شعار الموقع

شرح كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة من صحيح البخاري (96-447)

00:00
00:00
تحميل
125

}7304{ حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: جَاءَ عُوَيْمِرٌ الْعَجْلاَنِيُّ إِلَى عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً فَيَقْتُلُهُ أَتَقْتُلُونَهُ بِهِ؟ سَلْ لِي يَا عَاصِمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلَهُ فَكَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْمَسَائِلَ وَعَابَهَا، فَرَجَعَ عَاصِمٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَرِهَ الْمَسَائِلَ، فَقَالَ عُوَيْمِرٌ وَاللَّهِ لآَتِيَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَجَاءَ وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ خَلْفَ عَاصِمٍ فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكُمْ قُرْآنًا، فَدَعَا بِهِمَا فَتَقَدَّمَا فَتَلاَعَنَا، ثُمَّ قَالَ عُوَيْمِرٌ: كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَمْسَكْتُهَا، فَفَارَقَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِفِرَاقِهَا، فَجَرَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «انْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا مِثْلَ وَحَرَةٍ فَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ كَذَبَ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا» فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الأَْمْرِ الْمَكْرُوهِ.

}7305{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ النَّصْرِيُّ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ذَكَرَ لِي ذِكْرًا مِنْ ذَلِكَ، فَدَخَلْتُ عَلَى مَالِكٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: انْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى عُمَرَ أَتَاهُ حَاجِبُهُ يَرْفَا فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟ قَالَ نَعَمْ فَدَخَلُوا فَسَلَّمُوا وَجَلَسُوا. فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ؟ فَأَذِنَ لَهُمَا. قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ الظَّالِمِ اسْتَبَّا، فَقَالَ الرَّهْطُ عُثْمَانُ وَأَصْحَابُهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الآْخَرِ. فَقَالَ: اتَّئِدُوا، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَْرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟ يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفْسَهُ، قَالَ الرَّهْطُ: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ؟ قَالاَ: نَعَمْ. قَالَ عُمَرُ: فَإِنِّي مُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَْمْرِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَالِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: [الحَشر: 6]{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} الآْيَةَ فَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، وَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ، ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ حَيَاتَهُ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ: أَنْشُدُكُمَا اللَّهَ هَلْ تَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالاَ: نَعَمْ. ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ فَعَمِلَ فِيهَا بِمَا عَمِلَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْتُمَا حِينَئِذٍ، وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ: تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي بَكْرٍ، فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ، جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكِ، وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبِمَا عَمِلَ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ، وَبِمَا عَمِلْتُ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا،وَإِلاَّ فَلاَ تُكَلِّمَانِي فِيهَا فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ، فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ، أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْهِمَا بِذَلِكَ؟ قَالَ الرَّهْطُ نَعَمْ. فَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا بِذَلِكَ؟ قَالاَ: نَعَمْ. قَالَ: أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَْرْضُ لاَ أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا.

 

هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان كراهة البدع والتعمق والتنازع والغلو في الدين، والكراهة هنا كراهة تحريم، واستدل المؤلف رحمه الله بقول الله تعالى: « [النِّسَاء: 171]{يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ}» ، ففي هذه الآية نهى الله أهل الكتاب عن الغلو في الدين، وهذا النهي ليس خاصًّا بأهل الكتاب، بل يشمل هذه الأمة أيضًا، والنهي هنا للتحريم.

والغلو: هو مجاوزة الحد والتنطع والتشدد، ومجاوزة المأمور به حتى يخرج من السنة إلى البدعة، فلا ينبغي للإنسان أن يتكلف ما لا يعنيه فيزيد عن الحد المأمور.

}7299{ قوله: «لاَ تُوَاصِلُوا» الوصال في الصوم معناه: عدم الأكل والشرب في الليل بعد صيام النهار فيكون صوم اليوم موصولاً باليوم الذي بعده، فهو بهذا يصوم يومين أو ثلاثة أيام أو أربعة أو خمسة أو ستة، وأكثر ما روي ـ إن صح هذا ـ عن ابن الزبير أنه صام سبعة أيام متوالية لم يأكل لا في الليل ولا في النهار، ويقال: إنه في اليوم السابع أتي بدهن فصب في حلقه؛ لأنه ما يستطيع أن يأكل أو يشرب بعد هذه المدة الطويلة حتى يلين أمعاءه، ولكن لو صح هذا فهو عن اجتهاد والخير كله في اتباع السنة.

قوله: «إِنَّكَ تُوَاصِلُ» أي: ونحن نريد الخير فنريد أن نقتدي بك، وهذا من أفعاله صلى الله عليه وسلم، ولكنه كان ينهى عن الوصال؛ فدل على أنه من خصوصياته؛ لذلك قال: «إِنِّي لَسْتُ مِثْلَكُمْ إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي» .

واختلف العلماء في طبيعة هذا الإطعام والإسقاء على أقوال:

القول الأول: أنه يؤتى بطعام وشراب من الجنة، ولكن هذا قول ضعيف؛ لأنه لو كان يؤتى بطعام وشراب من الجنة ما كان مواصلاً، وقد أقرهم على قولهم: «إِنَّكَ تُوَاصِلُ» .

القول الثاني: أن المراد بذلك ما يفتح الله عليه من مواد أنسه ونفحات قدسه سبحانه وتعالى والتلذذ بمناجاة الله وبالمعاني الربانية التي تغنيه عن الطعام والشراب.

فالإنسان إذا كان قد يتلهى عن الطعام والشراب، فالنبي صلى الله عليه وسلم انشغاله وتلذذه بمناجاة الله ومواد الأنس، وما أطلعه الله من المعاني الربانية يغنيه عن الطعام والشراب من باب أولى، وهذا هو الصواب.

وجاء في حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تواصلوا، فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر»[(465)] ، والمعنى: إن كان ولابد فليواصل إلى السحر، فيأكل أكلة واحدة في آخر الليل يجعلها سحورًا وعشاء.

$ر مسألة: اختلف العلماء هل النهي للتحريم أو للتنزيه؟

_خ الجواب: القول الأول: أن النهي للتحريم.

القول الثاني: أنه للتنزيه، والصواب أنه ليس للتحريم؛ لأنه فعله النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، ولو كان محرمًا لما فعله الصحابة.

قوله: «فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ الْوِصَال» هذا ليس عصيانًا، بل من باب الرغبة في الخير وزيادة الأجر لعله أن يأذن لهم في الاقتداء به.

قوله: «فَوَاصَلَ بِهِمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» يدل على أن الوصال مكروه وليس بمحرم؛ لأنه لو كان محرمًا لما فعله صلى الله عليه وسلم، وإنما واصل بهم من باب التعزير ليجدوا مشقة في الوصال وقد واصل بهم صلى الله عليه وسلم يومين، وكان ذلك في آخر الشهر في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، لكن الشهر لم يكن تامًّا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ تَأَخَّرَ الْهِلاَلُ لَزِدْتُكُمْ كَالْمُنَكِّرِ لَهُمْ» ، وفي لفظ: «كالمنكي لهم» من النكاية وفي لفظ آخر: «كالمنكل لهم» [(466)].

والشاهد من الحديث: النهي عن التعمق والتنطع والتشديد.

 

}7300{ قوله: «عَلَى مِنْبَرٍ مِنْ آجُرٍّ» يعني: من طين مطبوخ.

قوله: «وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا مِنْ كِتَابٍ يُقْرَأُ إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ» ، يعني: ليس عندنا معشر أهل البيت من شيء خصنا به النبي صلى الله عليه وسلم دون الناس غير هذه الصحيفة.

وهذا فيه: الرد على الشيعة والرافضة، الذين يزعمون أن أهل البيت خصوا بشيء من العلوم أو الشريعة دون الناس، فهذا علي أفضل أهل البيت يخبر بأنهم لم يخصوا بشيء، وإنما هم كغيرهم يعملون بكتاب الله وسنة رسوله، بل وأقسم فقال: «وَاللَّهِ مَا عِنْدَنَا» ، وفي لفظ: «إلا كتاب الله وفهم يعطيه الله من يشاء من عباده ونشر الصحيفة وقال: انظروا هذا الذي عندنا».

قوله: «فَإِذَا فِيهَا أَسْنَانُ الإِْبِلِ» ، يعني: كم أسنان الإبل، وما يجب من الدية فيها.

قوله: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ عَيْرٍ إِلَى كَذَا» جاء بيانه في حديث آخر «ما بين عير إلى ثور»[(467)] .

وفيه: أن المدينة بلد حرام مثل مكة، وحرمها بريد في بريد من جبل عير إلى ثور وهو جبل أحمر صغير خلف أحد.

قوله: «فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، فيه: الوعيد الشديد على من أحدث في المدينة، وهذا هو الشاهد من الحديث للترجمة؛ لأن فيه النهي عن الحدث في الدين.

قوله: «لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً» ، قيل: الصرف الفريضة، والعدل النافلة، وهذا من باب الوعيد، وهذا يدل على أن فاعله مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب.ا

قوله: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ» ، فيه: أنه يجير على المسلمين أدناهم، ولو لم يكن من الرؤساء والأشراف، ولو كان عبدًا أو امرأة؛ لأن ذمة المسلمين واحدة، كما أجارت أم هانئ ـ أخت علي رضي الله عنه ـ رجلاً كافرًا، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ»[(468)] وهذ مثل الكفالة الموجودة الآن، فإذا كفل المسلم شخصًا لا يجوز لأحد من المسلمين أن يعتدي عليه.

قوله: «فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، وأخفر ـ من الرباعي ـ أي: نقض العهد والأمان، أما خفر ـ من الثلاثي ـ أي: بمعنى: حفظ عهده وصانه، وهذا فيه: أن إخفار المسلم في ذمته من كبائر الذنوب.

قوله: «مَنْ وَالَى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» فيه: تحريم انتساب الإنسان إلى غير قبيلته، وبيان أنه من كبائر الذنوب، وكذلك العبد إذا انتسب إلى غير مواليه فهو من كبائر الذنوب، ومثاله أن يكون من قريش فينتسب إلى تميم أو بالعكس؛ لأن هذا من إنكار النعمة، ويسمى كفرًا للنعمة؛ لأنه جحد لنعمة الآباء والأجداد الذين هم السبب في وجود الإنسان، فليس له أن ينتسب إلى غيرهم، وكذلك العبد إذا انتسب إلى غير مواليه فإنه يجحد نعمة أسياده، وقوله: «بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهِ» ؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يأذنون له.

 

}7301{ قوله: «وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ» ، المراد أن هذا التنزه من باب التنطع والتكلف؛ ولهذا لما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم وقال: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنْ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ فَوَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً» ، وهذا لا يخالف قول الله تعالى: [النّجْم: 32]{فَلاَ تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ}؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مأمور أن يخبرنا بذلك، فإذا فعل شيئًا أو ترك شيئًا فإن ذلك من أمر الله، وهو صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بالله وأكثرهم ورعًا وأشدهم له خشية، فليس لأحد أن يتنزه عن شيء فعله، فإن هذا من التعمق والتنطع والغلو، فما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو الوسط وهو الأفضل.

 

}7302{ قوله: «كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلِكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» ، هما الخيّران رضي الله عنهما لفضلهما على غيرهما، فهما أفضل الناس بعد الأنبياء.

والحديث يشير إلى قصة وفد بني تميم لما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجعلوا ينادون خلف حجرات النبي صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا محمد اخرج إلينا، فارتفعت أصواتهم، واجتهد الخيران فأشار أحدهما: على النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمر الأقرع بن حابس التميمي الحنظلي أخي بني مجاشع، وأشار الآخر بغيره فاختلفا، فقال أبو بكر رضي الله عنه يخاطب عمر: ما أردت إلا خلافي، فبين له عمر رضي الله عنه أنه ما أراد خلافه، وارتفعت أصواتهما رضي الله عنهما فنزلت هذه الآية: « [الحُجرَات: 2]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ *}» ، وهذا من الأدب الذي أدب الله به هذين الخيرين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهما من المسلمين.

وهذه الآية من سورة الحجرات وتسمى سورة الآداب، لأن الله أدب عباده فيها بهذه الآداب أولها: [الحُجرَات: 1]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *}، ثم بعدها هذه الآية، وكذلك فيها: [الحُجرَات: 9]{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا}، وكذلك فيها: [الحُجرَات: 11]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ}، وكذلك فيها: [الحُجرَات: 12]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُوا وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} إلى غير ذلك من الآيات.

فالله سبحانه وتعالى يحذر عباده أن يرفعوا أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم خشية أن تحبط أعمالهم وهم لا يشعرون، فإذا كان الذي يرفع صوته على صوت النبي صلى الله عليه وسلم يخشى عليه أن يحبط عمله، فكيف بالذي يقدم قول أحد على قوله صلى الله عليه وسلم ويضرب بسنته عرض الحائط، فمن باب أولى أن يخشى عليه من حبوط العمل.

قوله: «حَدَّثَهُ كَأَخِي السِّرَارِ لَمْ يُسْمِعْهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ» ، أي: بعدما نزلت هذه الآية صار عمر رضي الله عنه إذا حدث النبي صلى الله عليه وسلم بشيء كأنه يسر إليه من شدة خفضه لصوته؛ خوفًا من أن يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يطلب منه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين ما يقول.

والشاهد: تنازع الخيرين وارتفاع أصواتهما.

وفيه: دليل على أن العصمة ليست لأحد إلا للأنبياء، فمهما بلغ الإنسان من الفضل قد يقع في الخطأ وليس بمعصوم.

 

}7303{ هذا الحديث حديث عائشة رضي الله عنها في مرض النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات فيه، وأنه أمر أبا بكر أن يصلي بالناس، فأرادت عائشة أن تصرف ذلك عن أبيها، وهي في هذا تظهر النصيحة وأن أبا بكر لا يسمع الناس وفي لفظ آخر: «إنه رجل أسيف لا يملك نفسه من البكاء فلا يسمع الناس فلو أمرت عمر»، وهي تريد شيئًا آخر غير هذا، فقد جاء أنها تريد أن لا يتشاءم الناس بأبيها بعد أن يقوم مقام النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث فيه: الحذر من مكائد النساء؛ فإنهن قد يظهرن النصيحة وهن يردن أمرًا آخر.

وفيه: أن الإمام إذا أشير عليه برأي فإنه عليه أن يتأمل ويتثبت ويحتاط، فإن لم يتبين له وجه الصواب لم يأخذ به، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مضى في أمره ولم يلتفت إلى قول عائشة وحفصة، وصلى أبو بكر بالناس فكان في هذا إرشادٌ للمسلمين إلى بيعته واختياره؛ لأن الصحابة قالوا: رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» وهن النسوة اللاتي اجتمعن عليه وقطعن أيديهن وقلن: [يُوسُف: 31]{مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ *}.

والشاهد من الحديث تكرار المراجعة من عائشة وحفصة رضي الله عنهما، وأن هذا من التنازع.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: في أحاديث الباب ما ترجم له من كراهية التنطع والتنازع، لإشارته إلى ذم من استمر على الوصال بعد النهي، ولإشارة علي إلى ذم من غلا فيه فادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم خصه بأمور من علم الديانة دون غيره، وإشارته صلى الله عليه وسلم إلى ذم من شدد فيما ترخص فيه، وفي قصة بني تميم ذم التنازع المؤدي إلى التشاجر ونسبة أحدهما الآخر إلى قصد مخالفته، فإن فيه إشارة إلى ذم كل حالة تؤول بصاحبها إلى افتراق الكلمة أو المعاداة، وفي حديث عائشة إشارة إلى ذم التعسف في المعاني التي خشيتها من قيام أبي بكر مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم» اهـ.

 

}7304{ هذه قصة المتلاعنين، فإذا قذف الرجل زوجته بالزنا، وليس عنده شهود وأنكرت المرأة فإنهما يتلاعنان، ويقوم اللعان مقام الشهود، وذلك أنه يشهد أربع شهادات بالله أنه صادق، ثم يلعن نفسه في الشهادة الخامسة إن كان من الكاذبين، ثم توجه الأيمان إليها فتشهد أربع شهادات إنه كاذب عليها، والخامسة تدعو على نفسها بالغضب إن كان من الصادقين كما قال الله عز وجل في سورة النور: [النُّور: 6-9]{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ *وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ *وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ *وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ *}، ثم يفرق بينهما تفريقًا مؤبدًا لا يلتقيان إلى يوم القيامة، وإذا نكلت هي وامتنعت عن الأيمان أقيم عليها الحد، وإن نكل هو ـ إذا طلب منه الحاكم أن يلاعن ـ أقيم عليه الحد.

وجاء في بعض الألفاظ أنه طلقها ثلاثًا فهذا اجتهاد منه ولا يحتاج إلى طلاق لأن اللعان فرقة مؤبدة ولذا قال: «فَجَرَتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلاَعِنَيْنِ» .

قوله: «انْظُرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَحْمَرَ قَصِيرًا مِثْلَ وَحَرَةٍ فَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ قَدْ كَذَبَ» ، أي: على هذا الوصف الذي يشبه زوجها، «وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْحَمَ أَعْيَنَ ذَا أَلْيَتَيْنِ فَلاَ أَحْسِبُ إِلاَّ قَدْ صَدَقَ عَلَيْهَا» ، أي: على الوصف الذي يشبه الرجل الذي رميت به، «فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى الأَْمْرِ الْمَكْرُوهِ» ، فكان يشبه الذي رميت به، ولكن مع ذلك مضى الحكم، وجاء في بعض ألفاظ الحديث قال: «لولا الأيمان لكان لي ولها شأن»[(469)] ؛ لأن الأيمان كافية، فلو جاء الولد يشبه الذي رميت به لا يقام عليها الحد ولا تنقض الأيمان.

والشاهد من الحديث للترجمة: مجيء عويمر رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد إخبار عاصم له كراهة النبي صلى الله عليه وسلم المسائل، ففيه: كراهة المسائل وعيبها.

 

}7305{ قوله: «حَاجِبُهُ يَرْفَا» الحاجب يعني: البواب الذي يمنع الناس من الدخول إلا بإذن، واسمه «يَرْفَا» .

قوله: «هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟» ، يعني: هل تأذن لهم؟

قوله: «اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ الظَّالِمِ» ، يعني: ابن أخيه عليًّا، ووردت هكذا في هذه الرواية، والروايات الأخرى ليس فيها هذه الكلمة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن التين: معنى قوله في هذه الرواية: «اسْتَبَّا» ، أي: نسب كل واحد منهما الآخر إلى أنه ظلمه، وقد صرح بذلك في هذه الرواية بقوله: «اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ الظَّالِمِ» ، قال: ولم يرد أنه يظلم الناس، وإنما أراد ما تأوله في خصوص هذه القصة ولم يرد أن عليًّا سب العباس بغير ذلك؛ لأنه صنو أبيه ولا أن العباس سب عليًّا بغير ذلك؛ لأنه يعرف فضله وسابقته. وقال المازري: هذا اللفظ لا يليق بالعباس وحاشا عليًّا من ذلك فهو سهو من الرواة، وإن كان لابد من صحته فليؤول بأن العباس تكلم بما لا يعتقد ظاهره مبالغة في الزجر وردعا لما يعتقد أنه مخطئ فيه، ولهذا لم ينكره عليه أحد من الصحابة لا الخليفة ولا غيره مع تشددهم في إنكار المنكر، وما ذاك إلا أنهم فهموا بقرينة الحال أنه لا يريد به الحقيقة انتهى...، وقال غيره: حاشا عليًّا أن يكون ظالمًا والعباس أن يكون ظالمًا بنسبة الظلم إلى علي وليس بظالم، وقيل: في الكلام حذف تقديره أي: هذا الظالم إن لم ينصف أو التقدير هذا كالظالم، وقيل: هي كلمة تقال في الغضب لا يراد بها حقيقتها، وقيل: لما كان الظلم يفسر بأنه وضع الشيء في غير موضعه تناول الذنب الكبير والصغير وتناول الخصلة المباحة التي لا تليق عرفًا فيحمل الإطلاق على الأخيرة والله أعلم» اهـ.

فالمقصود أنه لم يرد وصفه بالظالم على الإطلاق وإلا فعلي رضي الله عنه من الأخيار ومن العشرة المبشرين بالجنة، وقدم عمر العباس لأنه عمه ويراه في منزلة والده، كما في الحديث: «عم الرجل صنو أبيه»[(470)] لكن مع الخصومة يرى أن عمله فيها أولى من عمل عمه.

قوله: «فَقَالَ الرَّهْطُ» أي: الذين دخلوا أولاً وعثمان وعبد الرحمن والزبير وسعد رضي الله عنهم «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ أَحَدَهُمَا مِنْ الآْخَرِ» أي: رأوا أن يفصل بينهما حتى يرتاح كل منهما من صاحبه، فقال عمر لهم: «اتَّئِدُوا» ، أي: تمهلوا ولا تعجلوا، ثم قال: «أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ» يعني: أسألكم بالله، «الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَْرْضُ» المراد بالإذن هنا الإذن الكوني القدري، فالإذن نوعان: كوني قدري لا يتخلف، ومثله قوله تعالى في السحرة: [البَقَرَة: 102]{وَمَا هُمْ بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ}، والإذن الشرعي كما في سورة الحشر [الحَشر: 5]{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} يعني: فبأمر الله وإذنه الشرعي.

قوله: «هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟» ؛ لأن الحديث متواتر، يريد عمر أن يقول: فلمَ التنازع؟ ليس هناك ميراث للنبي صلى الله عليه وسلم وهو القائل: «لاَ نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ؟» هل ترثون النبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يورث؟!

قوله: «فَإِنِّي مُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الأَْمْرِ» يعني: صدقة النبي صلى الله عليه وسلم وأموال بني النضير: «إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَالِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: [الحَشر: 6]{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *} ، يعني: هذا الفيء وهو أرض بني النضير وأموالهم، التي جُلوا عنها وهربوا بدون قتال فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم، بخلاف الغنيمة التي تكون بعد القتال فيكون للغانمين منها أربعة أخماس.

قوله: «وَاللَّهِ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلاَ اسْتَأْثَرَ بِهَا عَلَيْكُمْ، وَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ» ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله وأولاده وأزواجه.

قوله: «وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ» ، فيه: دليل على أنه لا بأس بادخار القوت لمدة شهر أو شهرين أو سنة، وأنه لا حرج في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يحرز نفقة سنة من هذا المال، لكن تأتي عليه النوائب قبل السنة فينتهي ويستدين.

وفيه: الرد على الصوفية وغيرهم، الذين يرون أنه لا يجوز أن يدخر الإنسان شيئًا أكثر من قوت يومه، وكذلك الرد على الاشتراكيين الذين يريدون انتزاع أموال الناس من الأغنياء ويساوون بين الناس في الفقر.

قوله: «ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ» أي: يجعله في سبيل الله وفي السلاح، وينفق على الفقراء والمساكين وابن السبيل وغير ذلك من الأعمال.

قوله: «تَزْعُمَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فِيهَا كَذَا» أي: تظنان أنه لم ينفقها كما أنفقها النبي صلى الله عليه وسلم، «وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ» يعني: الصديق، وهذا من إنصاف عمر رضي الله عنه واعترافه بالحق لأهله.

قوله: «ثُمَّ جِئْتُمَانِي وَكَلِمَتُكُمَا عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ» يعني: متفقين على هذا الأمر، «جِئْتَنِي تَسْأَلُنِي نَصِيبَكَ مِنْ ابْنِ أَخِيكِ» أي: تريد الميراث من ابن اخيك، «وَأَتَانِي هَذَا يَسْأَلُنِي نَصِيبَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا» يعني: عليًّا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يورث، ولو كان يورث لكان لزوجاته الثمن وابنته فاطمة النصف والباقي لعمه العباس، لكنه لا يورث.

قوله: «لَتَعْمَلاَنِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» يعني: تفعلان مثل ما فعل فتنفقانه على أهل البيت وعلى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم والباقي يكون في المصالح العامة.

قوله: «فَوَالَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالأَْرْضُ» حلف بالله سبحانه وتعالى، «لاَ أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» أي: ما عندي غير هذا، «فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَأَنَا أَكْفِيكُمَاهَا» أي: تتصرفان مثلما تصرف النبي صلى الله عليه وسلم وإلا ادفعاها لي وأنا أتصرف فيها.

والشاهد من الحديث: تنازع العباس وعلي رضي الله عنهما في صدقة النبي صلى الله عليه وسلم التي في بني النضير، وقد ساق المؤلف رحمه الله هذه القصة كلها للتنازع.

 إِثْمِ مَنْ آوَى مُحْدِثًا

رَوَاهُ عَلِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

}7306{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِد،ِ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ قَالَ: قُلْتُ لأَِنَسٍ: أَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ؟ قَالَ نَعَمْ. مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا لاَ يُقْطَعُ شَجَرُهَا، مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

قَالَ عَاصِمٌ فَأَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ أَوْ آوَى مُحْدِثًا .

 

}7306{ قوله: «مَا بَيْنَ كَذَا إِلَى كَذَا» ، جاء في حديث الآخر: «ما بين عير إلى ثور»[(471)] قال العلماء: إنها بريد في بريد من الشمال للجنوب، وهذا فيه إثبات الحرم للمدينة كما أن مكة لها حرم.

وفي الحديث: الوعيد الشديد على من أحدث في المدينة حدثًا، والمحدث يشمل المبتدع والعاصي؛ لأن البدعة إحداث في الدين وكذلك المعصية، إلا أن البدعة أشد فلا يجوز إيواء المحدث.

وفيه: دليل على أن الحدث في المدينة من كبائر الذنوب، ولهذا قال: «فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» .

ويدخل في إحداث الحدث استئجار المبتدع، فإذا استأجر المبتدع في المدينة فقد آواه كالرافضة وأمثالهم، ويدخل في إيواء المحدث منعه من إقامة الحد إذا وجب عليه الحد، وإذا كان هذا في المدينة فمن باب أولى يكون في مكة؛ لأن تحريمها أشد وأغلظ ولهذا قال الله تعالى في الحرم في مكة [الحَجّ: 25]{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *}.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله نقلاً عن ابن بطال رحمه الله: «دل الحديث على أن من أحدث حدثًا أو آوى محدثًا في غير المدينة أنه غير متوعد بمثل ما توعد به من فعل ذلك في المدينة، وإن كان قد علم أن من آوى أهل المعاصي أنه يشاركهم في الإثم فإن من رضي فعل قوم وعملهم التحق بهم، ولكن خصت المدينة بالذكر لشرفها لكونها مهبط الوحي وموطن الرسول صلى الله عليه وسلم ومنها انتشر الدين في أقطار الأرض فكان لها بذلك مزيد فضل على غيرها» اهـ.

 مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ

[الإسرَاء: 36]{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}.

}7307{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيد،ٍ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ شُرَيْحٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي الأَْسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: حَجَّ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْزِعُ الْعِلْمَ بَعْدَ أَنْ أَعْطَاكُمُوهُ انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بِعِلْمِهِمْ، فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ» فَحَدَّثْتُ بِهِ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو حَجَّ بَعْدُ فَقَالَتْ: يَا ابْنَ أُخْتِي انْطَلِقْ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَاسْتَثْبِتْ لِي مِنْهُ الَّذِي حَدَّثْتَنِي عَنْهُ. فَجِئْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَحَدَّثَنِي بِهِ كَنَحْوِ مَا حَدَّثَنِي، فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ فَأَخْبَرْتُهَا فَعَجِبَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو.

}7308{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ، سَمِعْتُ الأَْعْمَشَ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ: هَلْ شَهِدْتَ صِفِّينَ؟ قَالَ نَعَمْ. فَسَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ ح.

وحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلاَّ أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ هَذَا الأَْمْرِ قَالَ: وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ شَهِدْتُ صِفِّينَ وَبِئْسَتْ صِفُّونَ.

 

هذه الترجمة لذم الفتوى بالرأي الذي لا مستند له من النصوص؛ فإنها قد توافق النصوص وقد تخالفها، وقوله: «وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ» يعني: إذا كان القياس متكلفًا فهو مذموم، ويدخل في ذم الرأي؛ لقوله تعالى: « [الإسرَاء: 36]{وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}» .

}7307{ قوله: «فَيَبْقَى نَاسٌ جُهَّالٌ يُسْتَفْتَوْنَ فَيُفْتُونَ بِرَأْيِهِمْ فَيُضِلُّونَ وَيَضِلُّونَ» يعني: يفتون برأيهم مجردًا عن النصوص، وفي اللفظ الآخر: «حتى لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا بغير علم فضلوا وأضلوا»[(472)] .

وفي الحديث: دليل على أن الله تعالى لا يقبض العلم ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بموت العلماء، فالعلماء يموتون واحدًا بعد واحد فيقبض العلم.

وفيه: الحث على أخذ العلم من العلماء في وقت وجودهم قبل ذهابهم وذلك أن العلماء إذا قبضوا بقي الجهال، والناس يحتاجون إلى مفتين وإلى قضاة وإلى وزراء ويحتاجون إلى غير ذلك، فلابد من أن تسد هذه الوظائف فإذا قبض العلماء سدت بجهال، فإذا كان الجاهل مفتيًا أو قاضيًا، فلابد أن يستفتى، فإذا استفتي أفتى بجهل فضل بنفسه وأضل غيره.

والشاهد من الحديث: ذم الرأي.

قوله: «وَاللَّهِ لَقَدْ حَفِظَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو» ؛ لأن عبدالله كان يكتب ويسجل ولهذا حفظ.

استدل بعضهم بهذا الحديث على جواز خلو الزمان عن مجتهد، وهو قول الجمهور خلافًا لأكثر الحنابلة، وعورض بحديث: «لا تزال هذه الأمة ظاهرين على من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون»[(473)] وفي لفظ آخر: «لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى الساعة»[(474)] وفي حديث معاذ رضي الله عنه: «وهم بالشام»[(475)] وقيل: يمكن أن تنزل هذه الأحاديث على آخر الزمان؛ حيث يرفع العلم بقبض العلماء المجتهدين ثم يتخذ الناس رءوسًا جهالاً.

 

}7308{ قوله: «سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ: هَلْ شَهِدْتَ صِفِّينَ؟» صفين حرب ضروس بين أهل الشام بقيادة معاوية رضي الله عنه وأهل العراق بقيادة علي رضي الله عنه حصل فيها قتل شديد بسبب الخلاف في الرأي، وذلك أن عليًّا رضي الله عنه يرى أنه الخليفة الراشد وأنه بايعه أهل الحل والعقد، فيجب على معاوية رضي الله عنه وأهل الشام أن يبايعوه فإذا امتنعوا فإنهم يقاتلون؛ لأنهم بغاة لقول الله تعالى: [الحُجرَات: 9]{فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} وانضم إلى علي رضي الله عنه أكثر الصحابة، وأما معاوية رضي الله عنه فكان يرى أن عثمان رضي الله عنه قتل شهيدًا مظلومًا وأنه وليه، وأن الذين قتلوه في جيش علي رضي الله عنه فلابد أن يسلمهم للقصاص منهم فلهذا امتنع، وعلي رضي الله عنه لا يمانع لكنه يقول: هذا وقت الفتنة والاختلاط والذين قتلوا اندسوا فلا يعرفون ولهم قبائل تنصرهم، فإذا هدأت الأمور وعرفنا القتلة أخذناهم.

قوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ» ، أي: لا تعملوا في دينكم برأي مجرد لا يستند إلى أصل من الدين.

قوله: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ» ، هو يوم صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة، لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين واشترطوا عليه شروطًا فيها غضاضة على المسلمين، ومن هذه الشروط أنهم قالوا: من جاء منا مسلمًا تردوه علينا ومن جاءنا منكم لا نرده عليكم، فضج الصحابة قالوا: كيف هذا يا رسول الله، حتى قال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله كيف نعطي الدنية في ديننا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني رسول الله ولن يضيعني»[(476)] ؛ لأن هذا بأمر من الله، فسهل بن حنيف يقول: «وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ» ، أي: لو لي قدرة لرددته، فهو يقول: لا تفتوا بالرأي؛ لأننا وثقنا بالرأي يوم الحديبية، ولو نستطيع أن نرد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لرددناه فتبينت النتيجة أن رأي الرسول هو الصواب ورأي أبي جندل ـ ومن يرى رأيه من الصحابة ـ هو الخطأ.

قوله: «وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا إِلاَّ أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ غَيْرَ هَذَا الأَْمْرِ» ، أي: أن كل مسألة دخلنا فيها وكل قتال دخلنا فيه إذا وضعنا سيوفنا على عاتقنا أوصلنا ذلك إلى أمر نعرفه ويتبين لنا وجه الصواب فيه إلا صفين فإن هذا الأمر ملتبس، عظمت فيه الفتنة واشتد القتل من الجانبين.

قوله: «شَهِدْتُ صِفِّينَ وَبِئْسَتْ صِفُّونَ» ، ذم لها لكون الشبهة فيها قد عظمت حتى اشتد القتال، ولهذا توجع من شهوده صفين.

والشاهد قوله: «اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ» وفيه: ذم الرأي وعدم الأخذ به مجردًا، والواجب على المختلفين أن يردوا نزاعهم وخلافهم إلى الله ورسوله ـ أي: الكتاب والسنة ـ قال الله تعالى: [النِّسَاء: 59]{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *} وقال تعالى: [الشّورى: 10]{وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} قال تعالى: [الأعرَاف: 3]{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ}.

 مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ

فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ

وَلَمْ يَقُلْ بِرَأْيٍ وَلاَ بِقِيَاسٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [النِّسَاء: 105]{بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الرُّوحِ فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ الآْيَةُ.

}7309{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: مَرِضْتُ فَجَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ فَقُلْتُ : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ ـ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ.

 

هذه الترجمة فيها بيان أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو سيد الخلق ـ إذا سئل عن شيء ولم ينزل عليه وحي من الله فإنه إما أن يسكت، أو يقول: لا أدري ولا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، وهو إمام المتقين وقدوة العلماء، فالعالم ينبغي له إذا سئل عن شيء لا يعلمه أن يقول: لا أدري أو يسكت أو يطلب من السائل أن يمهله، أو يحيله إلى أحد العلماء ولا يتكلم بشيء لا يعلمه، لهذا قال العلماء: إن العالم إذا أغفل العالم لا أدري أصيبت مقاتله، وثبت في «صحيح البخاري» عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه لما سمع أن أناسًا يحدثون بحديث قال: «يا أيها الناس إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: [ص: 86]{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ *} فمن سئل عن شيء وهو لا يعلمه فليقل: لا أدري، فإن من العلم أن تقول لما لا تعلم: لا أعلم»، وقال بعضهم: لا أدري نصف العلم.

واستدل المؤلف رحمه الله بهذه الآية: [النِّسَاء: 105]{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} يعني: تحكم بين الناس بما أراك الله ولم يقل: بما رأيت، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو سيد الخلق صلى الله عليه وسلم ولم يقل برأيه ولا بالقياس، فغيره من باب أولى، فدل على أنه لابد من العلم في الفتوى وفي إجابة السائل، فإذا لم يكن هناك علم فإنه لا يجيب ويقول: لا أدري أو يقول: الله أعلم أو يمهل السائل حتى يسأل له أو يحيله إلى غيره.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يُنْزَلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَيَقُولُ لاَ أَدْرِي أَوْ لَمْ يُجِبْ حَتَّى يُنْزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ» أي: كان له إذا سئل عن الشيء الذي لم يوح إليه فيه حالان: إما أن يقول: لا أدري، وإما أن يسكت حتى يأتيه بيان ذلك بالوحي، والمراد بالوحي أعم من المتعبد بتلاوته. ولم يذكر لقوله: «لاَ أَدْرِي» دليلاً فإن كلًّا من الحديثين المعلق والموصول من أمثلة الشق الثاني... وقال الكرماني: في قوله في الترجمة: «لاَ أَدْرِي» حزازة؛ إذ ليس في الحديث ما يدل عليه ولم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم ذلك كذا قال. وهو تساهل شديد منه في الإقدام على نفي الثبوت كما سأبينه، والذي يظهر أنه أشار في الترجمة إلى ما ورد في ذلك، ولكنه لم يثبت عنده منه شيء على شرطه وإن كان يصلح للحجة كعادته في أمثال ذلك، وأقرب ما ورد عنده في ذلك حديث ابن مسعود الماضي في تفسير سورة ص: «من علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم» الحديث، لكنه موقوف والمراد منه إنما هو ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أجاب بلا أعلم أو لا أدري، وقد وردت فيه عدة أحاديث منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أي البقاع خير؟ قال: «لا أدري» فأتاه جبريل فسأله فقال: لا أدري فقال: «سل ربك» فانتفض جبريل انتفاضة[(477)] الحديث أخرجه ابن حبان وللحاكم نحوه من حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه، وفي الباب عن أنس رضي الله عنه عند ابن مردويه، وأما حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما أدري الحدود كفارة لأهلها أم لا»[(478)] وهو عند الدارقطني والحاكم فقد تقدم في شرح حديث عبادة من «كتاب العلم» الكلام عليه وطريق الجمع بينه وبين حديث عبادة» اهـ.

والمقصود أن قوله: «لاَ أَدْرِي» وإن لم يأت لها المؤلف بدليل إلا أنها ثابتة بأدلة أخرى ليست على شرط المؤلف، فتكون الترجمة سالمة من الاعتراض.

قوله: «وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: سُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الرُّوحِ فَسَكَتَ حَتَّى نَزَلَتْ الآْيَةُ» مناسبة هذا الأثر للترجمة أن النبي صلى الله عليه وسلم سكت حتى نزل عليه الوحي، وهو قول الله تعالى: [الإسرَاء: 85]{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *}.

 

}7309{ قوله: «مَرِضْتُ فَجَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ» ، فيه: مشروعية زيارة المريض ومشروعية زيارة الأكابر والرئيس لأفراد رعيته.

قوله: «فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ صَبَّ وَضُوءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ» ، أي: أفاق لما صب عليه وضوءه؛ لأن الحمى يفيد فيها الماء فالحمى نوعان: حمى باردة وحمى حارة، فالحمى الحارة يفيدها الماء ولهذا لما أغمي عليه من شدة المرض وصب عليه وضوءه أفاق.

قوله: «فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ـ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ فَقُلْتُ : أَيْ رَسُولَ اللَّهِ» ، أي: حرف نداء، فأحرف النداء جمعت في قول الأول:

وناد من تدعو بيا أو بأيا

وهمزة وأي وإن شئت هيا[(479)]

قوله: «كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِي؟ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟» وفي اللفظ الآخر أنه قال: «يا رسول الله ليس لي إلا ابنة واحدة»[(480)] ، قال جابر: «فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ» ، وهي الآية التي في آخر النساء: [النِّسَاء: 176]{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ} في لفظ أنه قال: «يا رسول الله لمن الميراث؟ إنما يرثني كلالة فنزلت آية الفرائض»[(481)] وفي قصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «إني قد بلغ بي من الوجع وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: «لا» فقلت: بالشطر؟ فقال: «لا» ثم قال: «الثلث والثلث كثير»[(482)] .

ومناسبة الحديث للترجمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجبه حتى جاءه العلم من الله وهو الوحي.

 تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ

}7310{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَْصْبَهَانِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ الرِّجَالُ بِحَدِيثِكَ، فَاجْعَلْ لَنَا مِنْ نَفْسِكَ يَوْمًا نَأْتِيكَ فِيهِ تُعَلِّمُنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ. فَقَالَ: «اجْتَمِعْنَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي مَكَانِ كَذَا وَكَذَا» فَاجْتَمَعْنَ فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ»، فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَوْ اثْنَيْنِ قَالَ: فَأَعَادَتْهَا مَرَّتَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: «وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ وَاثْنَيْنِ».

 

هذه الترجمة في «تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أُمَّتَهُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ» ، أي: مما نزل عليه من الوحي، ولهذا قال: «لَيْسَ بِرَأْيٍ وَلاَ تَمْثِيلٍ» ، أي: ليس برأي ولا قياس، والرأي هو الرأي المجرد الذي لا يستند إلى النصوص، والقياس كذلك.

ومناسبة الباب لكتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» أن يكون التعليم مأخوذًا من الوحي والنصوص لا من الآراء والأقيسة.

}7310{ قوله: «فَأَتَاهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَّمَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَهُ اللَّهُ» فيه: مشروعية اختصاص النساء بالموعظة، وأن يكون لها موعد محدد ومكان محدد كالمحاضرة التي تلقى على النساء في مسجد أو عن طريق الشبكة، أو في كلية أو في معهد.

وفيه: دليل على أن المرأة لها أن تسأل عما أشكل عليها، وأن صوت المرأة ليس بعورة، وذهب بعض العلماء إلى أن صوت المرأة عورة، والصواب أنه ليس بعورة لكنها منهية عن الترخيم ونهيت عن الكلام مع الرجال؛ لأن بعض الرجال قد يفتتن بصوتها؛ ولهذا نهيت المرأة أن تخضع بالقول، كما في قول الله تعالى: [الأحزَاب: 32]{فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}.

قوله: «مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقَدِّمُ بَيْنَ يَدَيْهَا مِنْ وَلَدِهَا ثَلاَثَةً إِلاَّ كَانَ لَهَا حِجَابًا مِنْ النَّارِ» ، هذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم بوحي من الله؛ لأن هذا أمر توفيقي لا يعلم إلا من قبل الوحي ولا دخل للرأي والقياس فيه، وهذا هو الشاهد للترجمة فإنه من تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته.

وفيه: دليل على أن من أسباب عدم دخول النار تقديم ثلاثة أو اثنين من الولد، وفي اللفظ الآخر: «لم يبلغوا الحنث»[(483)] وهذا مقيد عند أهل العلم بما إذا لم يقترف الكبائر؛ فالنصوص يضم بعضها إلى بعض، قال تعالى: [النِّسَاء: 31]{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}، فإذا أدى الفرائض واجتنب الكبائر وقدم ثلاثة أو اثنين كان ذلك له حجابًا من النار، ولم يسألوه عن الواحد، لكن جاء أيضًا في الواحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: من قبضت صفيه من أهل الدنيا، ثم احتسبه فليس له جزاء إلا الجنة»[(484)] والصفي يعني: المحب الخالص، وقد يكون الصفي هذا أبًا وقد يكون زوجًا وقد يكون صديقًا وقد يكون ولدًا، فإذا قُبض صفي الإنسان وحبيبه الخالص واحتسبه وصبر فهذا من أسباب دخول الجنة، ولهذا قال أحد شراح البخاري في هذا الحديث: إن العالم إذا كان يمكنه أن يحدث بالنصوص، فلا يحدث بالنظر ولا بالقياس. والمراد بالقياس هنا هو إلحاق الفرع بالأصل في الحكم لعلة جامعة بينهما.

 قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:

«لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ يُقَاتِلُونَ وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ»

}7311{ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ».

}7312{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَخْطُبُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُْمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ».

 

ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن هذه الترجمة على لفظ حديث أخرجه مسلم عن ثوبان: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك»[(485)] وفي حديث جابر زيادة: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين يقاتلون على الحق إلى يوم القيامة»[(486)] .

قوله: «وَهُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ» هذا من كلام المصنف في بيان الطائفة، وبين الحافظ ابن حجر رحمه الله آراء العلماء في هذا، فعلي بن المديني يرى أنهم أصحاب الحديث. وقال الإمام أحمد: إن لم يكن أصحاب الحديث فلا أدري من هم[(487)]. وهم أهل السنة والجماعة وهم الطائفة المنصورة، فعلم بهذا أن المقلد ليس من أهل العلم كما نقل ابن عبدالبر إجماع العلماء على هذا[(488)]، وقال المؤلف أيضًا في كتاب «خلق أفعال العباد»: الطائفة المذكورة في الحديث وفي قوله تعالى: [البَقَرَة: 143]{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} هم أهل العلم وأهل الحديث[(489)].

 

}7311{ قوله: «لاَ يَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ» ، هذه بشارة لهذه الأمة أنها لا يزال فيها خير إلى قيام الساعة، وأنه لا يمكن أن يعمها الشر ولا يخلو من الأرض التوحيد والإيمان؛ لأنه إذا خلت الأرض من التوحيد خرب هذا العالم وقامت القيامة، وإنما يكون ذلك قرب قيام الساعة، فيرسل الله ريحًا طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات فلا يبقى إلا الكفرة، وحينئذ لا يبقى في الأرض توحيد ولا إيمان وعليهم تقوم الساعة، وفي بعض ألفاظ الحديث: «حتى تقوم الساعة»[(490)] والمراد أن هذا بقرب قيام الساعة؛ لأن الساعة لا تقوم إلا على الكفرة.

 

}7312{ قوله: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» . هذا مما اتفق عليه الشيخان.

وفيه: علامة إرادة الله الخير للعبد، قال العلماء: هذا الحديث منطوقه أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيرًا، ومفهومه أن من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرًا.

قوله: «وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ» ، يعني: أنا أقسم بينكم الغنائم وغيرها، والمعطي هو الله.

قوله: «وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُْمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ أَوْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ» ، المراد حتى يَقْرُب قيام الساعة؛ لأنه قبل قيام الساعة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، ولا يكون على الأرض إلا الكفرة فعليهم تقوم الساعة؛ ولهذا قال الكرماني كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يؤخذ من جملة الاستقامة التفقه؛ لأنه الأصل» اهـ. فلا استقامة إلا بفقه الدين.

وجاءت أحاديث ساقها الحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره أن الطائفة المنصورة يكونون في آخر الزمان في الشام وذكر حديث مسلم عن جابر: «لا تزال عصابة من المسلمين يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة»[(491)] وفي بعضها: «ثم يبعث الله ريحًا كريح المسك مسها مس الحرير، فلا تترك نفسًا في قلبه مثقال حبة من الإيمان إلا قبضته، ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة»[(492)] وجاء في بعضها: أن الطائفة تكون ببيت المقدس حينما يحصرهم الدجال إذا خرج[(493)]، وجاء في بعض الروايات: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك»[(494)] وفي بعضها: «لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة»[(495)] وقال معاذ: هم بالشام، وفُسر الغرب بالدلو؛ لأن العرب هم أصل أصحاب الدلاء فإنهم يستقون بها الماء، وقيل: المراد بالغرب أهل القوة والجهاد.

جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «يقاتلون على أبواب دمشق وما حولها وعلى أبواب بيت المقدس وما حولها، لا يضرهم من خذلهم ظاهرين إلى يوم القيامة»[(496)] .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يمكن الجمع بين الأخبار بأن المراد قوم يكونون ببيت المقدس وهي شامية، ويسقون بالدلو وتكون لهم قوة في جهاد العدو وحدة وجد... قال النووي: في هذا الحديث دليل على أن الإجماع حجة، ثم قال: يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعددة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزاهد وعابد، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين في بلد واحد بل يجوز اجتماعهم في قطر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد وأن يكونوا في بعض منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولاً فأولاً إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر الله... ونظير ما نبه عليه ما حمل عليه بعض الأئمة حديث: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»[(497)] أنه لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة وهو متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبدالعزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفًا بالصفات الجميلة، إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفًا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد سواء تعدد أم لا» اهـ.

وأهل الحديث الذين يعملون بالكتاب والسنة هم أهل العلم وأهل البصيرة، والعامي إذا لم يكن من أهل العلم وكان من أهل الاستقامة فهو منهم، لكن يكون مقدمتهم أهل العلم.

 فِي قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الأنعَام: 65]{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا}

}7313{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم [الأنعَام: 65]{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} قَالَ: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» {أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قَالَ: « أَعُوذُ بِوَجْهِكَ » فَلَمَّا نَزَلَتْ [الأنعَام: 65]{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قَالَ: «هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ».

 

}7313{ قوله: «أَعُوذُ بِوَجْهِكَ» استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم بوجه الله تعالى؛ لأن العذاب إذا جاء من فوق أو من تحت استأصل استئصالاً كاملاً ولا حيلة في ذلك.

قوله: «هَاتَانِ أَهْوَنُ أَوْ أَيْسَرُ» ؛ لأنه أخف من الاستئصال.

وفيه: تكفير للسيئات، كقتال المسلمين فيما بينهم.

وكأن هذا الحديث بعد أن مُنع النبي صلى الله عليه وسلم من الإجابة في هاتين الأخيرتين، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: «سألت الله عز وجل لأمتي ثلاثًا فأعطاني اثنتين ورد علي واحدة»[(498)] فقوله تعالى: « [الأنعَام: 65]{قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ}» ، هذه أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم يعني: وقاية العذاب من فوق، وقوله تعالى: « [الأنعَام: 65]{أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}» ، هذه أيضًا أعطيها يعني: وقاية العذاب من تحت، وأما قوله تعالى: « [الأنعَام: 65]{أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ}» فمنعها فدل على أن القتال واقع، وأما عذاب الاستئصال فمرفوع عن هذه الأمة، كما في الحديث الآخر: «وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة، وأن لا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ـ أو قال: من بين أقطارها ـ حتى يكون بعضهم يهلك بعضًا ويسبي بعضهم بعضًا»[(499)] ، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا بأن لا تهلك الأمة هلاكًا عامًّا كما حصل في الأمم السابقة كقوم نوح فإنهم أهلكوا بالغرق وقوم هود فإنهم أهلكوا بالريح وقوم صالح فإنهم أهلكوا بالصيحة، وألا يسلط عليهم عدوًّا من سوى أنفسهم فيستأصل شأفتهم ويستبيح بيضتهم ـ يعني ملكهم ـ فهذا سأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه فأعطاه الله ما سأل، وبقي الأمر الثالث وهو قتال المسلمين بعضهم بعضًا فهذا واقع.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ووجه مناسبته لما قبله أن ظهور بعض الأمة على عدوهم دون بعض يقتضي أن بينهم اختلافًا حتى انفردت طائفة منهم بالوصف؛ لأن غلبة الطائفة المذكورة إن كانت على الكفار ثبت المدعى، وإن كانت على طائفة من هذه الأمة أيضًا فهو أظهر في ثبوت الاختلاف».

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: أجاب الله تعالى دعاء نبيه في عدم استئصال أمته بالعذاب، ولم يجبه في أن لا يلبسهم شيعًا أي: فرقًا مختلفين وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض بالحرب والقتل بسبب ذلك، وإن كان ذلك من عذاب الله لكن أخف من الاستئصال وفيه للمؤمنين كفارة».

وقوله: «أعوذ بوجهك» فيه: إثبات الوجه لله تعالى.

وفيه: الاستعاذة بوجهه أو بصفة من صفاته مثل أعوذ بعزتك، ومن ذلك ما في الحديث: «أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات»[(500)] ، ولا يسأل بوجه الله إلا الجنة[(501)].

دعاء الله بصفة من صفاته، والفرق بينها وبين دعاء الصفة مثل قوله يا رحمة الله ارحميني، وكونها شرك...

 مَنْ شَبَّهَ أَصْلاً مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ

قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيُفْهِمَ السَّائِلَ

}7314{ حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ، حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَمَا أَلْوَانُهَا؟» قَالَ حُمْرٌ، قَالَ: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ: «فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟» قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عِرْقٌ نَزَعَهَا، قَالَ: «وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ»، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الاِنْتِفَاءِ مِنْهُ.

}7315{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَحُجَّ أَفَأَحُجَّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَالَ: «اقْضُوا اللَّهَ الَّذِي لَهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ ».

 

هذه الترجمة في تشبيه أصل خفي عند السائل بأصل واضح عنده، فيقاس هذا على هذا؛ لتقريب الفهم.

}7314{ قوله: «إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلاَمًا أَسْوَدَ وَإِنِّي أَنْكَرْتُهُ» ، أي: وأنا أبيض، وهذا فيه تعريض بنفيه.

وفيه: دليل على أن التعريض بنفي الولد لا يعتبر نفيًا ولا رميًا؛ فلا يقام عليه الحد ولا يؤمر بالملاعنة.

قوله: «هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ؟» الأورق الأسود أو الذي فيه أُدمة تميل إلى السواد، فلما أجاب الرجل بنعم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَأَنَّى تُرَى ذَلِكَ جَاءَهَا؟» يعني: من أين جاءها الأسود وهي حمر؟ فقال الأعرابي: «يَا رَسُولَ اللَّهِ عِرْقٌ نَزَعَهَا» ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقٌ نَزَعَهُ» ، فالنبي صلى الله عليه وسلم شبه أصلاً معلومًا بأصل مجهول، فالأصل المعلوم عند الأعرابي هو أن الإبل الورق التي جاءت من الإبل الحمر نزعها عرق من جد قديم، وهو الذي أجاب بذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم قاس عليه ابنه فقال: وكذلك هذا نزعه عرق من جد قديم فصار لونه أسود.

قوله: «وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُ فِي الاِنْتِفَاءِ مِنْهُ» ؛ لأن اختلاف اللون لا يسوغ له أن ينفي ولده، فقد يكون اللون مخالفًا ورغم ذلك يحمل الشبه، وهذا مثلما طعن الناس في أسامة بن زيد وكان مخالفًا للون أبيه، فاضطجع أسامة وأبوه زيد وقد غطيا رؤوسها وجسميهما بقطيفة وبدت أرجلهما، فجاء مُجَزز المُدَلجي وكان من أهل القيافة، فلما دخل مجزز المدلجي قال: إن هذه الأرجل بعضها من بعض؛ فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم ودخل على عائشة تبرق أسارير وجهه فقال يخاطب عائشة رضي الله عنها: «ألم تري أن مجززًا المدلجي دخل علي آنفًا وقال: إن هذه الأرجل بعضها من بعض»[(502)] فسره ذلك لأنه ألحق أسامة بأبيه وإن كان اللون مختلفًا.

وفي الحديث: دليل على أن الولد للفراش ولو كان لون الولد أو شبهه يخالف لون الأب أو لون الوالدين ولو سبق من المرأة زنا ما لم ينفه الأب باللعان، ويدل على ذلك الحديث الآخر في قصة مجيء سعد بن أبي وقاص لما أخذ ولد زمعة وتساوقا هو وأخوه عبد بن زمعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال سعد: هذا ابن أخي عهد إلي به انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: أخي ولد على فراش أبي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر»[(503)] فالعاهر الزاني ليس له إلا الخيبة وإقامة الحد عليه ولا يعطى ولدًا.

 

}7315{ قوله: «أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَالَ: «اقْضُوا اللَّهَ الَّذِي لَهُ» وفي رواية: قال: «فاقضوا الله الذي له»[(504)] ، فشبه النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً خفيًّا عند السائلة وهي دين الله، بأصل ظاهر عند الناس وهو دين الآدمي ومعروف أنه يقضى، فكما أن دين الآدمي يقضى فكذلك دين الله يقضى، فإذا كان على الإنسان نذر أو زكاة أو كفارة فيجب أن يقضي ذلك.

وفي هذين الحديثين: إثبات القياس والرد على منكري القياس من المعتزلة ومنهم النظام، وكذلك الظاهرية كداود بن علي وابن حزم.

وجمهور العلماء يقولون بالقياس، والمراد القياس الصحيح؛ فالقياس قد يكون فاسدًا، وهو الذي يصادم النص، ولا يكون القياس صحيحًا إلا إذا لم يوجد نص من الكتاب أو السنة.

 مَا جَاءَ فِي اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ:

[المَائدة: 45]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}

وَمَدَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لاَ يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَلِهِ وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ.

}7316{ حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا».

}7317{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلاَصِ الْمَرْأَةِ هِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينًا فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: أَنَا. فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» فَقَالَ لاَ تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيئَنِي بِالْمَخْرَجِ فِيمَا قُلْتَ فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِي أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» تَابَعَهُ ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ الْمُغِيرَةِ.

 

قوله: «بَاب مَا جَاءَ فِي اجْتِهَادِ الْقُضَاةِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ» ، يعني: الاجتهاد في القضاء وفي لفظ: «اجتهاد القضاة» ، والمعنى الاجتهاد في الحكم بما أنزل الله، والاجتهاد هو بذل الجهد في التوصل إلى معرفة الحكم الشرعي.

قوله: «لقوله تعالى: [المَائدة: 45]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}» هذا فيه: وعيد شديد على من لم يحكم بما أنزل الله، وفي الآية الأخرى: [المَائدة: 47]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} فوجب على القضاة الاجتهاد وبذل الوسع في تعرف الحكم الشرعي حتى يحكموا بما أنزل الله حذرًا من الحكم بغير ما أنزل الله الذي توعد الله فاعله.

قوله: «وَمَدَحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صَاحِبَ الْحِكْمَةِ حِينَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لاَ يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَلِهِ وَمُشَاوَرَةِ الْخُلَفَاءِ وَسُؤَالِهِمْ أَهْلَ الْعِلْمِ» ، يشير إلى الحديث الذي بعده، والحكمة هي العلم النافع المأخوذ من الكتاب والسنة، فإذا خالف العلم تكلف وحكم بالرأي أو بالقياس أو بالهوى، قال الله تعالى: [ص: 26]{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *}.

فعلى العالم والقاضي أن يشاور، الخلفاء ويسأل أهل العلم، وكان عمر رضي الله عنه إذا نزلت به الحادثة والمسألة جمع أهل بدر يشاورهم، وكان له مجلس استشارة وكان القراء هم أصحاب مجلس عمر شبابًا كانوا أو كهولاً.

 

}7316{ وذكر حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ:» المراد بالحسد هنا الغبطة والفرق بين الحسد المذموم والغبطة أن الحسد المذموم هو أن يتمنى زوال النعمة عن أخيه ويبقى معدما منها وهذا الحسد المذموم هو الذي يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب كمن يتمنى أن يكون عالم جاهلا أو يتمنى أن يكون متصدق فقيرا معدما، أما الغبطة فهو أن تتمنى أن يكون لك مثله من غير أن تنتقل النعمة عنه مثل أن تكون عالمًا مثله أو قارئًا مثله أو متصدقًا مثله أو عادلاً أما إذا تمنيت زوالها عنه فهذا الحسد المذموم الذي يستعاذ منه، قال تعالى: [الفَلَق: 5]{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ *}.

الخصلة الأولى التي يكون فيها الحسد بمعنى الغبطة: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ» يعني: على إنفاقه في الحق مثل المشاريع الخيرية على الفقراء والمساكين وطلبة العلم والمساجد والجهاد في سبيل الله ونشر العلم إلى غير ذلك، وفي لفظ آخر: «آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» [(505)].

الخصلة الثانية: في قوله: «وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» ، وفي اللفظ الآخر: «رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار»[(506)] يعني: يعمل به آناء الليل وآناء النهار، والمعنى واحد، أي: آتاه الله القرآن علمًا وعملاً أو آتاه الله العلم النافع، والعمل بالسنة عمل بالقرآن؛ لأن في القرآن الأمر بالعمل بالسنة، والشاهد للترجمة قوله: «وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» ، فقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الحكمة الذي يقضي بها ويعلمها ولا يتكلف، والحكمة العلم النافع.

 

}7317{ قوله: «سَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنْ إِمْلاَصِ الْمَرْأَةِ» ، وفسره فقال: «هِيَ الَّتِي يُضْرَبُ بَطْنُهَا فَتُلْقِي جَنِينًا» ، أي: تضرب في بطنها فتلقي جنينها ميتًا، أي: سأل: ما حكم لو اعتدى شخص على امرأة وضرب بطنها وهي حامل فسقط الجنين. فسأل عمر: ما الواجب في مثل هذا؟ «فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعَ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِ شَيْئًا؟» يعني: يقضي في هذه المسألة، قال المغيرة بن شعبة: «فَقُلْتُ: أَنَا. فَقَالَ: مَا هُوَ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» . الغرة عشر دية أمه وهي خمس من الإبل؛ لأن دية المرأة خمسون من الإبل وهي نصف دية الرجل فدية الرجل مائة من الإبل، فقال عمر: «لاَ تَبْرَحْ حَتَّى تَجِيئَنِي بِالْمَخْرَجِ فِيمَا قُلْتَ» ، يعني: حتى تأتي بأحد يشهد معك بمثله وإلا أدبتك، وهذا الطلب من عمر من باب التثبت كما طلب من أبي موسى الأشعري من يشهد معه في الاستئذان، فقد جاءه أبو موسى واستأذن ثلاث مرات وانصرف وكان عمر مشغولاً فقال: ألم أسمع أبا موسى؟ قالوا: بلى قال: علي به؛ فجاء فقال: سمعت صوتك ما لك؟ قال: استأذنت ثلاثًا وقد سمعت أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا ولم يؤذن له فليرجع»[(507)] فقال عمر: لتأتيني بمن يشهد معك أو لأجعلنك مأدبة، فذهب مذعورا إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إن عمر طلب مني شاهدا في الاستئذان فجعلوا يضحكون فقال: أخوكم جاء يطلب منكم تضحكون منه فقالوا: والله لا يذهب معك إلا أبو سعيد فهذا أمر معلوم لكل أحد، وجاء أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وقال: لا تكن يا عمر عذابًا على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قال: إنما أردت أن أتثبت. فأراد عمر رضي الله عنه أن يتثبت حتى يسمع المتأخرون والمتابعون لئلا يتسرعوا ولكي يتثبتوا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أما إني لم أتهمك ولكني أردت ألا يتسرع الناس في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد غير الصحابة الذين جاءوا بعدهم فليس هذا اتهامًا للمغيرة ولا لأبي موسى رضي الله عنهما، فالصحابة كلهم عدول.

قال المغيرة: «فَخَرَجْتُ فَوَجَدْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ فَجِئْتُ بِهِ فَشَهِدَ مَعِي أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «فِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ» ، فالشاهد من الحديث أن عمر سأل عن هذه المسألة وطلب أن يكون فيها علم لا بالرأي فأخبر المغيرة أن فيها علمًا من النبي صلى الله عليه وسلم وأن فيها غرة عبد أو أمة، وهذا شاهد لقوله المؤلف: «َقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا لاَ يَتَكَلَّفُ مِنْ قِبَلِهِ» ، فهذا من العلم النافع.

قال ابن بطال: «لا يجوز للقاضي الحكم إلا بعد طلب حكم الحادثة من الكتاب والسنة، فإن عدمه رجع إلى الإجماع، فإن لم يجده نظر هل يصح الحمل على بعض الأحكام المقررة؟ فإن وجد ذلك لزمه القياس عليها إلا أن تعارضها علة أخرى» اهـ.

وعلى كل حال لا شك أن أول شيء يطلب هو الحكم من الكتاب والسنة فإن لم يجد فإنه يحكم بأقوال الصحابة وبأقوال التابعين أو يقيس إذا كان هناك أصل معلوم.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد