أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأ
}7352{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْمُقْرِئُ الْمَكِّيُّ، حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ».
قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِثْلَهُ.
قوله: «بَاب أَجْرِ الْحَاكِمِ إِذَا اجْتَهَدَ فَأَصَابَ أَوْ أَخْطَأ» فهذه الترجمة في اجتهاد الحاكم والقاضي، وأنه بين حالتين: إما أن يصيب، وإما أن يخطئ، وهو مأجور في كلتا الحالتين، لكنه إن أصاب فأجره مضاعف: أجر الاجتهاد وأجر الصواب، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد، وفاته أجر الصواب.
}7352{ هذا الحديث فيه: تسلية للقضاة وترغيب في القضاء لمن كان أهلاً له؛ وقد ورد في النصوص الأخرى الترهيب من القضاء، ففي الحديث: «القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار»[(553)] هذا القاضي الذي عرف الحق وقضى به، وهم صنفان:
الأول: قاض اجتهد فأصاب الحق؛ فله أجران.
الثاني: قاض اجتهد فأخطأ؛ فله أجر الاجتهاد، وفاته أجر الصواب.
قوله: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» فصل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث متى يكون للحاكم أجر واحد ومتى يكون له أجران.
وسبقت الترجمة قبل هذه بعنوان: «بَاب إِذَا اجْتَهَدَ الْعَامِلُ أَوْ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ خِلاَفَ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ فَحُكْمُهُ مَرْدُودٌ» ، فكأن المؤلف رحمه الله يشير بهذه الترجمة والحديث إلى أنه إذا اجتهد وأخطأ فهو مأجور إذا لم يرد حكمه، أما إذا رد حكمه فإنه لا يؤجر، ولا يرد حكمه إلا في إحدى حالتين:
الحالة الأولى: أن يخالف نصًّا من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الحالة الثانية: أن يخالف إجماع أهل العلم.
فإذا حكم الحاكم بحكم يخالف نصًّا من كتاب الله، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أو يخالف إجماع أهل العلم ـ فإنه ينقض ويبطل لمصادمته للنص؛ وعلى هذا فلا يؤجر؛ لأنه ظهر الخطأ، واتضح أنه لم يعتنِ، ولم يستكمل وسائل الاجتهاد، ولم يبحث المسألة حتى يعرف هل المسألة فيها نص أو إجماع، فيكون الجمع بين الترجمتين هو أن الحاكم إذا خالف النص فإن حكمه ينقض ولا عبرة باجتهاده ولا ثواب له، أما إذا لم يكن في المسألة نص ولا إجماع واجتهد فهو بين أمرين: إما أن يصيب فله أجران، وإما أن يخطئ فله أجر؛ ولهذا قال ابن المنذر رحمه الله كما نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالمًا بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالمًا فلا»، وهذا كلام صحيح؛ واستدل ابن المنذر على قوله بحديث: «القضاة ثلاثة» [(554)].
وفيه: «ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار»[(555)] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهو حديث أخرجه أصحاب «السنن» عن بريدة بألفاظ مختلفة».
وقال رحمه الله : «ويؤيد حديث الباب ما وقع في قصة سليمان في حكم داود عليه السلام في أصحاب الحرث».
أي: أن داود وسليمان _ث حكما في قضية واحدة في الحرث، فاجتهد داود عليه السلام ولم يصب، واجتهد سليمان فأصاب، وذلك أن داود عليه السلام لما أكلت الماشية زرع قوم حكم عليه السلام بأن يعطى أصحاب الحرث الغنم التي أكلت حرثهم، وأما سليمان عليه السلام فحكم فيها بأن يعطى أصحاب الحرث الغنم يشربون من لبنها ومن درها، ويعطى أصحاب الغنم الحرث ينمونه حتى يكون الزرع كما كان، فإذا كان الزرع كما كان رد الحرث إلى أهله ورد الغنم إلى أهلها، قال الله تعالى: [الأنبيَاء: 79]{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}، ولهذا قال الخطابي في «معالم السنن»: «إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعًا لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه» ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله.
وهذا كلام صحيح يدل على أن المجتهد إذا خالف اجتهاده نصًّا فلا يؤجر؛ لأنه متساهل، ولأنه ما اجتهد كما قال الخطابي.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «كذا قال، وكأنه يرى أن قوله: «فَلَهُ أَجْرٌ» مجاز عن وضع الإثم».
والصواب: أن له أجرًا على اجتهاده؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في التعليق على هذه الترجمة: «يشير إلى أنه لا يلزم من رد حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك بل إذا بذل وسعه أجر فإن أصاب ضوعف أجره لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ» ، في رواية الإمام أحمد: «فأصاب»[(556)] قال القرطبي: هكذا وقع في الحديث بدأ بالحكم قبل الاجتهاد، والأمر بالعكس، فإن الاجتهاد يتقدم الحكم؛ إذ لا يجوز الحكم قبل الاجتهاد اتفاقًا».
يعني: أن الحديث ظاهره فيه إشكال وهو أنه قدم الحكم على الاجتهاد، والأصل أن يقول: إذا اجتهد فحكم، فكيف الجواب عن ذلك؟
_خ الجواب: قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لكن التقدير في قوله: «إذا حكم» إذا أراد أن يحكم فعند ذلك يجتهد.
قال: ويؤيده أن أهل الأصول قالوا: يجب على المجتهد أن يجدد النظر عند وقوع النازلة، ولا يعتمد على ما تقدم له، لإمكان أن يظهر له خلاف غيره. انتهى، ويحتمل أن تكون الفاء تفسيرية لا تعقيبية، وقوله: «فأصاب»[(557)] أي: صادف ما في نفس الأمر من حكم الله تعالى.
قوله: «ثُمَّ أَخْطَأَ» أي: ظن أن الحق في جهة، فصادف أن الذي في نفس الأمر بخلاف ذلك، فالأول له أجران: أجر الاجتهاد وأجر الإصابة، والآخر له أجر الاجتهاد فقط، وقد تقدمت الإشارة إلى وقوع الخطأ في الاجتهاد في حديث أم سلمة: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض»[(558)] .
وهذا الحديث استدل به طوائف من أهل العلم:
الطائفة الأولى: يقولون: إن الحق واحد لا يتعدد، فإذا كان في مسألة واحدة واجتهد فيها اثنان فالحق مع واحد منهما.
الطائفة الثانية: يقولون: إن كل مجتهد مصيب، وعلى هذا فإن الحق يتعدد قالوا: والدليل على أن كل مجتهد مصيب أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل أجرًا للمخطئ، فدل على أنه مصيب، وهي مسألة أصولية.
والصواب: أنه ليس كل مجتهد مصيبًا بل المصيب واحد، والحديث واضح بأن المصيب واحد، فإنه قال: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ» ، فالثاني ليس مصيبًا، وإن كان مأجورًا، وهو معذور في خطئه، فهو دليل على أن الحق واحد لا يتعدد، ودليل على أن المصيب من المجتهدين واحد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال أبو بكر بن العربي: تعلق بهذا الحديث من قال: إن الحق في جهة واحدة للتصريح بتخطئة واحد لا بعينه، قال: وهي نازلة في الخلاف عظيمة. وقال المازري: تمسك به كل من الطائفتين، من قال: إن الحق في طرفين، ومن قال: إن كل مجتهد مصيب، أما الأولى فلأنه لو كان كل مصيبًا لم يطلق على أحدهما الخطأ؛ لاستحالة النقيضين في حالة واحدة، وأما المصوبة فاحتجوا بأنه صلى الله عليه وسلم جعل له أجرًا، فلو كان لم يصب لم يؤجر، وأجابوا عن إطلاق الخطأ في الخبر على من ذهل عن النص أو اجتهد فيما لا يسوغ الاجتهاد فيه من القطعيات فيما خالف الإجماع، فإن مثل هذا إن اتفق له الخطأ فيه نسخ حكمه وفتواه ولو اجتهد بالإجماع وهو الذي يصح عليه إطلاق الخطأ، وأما من اجتهد في قضية ليس فيها نص ولا إجماع فلا يطلق عليه الخطأ».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال القرطبي في «المفهم»: الحكم المذكور ينبغي أن يختص بالحاكم بين الخصمين؛ لأن هناك حقًّا معينًا في نفس الأمر يتنازعه الخصمان، فإذا قضي به لأحدهما بطل حق الآخر قطعًا، وأحدهما فيه مبطل لا محالة، والحاكم لا يطلع على ذلك فهذه الصورة لا يختلف فيها أن المصيب واحد لكون الحق في طرف واحد».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال ابن العربي: عندي في هذا الحديث فائدة زائدة حاموا عليها فلم يسقوا، وهي أن الأجر على العمل القاصر على العامل واحد، والأجر على العمل المتعدي يضاعف».
أي: فصَّل ابن العربي بين العمل القاصر نفعه على الشخص وبين العمل المتعدي، فيرى أن الأجر على العمل القاصر واحد، وأما العمل المتعدي فإنه يضاعف.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فإنه يؤجر في نفسه وينجر له كل ما يتعلق بغيره من جنسه».
وعلى كل حال فالحديث واضح، وهذه الترجمة مع الترجمة السابقة مع الحديث تدل على أن الحاكم إذا اجتهد في مسألة ليس فيها نص ولا إجماع فهو مأجور بأجرين إن أصاب، ومأجور بأجر واحد إن أخطأ وأن الحاكم إذا اجتهد في مسألة فيها نص أو إجماع وخالف النص أو الإجماع فإنه لا يؤجر؛ لأنه لم يعتنِ بوسائل الاجتهاد؛ لأنه لا اجتهاد في مسألة فيها نص أو إجماع.
ويدل الحديث على أن الحق واحد لا يتعدد، ودل الحديث أيضًا على أن المصيب من المجتهدين واحد وليس متعددًا، فهذا هو الصواب في هذه المسألة.
قوله: «قَالَ فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «القائل «فَحَدَّثْتُ» هو يزيد بن عبدالله بن الهاد أحد رواته، وأبو بكر بن عمرو نسب في هذه الرواية لجده، وهو أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وثبت ذكره في رواية مسلم من رواية الداودي عن يزيد، ونسبه فقال: يزيد بن عبدالله بن أسامة بن الهاد.
قوله: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ» يريد بمثل حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
قوله: «وَقَالَ: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطَّلِبِ» ، أي: ابن عبدالله بن حنطب المخزومي، قاضي المدينة، وكنيته أبو طالب، وهو من أقران مالك ومات قبله، وليس له في البخاري سوى هذا الموضع الواحد المعلق، و «عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ» هو وابن الراوي المذكور في السند الذي قبله أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وكان قاضي المدينة أيضًا.
قوله: «عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» يريد أن عبدالله بن أبي بكر خالف أباه في روايته عن أبي سلمة، وأرسل الحديث الذي وصله، وقد وجدت ليزيد بن الهاد فيه متابعًا، أخرجه عبد الرزاق وأبو عوانة من طريقه، عن معمر، عن يحيى بن سعيد هو الأنصاري، عن أبي بكر بن محمد، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، فذكر الحديث مثله بغير قصة. وفيه: «فله أجران اثنان»[(559)] » اهـ.
الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ أَحْكَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ ظَاهِرَةً
وَمَا كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمُورِ الإِْسْلاَمِ
}7353{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي عَطَاءٌ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو مُوسَى عَلَى عُمَرَ فَكَأَنَّهُ وَجَدَهُ مَشْغُولاً فَرَجَعَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟ ائْذَنُوا لَهُ فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا. قَالَ: فَأْتِنِي عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ لَأَفْعَلَنَّ، بِكَ فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ الأَْنْصَارِ فَقَالُوا: لاَ يَشْهَدُ إِلاَّ أَصَاغِرُنَا، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ: قَدْ كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَْسْوَاقِ.
}7354{ حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ الأَْعْرَجِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ، إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي، وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأَْسْوَاقِ، وَكَانَتْ الأَْنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَقَالَ: «مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي» فَبَسَطْتُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ.
قوله: «بَاب الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ قَالَ إِنَّ أَحْكَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ ظَاهِرَةً» ، فهذه الترجمة معقودة للحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة للناس ولا تخفى إلا على النادر، «وَمَا كَانَ يَغِيبُ بَعْضُهُمْ مِنْ مَشَاهِدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأُمُورِ الإِْسْلاَمِ» ، ولفظ: «مَشَاهِدِ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «كذا للأكثر، وفي رواية النسفي وعليها «شرح ابن بطال»: «مشاهده» ، ولبعضهم: «مشهد» بالإفراد، ووقع في «مستخرج أبي نعيم»: «وما كان يفيد بعضهم بعضًا» بالفاء والدال من الإفادة، ولم أره لغيره».
والمعنى واحد، فمشهد النبي صلى الله عليه وسلم مفرد، فإذا أضيف يعم، فيكون المراد: المشاهد.
لكن الذي يحتاج إلى تأمل ما في قوله: «وَمَا كَانَ يَغِيبُ» هل «ما» هنا نافية أو موصولة؟
_خ الجواب: من قال: إنها موصولة، يكون المعنى: باب الحجة على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة للناس، والذي يغيب بعضهم عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم وأمور الإسلام. فيكون المؤلف رحمه الله يقرر في هذه الترجمة أن القول بأن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم كانت ظاهرة لكل أحد ـ يرد عليه بأن الصحابة كانوا يغيبون عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ويخفى عليهم شيء من أمور النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن قال: إنها نافية فيكون المعنى: أحكام النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة للناس، وليس هناك أحد يغيب عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم. لكن ظاهر السياق يأباها، والترجمة معقودة لبيان أن كثيرًا من الصحابة -بل الأكابر منهم- كان يغيب عن بعض دروس النبي صلى الله عليه وسلم ومشاهده وما كان يقوله ويفعله من الأعمال التكليفية.
فالترجمة معقودة للرد على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة للناس، وأنه لا يخفى على الصحابة شيء من ذلك. وذلك لأن الصحابة لهم أعمال ينشغلون بها، فالمهاجرون يشتغلون بالتجارة في الأسواق؛ فيغيبون عن مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم، والأنصار يعملون في مزارعهم وحروثهم فيفوتهم شيء من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد يستمر أحدهم على القول الأول أو على الحكم الأول وينسخ ولا يعلم بالناسخ، وهذا واضح من الأحاديث التي ساقها المؤلف رحمه الله، ويدل على ذلك أن عمر رضي الله عنه كان له زميل من الأنصار يتناوبان النزول على النبي صلى الله عليه وسلم فينزل عمر يومًا ويسمع ما كان يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام، ثم يخبر زميله الأنصاري، وفي اليوم الثاني ينزل الأنصاري فيسمع العلم والأحكام فيبلغ عمر، وقد يغيبون.
}7353{ قوله: «اسْتَأْذَنَ أَبُو مُوسَى عَلَى عُمَرَ» ، أي: في خلافة عمر رضي الله عنه.
قوله: «فَكَأَنَّهُ وَجَدَهُ مَشْغُولاً» أي: استئذن أبو موسى رضي الله عنه فقال: السلام عليكم، هذا أبو موسى، ثم سلم مرة ثانية: السلام عليكم، هذا عبدالله بن قيس، فلم يرد عليه، ثم سلم الثالثة: السلام عليكم، هذا الأشعري، فما رد عليه ثم انصرف.
قوله: «فَقَالَ عُمَرُ: أَلَمْ أَسْمَعْ صَوْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ؟» ، هو اسم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، فلمَّا انتهى عمر رضي الله عنه من شغله سأل من عنده هذا السؤال.
قوله: «ائْذَنُوا لَهُ فَدُعِيَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟» يعني: لماذا انصرفت؟!
قوله: «فَقَالَ: إِنَّا كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا» . في «صحيح مسلم» أن أبا موسى قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له فليرجع»[(560)] .
قوله: «فَأْتِنِي عَلَى هَذَا بِبَيِّنَةٍ أَوْ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ» ، يعني: هات الدليل، وفي «صحيح مسلم» أنه قال: «أقم عليه البينة وإلا أوجعتك» [(561)].
قوله: «فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنْ الأَْنْصَارِ» ، في اللفظ الآخر: «فأتانا مذعورًا خائفًا من عمر»[(562)] ؛ لأنه توعده أن يؤدبه.
قوله: «فَقَالُوا: لاَ يَشْهَدُ إِلاَّ أَصَاغِرُنَا» ، يعني: هذه المسألة معروفة حتى عند الصغار من الصحابة.
قوله: «فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَقَالَ: قَدْ كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا. فَقَالَ عُمَرُ: خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلْهَانِي الصَّفْقُ بِالأَْسْوَاقِ» ، هذا هو الشاهد للترجمة، والصفق بالأسواق يعني: البيع والشراء والتجارة؛ للنفقة على الأهل والأولاد، فخفي على عمر رضي الله عنه مع جلالة قدره شيء من أمور الإسلام، وعمر رضي الله عنه لم يتهم أبا موسى رضي الله عنه لكنه أراد التثبت والاحتياط حتى لا يتجرأ بعض التابعين على حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فخبر الواحد حجة يقبل كما سبق في الكتاب الذي قبل هذا، وفي صحيح مسلم: أن أُبيًّا رضي الله عنه جاء إلى عمر رضي الله عنه، وقال: «يا ابن الخطاب فلا تكونن عذابًا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئًا فأحببت أن أتثبت»[(563)] .
فالحديث فيه: الرد على من قال: إن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرة لكل أحد.
وفيه: أن هناك من يخفى عليه من الكبار من أمور الإسلام.
}7354{ قوله: «إِنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» كأن أناسًا في زمن التابعين صاروا يتكلمون في أبي هريرة رضي الله عنه، ويقولون: أبو هريرة يكثر الحديث. وهو راوية الإسلام يحفظ آلاف الأحاديث، مع أنه لم يسلم إلا في السنة السابعة من الهجرة، لكنه كان ملازمًا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأبو هريرة رضي الله عنه يرد على هؤلاء، ومن على شاكلتهم.
قوله: «وَاللَّهُ الْمَوْعِدُ» ، يعني: يتوعدهم ويخوفهم بأن الله سيفصل بيني وبينكم.
قوله: «إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مِسْكِينًا أَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى مِلْءِ بَطْنِي» ، فهذا هو السبب في كونه يكثر الحديث، «وَكَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأَْسْوَاقِ» ، يعني: التجارة والبيع والشراء حتى ينفقوا على أولادهم وأهليهم.
قوله: «وَكَانَتْ الأَْنْصَارُ يَشْغَلُهُمْ الْقِيَامُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ» ، يعني: على مزارعهم فكانوا أصحاب حرث.
قوله: «فَشَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَقَالَ: «مَنْ يَبْسُطْ رِدَاءَهُ حَتَّى أَقْضِيَ مَقَالَتِي ثُمَّ يَقْبِضْهُ فَلَنْ يَنْسَى شَيْئًا سَمِعَهُ مِنِّي» فَبَسَطْتُ بُرْدَةً كَانَتْ عَلَيَّ فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ» . هذا الحديث ظاهر الدلالة على الترجمة، ففيه: أن هناك من يخفى عليه شيء من أمور الإسلام، فالذي يفوته شيء من مشاهد النبي صلى الله عليه وسلم أحيانًا يبقى على الحكم الأول، وقد ينسخ الحكم، أو يبقى على البراءة الأصلية، فإذا بلغه الناسخ أو بلغه حكم بخلاف البراءة الأصلية فإنه يعمل به.
$ر مسألة: هل يقدم قول الصحابي أو عمل الصحابي إذا لم يجد الإنسان في المسألة نصًّا من كتاب الله ولا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يخالفه صحابي آخر؟
_خ الجواب: نعم، هو المقدم، ومن أصول الإمام أحمد العمل بقول الصحابي إذا لم يخالفه صحابي آخر في المسألة التي ليس فيها نص من كتاب أو سنة، أما إذا خالفه قول صحابي آخر فلا[(564)]؛ ولهذا قال ابن بطال: «أراد الرد على الرافضة والخوارج الذين يزعمون أن أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وسننه منقولة عنه نقل تواتر، وأنه لا يجوز العمل بما لم ينقل متواترًا»، أفاده الحافظ ابن حجر رحمه الله ثم قال: «قال: وقولهم مردود بما صح أن الصحابة كان يأخذ بعضهم عن بعض» اهـ.
فقول الرافضة والخوارج باطل، وسبق أن المؤلف رحمه الله ذكر في «كتاب أخبار الآحاد» الأدلة على أن خبر الواحد مقبول، وخبر الواحد: هو الذي يرويه الواحد، أو الاثنان، أو الثلاثة، أو الأربعة، ولم يبلغ حد التواتر، والمتواتر الذي ينقله جمعٌ كثير يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب من أول الإسناد إلى منتهاه، ويكون مستنده إلى الحس، وخبر الواحد إذا صح بشروطه فهو حجة.
وهذه النصوص كلها فيها الرد على الخوارج وعلى الرافضة، فالصحابة يأخذ بعضهم عن بعض، كما في هذا الحديث فقد أخذ عمر بقول أبي موسى رضي الله عنهما، والصحابة يأخذون عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد عقد البيهقي في «المدخل» باب: الدليل على أنه قد يعزب على المتقدم الصحبة الواسع العلم الذي يعلمه غيره».
وهذه الترجمة جميلة، فعمر متقدم الصحبة، واسع العلم، ومع ذلك عزب عنه مسألة الاستئذان، وحفظها أصاغر الصحابة كأبي موسى الأشعري وأبي سعيد الخدري ي جميعًا، ثم ذكر البيهقي ـ فيما نقله الحافظ ابن حجر رحمه الله ـ حديث أبي بكر في الجدة أنها جاءته تسأله ميراثها، فقال أبو بكر رضي الله عنه للجدة: لا أعلم لك شيئًا في كتاب الله، ولا أعلم لك شيئًا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأسأل الناس. ثم سأل الناس، فأخبروه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس[(565)]، فهذا الصديق الأكبر خفي عليه ميراث الجدة، ومثل ذلك من القضايا كثير.
وفيه: بيان الحجة وواضح الدلالة على تثبيت خبر الواحد، وأن بعض السنن كانت تخفى على بعض الصحابة، وأن الشاهد منهم كان يبلغ الغائب ما شهد، وأن الغائب كان يقبله ممن حدثه ويعتمده ويعمل به، وأخبار الآحاد كثيرة كما ساق الحافظ ابن حجر رحمه الله كثيرًا منها، وقال: «حديث عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه في أخذ الجزية من المجوس، وحديثه في الطاعون، وحديث عمرو بن حزم في التسوية بين الأصابع في الدية، وحديث الضحاك بن سفيان في توريث المرأة من دية زوجها، وحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في المسح على الخفين» فكل هذه أخبار آحاد.
وفي الحديث أن أبا هريرة رضي الله عنه استفاد من جهتين:
أولاً: من جهة ملازمته النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: من جهة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم التي جعلته لا ينسى.
وفيه: علم من أعلام النبوة أيضًا.
وفيه: فضل أبي هريرة رضي الله عنه، وعنايته بالحديث، فما كان يكتب لكن كان يدرس الحديث في أول الليل؛ ولهذا أوصاه النبي صلى الله عليه وسلم أن يوتر قبل أن ينام[(566)].
وفيه: دليل على أنه لابد من فعل الأسباب.
مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
حُجَّةً لاَ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ
}7355{ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ، حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ، قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
قوله: «بَاب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةً لاَ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ» فهذه الترجمة معقودة لبيان أن ما فعل في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره فهو حجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقر على منكر، وأن هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم، وأما غير الرسول صلى الله عليه وسلم فليس بمعصوم، يعني: إذا فُعِل منكرٌ عند أحد العلماء وسكت فلا يدل على أنه ليس بمنكر، وأنه حجة؛ لأنه قد يكون مثلاً ما تبينت له هذه المسألة فلم ينكر وسكت، أو أنه أراد أن يؤخر الإنكار في وقت آخر أو أنه يخشى أن يترتب على الإنكار مفسدة أكبر، فسكوت العالم غير النبي صلى الله عليه وسلم على المنكر الذي يفعل أمامه ليس بحجة، وأما سكوت النبي صلى الله عليه وسلم فهو حجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم، ولا يمكن أن يسكت على الباطل ولا أن يقر على باطل.
}7355{ قوله: «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّ ابْنَ الصَّائِدِ الدَّجَّالُ، قُلْتُ: تَحْلِفُ بِاللَّهِ؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ عُمَرَ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» فاستدل جابر رضي الله عنه بعدم إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على عمر رضي الله عنه لما حلف على أن ابن صياد هو الدجال، فكان جابر رضي الله عنه يحلف على ما حلف عليه عمر، وحجته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على عمر رضي الله عنه، ولهذا قال المؤلف: «بَاب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةً لاَ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ» . والنكير على وزن عظيم، ومعناه: المبالغة في الإنكار.
وأخذ العلماء من هذا أن تقرير النبي صلى الله عليه وسلم لما يُفعل بحضرته، أو يُقال، أو يَطَّلِع عليه ولا ينكر يدل على الجواز فإذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم شخصًا يعمل شيئًا ولم ينكر عليه أو قال شيئًا وسكت النبي صلى الله عليه وسلم أو اطلع النبي صلى الله عليه وسلم على فعل فُعِل أو قول قيل ولم ينكر ـ دل ذلك على الجواز؛ لأن العصمة تنفي عنه ما يحتمل في حق غيره مما يترتب على الإنكار، فلا يقره على باطل. وأما غير الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون حجة؛ لأنه قد يترتب على إنكاره فتنة فيسكت، وقد يخشى من سلطان أو ظالم ضررًا محققًا فيكون معذورًا في ترك الإنكار.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأشار ابن التين إلى أن الترجمة تتعلق بالإجماع السكوتي وأن الناس اختلفوا فقالت طائفة: لا ينسب لساكت قول؛ لأنه في مهلة النظر، وقالت طائفة: إن قال المجتهد قولاً وانتشر ولم يخالفه غيره بعد الاطلاع عليه فهو حجة، وقيل: لا يكون حجة حتى يتعدد القيل به. ومحل هذا الخلاف أن لا يخالف ذلك القول نص كتاب أو سنة، فإن خالفه فالجمهور على تقديم النص.
واحتج من منع مطلقًا أن الصحابة اختلفوا في كثير من المسائل الاجتهادية فمنهم من كان ينكر على غيره إذا كان القول عنده ضعيفًا وكان عنده ما هو أقوى منه من نص كتاب أو سنة، ومنهم من كان يسكت فلا يكون سكوته دليلاً على الجواز؛ لتجويز أن يكون لم يتضح له الحكم فسكت لتجويز أن يكون ذلك القول صوابًا وإن لم يظهر له وجهه» اهـ.
والمؤلف رحمه الله استدل بهذا الحديث على أحد القولين في المسألة:
القول الأول: أن ترك الإنكار من النبي صلى الله عليه وسلم على ما يقال أو يفعل بحضرته أو يطلع عليه حجة.
القول الثاني: أنه لا يكون حجة حتى من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أحيانًا يسكت حتى ينزل عليه الوحي، وهذا جاء في قضايا منها صاحب الجبة الذي أحرم وتضمخ بالطيب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما ترى في رجل عليه جبة وتضمخ بالطيب وهو محرم، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل عليه الوحي فقال: «أين السائل؟» فجاء فقال: «انزع عنك الجبة واغسل عنك الطيب واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك»[(567)] .
فهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، ولهذا لم يجزم المؤلف رحمه الله في الترجمة بالحكم فقال: «بَاب مَنْ رَأَى تَرْكَ النَّكِيرِ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حُجَّةً لاَ مِنْ غَيْرِ الرَّسُولِ» ، فهذا دليله، ومن لم يرَ ذلك له أدلة أخرى كحديث صاحب الجبة الذي تضمخ بالطيب.
وأما مسألة ابن صياد والدجال فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين سكت على عمر رضي الله عنه فلعل هذا قبل أن يبين للنبي صلى الله عليه وسلم ويوحى إليه بأن الدجال يخرج في آخر الزمان وأن عيسى عليه السلام يقتله، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين له في أول الأمر وكان يظن أن ابن صياد هو الدجال ولهذا كان يختله حتى يسمع كلامه، فأتاه مرة مع بعض أصحابه يريد أن يسمعه عند جذوع النخل وابن صياد له رمرمة وزمزمة وعليه قطيفة فقالت له أمه لما أقبل: يا صاف ـ وهو اسم ابن صياد ـ هذا محمد فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو تركته بين»[(568)] ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر: «فإن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم»[(569)] ؛ ثم بين الله له بعد ذلك أن الدجال يكون في آخر الزمان.
واختلف لماذا لم يقتله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم عاهد اليهود وهو منهم. وقيل: لأنه صبي من صبيان اليهود لم يبلغ الحلم.
والدجال الأكبر مربوط في جزيرة من الجزر كما في حديث فاطمة بنت قيس الذي رواه الإمام مسلم[(570)]، وقد ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أن البخاري يرجح حديث ابن صياد على حديث فاطمة ويسوقه مساق الترجيح.
وأما حلف جابر وعمر رضي الله عنهما فلا لوم عليهما.
وفيه: دليل على أن الإنسان إذا حلف على شيء يعتقده فلا يحنث مثل: أن ترى شخصًا من بعد فتقول: والله إن هذا زيد على حسب رؤيتك فلما قرب لم يكن زيدًا فاشتبه عليك فلا يضرك هذا؛ لأنك حلفت على ما تعتقده فعمر حلف على ما يعتقده، والنبي صلى الله عليه وسلم سكت وكذلك جابر حلف أيضًا.
والدجال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان أعور العين اليمنى ويدّعي الصلاح أولاً، ثم يدعي النبوة ثم يدعي الربوبية.
وجاء في «صحيح مسلم»: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «خرجنا حجاجًا أو عمارًا ومعنا ابن صائد قال: فنزلنا منزلاً فتفرق الناس وبقيت أنا وهو؛ فاستوحشت منه وحشة شديدة مما يقال عليه، قال: وجاء بمتاعه فوضعه مع متاعي فقلت: إن الحر شديد فلو وضعته تحت تلك الشجرة، قال: ففعل، قال: فرفعت لنا غنم فانطلق فجاء بعس فقال: اشرب أبا سعيد فقلت: إن الحر شديد واللبن حار، ما بي إلا أني أكره أن أشرب عن يده، أو قال: آخذ عن يده، فقال: أبا سعيد لقد هممت أن آخذ حبلاً فأعلقه بشجرة، ثم أختنق مما يقول لي الناس! يا أبا سعيد من خفي عليه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خفي عليكم معشر الأنصار! ألست من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو كافر» وأنا مسلم، أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو عقيم لا يولد له» وقد تركت ولدي بالمدينة، أوليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل المدينة ولا مكة» وقد أقبلت من المدينة وأنا أريد مكة، قال أبو سعيد الخدري: حتى كدت أن أعذره، ثم قال: أما والله إني لأعرفه، وأعرف مولده، وأين هو الآن؟ قال: قلت له: تبًّا لك سائر اليوم»، وجاء فيه أيضًا: «وقيل له: أيسرك أنك ذاك الرجل؟ فقال: لو عرض علي ما كرهت»[(571)] وهذا يدل على أنه ما زال باقيًا على عدم إسلامه.
الأَْحْكَامِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلاَئِلِ، وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلاَلَةِ وَتَفْسِيرُهَا
وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ سُئِلَ عَنْ الْحُمُرِ فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: [الزّلزَلة: 7]{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *}.
وَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ: «لاَ آكُلُهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ».
وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الضَّبُّ فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ.
}7356{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ. وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ» وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحُمُرِ قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الآْيَةَ الْفَاذَّةَ الْجَامِعَةَ [الزّلزَلة: 7-8]{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *}.
}7357{ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ، عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، ح.
وحَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ عُقْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ النُّمَيْرِيُّ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَتْنِي أُمِّي عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحَيْضِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْهُ؟ قَالَ: «تَأْخُذِينَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِينَ بِهَا» قَالَتْ: كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَوَضَّئِي» قَالَتْ: كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَوَضَّئِينَ بِهَا» قَالَتْ: عَائِشَةُ فَعَرَفْتُ الَّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَذَبْتُهَا إِلَيَّ فَعَلَّمْتُهَا.
}7358{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا، فَدَعَا بِهِنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ، فَتَرَكَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُنَّ، وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَلاَ أَمَرَ بِأَكْلِهِنّ.
}7359{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» وَإِنَّهُ أُتِيَ بِبَدْرٍ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ، فَقَالَ: «قَرِّبُوهَا» فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ: «كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي».
وَقَالَ ابْنُ عُفَيْرٍ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ، بِقِدْرٍ فِيهِ خَضِرَاتٌ.
وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّيْثُ وَأَبُو صَفْوَانَ عَنْ يُونُسَ قِصَّةَ الْقِدْرِ فَلاَ أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ أَوْ فِي الْحَدِيثِ.