(94)كِتَاب التَّمَنِّي
مَا جَاءَ فِي التَّمَنِّي وَمَنْ تَمَنَّى الشَّهَادَةَ
}7226{ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ خَالِدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِي، وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ مَا تَخَلَّفْتُ، لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ».
}7227{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُهُنَّ ثَلاَثًا أَشْهَدُ بِاللَّهِ.
التمني على وزن التفعل مشتق من الأمنية، والجمع أماني، والتمني إرادةٌ تتعلق بالمستقبل، وقد تكون في خير، وقد تكون في شر، فإن كانت في خير من غير أن تتعلق بحسد فهذا مطلوب ومشروع، وإن كانت في شر أو في حسد كأن يتمنى المرء زوال النعمة عن أخيه فمذموم.
وقد قيل: إن بين التمني والترجي عمومًا وخصوصًا، فالترجي يكون في الممكن والتمني أعم فيكون في الممكن وغير الممكن.
وقيل: التمني يتعلق بما فات؛ ولهذا قال بعضهم: هو طلب ما لا يمكن حصوله، ونقل الحافظ ابن حجر رحمه الله قول الراغب: «قد يتضمن التمني معنى الود؛ لأنه يتمنى حصول ما يود... والودادة هي إرادة وقوع الشيء على وجه مخصوص، وقال: الود محبة الشيء وتمني حصوله فمن الأول قول الله تعالى: [الشّورى: 23]{قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، ومن الثاني قوله تعالى: [آل عِمرَان: 69]{وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ}»، يعني: يتمنون هذا الحصول.
}7226{ قوله: «مَا تَخَلَّفْتُ» ، يعني: ما تخلفت عن جيش يخرج مجاهدًا في سبيل الله، وبين النبي صلى الله عليه وسلم المانع له من الخروج في كل جيش أنه يشق على أصحابه أن يتخلفوا عنه، ولا يستطيعون أن يجاهدوا معه؛ لأنهم ليس عندهم ما يمكنهم من الجهاد، فليس عندهم راحلة ولا سلاح، والنبي صلى الله عليه وسلم ليس عنده ما يحملهم.
قوله: «لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» تمنى القتل في سبيل الله أربع مرات وهذا هو الشاهد للترجمة.
}7227{ قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» قسم من النبي صلى الله عليه وسلم لتأكيد المقام وهو الصادق وإن لم يقسم.
قوله: «وَدِدْتُ أَنِّي أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ» فيه: مشروعية تمني الخير، وأنه ليس من التمني المنهي عنه.
وفيه: فضل الشهادة وفضل الشهيد، وقد جاء في «صحيح مسلم»: «ما من نفس تموت لها عند الله خير يسرها أنها ترجع إلى الدنيا ولا أن لها الدنيا وما فيها إلا الشهيد فإنه يتمنى أن يرجع فيقتل في الدنيا لما يرى من فضل الشهادة» [(377)].
تَمَنِّي الْخَيْرِ
وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ لِي أُحُدٌ ذَهَبًا.
}7228{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ كَانَ عِنْدِي أُحُدٌ ذَهَبًا لَأَحْبَبْتُ أَنْ لاَ يَأْتِيَ عَلَيَّ ثَلاَثٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، لَيْسَ شَيْءٌ أَرْصُدُهُ فِي دَيْنٍ عَلَيَّ أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ».
هذه الترجمة في تمني الخير، وهي أعم من الترجمة السابقة، فالترجمة السابقة في تمني الشهادة؛ والخير يشمل الشهادة وغيرها.
قوله: «وَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ لِي أُحُدٌ ذَهَبًا» ، يعني: لو كان لي مثل جبل أحد من الذهب، وأحد جبل في شمال المدينة، وكانت عنده وقعة أحد.
}7228{ قوله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَ عِنْدِي أُحُدٌ ذَهَبًا لَأَحْبَبْتُ أَنْ لاَ يَأْتِيَ» ، هذا الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم فيه محذوف للعلم به، والتقدير: لو كان عندي مثل أحد ذهبًا لأحببت... إلخ.
وقوله: «أَنْ لاَ يَأْتِيَ عَلَيَّ ثَلاَثٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ» ، يعني: ينفقه في وجوه الخير.
قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ»
}7229{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا».
}7230{ حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، وَقَدِمْنَا مَكَّةَ لأَِرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَنَحِلَّ، إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَحَدٍ مِنَّا هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَطَلْحَةَ، وَجَاءَ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالُوا: نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ؟! قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَحَلَلْتُ» قَالَ: وَلَقِيَهُ سُرَاقَةُ وَهُوَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَنَا هَذِهِ خَاصَّةً؟ قَالَ: لاَ، بَلْ لأَِبَدٍ، قَالَ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ قَدِمَتْ مَعَهُ مَكَّةَ وَهِيَ حَائِضٌ، فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَنْسُكَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لاَ تَطُوفُ وَلاَ تُصَلِّي حَتَّى تَطْهُرَ، فَلَمَّا نَزَلُوا الْبَطْحَاءَ قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجَّةٍ؟ قَالَ: ثُمَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنْ يَنْطَلِقَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ عُمْرَةً فِي ذِي الْحَجَّةِ بَعْدَ أَيَّامِ الْحَجِّ.
قوله: «بَاب قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ»» ، هذه الترجمة على جزء من لفظ الحديث،وأن هذا في تمني الخير، وإنما يمنع في الاعتراض على القدر والتحسر على ما فات.
}7229{ قوله: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا» ، فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم تأسف؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج والعمرة قارنًا وساق الهدي ومن ساق الهدي فلا يتحلل، ولما قدم المسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم مكة أمر كل من أحرم بالحج مفردًا أو بالحج والعمرة قارنًا أن يحولوا إحرامهم ويجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي، فقالوا: يا رسول الله كيف نحول إلى العمرة وقد سمينا الحج وأنت أيضًا ما تحللت، فلما طافوا وسعوا أمرهم أن يتحللوا جميعًا، وحتَّم عليهم وألزمهم فتحللوا إلا من ساق الهدي، لكن شق عليهم ذلك وقالوا: يا رسول الله كيف نتحلل وأنت ما تحللت فقال: «لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا» ، يعني: لو كنت أعلم أن أصحابي سيتوقفون وسيشق عليهم كوني لم أحل ما سقت الهدي؛ لأن من ساق الهدي لا يتحلل حتى يذبح هديه، وأما هم فليس معهم هدي، فأمرهم أن يفعلوا الأفضل فشق عليهم ذلك لأنهم يريدون أن يفعلوا مثل ما يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأسف، وتمنى أن لو لم يكن ساق الهدي؛ حتى تطيب نفوسهم، وهذا هو الشاهد حيث إنه فيه استعمال حرف لو في تمني الخير.
}7230{ قوله: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَبَّيْنَا بِالْحَجِّ، وَقَدِمْنَا مَكَّةَ لأَِرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ» ، هذا في حجة الوداع حيث قدم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه في اليوم الرابع من ذي الحجة، ونزل صلى الله عليه وسلم في الأبطح وجعل يصلي فيه الصلوات، ولا يدخل المسجد الحرام، ويقصر الصلاة الرباعية ولا يجمع، بل صلى كل صلاة في وقتها، وأقام بالأبطح اليوم الرابع من ذي الحجة والخامس والسادس والسابع، وفي اليوم الثامن انتقل إلى منى، فأخذ جمهور العلماء من هذا أن من نوى الإقامة في مكان أكثر من أربعة أيام يتم، وأما أربعة أيام فإنه يقصر، والدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث أقام أربعة أيام، لكن قال آخرون من أهل العلم: إن هذه واقعة عين، ولو أنه أقام خمسة أيام أو ستة لاستمر، لكن قال الجمهور: نحن نضم إلى هذا أن المسافر هو الذي يرحل ويظعن، والمقيم في البلد لا يرحل ولا يظعن، واستثنينا أربعة أيام لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن الصلاة أمرها عظيم فينبغي أن يكون هناك حد؛ وقال شيخ الإسلام رحمه الله[(378)]: لا يزال يقصر ولو جلس سنين، وقول الجمهور لا شك أنه هو الراجح والذي تطمئن إليه النفس؛ لأنه لو كان المسافر يقصر دائمًا فمعنى هذا أن العمال والطلاب الذين يمكثون ثمان سنين أو عشر سنين لهم أن يقصروا وأن يفطروا في رمضان، وهذا لا تطمئن إليه النفس؛ لأنهم مثل المقيمين في بيوتهم وأهليهم.
قوله: «فَأَمَرَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَطُوفَ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَنْ نَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَنَحِلَّ، إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ» وهذا ما وقع فجميع الصحابة الذين قدموا مع النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسوقوا الهدي كلهم حولوا النية إلى العمرة، فالذي أحرم بالحج مفردًا والذي أحرم بالحج قارنًا تحللوا وجعلوها عمرة؛ فدل هذا على مشروعية فسخ الحج أو الحج والعمرة إلى عمرة لمن لم يكن معه هدي.
وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن التمتع واجب، وقال: «إن من طاف بالبيت وسعى فقد حل شاء أم أبى»، وهو اختيار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني واختيار ابن القيم رحمه الله حيث قال في «زاد المعاد»: «وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا»[(379)] يعني: أنه يميل إلى قول ابن عباس رضي الله عنهما أكثر من ميله إلى رأي شيخ الإسلام ابن تيمية حيث إن شيخ الإسلام ابن تيمية[(380)] يرى أن هذا الوجوب خاص بالصحابة حتى يزول اعتقاد الجاهلية؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، ولا يرون أشهر الحج إلا خاصة بالحج، وليس هناك عمرة في شوال ولا في ذي القعدة ولا في ذي الحجة ولا في محرم حتى ينسلخ شهر صفر، ويقولون مقالتهم المشهورة: إذا برأ الدبر وعفا الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر، يعني: الإبل حينما تسافر للحج سفرًا طويلاً وعليها الأحمال يكون في ظهرها جروح، فإذا هي جاءت من الحج وبرأت الجروح، وطمس الأثر من طريقها وانسلخ شهر صفر هنا يأتي وقت العمرة، أما قبل ذلك فلا عمرة؛ فلهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يجعلوها عمرة حتى يزول اعتقاد الجاهلية.
وأما جمهور العلماء فيرون أنه مخير بين الأنساك الثلاثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خيرهم عند الميقات لكن من أوجب المتعة قال: كان هذا عند الميقات لكن عند دخولهم مكة نسخ.
قوله: «نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ؟!» ، يعني: كيف نتحلل من العمرة ونجامع النساء، ثم نحرم بالحج وعهدنا بالنساء قريب؟ واستنكروا هذا لأنه لم يكن موجودًا في الجاهلية، فهم متأثرون باعتقاد الجاهلية.
قوله: «إِنِّي لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لَحَلَلْتُ» ، أي: لو كنت أعلم أن هذا يشق عليكم ما سقت الهدي ولأحللت معكم، وهذا هو الشاهد من الحديث؛ لأنه في تمني الخير وأنه مشروع وجائز، والممنوع هو قول «لو» في الاعتراض على القدر والتحسر على ما فات.
قوله: «أَلَنَا هَذِهِ خَاصَّةً؟» ، يعني: هل المتعة خاصة بنا؟ قال: «لاَ، بَلْ لأَِبَدٍ» ، وفي لفظ قال: «بل لأبد الأبد»[(381)] وشبك بين أصابعه؛ لأن المتعة مستمرة إلى يوم القيامة فهي ليست خاصة بالصحابة.
قال: «فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَنْسُكَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا» يعني: تؤدي مناسك الحج، «غَيْرَ أَنَّهَا لاَ تَطُوفُ وَلاَ تُصَلِّي حَتَّى تَطْهُرَ» فيه: أن الحائض تفعل جميع المناسك إلا الطواف، فلها أن تقف بعرفة وبالمزدلفة وترمي الجمرات وغير ذلك من المناسك.
قوله: «فَلَمَّا نَزَلُوا الْبَطْحَاءَ» ، هذا في اليوم الثالث عشر بعد رمي الجمار، «قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَأَنْطَلِقُ بِحَجَّةٍ؟» لأن عائشة رضي الله عنها حاضت لما قدمت مكة فلم تستطع أن تؤدي العمرة، وجاء الحج وهي عليها الدم، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل وتدخل الحج على العمرة وصواحباتها أحرمن بعمرة منفردة فشق عليها ذلك، فهي تريد عمرة مستقلة.
قوله: «ثُمَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ أَنْ يَنْطَلِقَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ عُمْرَةً فِي ذِي الْحَجَّةِ بَعْدَ أَيَّامِ الْحَجِّ» ، أخذ العلماء من هذا أن من أراد العمرة من أهل مكة لابد أن يخرج إلى الحل ويكون هذا مخصصًا لقوله صلى الله عليه وسلم لما وقت المواقيت: «هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج والعمرة حتى أهل مكة من مكة»[(382)] فمن أراد الحج من داخل المواقيت يحرم من مكانه حتى أهل مكة يحرمون من مكة، أما العمرة فخصصها هذا الحديث ولابد أن يخرج إلى الحل.