(96)كِتَاب الاعْتِصَام بالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
كِتَاب الاِعْتِصَامِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
}7268{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ الْحُمَيْدِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ: [المَائدة: 3]{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا، فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ، نَزَلَتْ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ، سَمِعَ سُفْيَانُ مِنْ مِسْعَرٍ، وَمِسْعَرٌ قَيْسًا وَقَيْسٌ طَارِقًا.
}7269{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ، وَاسْتَوَى عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ، وَهَذَا الْكِتَابُ الَّذِي هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَكُمْ، فَخُذُوا بِهِ تَهْتَدُوا، وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ.
}7270{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ خَالِدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ».
}7271{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَبَّاحٍ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ سَمِعْتُ عَوْفًا، أَنَّ أَبَا الْمِنْهَالِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَرْزَةَ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ أَوْ نَعَشَكُمْ بِالإِْسْلاَمِ، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَعَ هَاهُنَا يُغْنِيكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ نَعَشَكُمْ، يُنْظَرُ فِي أَصْلِ كِتَابِ الاِعْتِصَامِ.
}7272{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ، وَأُقِرُّ لَكَ بِذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُ.
قوله: «كِتَاب الاِعْتِصَامِ» ، على وزن افتعال من العصمة «بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ» المراد بالاعتصام بالكتاب والسنة امتثال الأوامر والنواهي في الكتاب والسنة وامتثال قول الله تعالى: [آل عِمرَان: 103]{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} وأشار الكرماني إلى أن هذه الترجمة انتزعها المؤلف من قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ}؛ لأن حبل الله هو الكتاب والسنة، وسمي الكتاب والسنة حبلاً؛ لأنهما سبب للوصول إلى الجنة، وسبب في الثواب والنجاة من العذاب كما أن الحبل سبب لحصول المقصود، والمراد «بِالْكِتَابِ» هو كتاب الله العظيم القرآن، الذي أنزله الله بحروفه وألفاظه ومعانيه وتُعبد بتلاوته، وهو كلام الله لفظًا ومعنى، سمعه جبرائيل من الله عز وجل فأنزله وحيًا على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
خلافًا للأشاعرة الذين يقولون: إن كلام الله معنى قائم بالنفس ليس بحرف ولا صوت، وإنما اضطر جبريل ففهم المعنى القائم بنفسه ثم عبر جبريل بهذا القرآن أو عبر به محمد صلى الله عليه وسلم فجعلوا الرب أخرس لا يتكلم ـ نعوذ بالله ـ ويقولون: لو تكلم لكان محلاً للحوادث؛ لأن الحروف حادثة والألفاظ حادثة، فلما قيل لهم: كيف علم جبريل بهذا المعنى القائم بنفسه؟ قالوا: اضطر الله جبريل ففهم المعنى القائم بنفسه من دون أن يسمع من الله حرفًا ولا لفظًا وقالت طائفة أخرى: عبر به محمد صلى الله عليه وسلم، وقالت طائفة ثالثة: إن جبريل أخذه من اللوح المحفوظ ولم يسمع من الله كلامًا.
فمع أن الأشاعرة هم أقرب الطوائف إلى أهل السنة، ولكن هذا قولهم في القرآن، والصواب أن القرآن كلام الله لفظًا ومعنى، كما قال تعالى: [الشُّعَرَاء: 193-195]{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ *} فهذا القرآن العزيز الذي بين أيدينا الذي نقرؤه بحروفه وألفاظه ومعانيه هو كلام الله الذي تكلم به سبحانه فسمعه جبرائيل فنزل به على محمد صلى الله عليه وسلم.
«وَالسُّنَّةِ» ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله وتقريراته، والسنة في الأصل الطريقة، وبعض الفقهاء يطلقون السنة على ما يقابل المستحب.
ولا عصمة ولا نجاة للأمة إلا بالكتاب والسنة كما قال ابن بطال: «لا عصمة لأحد إلا في كتاب الله أو في سنة رسوله أو في إجماع العلماء»، فهذا هو سبيل النجاة وسبيل السعادة، فمن اعتصم بالكتاب والسنة فقد نجا، فهو سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تركها غرق، قال الزهري رحمه الله: الاعتصام بالسنة نجاة[(424)].
}7268{ صدر المؤلف رحمه الله هذا الكتاب بحديث طارق بن شهاب رضي الله عنه في مجيء اليهودي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قوله: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ» يعني: في زمن خلافته.
قوله: «لَوْ أَنَّ عَلَيْنَا نَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ» فيه: أن اليهود يفهمون ويعلمون فضل هذه الآية العظيمة ولكن أضلهم الله، وهذه الآية فيها منة الله على عباده، وأن الله أكمل الدين وأتم النعمة ورضي الإسلام دينًا، واليهود فهموا قدر هذه الآية ولذلك قال اليهودي كما في اللفظ الآخر: «آية في كتابكم تقرؤونها لو نزلت علينا معشر اليهود لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا فقال عمر: أي آية؟ قال: [المَائدة: 3]{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}[(425)]».
قوله: «إِنِّي لَأَعْلَمُ أَيَّ يَوْمٍ نَزَلَتْ» فيه: عناية عمر رضي الله عنه ومعرفته قدر هذه الآية، التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في أعظم اجتماع وهو وقوف الناس بعرفة في يوم جمعة.
قوله: «سَمِعَ سُفْيَانُ مِنْ مِسْعَرٍ، وَمِسْعَرٌ قَيْسًا وَقَيْسٌ طَارِقًا» ، يشير إلى أن العنعنة المذكورة في السند محمولة عنده على السماع لاطلاعه على سماع كل من شيخه.
والشاهد من الحديث: أن الله تعالى أكمل الدين لهذه الأمة بالكتاب والسنة وأتم عليهم به النعمة ورضي لهم الإسلام دينًا فمن أقام الإسلام واستقام عليه تمت عليه النعمة ورضي الله قوله وعمله، ومن تنكب الصراط المستقيم فاتته العصمة.
}7269{ قوله: «الْغَدَ حِينَ بَايَعَ الْمُسْلِمُونَ أَبَا بَكْرٍ» ، يعني: في اليوم الثاني من بيعة أبي بكر رضي الله عنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وظاهره أنه يوم الثلاثاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم توفي يوم الإثنين.
قوله: «تَشَهَّدَ قَبْلَ أَبِي بَكْرٍ» ليحث الناس على بيعته، وهذه بيعة عامة الناس، وقد بايعه كبار الأنصار في اليوم الأول في سقيفة بني ساعدة، ثم أعلن عمر رضي الله عنه البيعة للناس وأمرهم ببيعته في اليوم الثاني.
وفيه: مشروعية التشهد عند الموعظة أو عند الخطبة أو عند الكلام بأن يحمد الله ويشهد لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة.
قوله: «أَمَّا بَعْدُ» ، فيه: مشروعية قول أما بعد بعد الشهادة.
قوله: «فَاخْتَارَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم الَّذِي عِنْدَهُ عَلَى الَّذِي عِنْدَكُمْ» ، يعني: أن الله اختاره للرفيق الأعلى؛ حيث توفاه وقبضه.
قوله: «وَهَذَا الْكِتَابُ» هو القرآن العزيز الذي هدى الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
قوله: «تَهْتَدُوا، وَإِنَّمَا هَدَى اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ» ، في نسخة العيني: «وإنما هدى الله به رسوله» ، وهذا قاله عمر رضي الله عنه بمجمع من الصحابة في حضرة أبي بكر رضي الله عنه فدل على أن من اعتصم بهذا الكتاب والسنة فهو مهدي سعيد، ومن تنكبهما فهو الشقي.
}7270{ قوله: «ضَمَّنِي إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» ، وهذه منقبة لابن عباس رضي الله عنهما.
قوله: «اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ» ، في اللفظ الآخر: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل»[(426)] وقد استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم وعلمه الكتاب فكان ترجمان القرآن.
وفيه: دليل على أن من علمه الله الكتاب وعمل به فهو السعيد، فهو طريق النجاة، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لابن عباس بتعليم الكتاب يدل على أن الهداية إنما هي في الكتاب في تعلمه وتعليمه كما في الحديث: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار»[(427)] وفي لفظ: «رجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»[(428)] والحكمة هي العلم النافع والمقصود به الكتاب والسنة.
}7271{ قوله: «إِنَّ اللَّهَ يُغْنِيكُمْ أَوْ نَعَشَكُمْ بِالإِْسْلاَمِ، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم» ، قال البخاري: «وَإِنَّمَا هُوَ نَعَشَكُمْ» ، والمعنى متقارب، وكلام أبي برزة رضي الله عنه فيه: بيان أن الله تعالى أكرم العباد وأنعم عليهم بالإسلام وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وليس هناك إسلام إلا بالإيمان بالقرآن والعمل به، فمن عمل بالقرآن كان من أهل السعادة.
قوله: «يُنْظَرُ فِي أَصْلِ كِتَابِ الاِعْتِصَامِ» ، يعني: يراجع في أصل الاعتصام، وكتاب الاعتصام هو كتاب ألفه البخاري مفردًا وانتقى منه هنا ما كان على شرطه، كما ألف كتاب الأدب المفرد مستقلاً وكتاب خلق أفعال العباد وكتاب التاريخ الكبير والتاريخ الصغير، فكأن المؤلف رحمه الله في هذا الوقت ليس معه الكتاب؛ ولهذا أحال على مراجعة الأصل.
وفي هذا الحديث: دليل على أن الغنى إنما هو بالكتاب والسنة، فمن اعتصم بالكتاب والسنة فقد أغناه الله ونعشه، ومن تنكبهما فقد فاته الغنى والانتعاش.
}7272{ قوله: «كَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يُبَايِعُهُ» . كان هذا بعد مقتل عبدالله بن الزبير رضي الله عنه واجتماع الناس في البيعة على عبدالملك بن مروان سنة ثلاث وسبعين من الهجرة؛ لأن ابن عمر رضي الله عنه كان لا يبايع في وقت الاختلاف، حتى تتفق الأمة على البيعة ولهذا توقف عن البيعة في زمن الخلاف بين الحسن ابن علي ومعاوية رضي الله عنهما، حتى تمت البيعة لمعاوية رضي الله عنه بعد قتل علي رضي الله عنه وتنازل الحسن بن علي له.
قوله: «وَأُقِرُّ لَكَ بِذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ» والشاهد: الاعتصام بالكتاب والسنة حسب الاستطاعة، قوله: «فِيمَا اسْتَطَعْتُ» ، التاء مفتوحة، فيكون الخطاب لعبدالملك، والمعنى: أبايعك على أن تعمل بالكتاب والسنة في حدود وسعك وطاقتك، وهذه الاستطاعة قيد فكل الأوامر تقيد بالاستطاعة كما قال الله تعالى: [التّغَابُن: 16]{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[(429)] ومناسبة الحديث للترجمة ظاهرة؛ لأن العمل بالكتاب والسنة والاعتصام بهما هو طريق النجاة وطريق السعادة.
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ»
}7273{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ وَبَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَْرْضِ فَوُضِعَتْ فِي يَدِي» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا، أَوْ تَرْغَثُونَهَا أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا.
}7274{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ الأَْنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مِنْ الآْيَاتِ مَا مِثْلُهُ أُومِنَ أَوْ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
}7273{ قوله: «بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ» هو الشاهد للترجمة، وقد أشار الحافظ ابن حجر رحمه الله أن الزهري فسرها بأن النبي صلى الله عليه وسلم تكلم بالقول الموجز القليل اللفظ الكثير المعاني. فتكون الألفاظ قليلة وتحتها معان غزيرة، وقال غير الزهري: المراد بجوامع الكلم القرآن بقرينة قوله: «بُعِثْتُ» ، والقرآن هو الغاية في إيجاز اللفظ واتساع المعاني.
ومن أمثلة جوامع الكلم في القرآن قوله تعالى: [البَقَرَة: 179]{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}، والقصاص قتل القاتل بمثل ما قتل به، وهي أبلغ من العبارة التي كانت معروفة عندهم في الجاهلية: القتل أنفى للقتل؛ حيث إنها أوجز وأحسن، وقد يكون القتل أنفى للقتل وقد لا يكون بل قد يزيد القتل، ومن أمثلة جوامع الكلم كذلك قوله تعالى: [النُّور: 52]{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ *}.
ومن الأمثلة التي ذكرها الحافظ ابن حجر رحمه الله من جوامع الكلم في الأحاديث: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[(430)] «ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل»[(431)] و «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[(432)] و «ما ملأ ابن آدم وعاء شرًّا من بطنه»[(433)] كل هذه أمثلة لجوامع الكلم الذي أوتيه عليه الصلاة والسلام.
قوله: «وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ» ، هذا أيضًا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وفي اللفظ الآخر: «نصرت بالرعب مسيرة شهر»[(434)] .
قوله: «أُتِيتُ بِمَفَاتِيحِ خَزَائِنِ الأَْرْضِ» هذا من علامات ودلائل النبوة؛ حيث وقع كما أخبر صلى الله عليه وسلم ولهذا قال أبو هريرة رضي الله عنه: «فَقَدْ ذَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، يعني: توفي ومات، «وَأَنْتُمْ تَلْغَثُونَهَا، أَوْ تَرْغَثُونَهَا أَوْ كَلِمَةً تُشْبِهُهَا» وفي اللفظ الآخر: «وأنتم تنتثلونها»[(435)] ، والمعنى: وأنتم تفتحون البلاد وتستخرجون الكنوز وتنفقونها بعد أن تحوزوها، وقد نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن النووي: «يعني ما فتح على المسلمين من الدنيا وهو يشمل الغنائم والكنوز» وهذا ما وقع، فقد أتي بخزائن الأرض وكنوز كسرى وقيصر ووضعت المفاتيح بين يدي عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
}7274{ قوله: «وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ» ، هذا الوحي هو القرآن الكريم، ومعنى الحديث أن أعظم الذي أوتيته وأهمه الوحي والقرآن، وإلا فقد أوتي صلى الله عليه وسلم معجزات حسية كثيرة كانشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه وتكثير الطعام وتكثير الماء ببركة دعائه صلى الله عليه وسلم، وكلام الحجر والشجر، وانقياد بعض الأشجار له حينما قضى حاجته، وكلام بعض الوحوش، إلى غير ذلك من الدلائل، لكن القرآن هو المعجزة الباقية إلى يوم القيامة، بخلاف ما أعطيه الأنبياء فإن معجزاتهم تنتهي في وقتهم فموسى عليه السلام أعطاه الله العصا فانتهت في وقتها، وكذلك عيسى عليه السلام كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله، وهذا انتهى في وقته.
وفي الحديث الآخر: «وأنزلت عليك كتابًا لا يغسله الماء تقرؤه نائمًا ويقظان»[(436)] ؛ لأنه محفوظ في الصدور، وما كان مكتوبًا غير محفوظ غسله الماء، فالقرآن محفوظ في الصدور ومكتوب في المصاحف، ولهذا قال بعضهم: إن القرآن أعظم المعجزات وأفيدها وأدومها؛ لاشتماله على الدعوة والحجة ودوام الانتفاع به إلى آخر الدهر.
قوله: «فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا» ، هذا هو الذي تحقق، فهو صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تبعًا، وهذه الأمة ثلثا أهل الجنة، فأهل الجنة مائة وعشرون صفًّا وهذه الأمة ثمانون صفًّا[(437)].
الاِقْتِدَاءِ بِسُنَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الفُرقان: 74]{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا *} قَالَ: أَيِمَّةً نَقْتَدِي بِمَنْ قَبْلَنَا، وَيَقْتَدِي بِنَا مَنْ بَعْدَنَا.
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ: ثَلاَثٌ أُحِبُّهُنَّ لِنَفْسِي وَلِإِخْوَانِي هَذِهِ السُّنَّةُ أَنْ يَتَعَلَّمُوهَا، وَيَسْأَلُوا عَنْهَا، وَالْقُرْآنُ أَنْ يَتَفَهَّمُوهُ وَيَسْأَلُوا عَنْهُ، وَيَدَعُوا النَّاسَ إِلاَّ مِنْ خَيْرٍ.
}7275{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى شَيْبَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ: قَالَ: جَلَسَ إِلَيَّ عُمَرُ فِي مَجْلِسِكَ هَذَا فَقَالَ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلاَّ قَسَمْتُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، قُلْتُ: مَا أَنْتَ بِفَاعِلٍ، قَالَ: لِمَ؟ قُلْتُ: لَمْ يَفْعَلْهُ صَاحِبَاكَ، قَالَ: هُمَا الْمَرْءَانِ يُقْتَدَى بِهِمَا.
}7276{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَأَلْتُ الأَْعْمَشَ فَقَالَ: عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الأَْمَانَةَ نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فَقَرَءُوا الْقُرْآنَ وَعَلِمُوا مِنْ السُّنَّةِ.
}7277{ حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَأَحْسَنَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَشَرَّ الأُْمُورِ مُحْدَثَاتُهَا وَ [الأنعَام: 134]{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ *}.
}7278{، }7279{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ».
}7280{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ عَلِيٍّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ أَبَى» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى».
}7281{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبَادَةَ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، حَدَّثَنَا أَوْ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: جَاءَتْ مَلاَئِكَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِمٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: إِنَّ لِصَاحِبِكُمْ هَذَا مَثَلاً فَاضْرِبُوا لَهُ مَثَلاً، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا مَثَلُهُ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا وَجَعَلَ فِيهَا مَأْدُبَةً، وَبَعَثَ دَاعِيًا، فَمَنْ أَجَابَ الدَّاعِيَ دَخَلَ الدَّارَ، وَأَكَلَ مِنْ الْمَأْدُبَةِ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّاعِيَ لَمْ يَدْخُلْ الدَّارَ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْ الْمَأْدُبَةِ، فَقَالُوا: أَوِّلُوهَا لَهُ يَفْقَهْهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ نَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْعَيْنَ نَائِمَةٌ وَالْقَلْبَ يَقْظَانُ، فَقَالُوا: فَالدَّارُ الْجَنَّةُ وَالدَّاعِي مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ أَطَاعَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَى مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَرْقٌ بَيْنَ النَّاسِ.
تَابَعَهُ قُتَيْبَةُ عَنْ لَيْثٍ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ، عَنْ جَابِرٍ خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم .
}7282{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ اسْتَقِيمُوا، فَقَدْ سَبَقْتُمْ سَبْقًا بَعِيدًا، فَإِنْ أَخَذْتُمْ يَمِينًا وَشِمَالاً لَقَدْ ضَلَلْتُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا.
}7283{ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَى قَوْمًا فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنِّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيَّ وَإِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ فَالنَّجَاءَ، فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَى مَهَلِهِمْ فَنَجَوْا، وَكَذَّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ، فَصَبَّحَهُمْ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي فَاتَّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذَّبَ بِمَا جِئْتُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ».