليان؛ أنكرهما غلاة القدرية، كفرهم العلماء؛ لأن من أنكر العلم فقد وصف الله بالجهل؛ وهذا كفر وردة، وكذلك من أنكر الكتابة، لكن عامة القدرية؛ المتأخر منهم أثبتوا المرتبتين؛ أثبتوا العلم والكتابة، وأنكروا عموم الإرادة، وعموم الخلق، قالوا: إن عموم الإرادة، وعموم الخلق ليستا عامتين؛ بمعنى أن أفعال العباد ما أرادها الله ولا خالقها؛ هكذا يقولون لشبه العرض لهم، قالوا: إن الله ما أراد أفعال العباد، ولا خلق أفعالهم؛ المعاصي والطاعات. العباد هم الذين أوجدوا أفعالهم استقلالًا؛ الطاعات والمعاصي.
وشبهتهم في هذا يقولون: لو قلنا: إن الله خلق المعاصي وعذب عليها لكان ظالمًا، والله عادل لا يجور، ففرارًا من ذلك قالوا: إن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم، الله ما أرادها، ولا خالقها؛ ولهذا قالوا المعتزلة والقدرية: إن العباد يستحقون الثواب على الله، كما يستحق الأجير أجرته؛ لأنهم خلقوا أفعالهم وأوجدوها. قالوا أيضًا: يجب على الله عقلًا أن يعذب العاصي؛ لأنه أخطأ، وأن يخلده في النار؛ هذا مذهب المعتزلة؛ لأنه وعده بذلك، والله لا يخلف الميعاد، هكذا.
وهذا باطل؛ لأن الله خلق أفعال العباد لحكمة بالغة، وخلق الطاعات والمعاصي لحكمة بالغة، هو أرادها كونًا، وقدرًا لما له من الحكمة، هي ليست مقصودة بذاتها، لكن لأنها تفضي إلى الحكمة، الله تعالى حكيم بما يخلق، وبما يقدر، وبما يأمر حكيم به، شرعًا حكيم في أمره، حكيم في نهيه، حكيم في خلقه وإيجاده، وتقديره، فالمعاصي والكفر التي يفعلها العباد خلقها الله، وأرادها كونًا وقدرًا؛ لأنه تفضي إلى الحكمة التي رتبها الله عليهم، هو حكيم. فليست مرادة لذاتها، ولكن مرادة لما تفضي إليه من الحكمة.
هذه مراتب الإيمان بالقدر؛ العلم: علم الله الشامل، وكتابته له في اللوح المحفوظ، الإرادة لكل شيء يحصل في هذا الكون، الخلق، والإيجاد؛ هذه مراتب الإيمان بالقدر. الإرادة والمشيئة واحد، الإرادة والمشيئة مترادفان، الإرادة هي المشيئة، المشيئة السابقة لكل شيء يقع في الوجود، كل شيء يقع في هذا الوجود الله شاءه أراده كونًا وقدرًا، ما يقع في ملك الله شيء لا يريده.
الطالب: (..)؟
الشيخ: ما في مشيئة حادثة، ما يقال مشيئة حادثة.
(المتن)
(الشرح)
آمَنْتُ بِالْقَدِرِ حُلْوِهِ وَمُرِّهِ، تكلم على تخريجه؟
(المحقق)
إسناده ضعيف: أخرجه الحاكم في معرفة علوم الحديث ومن طريقه العراقي في شرحه لألفيته، كمثال للحديث المسلسل بأحوال الرواة القولية والفعلية معا من طريق يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك.
(الشرح)
عن طريق الرقاشي ضعيف، لكن يشهد له وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ خيره وشره هو بمعنى حلوه ومره؛ يعني ما يسر الإنسان، وما يسوءه تؤمن بجميع مع قدره الله، سواء يسرك أو يسوؤك.
(المتن)
(الشرح)
الطالب: ما التوفيق بين قوله: وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ. وبين قوله وَلَا رَادّ لِمَا قَضَيْت؟
الشيخ: هذا دعاء وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ. هذا دعاء، وَلَا رَادّ لِمَا قَضَيْت
القضاء نوعان: قضاء مبرم. وقضاء معلق.
القضاء المبرم: هو الذي لم يعلق بشيء؛ هذا لا بد أن يقع كما في الحديث: وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ؛ هذا ذكره الشيخ محمد بن عبد الوهاب في كتاب " التوحيد " في باب: ما جاء إن بعض هذه الأمة يعبدون الأوثان؛ قال: وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لَا يُرَدُّ؛ هذا قضاء مبرم.
الثاني: قضاء معلق: معلق بشيء؛ مثلًا صلة الرحم سبب في طول العمر؛ هذا مقدر أنه يطول عمره بصلة الرحم؛ هذا معلق، ومثل ذلك القضاء المعلق على الدعاء، معلق حصول هذا الشيء بدعاء هذا الشخص، أنه يدعو ثم يحصل له هذا الشيء، الدعاء المعلق؛ هذا يحصل بما عُلق به.
وكل منهما مقدر؛ المعلق، والمبرم؛ يعني هذا الشيء الذي علق عليه قضاء مقدر، المقصود: إن قضاء المبرم؛ هو الذي لم يعلق بشيء، والقضاء المعلق هو الذي قوله: وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ. يعني الشيء المعلق.
الطالب: (..)؟
الشيخ: قد يحمل وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ. يعني لا يحصل له أذى؛ نعم هذا له وجه، لكن المقصود: إن القضاء له نوعان، وظاهر الحديث وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ. إنه إذا حصل القضاء فإن...
(فائدة)
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمًّا بعد:
فقال المؤلف رحمه الله:
هنا فائدة مهمة: قال الشيخ محمد صالح العثيمين في دروس فتاوى في الحرم المكي عام: في شرح دعاء القنوت: وَقِنِي شَرَّ مَا قَضَيْتَ، الله يقضي بالخير ويقضي بالشر.
أما قضاؤه بالخير فهو خير محض في القضاء والمقضي مثال: أن يقضي الله للناس بالرزق الواسع والأمن والطمأنينة والهداية والنصر.. إلخ؛ فهذا خير في القضاء والمقضي، وأما قضاؤه بالشر فهو خير في القضاء شر في المقضي ومثال ذلك: القحط وامتناع المطر؛ فهذا شر لكن قضاء الله به خير. قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم/41]. فلهذا الفساد غاية حميدة وهي الرجوع إلى الله تعالى من معصيته إلى طاعته فصار المقضي شرًّا، وصار القضاء خيرًا.
ونحن نقول شَرَّ مَا قَضَيْتَ، و " ما " هنا اسم موصول؛ أي شر الذي قضيته، فإن الله تعالى قد يقضي بالشر لحكمة بالغة حميدة. أ. هـ كلامه حفظه الله.
(الشيخ)
وينبغي أن يُعلم أن الشر هو بالنسبة للمخلوق، تسمية شر بالنسبة للمخلوق، أما بالنسبة للخالق، فلا يسمى شرًّا؛ لأن الله تعالى ما يقضي إلا لحكمه، قضاؤه مبني على الحكمة، وأمره مبني على الحكمة ، ونهيه مبني على الحكمة، فهو سبحانه يخلق لحكمة، ويرزق لحكمة، ويعطي لحكمة، ويمنع لحكمة؛ فهو مبني على حكمة، فلا يسمى شر بالنسبة إلى الله، فالشرور الموجودة كلها نسبية، كل الشرور الموجودة ليس هناك شر محض؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ. المعنى: الشر المحض الذي لا حكمة في إيجاده وتقديره لا يوجد، كل الشرور الموجودة الآن نسبية؛ بمعنى أنها شر بالنسبة إلى المخلوق.
مثال ذلك: الكفر؛ قدر الله الكفر، أو المعصية على الشخص، فالله تعالى قضاها لحكم وأسرار؛ من هذه الحكم، مثلًا: ما يترتب على هذه المعصية من العبوديات المتنوعة التي يحبها الله، يترتب على هذه المعصية التي قدرها الله التوبة لله، يترتب على تقدير الكفر والمعاصي، مثلًا: انقسام الناس إلى مطيع وعاصٍ، عبودية الولاء والبراء، عبودية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، عبودية الحب في الله، والبغض في الله، ثم أيضًا قد يترتب على هذه توبة والتوبة محبوبة لله، وانكسار بين يدي الله، والاستغفار إلى غير ذلك من المصالح والحكم العظيمة.
فهي خير بالنسبة إلى تقدير الله لها، لكن هي شر بالنسبة إلى العبد الذي قدر عليه المعصية، أو الكفر؛ هي شر بالنسبة إليه؛ لأنها أضرته، وأساءته، وصارت سببًا في عقوبته؛ فهي شر نسبي، أما بالنسبة إلى الخالق؛ فلا تسمى شرًّا؛ ولهذا لا ينسب الشر إلى الله، قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق/1-2]؛ فأضاف الشر إلى الخلق وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق/4]. وقال الله عن الجن إنهم قالوا: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ؛ ولم ينسبوه إلى الله أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن/10]، فالرشد نسبوه إلى الله، والشر ما نسبوه إلى الله؛ هذا من أدب الجن من أخبار الله عنهم وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن/10]، فالرشد نسبوه إلى الله، والشر بصيغة المبني للمجهول، ما نسبوه إلى الله؛ هذا من الأدب.
المقصود: إن الشر إنما هو بالنسبة للمخلوق، وأما بالنسبة للخالق، الله قدره لحكم، وأسرار عظيمة، فهو خير بالنسبة إليه ، فلا ينسب الشر إليه ؛ لأن كل ما قضاه مبني على الحكمة، والرحمة، والمصلحة.
(المتن)
وقال رحمه الله:
(الشرح)
ما يسأل عما يفعل؛ لأنه حكيم ، ما يقال: إنه لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ؛ لأنه يفعل بالإرادة كما يقوله من ينكر الحكم، والتعليل؛ وهم الجبرية من الأشاعرة، والجهمية؛ ينكرون إن يكون الله حكيم؛ هذا من أبطل الباطل، يقولون: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ؛ لكونه يفعل بالإرادة والمشيئة.
والصواب: إنه لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ؛ لأنه حكيم، لكمال حكمته، ولما يترتب على تقديره من المصلحة والرحمة، هو ما يسأل لكمال حكمته، العباد يسألون؛ لأنهم مأمورون، مربوبون، مقهورون؛ فهم مسئولون أمام الله ، العباد والمخلوقون مسئولون، أما الله فليس فوقه أحد يسأله، هو لا يسأل لكمال حكمته .
(المتن)
(الشرح)
نعم القدر أحد أصول الإيمان، من لم يؤمن بالقدر فليس بمؤمن، الإيمان بالله؛ هذا الأصل الأول.
الأصل الثاني: الإيمان بالملائكة.
الأصل الثالث: الإيمان بالكتب المنزلة.
الأصل الرابع: الإيمان بالرسل.
الأصل الخامس: الإيمان باليوم الآخر.
الأصل السادس: الإيمان بالقدر.
هذه أصول ستة، وهذه أصول اتفقت عليها الرسل والشرائع، وأجمع عليها المسلمون، من جحد واحدة منها؛ خرج من دائرة الإسلام، وصار من الكافرين نسأل الله السلامة والعافية، الإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان، وأصل من أصول الدين لا يصح إيمان العبد ولا إسلامه إلا بالإيمان بها.
(المتن)
(الشرح)
نعم، بالنسبة للعبد، بالنسبة للمقدور؛ المقدر عليه، أما بالنسبة للخالق؛ فلا يسمى شرًّا كما سبق.
(المتن)
(الشرح)
ولقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح؛ يعني فاتت على المؤلف رحمه الله: وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ. يعني الشر المحض الذي لا حكمة في تقديره لا يوجد؛ لَيْسَ إِلَيْكَ. ما يوجد شر محض أبدًا جميع الشرور الموجودة كلها شرور نسبية، أما الشر المحض يعني الذي من جميع الوجوه؛ لا يوجد، والشر المحض: هو الذي لا حكمة في تقديره وإيجاده؛ هذا لا يوجد، فالشرور الموجودة كلها نسبية.
(المتن)
والإيمان بالقدر لا يتم إلا بأربعة أمور:
الأول: الإيمان بأن الله عالم كل ما يكون جملة وتفصيلًاً بعلم سابق لقوله تعالى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج/70].
(الشرح)
وهذه المرتبة الأولى من مراتب القدر كما سبق؛ وهي مراتب القدر، تسمى مراتب القدر الأربع:
الأولى: العلم؛ ويشمل العلم الماضي، والعلم في المستقبل، والعلم فيما لم يكن لو كان كيف يكون؛ كل هذا يعلمه الله، الله تعالى يعلم ما كان في الماضي، ويعلم ما يكون في المستقبل، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، حتى الشيء الذي لم يكن يعلم كيف كان يكون. من ذلك قول الله تعالى عن الكفار لما طلبوا أن يرجعوا إلى الدنيا حتى يعملوا صالحًا لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا [المؤمنون/100]، قال الله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام/28]. لو ردوا: تقدير؛ شر لا يكون، لو ردوا على فرض التقدير لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام/28]. هذا معلوم الله بالشيء الذي لم يكن لو كان كيف يكون، لو ردوا مع إنهم لا يردوا؛ هذا شرط تقديري لا يشترط وقوعه، لا يلزم وقوعه، الشيء المقدر لا يلزم وقوعه لقول الله تعالى للنبي ﷺ: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر/65]، هو معصوم من الشرك ﷺ؛ فهذا لا يقع. وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ [الأنعام/28]. لو ردوا على سبيل الفرض التقديري لعادوا لما نهوا عنه من المعاصي والكفر، لكنهم لا يردوا.
ومثل قوله تعالى عن المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة/46]. هم ما خرجوا، قال الله: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ[التوبة/47]؛ أخبر الله ماذا يكون لوخرجوا، لكن ما خرجوا، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التوبة/47]. كل هذه مفاسد تحصل، من الحكم كون الله ثبطهم ولم يخرجوا لما يحل من الشر، لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالًا وشرًّا؛ يضعفون الجيش، ويقلقلونه، وينشرون بين صفوف الجيش الرعب، والضعف، لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ [التوبة/47]؛ وفيكم ضعفاء من يستجيب لهم؛ هذا من علم الله للشيء الذي لم يكن لو كان كيف يكون.
(المتن)
(الشرح)
هذه المرتبة الثانية؛ مرتبة الكتابة؛ وهي عامة، كل شيء يكون في هذا الكون كتبه الله في اللوح المحفوظ، قال تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ [يس/12]. مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد/22]. في الآية الأخرى: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ [الحج/70].
هذا اللوح المحفوظ لا يفوت صغيرة، ولا كبيرة إلا أحصاها؛ كل شيء مكتوب، أما المقادير الأخرى فهي مأخوذة منه، المقادير الأخرى: كون الجنين يكتب أجله، وعمله، وشقي، أو سعيد وهو في بطن أمه؛ هذا مأخوذ منه، لا يخالف ما في اللوح المحفوظ مأخوذ منه، كذلك التقدير السنوي في ليلة القدر؛ يقدر الله ما يكون في تلك السنة من صحة ومرض، وحياة، موت، وسعادة، وشقاوة، وإغناء، وإفقار، هذا في ليلة القدر، تقدير سنوي، وهناك تقدير يومي؛ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] ؛ هذه التقادير كلها مأخوذة، وتوافق الكتابة الأولى في اللوح المحفوظ.
الطالب: بالنسبة للقرآن كلام الله كل يوم هو في شأن؟
الشيخ: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]؛ هذا تقديره اليومي، كل يوم في شأن؛ يعني يعز، ويذل، ويرفع، ويخفض، ويسعد، ويشقي؛ هذا تقدير يومي كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]؛ تقدير يومي، تقدير سنوي، تقدير عمري.
(المتن)
(الشرح)
في لفظ: وَكان عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، المقادير مكتوبة قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة والعرش على الماء.
والمرتبة الأولى والثانية أنكرها غلاة القدرية؛ فكفرهم العلماء؛ لأن من أنكر العلم نسب إلى الله الجهل؛ لهذا يقول الشافعي وغيره رحمه الله: " ناظروا القدرية في العلم؛ فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا "، أما عامة القدرية فإنهم يثبتون المرتبتين الأوليين، وينازعون في المرتبتين الأخريين.
(المتن)
(الشرح)
يعني ما يقع شيء في هذا الكون إلا الله أراده؛ هذه الإرادة العامة، كل شيء يقع في هذا الكون أراده الله إرادة كونية قدرية.
(المتن)
(الشرح)
هذا إثبات الإرادة الكونية من يرد الله أن يهديه، ومن يرد أن يضله؛ يعني كونًا، وقدرًا.
(المتن)
فأثبت وقوع الهداية والضلال بإرادته.
(الشرح)
وقال الله: خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام/102].
وهاتان المرتبتان أنكر عمومهما عامة القدرية، قالوا: إن الله أراد كل شيء إلا أفعال العباد، وخلق كل شيء إلا أفعال العباد ما خلقها، بل هم العباد خلقوا أفعالهم، أرادوها وخلقوها، وشبهتهم في هذا، يقولون: لو قلنا: إن الله خلق المعاصي وعذب عليها لكان ظالمًا، ففرًا من ذلك قالوا: ما خلقها حتى يستحقوا العقاب عليها؛ هذه الشبهة صاروا بها مبتدعة بدعهم العلماء.
ويقال: إنه يلزم على ذلك محاذير، إذا قلتم: إن العباد خالقون لأفعالهم، لزم على ذلك أنه وقع في مُلك الله ما لا يريد، ولزم من ذلك وجود خالق مع الله؛ وهذا فاسد، أما كونه خلق المعاصي خلقها لحكمة وأسرار، كما سبق لحكم وأسرار، فينسب إلى الله الحكمة فهي خير من هذه الجهالة، وإن كانت شرًّا بالنسبة إلى العبد الذي ساءته هذه المعصية.
الطالب: (..)؟
الشيخ: نعم، كل التقادير ما تخالف التقدير العام، التقدير العام في اللوح المحفوظ كل التقادير توافقه؛ تقدير عمري، وتقدير سنوي، وتقدير يومي؛ كلها توافق القدر.
الطالب: (..)؟
الشيخ: الأحسن ألا يقول هذا، هذا أثر عن عمر الأفضل أن يسأل ربه أن يوفقه بالعمل الصالح، وأن يثبته على الإسلام.
الطالب: هل القدرية، والمعتزلة، والمرجئة مذاهب مندثرة، أم هي موجود الآن؟
الشيخ: لا، ليست مندثرة موجودة قدرية، والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، والخوارج؛ كلهم موجودون الآن، الخوارج موجودون في الغرب وفي عمان، والإباضية من الخوارج، كذلك الشيعة؛ طبقات أيضًا موجودون في كل مكان، والجهمية موجودون الآن، بل الاتحادية؛ الذين يقولون بوحدة الوجود موجودون، كل هذه المذاهب موجودة قائمة على قدم وساق، لها رواد، ولها أصحاب، ولها مؤلفات، وتحقق المؤلفات.
(المتن)
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أمًّا بعد:
فقال المؤلف رحمه الله:
(الشرح)
هكذا يجب على المؤمن أن لا يجعل القدر حجة له في ترك الأوامر، وفعل النواهي، فليس القدر حجة؛ لأن الحجة قامت على الناس بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، قال الله تعالى: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء/165].
أنت عبد مأمور أمرك الله بتوحيده وطاعته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، فعليك أن تمثل الأوامر وتجتنب النواهي، قد قامت عليك الحجة ببعثة الرسل، وإنزال الكتب، والله تعالى لا يكلف أحدًا لا يستطيع، قال تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة/286]. لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا [الطلاق:7].
ولهذا فاقد العقل لا يكلف؛ المجنون، والصغير لا يكلف، والعاجز لا يكلف، قال النبي ﷺ لعمران بن حصين: صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، وزاد النسائي: فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُستَلقِيًا يعني ورجلاه إلى القبلة.
ولا يحتج الإنسان بالقدر، وإنما المشركون هم الذين يحتجون بالقدر، قال الله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام/148]. كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النحل/35]. وفي الآية الأخرى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الأنعام/148].
فهم يحتجون بالقدر، فالقدر ليس حجة للعاصي؛ لأن الحجة قامت على الناس بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، قال الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل/36]. وقال سبحانه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء/165].
فأنت عبد المأمور أعطاك الله السمع والبصر، والفؤاد، العقل، سميع بصير قادر على امتثال الأمر، واجتناب النهي عليك أن تمتثل، ولا تتحجج بالقدر، فالقدر ليس من شأنك، فهو من شأن الله ، فلا يتشبه الإنسان بالمشركين الذين يحتجون بالقدر.
الطالب: لما احتجَّ موسى آدم، وقال آدم: أن هذا شيء قد كُتب عليَّ ما يكون من الاحتاج بالقدر؟.
الشيخ: لا، ليس من الاحتجاج بالقدر، هو لما التقى موسى وآدم خاصمه، فقال موسى لآدم: أَنتَ آدَمُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَأَسْجَدَ لَكَ مَلاَئِكَتَهُ، وَعَلَّمَكَ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: نَعَمٌ، قَالَ: فَلِمَاذَا أَخرَجتَنَا وَنَفسَكَ مِن الجَنَّةِ؟ فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ وَبِكَلاَمِهِ، فَهَل وَجدتَّ أَنَّ ذَلكَ كُتِبَ عَليَّ قَبلَ أَن يَخلُقَنِي اللَّهُ بِأَربَعِينَ سَنَةٌ؟ قَالَ: نَعمٌ، قال النبي ﷺ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى، يعني غلبه خصمه.
فموسى ما لام آدم على القدر، وإنما لامه على المصيبة التي لحقته وذريته؛ وهي خروجه من الجنة، فاحتج آدم أن المصيبة مكتوبة عليه، يحتج الإنسان بالقدر على المصائب، لكن لا يحتج بالقدر على الذنوب والمعائب والمعاصي لا، أو أن آدم احتج أنه تاب من الذنب، فالتائب من الذنب لا يلام عليه التَّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ، كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ.
والمقصود: أن موسى ما احتج بالقدر، وما لامه على القدر، وإنما لامه على المصيبة التي لحقته وذريته؛ وهي خروجه من الجنة، فاحتج آدم أن المصيبة مكتوبة.
(المتن)
(الشرح)
كما قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات/96]؛ يعني خلقكم، وخلق أعمالكم.
(المتن)
ولكن ليس ذلك حجة للعاصي على فعل المعصية وذلك لأدلة كثيرة منها:
أولًا: أن الله أضاف عمل العبد إليه وجعله كسبا له فقال: الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [غافر/17]؛ ولو لم يكن له اختيار في الفعل وَقْدرة عليه ما نُسِبَ إليه.
(الشرح)
نعم وفي الآية الأخرى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة/286]. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:28]. فأضاف العمل إليهم، والكسب إليهم؛ دلَّ على أن أفعالهم كسبوها، وباشروها مختارين.
(المتن)
(الشرح)
الله تعالى لا يكلف الإنسان إلا ما يستطيع؛ ولهذا يفرق بين المستطيع، وغير المستطيع، فالعاجز ما يكلف، المريض الذي لا يستطيع القيام لا يكلف بالقيام؛ لأنه عاجز، والصحيح يكلف بالقيام؛ لأنه قادر، والمجنون، والصغير الذي لم يبلغ لا يكلف بالصلاة، ولا بالصيام؛ لأنه فاقد العقل، والعاقل يكلف؛ لأنه قادر، وهكذا.
(المتن)
(الشرح)
الاضطراري مثل: حركة المرتعش، والنائم، ونفض العروق خلافًا للجبرية، الجبرية يقولون: الإنسان مجبور على عمله، لا يفرقون بين الأفعال الاختيارية، والأفعال الاضطرارية. يقولون: كل أفعال الإنسان اضطرارية؛ حركاته وأعماله كلها اضطرارية لا فرق بين الاضطراري والاختياري كلها اضطرارية، يقولون: الإنسان مجبور على عمله؛ يساق إلى العمل سوقًا، ويقولو: إن الأفعال أفعال الله والعياذ بالله، والعبد مجبور عليها، وهو وعاء لها، تصب فيه كما يصب الماء في الكوز؛ هذا من أبطل الباطل؛ هذا كلام الجبرية. يقولون: الأفعال كلها اضطرارية؛ وهذا من أبطل الباطل، الناس تفرق بين اختيارهم وبين اضطرارهم، ألا تفرق بين كونك تذهب باختيارك وتتكلم باختيارك وبين حركة المرتعش، حركة النائم، نفض العروق؛ هذه اضطرارية، حركة المرتعش اضطرارية، نبض العروق هذه اضطرارية، وحركة النائم كذلك، أما الإنسان المختار صحيح يفعل الشيء باختياره، يقال: إن هذا اضطراري؟! هذا من أبطل الباطل.
(المتن)
(الشرح)
نعم، لأن القدر مغيب عن الإنسان، ولأن القدر أيضًا من شؤون الله، من اختصاص الله، أنت عبد المأمور من شؤونك إنك تعمل تمتثل الأوامر، تجتنب النواهي، أما القدر هذا من اختصاص الله ليس لك أن تنظر إليه، ما تنظر إليه، اتركه لله، أنت الآن تنفذ ما أمرت به، أنت عبد مأمور خلقك الله للعبادة وتوحيده وطاعته، فامتثل الأمر، واجتنب النهي، ولا تنظر إلى القدر، فالقدر ليس إليك.
(المتن)
(الشرح)
صحيح.
(المتن)
(الشرح)
نعم، لو كان القدر حجة للعاصي لكان حجة لكل كافر، ولكل عاصٍ، ولا قامت الحجة على الناس، فيكون حجة لإبليس، ويكون حجة لقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح؛ كل هؤلاء ليس لهم حجة.
(المتن)
(الشرح)
ولهذا قال الله : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]. اشترط الاستطاعة، فهي شرط، فمن الناس من يستطيع السبيل، ومنهم لا يستطيع السبيل، فالذي يستطيع السبيل؛ وهو القادر على الحج بماله وبدنه؛ يجب عليه الحج، والذي لا يستطيع ما يجب عليه، فلو كان غير المستطيع مثل المستطيع لما فرق بينهم، كون الله تعالى أوجب الحج على المستطيع، ولم يجب على غير المستطيع؛ دلَّ على أن هناك فرقا بين القادر وغير القادر، ولا يقال: إنهما سواء، والجبرية تقول: إنه لا فرق بين القادر وغير القادر كلهم مجبورون، كلهم غير مستطيعين؛ هذا من أبطل الباطل.
القدر ضلَّ فيه طائفتان من الناس:
الطائفة الأولى: الجبرية، الذين يقولون: كل أفعال الإنسان اضطرارية؛ كل مجبور عليها، ويقولون: إن مثل الله في ذلك حينما يكلف العبد كمثل قول القائل:
أَلقاهُ في اليَمِّ مَكتوفاً وَقالَ لَهُ | إِيّاكَ إِيّاكَ أَن تَبتَلَّ بِالماءِ |
وهذا من أبطل الباطل، يقولون: كل أفعال العباد اضطرارية، وهي أفعال الله، الله تعالى هو المصلي، وهو الصائم تعالى الله عما يقولون، وهؤلاء مذهبهم من أبطل الباطل؛ لأن معناه: إبطال الشرائع، والرسالات كلها؛ لأن معنى كلام هؤلاء الجبرية، ورئيسهم الجهم بن صفوان، يقولون: معنى ذلك: أنه لا فائدة من الشرائع.
يقول أحد الجبرية: أنا إن عصيت أمره الديني الشرعي فقد وافقت أمره الكوني القدري؛ وهذا من أبطل الباطل؛ لأن معنى ذلك إبطال الشرائع.
الطائفة الثانية: القدرية النفاة: الذين يقولون: إن العبد يخلق فعل نفسه استقلالًا من دون الله؛ فأخرجوا أفعال العباد من القدر من خلق الله؛ وهذا باطل؛ لأن الله يقول: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان/2]. هذا يشمل الذوات، والأفعال، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ؛ خالق ذوات العباد وأفعالهم؛ كل شيء خلقه، فالقدرية يقولون: أفعال العباد ليست مخلوقة لله، الطاعات والمعاصي هم الذين خلقوها، أوجدوها باستقلالهم، فرار من القول: إنه خلق المعاصي وعذب عليها، فيكون ظالمًا، فروا من ذلك وقالوا: الله لم يخلق أفعال العباد.
وتوسط أهل السنة والجماعة هداهم الله للحق، فقالوا: إن الله تعالى خالق كل شيء حتى أفعال العباد؛ فهي مخلوقة لله، ولكن العباد لهم قدرة واختيار تابعة لمشيئة الله، لهم قدرة، ومشيئة، وإرادة واختيار، لكن إرادتهم تابعة لمشيئة الله؛ كما قال تعالى: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير:29]. وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [الإنسان:30].
فتكون الطوائف ثلاث: جبرية. وقدرية. وأهل السنة.
الجبرية في طرف؛ قالوا: إن أفعال العباد كلها جبرية، والإنسان مضطر، وليس له أفعال، والأفعال أفعال الله، والقدرية قالوا: إن الله ما خلق أفعال العباد، ولا أوجدها، بل هم خلقوها مستقلين بأنفسهم، وأهل السنة، توسطوا؛ قالوا: الله تعالى خالق كل شيء، خلق العباد، وخلق أفعالهم، ولكن العباد لهم قدرة واختيار، فهم مكلفون بأفعالهم الاختيارية.
(المتن)
(الشرح)
هذا دليل على أن الله تعالى لا يكلف أحدًا شيئًا لا يستطيعه.
(المتن)
(الشرح)
الشاهد بِمَا كَسَبَتْ؛ أضاف الكسب إليها.
(المتن)
فدل على أن للعبد فعلًا وكسبًا يُجزى على حسنه بالثواب، وعلى سيئه بالعقاب، وهو واقع بقضاء الله وقدره.
الشرح: التوفيق بين كون فعل العبد مخلوقًا لله وكونه كسبًا للفاعل.
(الشرح)
لا منافاة، ففعل العبد خلق لله؛ لأنه خلق العبد، وخلق أفعاله، وهو كسب للعبد؛ لأنه باشره، وفعله باختياره، فالعبد هو الذي باشر أفعاله، هي من الله إيجادًا، وخلقًا، وتقديرًا، ومن العبيد فعلًا، وكسبًا، ومباشرة، فأفعال العباد ينسب إلى الخلق والإيجاد والتقدير، وينسب إلى العباد المباشرة والكسب والفعل، فهي أفعالهم كسبًا، واختيارًا، مباشرة، وهي خلق الله إيجادًا، وتقديرًا، وخلقًا؛ كما قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات/96]؛ فلا منافاة بين الأمرين، هي خلق الله وإيجاده وتقديره؛ وهي فعل العباد وكسبهم، ومباشرتهم.
(المتن)
عرفت مما سبق أن فعل العبد مخلوق لله، وأنه كسب للعبد يجازى عليه: الحسن بأحسن والسيئ بمثله فكيف نوفق بينهما؟
التوفيق بينهما أن وجه كون فعل العبد مخلوقًا لله تعالى أمران:
الأول: أن فعل العبد من صفاته، والعبد وصفاته مخلوقان لله تعالى.
الثاني: أن فعل العبد صادر عن إرادة قلبية وقدرة بدنية ولولاهما لم يكن فعل، والذي خلق هذه الإرادة والقدرة هو الله تعالى وخالق السبب خالق للمسبب، فنسبة فعل العبد إلى خلق الله له نسبة.
(الشرح)
يعني الأفعال من صفات العبد، والعبد مخلوق بذاته وصفاته، وهو فعل العبد؛ لأن الإنسان أراده، هو له إرادة وله مباشرته، هو أراده بقلبه؛ قصد فعله، أنت الآن ذاهب تصلي عندك قصد وإرادة، وكونك تصلي تباشر أفعال الصلاة بنفسك؛ فلذلك ينسب الفعل إليك؛ لأنك أردته بقلبك، وباشرته ببدنك؛ فصار الفعل لك، وإن كان الله خلقك، وخلق قدرتك، وأفعالك؛ أعطاك القوة، والقدرة الفعل.
(المتن)
(الشرح)
نعم، فهو من الله، ينسب إلى الله الخلق والإيجاد والتقدير، وينسب إلى العبد الفعل والتسبب، والكسب.
(المتن)
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فقال الشارح حفظه الله تعالى:
المخالفون للحق في القضاء والقدر والرد عليهم
المخالفون للحق في القضاء والقدر طائفتان:
الطائفة الأولى: الجبرية، يقولون: العبد مجبور على فعله وليس له اختيار في ذلك. ونرد عليهم بأمرين:
أولًا: أن الله أضاف عمل الإنسان إليه وجعله كسبًا له يعاقب ويثاب بحسبه ولو كان مجبورًا عليه ما صح نسبته إليه ولكان عقابه عليه ظلمًا.
الثاني: أن كل واحد يعرف الفرق بين الفعل الاختياري والاضطراري في الحقيقة والحكم، فلو اعتدى شخص على آخر وادعى أنه مجبور على ذلك بقضاء الله وقدره لَعُدَّ ذلك سَفَهًا مخالفًا للمعلوم بالضرورة.
(الشرح)
الجبرية، والقدرية؛ طائفتان:
قدرية النفاة. والقدرية الجبرية، أو المجبرة.
فالقدرية الجبرية: الذين يقولون العبد مجبور على أفعاله، ويجعلون أفعال العبد هي أفعال الله؛ فيقولون: الله هو المصلي والصائم أعوذ بالله، ويقولون: إن الإنسان، أو بني آدم وعاء للأفعال تصب فيه الأفعال صبًّا؛ كالكوز الذي يصب فيه الماء، ومعنى ذلك أن الإنسان ليس له اختيار، وليس له فعل، ولا يفرقون بين الأمر الكوني والأمر الشرعي، ومذهبهم من أبطل الباطل، مذهب القدرية، والجبرية أشد مذهب (..)، وهم خصماء الله؛ يحتجون بالقدر، وشيخهم إبليس نعوذ بالله نسأل الله السلامة والعافية. يؤدي مذهبهم إلى إبطال الشرائع.
ويرد عليهم كما ذكر الشارح وفقه الله، أنه قال: أن المراد أن الأعمال منسوبة إليهم، وأن الإنسان، كل إنسان يفرق بين الفعل الاختياري والفعل الاضطراري؛ الفعل الاضطراري من حركة المرتعش، حركة النائم، نفض العروق، هبوب الرياح للأشجار؛ هذا فعل اضطراري. أما الحركة التي يفعلها الإنسان باختياره يعرف هذا.
وأيضًا يرد عليهم بأنهم، هل ينفذون هذا في أمور دنياهم؟ هل الجبري الآن لو أخذت ماله، أو ضربته هل يسكت، ولا يطالب؟ يطالب، لو ضربه إنسان وقال: أنا مجبور، هل يعذروه؟ ما يعذروه، يرد عليه الصاع صاعين، ولو أخذ ماله يطالبه؛ فهم في أمور دنياهم ما ينفذون هذا؛ لأنهم يعملون بالأسباب يأكلون ويشربون، ويطالبون بحقوقهم، ويكسبون المال، ويأخذون حقوقهم، ما يسكتون، وما يقول الإنسان: أنا مجبور، لكن في أمور الدين، يكون مجبور نسأل الله السلامة والعافية.
الطالب: (..)؟.
الشيخ: رئيسهم الجهم بن صفوان؛ هو رئيس الجبرية، نعم فيه فروق ذكرها العلماء قد يجمعان وقد يختلفان، القضاء يطلق على أشياء، والقدر يطلق على أشياء، وقد يجتمعان وقد يختلفان.
(المتن)
(الشرح)
يعني القدرية النفاة، كلهم يسمون قدرية، أولئك يقال لهم: القدرية الجبرية، أو القدرية المجبرة، وهؤلاء القدرية النفاة؛ هؤلاء الذين ينفون أن يكون الله خلق أفعال العباد، وأن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم، الله ما خلقها، ولا أوجدها، بل العباد أوجدوها مستقلين، والشبهة التي حصلت لهم يقولون: لو قلنا: إن الله خلق أفعال العباد وعذب عليها لكان ظالمًا، وفرارًا من ذلك قالوا: إن العباد هم الذين خلقوا أفعالهم؛ ولذلك العاصي يستحق العقوبة؛ لأنه هو الذي خلقها، والمطيع يستحق الثواب؛ لأنه هو الذي أوجده، حتى قالوا المعتزلة: إنه يجب على الله أن يثيب المطيع، وأنه يستحق الأجر على الله كما يستحق الأجير أجره، ويجب عليه أيضًا عقلًا أن يعاقب المسيء، وليس له أن يسامحه، ولا أن يعفو عنه نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
يقولون: العبد مستقل بعمله ليس لله فيه إرادة، ولا قدرة، ولا خلق، ونرد عليهم بأمرين:
الأول: أنه مخالف لقوله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر/62]. وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات/96].
الثاني: إن الله مالك السموات والأرض، فكيف يكون في ملكه ما لا تتعلق به إرادته وخلقه؟!
(الشرح)
نعم، اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر/62]؛ هذا عام؛ الله خالق أفعال العباد، وغير أفعال العباد، خالق الذوات، والصفات، والأفعال.
ثانيًا: أنه يلزم على قولهم: إن العباد خالقون فعل أنفسهم؛ إنه يلزم من ذلك أن يقع في ملك الله ما لا يريد، والله تعالى لا يقع في ملكه ما لا يريد.
وثالثًا: أنه يغلب على قولهم أن تغلب مشيئة العبد مشيئة الله أعوذ بالله، هم يقولون: إن الله أراد من العبد الطاعة، والعبد أراد المعصية؛ فوقعت إرادة العبد ولم تقع إرادة الله، إذًا لزم من ذلك أن يقع في ملك الله ما لا يريد، ولزم على ذلك أن تغلب إرادة العبد إرادة الله نعوذ بالله، وهم مخصومون عند جميع خصومهم؛ ولهذا يقال: التقى قدري ومجوسي؛ قصة: التقى قدري ومجوسي في سفينة، فنصح القدري المجوسي وقال له: أسلم، فقال المجوسي: حتى يريد الله؛ إذا أراد الله أسلمت، فقال القدري: الله يريد، ولكن الشيطان هو الذي لا يريد، فقال المجوسي: هذا شيطان قوي؛ يعني غلبت مشيئته مشيئة الله، إذا كان الله يريد، والشيطان لا يريد، وهو الآن مع الشيطان؛ وقعت إرادة الشيطان؛ فهذا معناه: أن إرادة الشيطان هي التي غلبت. وفي رواية للقصة أنه قال: أنا مع الأقوى منهما؛ الذي إرادته قوية أنا معه، فغلب القدري، وخصم، فهم مخصومون، حتى الكفرة خاصموهم، وحاجوهم نسأل الله السلامة والعافية.
(المتن)
أقسام الإرادة والفرق بينهما
إرادة الله تنقسم إلى قسمين كونية وشرعية:
فالكونية: هي التي بمعنى المشيئة كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام/125].
والشرعية: هي التي بمعنى المحبة كقوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُم [النساء/27].
والفرق بينهما أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ولا يلزم أن يكون محبوبًا لله، وأما الشرعية فيلزم أن يكون المراد فيها محبوبًا لله ولا يلزم وقوعه.
(الشرح)
الإرادة تنقسم إلى قسمين عند أهل السنة والجماعة: إرادة كونية قدرية، وإرادة دينية شرعية.
فالإرادة الكونية القدرية: إرادة المشيئة، ولا يتخلف مراده، لا بد أن تقع الإرادة الكونية، لا يتخلف مراده، فالإرادة الكونية: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [الأنعام/125]. وقال: وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ؛ هذه إرادة كونية، لا بد أن يقع مراده.
أما الإرادة الدينية الشرعية: فهي مرادفة للمحبة والرضا، ولا يشترط وقوع مرادها، فكل ما أراده الله دينًا وشرعًا فقد أحبه، لكن قد يقع، وقد لا يقع. فالله تعالى أراد من العباد جميعًا، دعاهم إلى الصلاة، لكن منهم من صلى، ومنهم من لم يصل، والله تعالى نهاهم عن الزنا منهم من امتثل المنهي، ومنهم من لم يمتثل بخلاف الإرادة الكونية؛ فلا يمكن أن يتخلف مراده، فما شاءه الله كان وما لم يشأ لم يكن، كل ما أراده كونًا وقدرًا لا بد أن يقع، ولا يتخلف هذا عند أهل السنة والجماعة.
ولما لم يقسم القدرية والجبرية الإرادة قسمين ضلوا، فالجبرية ما عندهم إلا إرادة واحدة؛ وهي الكونية، أنكروا الإرادة الدينية، والقدرية ما عندهم إلا إرادة واحدة؛ وهي الإرادة الدينية، وأنكروا الكونية؛ فضلَّ هؤلاء وضلَّ هؤلاء، وأهل السنة قسموا الإرادة إلى قسمين على حسب النصوص؛ عندهم إرادة كونية قدرية؛ ترادف المشيئة، وإرادة دينية شرعية؛ ترادف المحبة والرضا؛ فأهل السنة عندهم الإرادة نوعان، والجبرية نوع واحد، والقدرية نوع واحد. القدرية نوع واحد؛ وهي الإرادة الدينية، ولا عندهم كونية، والجبرية نوع واحد؛ وهي الإرادة الكونية، ولا عندهم دينية، وأهل السنة الإرادة نوعان؛ كونية قدرية ترادف المشيئة، ودينية شرعية ترادف المحبة والرضا.
الطالب: الجبرية عندهم إرادة شرعية؟
الشيخ: لا عندهم الإرادة كونية؛ الأشاعرة، والجهمية؛ كلهم جبرية ما عندهم إلا إرادة كونية، والمعتزلة، عندهم إرادة دينية فقط، هم قدرية نفاة.
(المتن)
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فقال المؤلف رحمه الله:
فصل: الإيمانُ قولٌ وَعَمَلٌ
والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجَنان، يزيد بالطاعة، وينقص بالعصيان.
(الشرح)
الجَنان بفتح الجيم: القلب، وأما الجِنان بالكسر جمع جنة، الجِنان: الجنات والبساتين، الجِنان جمع جنة وهي البساتين، منه جنان الجنة، أما الجَنان بفتح الجيم العقد، عقد بالجَنان؛ يعني اعتقاد بالقلب، الجَنان القلب، والجِنان: جمع جنة؛ وهي البساتين.
(المتن)
قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة/5]. فجعل عبادة الله تعالى، وإخلاص القلب، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة كله من الدين.
وقال رسول الله ﷺ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، أَعلاهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ؛ فجعل القول والعمل من الإيمان.
وقال تعالى: فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة/124]. وقال تعالى: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا [الفتح/4].
وقال رسول الله ﷺ: يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَفِي قَلْبِهِ مِثقَالُ بُرَّةٍ، أَو خَردَلَةٍ، أَو ذَرةٍ مِن الِإيمَانِ فجعله متفاضلًا.
(الشرح)
هذا الفصل في مسمى الإيمان، مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة: قول وعمل.
والقول قسمان: قول القلب: وهو التصديق والإقرار. وقول اللسان:النطق.
والعمل نوعان: عمل القلب، وعمل الجوارح، والقول: قول اللسان وقول القلب؛ وهو التصديق الإقرار، وقول اللسان؛ وهو النطق. والعمل نوعان: عمل القلب: وهو النية والإخلاص، وعمل الجوارح؛ فيكون مسمى الإيمان قول باللسان، تصديق بالقلب، وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
هذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة، وهو الذي دلَّت عليه النصوص: أن الإيمان قول وعمل؛ قول بالقلب، ونطق باللسان، وعمل بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، كما قال الله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة/5]. فجعل الدين هو الإيمان عند الإطلاق، وإقامه العبادة لله، وإخلاص الدين لله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة؛ كله يسمى دينا؛ عبادة الله، وإخلاص الدين، والإخلاص يكون بالقلب، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، أقوال باللسان، وعمل بالجوارح، وإخلاص بالقلب وعبادة؛ كل هذا جعل من الدين.
وفي حديث أبي هريرة: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً. وفي رواية البخاري: الِإيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَعلاهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ. فجعل الإيمان بضع وسبعون شعبة، والبضع من ثلاثة إلى تسعة؛ كل هذه الشعب من الإيمان، ومثَّل لأعلاها، قال: أَعلَاهَا كلمة التوحيد: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ. كلمة الشهادة؛ هذا مثال للنطق باللسان، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ؛ هذا مثال لعمل الجوارح، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ. هذا مثال لعمل القلب، فمثل بعمل القلب، وعمل الجوارح، وقول اللسان، وبينهما شعب متفاوتة، فالصلاة شعبة، والزكاة شعبة، والصوم شعبة، والحج شعبة، والأمر بالمعروف شعبة، والنهي عن المنكر شعبة، وبر الوالدين شعبة من شعب الإيمان، وصلة الرحم شعبة، والجهاد في سبيل الله شعبة، كف الأذى عن الناس شعبة، وهكذا؛ هذه شعب الإيمان.
وكذلك حديث وفد عبد القيس، قال النبي ﷺ: آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: آمُرُكُمْ بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنَّ تُؤَدُّوا الخُمُسَ مِنَ الْمَغْنَمِ. فسر الإيمان بالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم؛ فدلَّ على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.
والإيمان يزيد وينقص، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة/124]، لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح/4]. يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية؛ هذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص؛ أن الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب؛ وعمل بالقلب، وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية. ولهذا أنواع الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان يعني الجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
خلافًا للمرجئة، المرجئة ذهبوا أن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، قالوا المرجئة: الإيمان تصديق القلب فقط، إذا صدق بقلبه؛ فهو مؤمن.
والمرجئة طائفتان:
المرجئة المحضة الغلاة الجهمية، يقولون: الإيمان هو التصديق.