}7258{، }7259{ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَزَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}7260{ وحَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَامَ رَجُلٌ مِنْ الأَْعْرَابِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: اقْضِ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ لَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قُلْ: فَقَالَ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَاـ وَالْعَسِيفُ الأَْجِيرُـ فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتَدَيْتُ مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ فَأَخْبَرُونِي أَنَّ عَلَى امْرَأَتِهِ الرَّجْمَ، وَأَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَام،ٍ فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرُدُّوهَا، وَأَمَّا ابْنُكَ فَعَلَيْهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ ـ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ ـ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَهَا.
والذي حمله على أمرهم بدخول النار الغضب كما سبق، والغضب لا شك أنه له تأثير في تغيير شعور الإنسان، فلما غضب عليهم لم يتأمل العاقبة، ألا ترى أن موسى عليه السلام لما غضب على قومه حينما رأى قومه يعبدون العجل، حينما ذهب لموعد ربه وأخبره الله أن قومه عبدوا العجل قال الله عز وجل: [طه: 85]{فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} لكنه لم يتأثر فلما جاء ورآهم يعبدون العجل تأثر، فكان في الأول عنده علم اليقين، لكن لما رآهم يعبدون صار عين اليقين شاهد فغضب وألقى الألواح وفيها كلام الله، وأخذ برأس أخيه هارون ولحيته ـ وهو نبي كريم مثله ـ يجره من شدة الغضب، ويقول: كيف تتركهم يعبدون العجل؟ فقال له: [طه: 94]{يَابْنَأُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ} يعني: أنا ما قصرت، وفي الآية الأخرى: [الأعرَاف: 150]{إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} والله تعالى عفا عنه، ولو كان في حالة شعور تام ما كان ليلقي الألواح، فدل هذا على أن الغضبان له شأن، وقد يُعفى عنه ولا يؤاخذ.
قوله: «وَقَالَ لِلآْخَرِينَ:» ، أي: الذين لم يريدوا أن يدخلوها «لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» ، وهذا قيد في طاعة الأمراء وولاة الأمور وغيرهم من الآباء والأزواج، وهو أنه يجب أن تكون الطاعة في المعروف لا في المعصية، وهذا القيد يُقيد به جميع النصوص التي فيها الأوامر بالطاعة مثل قوله تعالى: [النِّسَاء: 59]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} يعني: إذا كان في طاعة الله وهذا من المواضع التي قُيد فيها القرآن بالسنة.
والشاهد من الحديث: أن طاعة الأمير ـ وهو واحد ـ واجبة في غير دخول النار وهو دليل على قبول خبر الواحد، وقبول النبي صلى الله عليه وسلم لخبرهم عن الأمير أيضًا.
}7258{، }7259{، }7260{ هذا الحديث ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ قد سبق مرات، وساقه المؤلف رحمه الله هنا لاستنباط الأحكام، وفيه من الفوائد:
1/ جواز توكيل الحاكم الواحد الثقة لأخذ الإقرار من المتهم، وإقامة الحد عليه إن أقر، وقبول الحاكم خبره في ذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم وكل أنيسًا وهو واحد؛ لأنه ثقة أن يأخذ الإقرار من المتهم، فأخذ الإقرار من المرأة فلما أقرت أقام الحد عليها فرجمها، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقبل خبره.
2/ أنه لا يجوز الصلح ولا المفاوضة ولا المعاوضة عن إقامة الحد، وأن الصلح إن وقع بدلاً من إقامة الحد فهو باطل، ويرد المال على صاحبه؛ لأن العسيف لما زنى بامرأة أراد أبوه أن يعاوض زوج المرأة بالمال، وأعطاه مائة شاة ووليدة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرُدُّوهَا» ؛ لأنه لا يعتاض عن إقامة الحد بمال، بل لابد من أن يقام الحد، فالحكم بالمعاوضة بالمال عن إقامة الحد هذا حكم بالطاغوت، ومن هذا ما يحصل من بعض القبائل يحكمون بالسلوم توجد في المملكة وفي خارج المملكة، قال العلماء: إن هذا الحكم بالسلوم كفر وردة، وهو أن تكون القبيلة مثلاً لها رئيس أو شيخ، فإذا زنا شخص ذهبوا به إلى شيخ القبيلة، وقالوا: فلان فعل كذا، فيقول: عليك كذا رأس من الغنم، تجمعهم وتذبح لهم وتتصالحون أو تعطيه كذا من المال، وليس لشيخ القبيلة أن يحكم، لأنه جاهل فلا يجوز التحاكم إليه؛ لأنه لا يحكم بالشريعة.
3/ أنه لا ينبغي للحاكم أن يغضب إذا قال له أحد الخصمين: اقض بيننا بكتاب الله؛ فالرسول أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم ومع ذلك قال له الرجل: «اقْضِ لِي بِكِتَابِ اللَّهِ» فقال: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» .
4/ أنه ينبغي للخصوم التأدب مع الحاكم، والاستئذان عند إرادة الكلام معه، لقوله: «اقْضِ لَهُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأْذَنْ لِي» .
5/ أن الزاني البكر يجلد مائة ويغرب عامًا وأن الثيب يرجم بالحجارة حتى يموت.
6/ أن المعترف والمقر يؤاخذ باعترافه وإقراره، فإن هؤلاء أقيم عليهم الحد بالإقرار، فالعسيف أقر والمرأة أقرت.
وفيه: أنه إذا أقر أحدهما لا يعتبر إقراره ملزمًا للآخر، فالعسيف قال إنه زنا بامرأة صاحب العمل، والنبي صلى الله عليه وسلم قبل إقراره لنفسه، لكن لم يقبل إقراره على المرأة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأنيس: «فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» ، يعني: وإن لم تعترف فلا ترجمها، فلا تؤاخذ هي بإقراره هو، لكن هو يؤاخذ بإقراره على نفسه، وهي لو أنكرت ما أقام عليها الحد، ولكنها اعترفت فأقام عليها الحد، فدل ذلك على أن إقرار أحد الخصمين على الآخر لا يلزم به الآخر سواء في الحدود أو في غيرها
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن القيم في الرد على من رد خبر الواحد إذا كان زائدًا على القرآن ما ملخصه: السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه» هذه الأوجه كما يلي:
الوجه الأول: أن تأتي السنة بالحكم الذي جاء به القرآن، مثل وجوب الصلاة ووجوب الزكاة، فيكون هذا من باب توافر الأدلة وتواصلها.
الوجه الثاني: أن تأتي السنة مفصلة ومبينة لما أجمل في القرآن، ومخصصة للعموم.
الوجه الثالث: أن تأتي بأحكام جديدة ليست في القرآن، كتحريم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، وتحريم الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها وهذا معروف.
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في قبول خبر الواحد فقال: «وقد تناقض من قال إنه لا يقبل الحكم الزائد على القرآن إلا إن كان متواترًا أو مشهورًا، فقد قالوا بتحريم المرأة على عمتها وخالتها، وتحريم ما يحرم من النسب بالرضاعة، وخيار الشرط والشفعة والرهن في الحضر، وميراث الجدة، وتخيير الأمة إذا عتقت، ومنع الحائض من الصوم والصلاة، ووجوب الكفارة على من جامع وهو صائم في رمضان، ووجوب إحداد المعتدة عن الوفاة، وتجويز الوضوء بنبيذ التمر، وإيجاب الوتر، وأن أقل الصداق عشرة دراهم، وتوريث بنت الابن السدس مع البنت، واستبراء المسبية بحيضة، وأن أعيان بني الأم يتوارثون، ولا يقاد الوالد بالولد، وأخذ الجزية من المجوس، وقطع رجل السارق في الثانية، وترك الاقتصاص من الجرح قبل الاندمال، والنهي عن بيع الكالئ بالكالئ».
وكل هذه الأمور مأخوذة من أخبار آحاد، وهي ثابتة معلومة عند أهل العلم.
والأحناف عندهم قاعدة وهي: إذا كان خبر الواحد زائدًا على القرآن فلا يقبل؛ لأن الزيادة عندهم نسخ، وهذا باطل ومردود بما سبق من الأمثلة.
بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ طَلِيعَةً وَحْدَه
}7261{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَدَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم النَّاسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثُمَّ نَدَبَهُمْ فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ، ثَلاَثًا فَقَالَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ».
قَالَ سُفْيَانُ: حَفِظْتُهُ مِنْ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَقَالَ لَهُ أَيُّوبُ: يَا أَبَا بَكْرٍ حَدِّثْهُمْ عَنْ جَابِرٍ، فَإِنَّ الْقَوْمَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ تُحَدِّثَهُمْ عَنْ جَابِرٍ، فَقَالَ: فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ سَمِعْتُ جَابِرًا، فَتَابَعَ بَيْنَ أَحَادِيثَ سَمِعْتُ جَابِرًا، قُلْتُ لِسُفْيَانَ: فَإِنَّ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: يَوْمَ قُرَيْظَةَ، فَقَال: كَذَا حَفِظْتُهُ مِنْهُ كَمَا أَنَّكَ جَالِسٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، قَالَ سُفْيَانُ: هُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَتَبَسَّمَ سُفْيَانُ.
قوله: «بَاب بَعْثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ طَلِيعَةً وَحْدَه» . الطليعة: هو الذي يذهب إلى الأعداء ويدخل بينهم بطريقة سرية، ويأتي بخبرهم إلى قومه حتى يستعدوا لهم ويأخذوا أهبتهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعث الزبير وحده، وهذا يدل على شجاعة نادرة؛ لأنها مخاطرة، فهو وسط الأعداء، وهذا يدل على أن الكفار والمؤمنين لباسهم كلهم واحد، يلبسون إزارًا ورداء وعمامة ولو كان هناك تميز لعرفوه، فهذا فيه فضل الزبير وشجاعته وقوته.
وقصة الزبير رضي الله عنه كانت لكشف خبر بني قريظة، هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين ووافقوا قريشا على محاربة المسلمين؟ وأما في قصة غزوة الأحزاب فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة يأتيه بخبر القوم، فهذه واقعة وتلك أخرى، وقصة بعث حذيفة رضي الله عنه في «صحيح مسلم» لما قال رجل لحذيفة رضي الله عنه: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت، فقال حذيفة رضي الله عنه: «أنت كنت تفعل ذلك؟! لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب وأخذتنا ريح شديدة وقر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يأتيني بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟» فسكتنا فلم يجبه منا أحد ثم قال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟» فسكتنا فلم يجبه منا أحد ثم قال: «ألا رجل يأتينا بخبر القوم جعله الله معي يوم القيامة؟» فسكتنا فلم يجبه منا أحد، فقال: «قم يا حذيفة فأتنا بخبر القوم» ، فلم أجد بدًا إذ دعاني باسمي أن أقوم، قال: «اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي» ، فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم، فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره بالنار فوضعت سهمًا في كبد القوس فأردت أن أرميه فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولا تذعرهم علي» ، ولو رميته لأصبته، فرجعت وأنا أمشي في مثل الحمام، فلما أتيته فأخبرته بخبر القوم وفرغت قررت فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائمًا حتى أصبحت، فلما أصبحت قال: «قم يا نومان»[(415)] .
}7261{ قوله: «نَدَبَهُمْ» ، يعني: دعاهم وطلبهم ولم يعين واحدًا، «فَانْتَدَبَ الزُّبَيْرُ» يعني: أجاب وأسرع، وهذا يدل على شجاعة فائقة للزبير رضي الله عنه، فقد انتدبهم صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات ولم يقم أحد إلا الزبير؛ لأن الجو كان باردًا وفيه خطورة شديدة في الذهاب إلى العدو والدخول معهم؛ لأنهم إن علموا به قتلوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إليه: «لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» والحواري الناصر الصفي المحب الخالص، مثل حواري عيسى عليه السلام كما في قول الله عز وجل: [الصَّف: 14]{قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}، يعني: أحبابي وخلصائي وأصفيائي.
وهذا فيه: منقبة للزبير رضي الله عنه وقد قتل رضي الله عنه شهيدًا مظلومًا يوم الجمل.
قوله: «فَقَالَ: فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ» ؛ القائل: علي بن موسى «قُلْتُ لِسُفْيَانَ:» ، يعني: ابن عيينة.
قوله: «هُوَ يَوْمٌ وَاحِدٌ» ، يعني: يوم الخندق ويوم قريظة؛ لأن قريظة نقضت العهد يوم الخندق وتحالفت مع قريش، قال العلماء: هذا إنما يصح على إطلاق اليوم على الزمان الذي يقع فيه الأمر الكبير، سواء قلَّت أيامه أو كثرت كما يقال: يوم الفتح ويراد به الأيام التي أقام فيها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة لما فتحها، وكذا وقعة الخندق دامت أيامًا آخرها لما انصرفت الأحزاب ورجع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى منازلهم جاءه جبريل بين الظهر والعصر فأمره بالخروج إلى بني قريظة فخرجوا وقال: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»[(416)] ثم حاصرهم أيامًا حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ.
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}
فَإِذَا أَذِنَ لَهُ وَاحِدٌ جَازَ
}7262{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ حَائِطًا، وَأَمَرَنِي بِحِفْظِ الْبَابِ، فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ» ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَقَالَ: «ائْذَنْ لَهُ وَبَشِّرْهُ بِالْجَنَّةِ».
}7263{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنهم قَالَ: جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ، وَغُلاَمٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْوَدُ عَلَى رَأْسِ الدَّرَجَةِ، فَقُلْتُ: قُلْ: هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَذِنَ لِي.
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [الأحزَاب: 53]{لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} فَإِذَا أَذِنَ لَهُ وَاحِدٌ جَازَ» ، وهذا يدل على قبول خبر الواحد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أراد البخاري أن صيغة «{يُؤْذَنَ لَكُمْ}» على البناء للمجهول تصح للواحد فما فوقه، وأن الحديث الصحيح بيّن الاكتفاء بالواحد على مقتضى ما تناوله لفظ الآية، فيكون فيه حجة لقبول خبر الواحد».
}7262{ الشاهد في هذا الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم قبلوا خبر أبي موسى رضي الله عنه لما جاءهم وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لكم، وكذلك فيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لما فعله أبو موسى رضي الله عنه والإذن له، سواء كان هذا الإذن صريحًا أو إقرارًا.
}7263{ قوله: «فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ» ، أي: في غرفة مرتفعة.
وفي الحديث أن عمر رضي الله عنه قَبِل خبر الغلام الأسود، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قبل خبره، ففيه: قبول خبر الواحد، ووجه الاستدلال أنه لم يقيده بعدد فصار الواحد من جملة ما يصدق عليه وجود الإذن، وهذا متفق عليه عند الجمهور حتى اكتفوا بخبر من لم تثبت عدالته لقيام القرينة فيه بالصدق.
مَا كَانَ يَبْعَثُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الأُْمَرَاءِ
وَالرُّسُلِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ بِكِتَابِهِ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ.
}7264{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، فَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ الْبَحْرَيْنِ، يَدْفَعُهُ عَظِيمُ الْبَحْرَيْنِ إِلَى كِسْرَى، فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى مَزَّقَهُ.
فَحَسِبْتُ أَنَّ ابْنَ الْمُسَيَّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ.
}7265{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَْكْوَعِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ: «أَذِّنْ فِي قَوْمِكَ أَوْ فِي النَّاسِ يَوْمَ عَاشُورَاءَ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ».
هذه الترجمة في بعث النبي صلى الله عليه وسلم الأمراء والرسل واحدًا بعد واحد، وأن من يرسل إليهم يقبلون خبرهم، والنبي صلى الله عليه وسلم أيضًا يقبل خبرهم فيما يأتون به.
}7264{ قوله: «بَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى» ، يعني: ملك الفرس، «فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى مَزَّقَهُ» لأن الفرس عندهم عتو وعناد.
وقد وقع هذا الحديث في رواية أخرى بعد الترجمة، ولكنه وقع في هذا الرواية مسندًا.
قوله: «فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُمَزَّقُوا كُلَّ مُمَزَّقٍ» ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فلما مزقوا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم أن يُمزقوا، فاستجيبت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وفتح المسلمون بلاد فارس واستولوا على جميع أملاكهم، ولم يبق منها شيء في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم تعد دولة الكياسرة بعد ذلك لحديث: «إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده»[(417)] وقد تعود باسم آخر وهذه دولة إيران الآن في العصر الحاضر تدعو إلى الشرك باسم الإسلام.
}7265{ قوله: «قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ: أَذِّنْ فِي قَوْمِكَ» فيه: دليل على أنهم يقبلون خبره وهو واحد، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وهذا قبل أن يفرض صوم رمضان حيث كان واجبًا عليهم صوم يوم عاشوراء، فلما فرض صوم رمضان صار صوم عاشوراء مستحبًّا، والشاهد قبول خبر الواحد.
وأشار الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى أن الشافعي رحمه الله قد سبق المؤلف رحمه الله في بيان قبول خبر الواحد فنقل عنه أنه قال: «بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سراياه وعلى كل سرية واحد، وبعث رسله إلى الملوك إلى كل ملك واحد، ولم تزل كتبه تنفذ إلى ولاته بالأمر والنهي فلم يكن أحد من ولاته يترك إنفاذ أمره، وكذا كان الخلفاء بعده. انتهى، فأما أمراء السرايا فقد استوعبهم محمد بن سعد في الترجمة النبوية وعقد لهم بابًا سماهم فيه على الترتيب، وأما أمراء البلاد التي فتحت فإنه صلى الله عليه وسلم أمر على مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان عمرو بن العاص، وعلى نجران أبا سفيان بن حرب، وأمر على صنعاء وسائر جبال اليمن باذان ثم ابنه شهر وفيروز والمهاجر بن أبي أمية وأبان بن سعيد بن العاص، وأمر على الساحل أبا موسى وعلى الجند ومن معهم معاذ بن جبل، وكان كل منهما يقضي في عمله ويسير فيه، وكانا ربما التقيا كما تقدم، وأمر أيضًا عمرو بن سعيد بن العاص على وادي القرى ويزيد بن أبي سفيان على تيماء، وثمامة بن أثال على اليمامة، فأما أمراء السرايا والبعوث فكانت إمرتهم تنتهي بانتهاء تلك الغزوة، وأما أمراء القرى فإنهم استمروا فيها، ومن أمرائه أبو بكر رضي الله عنه على الحج سنة تسع، وعلي رضي الله عنه لقسمة الغنيمة وإفراد الخمس باليمن وقراءة سورة براءة على المشركين في حجة أبي بكر، وأبو عبيدة رضي الله عنه لقبض الجزية من البحرين، وعبدالله بن رواحة رضي الله عنه لخرص خيبر... وأما رسله إلى الملوك فسمى منهم دحية وعبدالله بن حذافة رضي الله عنهما».
وَصَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وُفُودَ الْعَرَبِ أَنْ يُبَلِّغُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ
قَالَهُ مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ
}7266{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، ح.
وحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُقْعِدُنِي عَلَى سَرِيرِهِ فَقَالَ لِي: إِنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ الْوَفْدُ؟» قَالُوا: رَبِيعَةُ قَالَ: «مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ أَوْ الْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفَّارَ مُضَرَ فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ وَنُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، فَسَأَلُوا عَنْ الأَْشْرِبَةِ فَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ، وَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، أَمَرَهُمْ بِالإِْيمَانِ بِاللَّهِ، قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِْيمَانُ بِاللَّهِ؟» قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ ـ وَأَظُنُّ فِيهِ صِيَامُ رَمَضَانَ ـ وَتُؤْتُوا مِنْ الْمَغَانِمِ الْخُمُسَ» وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ وَرُبَّمَا قَالَ الْمُقَيَّرِ قَالَ: «احْفَظُوهُنَّ وَأَبْلِغُوهُنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ».
قوله: «بَاب وَصَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وُفُودَ الْعَرَبِ» وصاة ـ بفتح الواو وضمها ـ يعني: وصيتهم.
}7266{ قوله: «كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُقْعِدُنِي عَلَى سَرِيرِهِ» القائل هو أبو جمرة، وفي رواية: «فأترجم بينه وبين الناس»[(418)] يعني: يبلغ عنه الناس.
وفيه: قبول خبر الواحد حيث تقبل ترجمته.
قوله: «مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ أَوْ الْقَوْمِ غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ نَدَامَى» ، فيه: استحباب الترحيب بالوفود وحسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم، والشاهد من الحديث الاحتجاج بخبر الواحد؛ لأن وفد عبدالقيس أفراد لا يبلغون حد التواتر ومع ذلك قبل قومهم خبرهم، فدل على قبول خبر الواحد.
وفيه: الرد على الجهمية والمعتزلة في رد خبر الواحد.
قوله: «وَنُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا» ، أي: ينقلون الخبر إلى من وراءهم، وهم عدد لا يبلغ حد التواتر ويقبلونهم، وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
قوله: «أَمَرَهُمْ بِالإِْيمَانِ بِاللَّهِ» ، وفي رواية: «آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأداء الخمس»[(419)] فدل ذلك على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.
وفيه: الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان.
وبدأ بالشهادة لله تعالى بالوحدانية وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ لأنها أصل الدين وأساس الملة، وعليها تبنى الأعمال، ثم ثنى بالصلاة، لأنها عمود الإسلام وأهم الأعمال بعد الشهادتين، وكان عمر يكتب إلى عماله: إن أهم أعمالكم عندي الصلاة.
قوله: «قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ» هذا يقال في حياته صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته فيقال: الله أعلم؛ لأن الرسول لا يعلم الغيب، وقيل: يقال: الله ورسوله أعلم في الأمور الشرعية دون الأمور الكونية.
قوله: «وَأَظُنُّ فِيهِ صِيَامُ رَمَضَانَ» ، هذا الشك من الراوي، لكن جاء في الرواية الأخرى بالجزم قال: «وصوم رمضان»[(420)] .
قوله: «وَنَهَاهُمْ عَنْ الدُّبَّاءِ» ، وهي القرع، «وَالْحَنْتَمِ» ، وهي جرار خضر مثل الأزيار، «وَالْمُزَفَّتِ» ، وهو المطلي بالزفت، «وَالنَّقِيرِ» ، وهو الجذع ينقر؛ فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الانتباذ في هذه الأربع خشية أن يتخمر الشيء المنتبذ، وهم لا يعلمون؛ لأن هذه أشياء صلبة فيتخمر وهم لا يدرون، بخلاف الانتباذ في الأسقية فإنها إذا تخمرت تشققت وتمزقت، فقال: «انتبذوا في الأسقية»[(421)] .
وهذا قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام، ثم بعد ذلك لما استقر الإسلام في نفوسهم، وعرفوا الحكم الشرعي أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الانتباذ في كل وعاء ونهى عن المسكر فقال: «إني كنت نهيتكم عن ثلاث» ، فذكر منها: «ونهيتكم عن الأشربة في الأوعية فاشربوا في أي وعاء شئتم، ولا تشربوا مسكرًا»[(422)] ، وقد خفي هذا الإذن على علي رضي الله عنه فقد كان يخطب الناس بالكوفة وينهى عن هذه الأربع أن ينتبذ فيها.
وفيه: دليل على أن العالم الكبير قد يخفى عليه شيء من العلم، وأن العلم مشاع.
قوله: «احْفَظُوهُنَّ وَأَبْلِغُوهُنَّ مَنْ وَرَاءَكُمْ» الأمر بذلك يتناول كل فرد فلولا أن الحجة تقوم بتبليغ الواحد ما خصهم به.
خَبَرِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ
}7267{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْوَلِيدِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ تَوْبَةَ الْعَنْبَرِيِّ قَالَ: قَالَ لِي الشَّعْبِيُّ: أَرَأَيْتَ حَدِيثَ الْحَسَنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَاعَدْتُ ابْنَ عُمَرَ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ، أَوْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هَذَا، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيهِمْ سَعْدٌ، فَذَهَبُوا يَأْكُلُونَ مِنْ لَحْمٍ، فَنَادَتْهُمْ امْرَأَةٌ مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لَحْمُ ضَبٍّ فَأَمْسَكُوا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُوا أَوْ اطْعَمُوا فَإِنَّهُ حَلاَلٌ ـ أَوْ قَالَ لاَ بَأْسَ بِهِ شَكَّ فِيهِ ـ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي».
قوله: «بَاب خَبَرِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ» ، يعني: حكم قبول خبر المرأة الواحدة، والحكم أنها إذا كانت ثقة فالخبر يقبل ويعمل به ويعتمد عليه.
ومن ذلك أن ميمونة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم قالت: أخبروا الرسول بما يأكل قالت: إنه لحم ضب فأمسك، ففيه: دليل على الاعتماد على خبر المرأة الواحدة إذا كانت ثقة وقبوله والعمل به، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قبل خبر ميمونة رضي الله عنها أنه لحم ضب ولم يقل: هاتي من يشهد معك أنه لحم ضب.
}7267{ قوله: «أَرَأَيْتَ حَدِيثَ الْحَسَنِ» هو: الحسن البصري رحمه الله.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «كأن الشعبي ينكر على من يرسل الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إشارة إلى أن الحامل لفاعل ذلك طلب الإكثار من التحديث عنه، وإلا لكان يكتفي بما سمعه موصولاً. وقال الكرماني: مراد الشعبي أن الحسن مع كونه تابعيًّا كان يكثر الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمر مع كونه صحابيًّا يحتاط ويقل من ذلك مهما أمكن».
قوله: «وَقَاعَدْتُ ابْنَ عُمَرَ» القائل هو: الشعبي، «فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ هَذَا» ، يعني: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقل من الحديث ـ مع أن ابن عمر أحاديثه مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ـ خشية الوهم، كما كان عمر رضي الله عنه كذلك يفعل، والحسن ـ مع أن أحاديثه مرسلة ـ كان يكثر من الأحاديث.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وكأن ابن عمر اتبع رأي أبيه في ذلك، فإنه كان يحض على قلة التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين: أحدهما خشية الاشتغال عن تعلم القرآن وتفهم معانيه، والثاني خشية أن يحدث عنه بما لم يقله؛ لأنهم لم يكونوا يكتبون فإذا طال العهد لم يؤمن النسيان».
قوله: «امْرَأَةٌ مِنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» هي ميمونة رضي الله عنها، «فَأَمْسَكُوا» أي: عن الطعام، وهذا هو الشاهد وهو أنهم قبلوا خبرها.
قوله: «كُلُوا أَوْ اطْعَمُوا فَإِنَّهُ حَلاَلٌ» ، فيه: دليل على أن لحم الضب مباح ولا حرج في أكله.
قوله: «لاَ بَأْسَ بِهِ» القائل هو شعبة، والذي شك هو توبة العنبري.
قوله: «وَلَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِي» ، وفي اللفظ الآخر: «إنه ليس بأرض قومي، فأجدني أعافه»[(423)] فأُكل الضب على مائدة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأكله لأنه تعافه نفسه، ولم يكن في بلده، فأكلوا وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
والشاهد من الحديث: قبول خبر المرأة الواحدة إذا كانت ثقة، والاعتماد على قولها والعمل به.
وفيه: الرد على الجهمية والمعتزلة وغيرهم الذين لا يقبلون خبر الواحد.