}7360{ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي وَعَمِّي، قَالاَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ، أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّ أَبَاهُ جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ: أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ فَأَمَرَهَا بِأَمْرٍ، فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ أَجِدْكَ؟ قَالَ: «إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ».
زَادَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ.
قوله: «بَاب الأَْحْكَامِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلاَئِلِ» ، وفي رواية الكشميهني: «بالدليل» ، يعني: الأحكام التي تعرف بالدليل، والدليل هو ما يرشد إلى المطلوب ويلزم من العلم به العلم بوجود المدلول، وأصل الدليل في اللغة يطلق على كل من أرشد قاصدًا مكانًا ما إلى الطريق الموصل إليه، فإذا سألك إنسان أين المكان الفلاني؟ ثم أرشدته تكون دليلاً، هذا في اللغة، فالمؤلف رحمه الله عقد هذه الترجمة للأحكام الشرعية التي تعرف بالدلائل التي تدل عليها.
قوله: «وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلاَلَةِ» يجوز في الدلالة فتح الدال ويجوز كسرها وحكى بعضهم الضم ولكنه ضعيف والفتح أشهرها، والمراد بالدلالة الإرشاد إلى أن حكم الشيء الخاص الذي لم يرد فيه نص خاص داخل تحت حكم دليل آخر بطريق العموم كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله.
قوله: «وَتَفْسِيرُهَا» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأما «وَتَفْسِيرُهَا» فالمراد به تبيينها وهو تعليم المأمور كيفية ما أمر به» كما علم النبي صلى الله عليه وسلم المرأة التي جاءت تسأله عن تتبع أثر الدم فقال: «خذي فرصة ممسكة» [(572)].
ثم قال الحافظ رحمه الله: «ويستفاد من الترجمة بيان الرأي المحمود وهو ما يؤخذ مما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أقواله وأفعاله بطريق التنصيص وبطريق الإشارة فيندرج في ذلك الاستنباط ويخرج الجمود على الظاهر المحض» اهـ.
قوله: «وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمْرَ الْخَيْلِ وَغَيْرِهَا، ثُمَّ سُئِلَ عَنْ الْحُمُرِ فَدَلَّهُمْ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: [الزّلزَلة: 7-8]{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *}، أي: من يعمل خيرًا كمن استعمل الحمار في ركوبه في دعوة إلى الله وفي نقل حوائج المسلمين وإعانتهم وإركاب من يحتاج إلى إركاب صار خيرًا، وإن استعمله في شر صار شرًّا.
قوله: «وَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ: «لاَ آكُلُهُ وَلاَ أُحَرِّمُهُ»» يعني: بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأكله؛ لأنه يعافه، ولا يحرمه؛ لأنه مما أحله الله.
قوله: «وَأُكِلَ عَلَى مَائِدَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الضَّبُّ فَاسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَرَامٍ» ، فهذه كيفية الدلالة وهي أن ابن عباس رضي الله عنهما استدل بأكل الضب على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ليس بحرام.
وهذا من فقه البخاري، وهو مما فاق به مسلمًا رحمه الله؛ لأن الإمام مسلمًا ليس له تراجم بل له كتب فقط، فيقول: كتاب الإيمان، كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب كذا، وأما الأبواب فللنووي، أو لغيره، فالبخاري رحمه الله فاق مسلما رحمه الله في أمرين:
الأمر الأول: الأحاديث المسندة فإنها أصح من مسلم؛ لأن مسلمًا يكتفي بالمعاصرة والبخاري يشترط اللقاء.
الأمر الثاني: التراجم العظيمة، فهذا الجامع مشتمل على العقيدة، والحديث والتفسير والفقه واللغة.
}7356{ قسم النبي صلى الله عليه وسلم الناس الذين يستعملون الخيل إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: تكون له أجرًا.
القسم الثاني: تكون له سترًا.
القسم الثالث: تكون عليه وزرًا.
ثم فصَّل النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يسمى بالسبر والتقسيم، فسبر النبي صلى الله عليه وسلم الأقسام التي يحصرها العقل ثم قسم بينها واحدة واحدة فقال: «فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ، أي: ربطها بهذا القصد وبهذه النية لإعلاء كلمة الله فهذا له أجر، وجميع ما تتصرف به الخيل يكتب له حسنات، فإذا شربت من ماء كان له حسنات، وإذا أكلت من شيء كان له حسنات، قال: «فَأَطَالَ لَهَا فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ، فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنْ الْمَرْجِ أَوْ الرَّوْضَةِ كَانَ لَهُ حَسَنَاتٍ» يعني: إذا ربطها بحبل وصارت تمشي في هذا المرج وهذه الروضة فأرواثها حسنات، وأبوالها حسنات وما أكلت حسنات، وإذا انقطع الحبل وصارت تجول في ذلك المرج والروضة كان له حسنات ولهذا قال: «وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا» ، يعني: الحبل، «فَاسْتَنَّتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ كَانَتْ آثَارُهَا وَأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ، وَهِيَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَجْرٌ» ، فجميع تصرفاتها حسنات بهذه النية إذا ربطها في سبيل الله.
قوله: «وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللَّهِ فِي رِقَابِهَا وَلاَ ظُهُورِهَا، فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ» أي: من ربطها لأجل أن يستغني بها ويكف بها وجهه عن الناس ولم ينس حق الله في رقابها ولا في ظهورها أيضًا، ويستعملها كذلك في طاعة الله فهذه له ستر وليس عليه إثم؛ لأنه يريد أن يستر نفسه ويتعفف عن الناس.
قوله: «وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً فَهِيَ عَلَى ذَلِكَ وِزْرٌ» ، فهذا ربطها لأجل الفخر والخيلاء ومراعاة الناس والمباهاة فهذا عليه وزر ـ والعياذ بالله ـ وفي اللفظ الآخر: «ربطها فخرًا ورياء ونواءً لأهل الإسلام»[(573)] يعني: معاداة لأهل الإسلام فهذا عليه وزر.
قوله: «وَسُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحُمُرِ قَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ فِيهَا إِلاَّ هَذِهِ الآْيَةَ الْفَاذَّةَ» يعني: الفردة التي لا نظير لها، «الْجَامِعَةَ» ، يعني: لجميع خصال الخير وجميع خصال الشر، فالآية الأولى: [الزّلزَلة: 7]{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *} جامعة لخصال الخير، والآية الثانية: [الزّلزَلة: 8]{وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ *} جامعة لجميع خصال الشر؛ لأن {فَمَنْ} من صيغ العموم و{خَيْرًا} نكرة في سياق الشرط فتعم كل خير وكذلك {شَرًّا} في الآية الثانية تعم كل شر، وهذا هو الشاهد للترجمة، وهو استدلال النبي صلى الله عليه وسلم؛ حيث دلهم على الحكم الشرعي بعموم هذه الآية، وأن عموم هذه الآية يدخل فيها الحمر وغيرها؛ فأدخل النبي صلى الله عليه وسلم حكم هذه المسألة الخاصة في هذا الدليل العام، وهذا معنى قوله في الترجمة: «بَاب الأَْحْكَامِ الَّتِي تُعْرَفُ بِالدَّلاَئِلِ» .
}7357{ قوله: «عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْحَيْضِ كَيْفَ تَغْتَسِلُ مِنْهُ؟» فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «تَأْخُذِينَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِينَ بِهَا» فلم تفهم هذه المرأة وقالت: «كَيْفَ أَتَوَضَّأُ بِهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تَوَضَّئِي»» ، وفي اللفظ الآخر أنه قال: «سبحان الله تطهرين بها»[(574)] . «قالت عائشة: فعرفت الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجذبتها إلي فعلمتها» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: لم تفهم السائلة غرض النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها لم تكن تعرف أن تتبع الدم بالفرصة يسمى توضؤًا إذا اقترن بذكر الدم والأذى».
فالنبي صلى الله عليه وسلم سمى تتبع الدم بالفرصة توضؤًا ويكون بأن تأخذ قطعة من قطن مثلاً وتتبع أثر الدم بها حتى تزيله.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وإنما قيل له ذلك؛ لكونه مما يستحيا من ذكره، ففهمت عائشة غرضه فبينت للمرأة ما خفي عليها من ذلك، وحاصله أن المجمل يوقف على بيانه من القرائن وتختلف الأفهام في إدراكه، وقد عرف أئمة الأصول المجمل بما لم تتضح دلالته، ويقع في اللفظ المفرد: كالقرء لاحتماله الطهر والحيض، وفي المركب مثل: [البَقَرَة: 237]{أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لاحتماله الزوج والولي».
فالحاصل أن النبي صلى الله عليه وسلم بين الدلالة وفسرها لها بقوله: «تَأْخُذِينَ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَوَضَّئِينَ بِهَا» يعني: تتبعي بها أثر الدم، ولما لم تفهم المراد أخذتها عائشة رضي الله عنها وبينت لها كيف تتبع أثر الدم بهذه القطعة، فهذا داخل في قول المؤلف في الترجمة: «وَكَيْفَ مَعْنَى الدِّلاَلَةِ وَتَفْسِيرُهَا» فكيفية الدلالة هي الحكم الشرعي وهي هنا أنها تغتسل من الحيض وتتبع أثر الدم.
}7358{ قوله: «عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أُمَّ حُفَيْدٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ حَزْنٍ» هي أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهي أخت لبابة أم عبدالله بن عباس رضي الله عنهم، «أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَمْنًا وَأَقِطًا وَأَضُبًّا» ، وفي لفظ «وأضبًا»[(575)] جمع ضب.
قوله: «فَدَعَا بِهِنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ، فَتَرَكَهُنَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَالْمُتَقَذِّرِ لَهُنَّ» ، يعني: ما أكلهن وما قبلهن، ليس لحرمتهن وإنما لأن نفسه تعافهن.
قوله: «وَلَوْ كُنَّ حَرَامًا مَا أُكِلْنَ عَلَى مَائِدَتِهِ وَلاَ أَمَرَ بِأَكْلِهِنّ» ، فيه: دليل على حل الضب، وأما السمن والأقط فمعروف حلهما فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكلهما.
ووجه الدلالة: إقرار النبي صلى الله عليه وسلم أكل الضب على مائدته وعدم إنكاره، ولو كان حرامًا ما أكل على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر بأكله، وفي اللفظ الآخر: أن خالدًا قال: هو حرام يا رسول الله؟ قال: «لا، ولكنه ليس بأرضي فأجدني أعافه» ، قال: فاجتررته فأكلته والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر[(576)].
}7359{ قوله: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا أَوْ لِيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» ، فيه: دليل على أن من أكل ثومًا أو بصلاً أو كراثًا أو فجلاً وكل ما له رائحة كريهة فإنه يعتزل المسجد ويصلي في بيته؛ لئلا يؤذي الناس برائحته، ويكون ذلك عذرًا له في ترك صلاة الجماعة، لكن ليس له أن يتعمد أكلها ليترك صلاة الجماعة، فإذا أكلها من أجل أن يترك صلاة الجماعة صار آثمًا، وإن استطاع أن يعالج الرائحة فليفعل.
قوله: «وَإِنَّهُ أُتِيَ بِبَدْرٍ قَالَ ابْنُ وَهْبٍ يَعْنِي طَبَقًا فِيهِ خَضِرَاتٌ» . خضرات ضبط بوجهين آخرين أيضًا:
أحدهما: بفتح الخاء وكسر الضاد هكذا: خَضِرات.
الثاني: بضم الخاء وتسكين الضاد هكذا: خُضْرات.
قوله: «فَوَجَدَ لَهَا رِيحًا، فَسَأَلَ عَنْهَا فَأُخْبِرَ بِمَا فِيهَا مِنْ الْبُقُولِ، فَقَالَ: «قَرِّبُوهَا» فَقَرَّبُوهَا إِلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ كَانَ مَعَهُ فَلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أَكْلَهَا قَالَ:» ، أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن حوله: «كُلْ فَإِنِّي أُنَاجِي مَنْ لاَ تُنَاجِي» ، يعني: أناجي الملائكة. ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فَقَرَّبُوهَا» ، فهذا دليل على حلها، وأن الكراث والثوم والبصل ليس بحرام.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: «من أكل من هذه الشجرة الخبيثة فلا يقربن مسجدنا»[(577)] فالمراد خبث الرائحة وليس المراد التحريم، ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كسب الحجام خبيث»[(578)] يعني: رديء وليس بحرام؛ استدل ابن عباس على أنه ليس بحرام بأن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم، وأعطى الحجام أجرته، ولو كان حرامًا لم يعطه أجرته.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عُفَيْرٍ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «هو سعيد بن كثير بن عفير، بمهملة وفاء مصغر، نسب لجده، وهو من شيوخ البخاري، وقد صرح بتحديثه له في المكان الذي أشرت إليه وساقه على لفظه، وساق عن أحمد بن صالح الذي ساقه هنا قطعة منه، وزاد هناك عن الليث وأبي صفوان طرفًا منه معلقًا، وذكرت هناك من وصلهما» اهـ.
}7360{ هذا الحديث استدل به على خلافة الصديق رضي الله عنه، وأنه الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه المرأة لما أتت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: «أَرَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لَمْ أَجِدْكَ؟ قَالَ: «إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ» ؛ لأنه هو الخليفة، قال بعضهم: إن هذا دليل على خلافة الصديق بالنص الجلي.
القول الثاني: أن هذا إرشاد إلى اختياره خليفة وليس نصًّا، وهذا هو الصواب؛ لأن الألفاظ محتملة، فالنص يحتمل أن يكون وكله في قضاء الحوائج، وقد يوكل في قضاء الحوائج من لم يصلح للخلافة، ولو كان نصًّا ما اختلف الصحابة ولا اختلف الأنصار في سقيفة بني ساعدة في بادئ الأمر.
ومن الأدلة: أمره صلى الله عليه وسلم لأبي بكر أن يصلي بالناس[(579)]، وكذلك قوله: «لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً»[(580)] ، وكذلك حديث الرؤيا وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى كأن دلوًا دلي من السماء فأخذ به أبو بكر ثم أخذ به عمر[(581)]. والصواب: أن هذه النصوص إرشاد إلى اختياره وانتخابه؛ ولهذا استفاد الصحابة، فقالوا: رضيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاك لدنيانا؟! فخلافة الصديق ثبتت بالاختيار والانتخاب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: استدل النبي صلى الله عليه وسلم بظاهر قولها: «إِنْ لَمْ أَجِدْكَ؟» أنها أرادت الموت».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قلت: وإلى ذلك وقعت الإشارة في الطريق المذكورة هنا التي فيها: «كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ» ».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقول بعضهم: هذا يدل على أن أبا بكر هو الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم صحيح لكن بطريق الإشارة لا التصريح، ولا يعارض جزم عمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستخلف؛ لأن مراده نفي النص على ذلك صريحًا» اهـ.
فعمر لما قالوا له: استخلف قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هو خير مني، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكروا عليه؛ فدل على أن خلافة الصديق ثبتت بالاختيار والانتخاب.
قوله: «زَادَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ» . قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يريد بالسند الذي قبله والمتن كله، والمزيد هو قوله: «كَأَنَّهَا تَعْنِي الْمَوْتَ» ، وقد مضى في «مناقب الصديق» .
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ»
وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ بِالْمَدِينَةِ، وَذَكَرَ كَعْبَ الأَْحْبَارِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلاَءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ.
}7362{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَِهْلِ الإِْسْلاَمِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ، وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» الآْيَةَ.
}7363{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ؟ تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ، وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً، أَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ، لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلاً يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ.
قوله: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ»» هذه الترجمة على لفظ حديث أخرجه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبزار كما ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله من حديث جابر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه فغضب، وقال: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبوه أو بباطل فتصدقوه، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حيًا ما وسعه إلا أن يتبعني»[(582)] .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ورجاله موثقون إلا أن في مجالد ضعفًا» اهـ.
فهذا الحديث لم يثبت عند المؤلف؛ لأنه ليس على شرطه ولكنه أتى به في الترجمة واستدل له، وهذه عادة المؤلف رحمه الله أن الحديث الذي ليس على شرطه وقد يكون ثابتًا بأن يكون له شواهد أنه يأتي به في الترجمة ويأتي بالآثار التي تؤيد الترجمة ثم يستدل له.
فهذه الترجمة لنهي هذه الأمة عن سؤال أهل الكتاب، وجاء في لفظ آخر: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء؛ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل»[(583)] .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وسنده حسن، قال ابن بطال نقلاً عن المهلب: هذا النهي إنما هو في سؤالهم عما لا نص فيه؛ لأن شرعنا مكتفٍ بنفسه، فإذا لم يوجد فيه نص ففي النظر والاستدلال غنىً عن سؤالهم، ولا يدخل في النهي سؤالهم عن الأخبار المصدقة لشرعنا والأخبار عن الأمم السالفة، وأما قوله تعالى: [يُونس: 94]{فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} فالمراد به من آمن منهم، والنهي إنما هو عن سؤال من لم يؤمن منهم، ويحتمل أن يكون الأمر يختص بما يتعلق بالتوحيد والرسالة المحمدية وما أشبه ذلك، والنهي عما سوى ذلك» اهـ.
قوله: «وَقَالَ أَبُو الْيَمَانِ» وأبو اليمان من شيوخ البخاري لكن علقه عنه فذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أنه إما أنه أخذه عنه مذاكرة، وإما أنه ترك التصريح لكونه أثرًا موقوفًا، وإما أن يكون مما فاته سماعه منه ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ثم وجدت الإسماعيلي أخرجه عن عبدالله بن العباس عن البخاري، قال: حدثنا أبو اليمان. ومن هذا الوجه أخرجه أبو نعيم»، فهو موصول.
قوله: «يُحَدِّثُ رَهْطًا مِنْ قُرَيْشٍ» الرهط: من ثلاثة إلى تسعة.
قوله: «وَذَكَرَ كَعْبَ الأَْحْبَارِ» ، هو كعب بن نافع المعروف بكعب الأحبار وكان من اليهود، وأسلم في خلافة عمر رضي الله عنه، وكان مخضرمًا أدرك الجاهلية والإسلام، وكان ينقل كثيرًا عن أهل الكتاب.
قوله: «إِنْ كَانَ مِنْ أَصْدَقِ هَؤُلاَءِ الْمُحَدِّثِينَ الَّذِينَ يُحَدِّثُونَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ كُنَّا مَعَ ذَلِكَ لَنَبْلُو عَلَيْهِ الْكَذِبَ» ، يعني: أن الذين يحدثون عن أهل الكتاب كثيرون لكن من أصدقهم كعب الأحبار، ومع ذلك نختبر عليه الكذب، وهذا اتهام من معاوية رضي الله عنه لكعب بالكذب ولا يلزم من ذلك أنه يتعمد الكذب، بل إذا أخبر بخلاف الواقع فإنه يسمى كذبًا ولو لم يقصد الكذب، كما في قصة سبيعة الأسلمية قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كذب أبو السنابل»[(584)] ، يعني: أخبر بخلاف الواقع أو أخطأ، وحديث: «صدق الله وكذب بطن أخيك»[(585)] والمعنى: أن كعب الأحبار من أصدق المحدثين ولكن قد يغلط ويخطئ ويقول خلاف الواقع، وإن كان لا يتعمد الكذب، وهذا فيه بيان من معاوية الصحابي الجليل رضي الله عنه إلى أنه ينبغي للمسلم ألا يأخذ ما جاء من أخبار أهل الكتاب على علاته، ولكن ينظر فيه.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله أن أخبار أهل الكتاب على ثلاثة أقسام[(586)]:
الأول: ما جاء شرعنا بتصديقه، فهذا يصدق، وهذا هو الذي جاء فيه الحديث: «حدثوا عن أهل الكتاب ولا حرج» [(587)].
الثاني: ما جاء شرعنا بتكذيبه، فهذا يكذب.
الثالث: ما لم يأت شرعنا بتصديقه ولا تكذيبه، فهذا لا يصدق ولا يكذب.
وهذا هو الذي جاء فيه حديث: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم» [(588)].
ومناسبة هذه الترجمة للاعتصام بالكتاب والسنة هو التروي في الأخبار التي تأتي عن بني إسرائيل والنظر فيها، فما جاء منها موافقًا لشرعنا قبلناه، وما جاء مخالفًا لشرعنا رددناه، وما سكت عنه شرعنا نحدث به ولا نصدقه ولا نكذبه.
}7362{ ذكر حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَقْرَءُونَ التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لأَِهْلِ الإِْسْلاَمِ» . العبرانية هي لغة اليهود، ولغة النصارى السريانية، واللغة العربية لغة العرب.
فأهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ثم يفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، ومعلوم أن النقل والترجمة قد يحصل فيه أخطاء وأغلاط، وقد يُتعمد التغيير.
قوله: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلاَ تُكَذِّبُوهُمْ» هذا الشاهد من الحديث، وهذا فيما لم يأت شرعنا بتصديقه ولا بتكذيبه.
قوله: «وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ» كما قال تعالى في سورة البقرة: [البَقَرَة: 136]{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ} وفي سورة آل عمران: [آل عِمرَان: 64]{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا}، [آل عِمرَان: 84]{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ}، [آل عِمرَان: 199]{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ}.
قوله: «الآْيَةَ» ظاهر هذا أنه يعني: تكملة الآية.
}7363{ قوله: «كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ؟» استنكار من عبدالله بن عباس رضي الله عنهما عما يفعله بعض المسلمين من سؤال أهل الكتاب عما لديهم من العلم مع علمهم أنهم بدلوا وحرفوا ونسوا.
قوله: «وَكِتَابُكُمْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْدَثُ؟» ، يعني: نزل متأخرًا، فنزوله حادث بعد التوراة والإنجيل، كما قال الله تعالى: [الأنبيَاء: 2]{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ *}، وفي الآية الأخرى قال تعالى: [الشُّعَرَاء: 5]{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَانِ مُحْدَثٍ}، والمعنى: أن نزوله حادث ولا يلزم من هذا أن يكون مخلوقًا كما تقول المعتزلة، فالمعنى: أنه جديد بالنسبة إلينا، وهو محض خالص صافٍ لم يغير ولم يبدل، وقد حدثنا أن أهل الكتاب غيروا وبدلوا فكيف نأخذ عنهم؟
قوله: «تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ» ، يعني: خالصًا لم يدخله شيء من التغيير والتبديل، فابن عباس رضي الله عنه ينكر على من يسأل أهل الكتاب ويأخذ عنهم.
قوله: «وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمْ الْكِتَابَ» ، أي: ليعتاضوا به ثمنًا قليلاً، والدنيا كلها ثمن قليل.
قوله: «وَقَالُوا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ» ، لذلك لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ورقة من التوراة مع عمر غضب، وقال: «والله لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي»[(589)] أما الذي يقرأ من كتبهم من أهل العلم للرد عليهم فهذا طيب، أما أن يقرأ كل واحد التوراة فهذا ممنوع.
قوله: «أَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ، لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلاً يَسْأَلُكُمْ عَنْ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ» ، أي: هم الآن زهدوا في كتابنا القرآن، فكيف نسألهم نحن عن كتابهم الذي حرفوه وبدلوه وكتبوه بأيديهم؟!
كَرَاهِيَةِ الْخِلاَفِ
}7364{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ سَلاَّمِ بْنِ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ؛ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ».
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: سَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَلاَّمًا.
}7365{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ، حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَوْنِيُّ، عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ؛ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ».
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ هَارُونَ الأَْعْوَرِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ عَنْ جُنْدَبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}7366{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا حُضِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ـ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ قَالَ: «هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمْ الْقُرْآنُ فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا قَالَ عُمَرُ. فَلَمَّا أَكْثَرُوا اللَّغَطَ وَالاِخْتِلاَفَ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قُومُوا عَنِّي.
قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنْ اخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِمْ.
قوله: «بَاب كَرَاهِيَةِ الْخِلاَفِ» هذه الترجمة معقودة لبيان كراهية الاختلاف، فالاختلاف مذموم، والله تعالى استثنى أهل الرحمة من الاختلاف، فقال سبحانه: [هُود: 118-119]{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ *}، وقال الله تعالى: [البَقَرَة: 176]{وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقِ بَعِيدٍ *} والأصل أن تحمل الكراهة على التحريم.
وهذا الاختلاف فيه تفصيل، فإن كان هذا الاختلاف اختلاف تضاد ـ بحيث يكون أحد المختلفين على الحق والأخر على الباطل ـ فالكراهة للتحريم، وإن كان اختلاف تنوع فالاختلاف سائغ، لكن إذا كان اختلاف التنوع يؤدي إلى الخصام والنزاع فإنه يحرم، واختلاف التنوع هو أن يكون كل من المختلفين على حق، مثل: أنواع الأذان، أو الإقامة، فهناك أذان بلال، وأذان أبي محذورة، فإذا اختلفوا فواحد يقدم أذان بلال وواحد يقدم أذان أبي محذورة فأدى هذا إلى الخصام والنزاع والعداوة صار محرمًا، وإن كان كل منهما على حق.
}7364{ قوله: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ؛ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ» ، فالمعنى: إذا اختلفتم فلا تتنازعوا بل قوموا عنه، ثم اقرءوه في وقت تأتلف قلوبكم عليه؛ لأن النزاع يؤدي إلى الاختلاف وإلى العداوة وإلى الشحناء وإلى البغضاء.
قوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ:» هو البخاري رحمه الله: «سَمِعَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ سَلاَّمًا» ، يعني: أن العنعنة في قوله في السند «عَنْ سَلاَّمِ» محمولة على أنه سمعه.
}7365{ قوله: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ؛ فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ» ، فيه: كراهية الاختلاف؛ لما يؤدي إليه من النزاع والخصام.
قوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ:» ـ هو البخاري رحمه الله ـ: «وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ هَارُونَ الأَْعْوَرِ، حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ عَنْ جُنْدَبٍ» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وصله الدارمي عن يزيد بن هارون، لكن قال: عن همام، ثم أخرجه عن أبي النعمان، عن هارون الأعور، وتقدم في آخر «فضائل القرآن» بيان الاختلاف على أبي عمران في سند هذا الحديث مع شرح الحديث. وقال الكرماني: مات يزيد بن هارون سنة ست ومائتين، فالظاهر أن رواية البخاري عنه تعليق. انتهى.
وهذا لا يتوقف فيه من اطلع على ترجمة البخاري رحمه الله، فإنه لم يرحل من بخارى إلا بعد موت يزيد بن هارون بمدة» اهـ.
}7366{ قوله: «لَمَّا حُضِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم» أي: لما حضره أجله وحضره الموت.
قوله: «وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ قَالَ: هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ» فالنبي صلى الله عليه وسلم في مرض الموت وطلب أن يأتوا له بكتاب يكتب لهم حتى لا يضلوا بعده.
وفي الحديث: بيان كراهية الاختلاف وبيان شؤمه.
واستنبط بعض الصحابة رضي الله عنهم بعض هذه الوصية، فقال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: «من سره أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمة أمره فليقرأ هذه الآيات الثلاث من خواتيم سورة الأنعام: [الأنعَام: 151-153]{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *}، وفي هذه الآيات عشر وصايا، فهي لم تغير ولم تبدل، والمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أوصى لكانت وصيته هي وصية الله.
نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ،
وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ نَحْوَ قَوْلِهِ حِينَ أَحَلُّوا: «أَصِيبُوا مِنْ النِّسَاءِ»
وَقَالَ جَابِرٌ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ. وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا.
}7367{ حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ: جَابِرٌ.
قَالَ: أَبُو عَبْد اللَّهِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ البُرْسَانِيُّ: حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ قَالَ: أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ.
قَالَ: عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ: فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحِلَّ، وَقَالَ: أَحِلُّوا وَأَصِيبُوا مِنْ النِّسَاءِ.
قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلاَّ خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا فَنَأْتِي عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْيَ!
قَالَ وَيَقُولُ: جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: «قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَصْدَقُكُمْ، وَأَبَرُّكُمْ وَلَوْلاَ هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ، فَحِلُّوا فَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ» فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا.
}7368{ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ الْحُسَيْنِ، عَنْ ابْنِ بُرَيْدَةَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ» قَالَ: فِي الثَّالِثَةِ: «لِمَنْ شَاءَ» كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً.
هذه الترجمة معقودة لبيان أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم للتحريم إلا ما دل الدليل على أنه للتنزيه، وأمره للوجوب إلا ما دل الدليل على أنه للندب أو للإباحة، هذا هو الأصل، وهو الذي عليه جمهور أهل الأصول.
قوله: «بَاب نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّحْرِيمِ» ، يعني: أنه محمول على التحريم.
قوله: «إِلاَّ مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ» استثناء، والمراد إلا ما دل الدليل على أنه للتنزيه، ومثل ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائمًا[(590)]، ثم شرب قائمًا[(591)]، فصرف النهي عن التحريم إلى التنزيه، وإلا فالأصل أن النهي للتحريم والأمر للوجوب، قال الله تعالى: [النُّور: 63]{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}.
قوله: «وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ» ، يعني: يحمل على الوجوب.
قوله: «نَحْوَ قَوْلِهِ حِينَ أَحَلُّوا: «أَصِيبُوا مِنْ النِّسَاءِ»» ، أي: حين أحلوا من العمرة في حجة الوداع، أمرهم أن يصيبوا من النساء فهذا الأمر ليس للوجوب؛ لأنه لو كان للوجوب لكان معناه: أنه يجب على كل من تحلل من العمرة أن يجامع زوجته، وهذا لا يجب؛ لأن هذا أمر بعد المنع، فكان دليلاً على الإباحة.
ومثل ذلك قوله تعالى: [المَائدة: 2]{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}، فأمر المحرم بالاصطياد بعد الحل لأن الصيد كان محرمًا على المحرم، ثم أبيح، وليس معناه: أنه للوجوب فلو كان للوجوب لكان يجب على كل من حل من إحرامه أن يصيد، وهذا ليس بواجب فالمراد الإباحة.
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الجنازة فقوموا»[(592)] ثم قعد بعد ذلك، فجلوسه صلى الله عليه وسلم صرف الأمر إلى الاستحباب.
ومناسبة هذه الترجمة لكتاب الاعتصام بالسنة أن من الاعتصام بالكتاب والسنة اجتناب النهي وامتثال الأمر.
قوله: «وَقَالَ جَابِرٌ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ» ، يعني: هذا الأمر عرفت إباحته؛ لأنه أذن لهم في جماع نسائهم؛ إشارة إلى المبالغة في الإحلال.
قوله: «وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: نُهِينَا عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» ، فأم عطية رضي الله عنها فهمت من نهي النبي صلى الله عليه وسلم النساء عن اتباع الجنائز أنه ليس للتحريم، ولهذا قالت: «وَلَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا» .
والصواب أن النهي للتحريم؛ لأنه نهي بعد إباحة، فأول الأمر نهى الرجال والنساء عن زيارة القبور، ثم أبيح للرجال والنساء بقوله: «نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها»[(593)] ثم جاء النهي للنساء، فالصواب أن النهي للتحريم؛ لأنه نهي بعد الإباحة، والفرق بين قول أم عطية رضي الله عنها وبين حديث جابر رضي الله عنه فرق من جهة اختلاف السببين، فحديث جابر رضي الله عنه وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أَصِيبُوا مِنْ النِّسَاءِ» فهذا إباحة بعد الحظر والمنع فلا يدل على الوجوب، وحديث أم عطية رضي الله عنها نهي بعد إباحة فكان ظاهرًا للتحريم.
فالأصل في النهي أنه للتحريم إلا إذا وجد صارف يصرفه مثل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائمًا[(594)]، فإن لم يأت صارف نقول: إن النهي للتحريم لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائما[(595)]، فقد أتى الناس يوم حجة الوداع في زمزم وشرب قائمًا، فشربه قائمًا صرف النهي من التحريم إلى التنزيه كما أن الأمر الأصل فيه الوجوب إلا إذا وجد صارف يصرفه إلى الندب مثل قوله: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك»[(596)] يعني: أمرتهم أمر إيجاب وإلا فقد أمرهم أمر استحباب فالسواك مستحب، فالأصل في الأوامر مثل: أقيموا الصلاة ـ الوجوب إلا إذا وجد صارف بأن يصرفه دليل آخر إلى الندب.
}7367{ قوله: «سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فِي أُنَاسٍ مَعَهُ» ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فيه التفات، ونسق الكلام أن يقول: معي، ووقع كذلك في رواية يحيى القطان».
قوله: «أَهْلَلْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحَجِّ خَالِصًا لَيْسَ مَعَهُ عُمْرَةٌ» ، يعني: من ذي الحليفة، فحجوا مفردين بالحج خالصًا ليس معه عمرة، وكانوا في الجاهلية يعتقدون أن أشهر الحج لا تكون إلا للحج وليس فيها عمرة، ويعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، والنبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيل اعتقاد أهل الجاهلية فأمرهم بالتحلل من الحج وجعلها عمرة، فكبر ذلك في نفوسهم وعظم وشق عليهم؛ لأن هذا الأمر متأصل في النفوس، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(597)]: «إن هذا الإيجاب خاص بالصحابة ليزول اعتقاد الجاهلية»، ولكن تلميذه العلامة ابن القيم[(598)] رأى أن هذا عام للصحابة ولغيرهم، ولهذا قال بوجوب التمتع، والجمهور على أن الناسك مخير بين الإحرام بالحج أو بالعمرة، أو بالحج والعمرة معًا، كما خير النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة في ذي الحليفة.
قوله: «قَالَ جَابِرٌ: فَقَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم صُبْحَ رَابِعَةٍ مَضَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ» ، أي: قدم مكة؛ لأنه سار من المدينة يوم السبت في اليوم الخامس والعشرين من ذي القعدة، وقدم مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة، وأقام في الأبطح يقصر الصلاة أربعة أيام إلى اليوم الثامن من ذي الحجة، وانتقل إلى منى يوم الخميس وهو اليوم الثامن من ذي الحجة.
قوله: «فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَحِلَّ» ، يعني: نجعلها عمرة، فنطوف، ونسعى، ونقصر، ونتحلل.
قوله: «وَقَالَ: أَحِلُّوا وَأَصِيبُوا مِنْ النِّسَاءِ» ، ذلك لأنهم استنكروا، وقالوا: يا رسول الله أي: حل هل حل جزئي أو حل كلي؟ قال: الحل كله جامعوا النساء، فكبر ذلك عليهم.
قوله: «قَالَ عَطَاءٌ: قَالَ جَابِرٌ: وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنْ أَحَلَّهُنَّ لَهُمْ» ، يعني: لم يوجب عليهم، وإنما من شاء أن يجامع فليجامع؛ لأنه تحلل حلًّا كاملاً.
قوله: «فَبَلَغَهُ أَنَّا نَقُولُ» ، أي: بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن بعضًا استنكروا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالحل.
قوله: «لَمَّا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَرَفَةَ إِلاَّ خَمْسٌ أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ إِلَى نِسَائِنَا فَنَأْتِي عَرَفَةَ تَقْطُرُ مَذَاكِيرُنَا الْمَذْيَ!» ، وفي لفظ: «المني» يعني: تقطر من جماع النساء، فكل واحد يجامع امرأته ثم يحرم ويمشي إلى عرفة؟!
قوله: «قَالَ وَيَقُولُ: جَابِرٌ بِيَدِهِ هَكَذَا وَحَرَّكَهَا» ، يعني: أمالها، وهذه الإشارة لكيفية التقطير، أو إلى محل التقطير.
قوله: «فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَال: «قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَتْقَاكُمْ لِلَّهِ وَأَصْدَقُكُمْ، وَأَبَرُّكُمْ» أي: ما آمركم بشيء إلا فيه بر.
قوله: «وَلَوْلاَ هَدْيِي لَحَلَلْتُ كَمَا تَحِلُّونَ» ، فبين سبب إبقائه على الإحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم ساق الهدي، وأمر الصحابة الذين ليس معهم هدي أن يحلوا.
قوله: «فَحِلُّوا» ، هذا أمر بالإحلال وهو للوجوب، وهو موضع الشاهد للترجمة.
قوله: «فَلَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ» وفي اللفظ الآخر: «لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي»[(599)] أي: لو علمت أنه يشق عليكم عدم تحللي لما سقت الهدي ولتحللت معكم حتى تقتدوا بي، ولكن الآن ما أستطيع أن أتحلل؛ لأن معي الهدي.
قوله: «فَحَلَلْنَا وَسَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حتم عليهم، وعزم عليهم لما قربوا من مكة، وقال: «اجعلوها عمرة»[(600)] فلما طافوا، وسعوا حتم عليهم وعزم عليهم فتحللوا بعد السعي بين الصفا والمروة، وهم قد نووا أن هذا الطواف والسعي للحج، ومع ذلك تحللوا ولم يتخلف أحد إلا من ساق الهدي، وهذا هو الذي جعل الإمام ابن القيم[(601)] يقول: إن المتعة واجبة، وابن عباس يرى أنها فرض، فكل من طاف، أو سعى فقد حل شاء أم أبى.
والشاهد من الحديث: أن الأصل في الأمر الوجوب إلا ما دل الدليل على تحريمه.
}7368{ قوله: «صَلُّوا قَبْلَ صَلاَةِ الْمَغْرِبِ» ، كررها ثلاثًا، أي: قال: صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب.
قوله: «قَالَ: فِي الثَّالِثَةِ: «لِمَنْ شَاءَ» كَرَاهِيَةَ أَنْ يَتَّخِذَهَا النَّاسُ سُنَّةً» ، فالأمر للإباحة، واستفيدت الإباحة من قوله: «لِمَنْ شَاءَ» ولهذا قال الراوي: خشية أن يتخذ الناس الصلاة قبل المغرب سنة، يعني: طريقة لازمة لا يجوز تركها، أو سنة راتبة يكره تركها، فالمراد بالسنة هنا الطريقة أو السنة الراتبة، وليس المراد بالسنة ما يقابل الوجوب، وكان الصحابة يبتدرون السواري يصلون ركعتين قبل المغرب فهي مستحبة، ولولا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لِمَنْ شَاءَ» لكانت الركعتان واجبتين.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله في الترجمة: «بَاب نَهْيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى التَّحْرِيمِ إِلاَّ مَا تُعْرَفُ إِبَاحَتُهُ» ، وتعرف إباحته إما بدلالة السياق، أو بقرينة الحال، أو بقيام الدليل الصالح، وكذلك الأمر يحرم مخالفته لوجوب امتثاله ما لم يقم الدليل على إرادة الندب؛ لقول الله تعالى: [النُّور: 63]{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *}. فالشاهد من الحديث للترجمة أن فيه إشارة إلى أن الأمر أصله للوجوب فلذلك أردف بما يدل على التخيير بين الفعل والترك؛ فكان ذلك صارفًا للحمل على الوجوب.
وهذا الحديث فيه الرد على بعض الشافعية الذين يقولون: إن وقت المغرب لا يتسع إلا لثلاث ركعات فقط[(602)]، فعندهم ما أن ينتهي المؤذن إلا ويقام للصلاة، ولكن هذا الحديث يرد عليهم، فوقت المغرب قصير بالنسبة للأوقات الأخرى إلا أنه يتسع للصلاة القبلية والبعدية فهو يمتد إلى ما يقرب من ساعة وربع الساعة أو ساعة وثلث الساعة.
وهذه الصلاة التي هي قبل المغرب ثبتت بأنواع السنة الثلاث:
النوع الأول: القولية.
النوع الثاني: الفعلية.
النوع الثالث: التقريرية.
فالنبي صلى الله عليه وسلم صلى قبل المغرب ركعتين، وأمر أصحابه بصلاتها، ورآهم يصلونها وأقرهم عليها.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الشّورى: 38]{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}
[آل عِمرَان: 159]{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}
وَأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ قَبْلَ الْعَزْمِ وَالتَّبَيُّنِ لِقَوْلِهِ: [آل عِمرَان: 159]{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فَإِذَا عَزَمَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ التَّقَدُّمُ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَشَاوَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْمُقَامِ وَالْخُرُوجِ فَرَأَوْا لَهُ الْخُرُوجَ، فَلَمَّا لَبِسَ لَأْمَتَهُ وَعَزَمَ قَالُوا: أَقِمْ فَلَمْ يَمِلْ إِلَيْهِمْ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَالَ: «لاَ يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ يَلْبَسُ لَأْمَتَهُ فَيَضَعُهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ».
وَشَاوَرَ عَلِيًّا وَأُسَامَةَ فِيمَا رَمَى بِهِ أَهْلُ الإِْفْكِ عَائِشَةَ فَسَمِعَ مِنْهُمَا، حَتَّى نَزَلَ الْقُرْآنُ فَجَلَدَ الرَّامِينَ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى تَنَازُعِهِمْ، وَلَكِنْ حَكَمَ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ.
وَكَانَتْ الأَْئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَشِيرُونَ الأُْمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الأُْمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا؛ فَإِذَا وَضَحَ الْكِتَابُ أَوْ السُّنَّةُ لَمْ يَتَعَدَّوْهُ إِلَى غَيْرِهِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَرَأَى أَبُو بَكْرٍ قِتَالَ مَنْ مَنَعَ الزَّكَاةَ فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَإِذَا قَالُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ».
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ مَا جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ تَابَعَهُ بَعْدُ عُمَرُ.
فَلَمْ يَلْتَفِتْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى مَشُورَةٍ؛ إِذْ كَانَ عِنْدَهُ حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِينَ فَرَّقُوا بَيْنَ الصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ، وَأَرَادُوا تَبْدِيلَ الدِّينِ وَأَحْكَامِهِ، وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَشُورَةِ عُمَرَ كُهُولاً كَانُوا أَوْ شُبَّانًا، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ عز وجل.