شعار الموقع

شرح كتاب الأذان من صحيح البخاري (10-48)

00:00
00:00
تحميل
142

لكن لا ينبغي للإنسان أن يتعمد تقديم الطعام بعد الأذان، فيقول لأهله: هاتوا السفرة؛ فهذا معناه تعمد ترك الجماعة، لكن لو قدم له قدرًا أو من دون طلب ونفسه تتوق إلى الطعام فإنه يبدأ بالطعام حتى تسكن نفسه ولا يتشوش، ويقبل على الصلاة وقلبه فارغ، كما فعل ابن عمر، فكان يتعشى ويسمع الإمام يقرأ، وهذا من فقهه، كما قال أبو الدرداء: «مِنْ فِقْهِ الْمَرْءِ إِقْبَالُهُ عَلَى حَاجَتِهِ حَتَّى يُقْبِلَ عَلَى صَلاَتِهِ وَقَلْبُهُ فَارِغٌ» .

قوله في أحاديث الباب: «إِذَا وُضِعَ الْعَشَاءُ» أو «إِذَا قُدِّمَ الْعَشَاءُ» أو «إِذَا وُضِعَ عَشَاءُ أَحَدِكُمْ» أو «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ عَلَى الطَّعَامِ» كلٌ فيه مراعاة ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم.

ومثله حديث: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان» [(317)]، والأخبثان: البول والغائط.

فإذا كان بحضرة طعام، فإنه يقدم الطعام، وكذلك إذا كان يدافع البول أو الغائط أو الريح، وكذلك المطر الذي فيه مشقة، وإذا كان خائفًا على نفسه أو خائفًا على ماله أو أهله خوفًا حقيقيًّا ليس خوفًا متوهمًا، فتكون هذه أعذار في ترك الجماعة، ولهذا بوب العلماء وذكروا أعذارًا في ترك الجمعة والجماعة هذه منها.

لكن، هل النفي في هذا الحديث للكمال أو للصحة؟ أي لو صلى ونفسه تتوق إلى الطعام، أو صلى وهو يدافع البول أو الغائط أو الريح، هل صلاته صحيحة أم لا؟ فيه قولان لأهل العلم:

فبعض العلماء يقول: لو صلى وهو يدافع البول أو الغائط أو الريح، أو نفسه تتوق إلى الطعام لا تصح الصلاة؛ لأن النفي للصحة، والمعنى لا صلاة صحيحة بحضرة الطعام ولا وهو يدافعه الأخبثان، وذهب إلى هذا الظاهرية وجماعة.

وذهب جمهور العلماء إلى أن النفي نفي للكمال أي: لا صلاة كاملة، وقالوا: تصح الصلاة مع الكراهة.

وقال بعضهم: يصليها مع الكراهة ويعيدها.

والصواب: أنها صحيحة مع الكراهة، والأفضل له أن يقضي حاجته من البول والغائط ويقبل على طعامه حتى لا يتشوش ويكون هذا عذرًا له في ترك الجماعة في هذه الحالة.

أما إذا لم يكن له حاجة للطعام ثم دخل على أناس وقدموا الطعام فإنه يذهب ويصلي.

أما حديث: «لا صلاة لمنفرد خلف الصف» [(318)] فالمراد به نفي الصحة على الصحيح فمن صلى منفردًا خلف الصف لا تصح صلاته فلابد أن ينضم إليه واحد قبل أن يسجد، فإن صلى وحده يعيدها، أي بطلت صلاته على الصحيح، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا لم يجد مكانًا وضاقت به الحيل صحت الصلاة للضرورة ويرى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية[(319)] وهو رواية عن الإمام أحمد[(320)]، والصواب: أنها لا تصح، وعليه أن يحاول المراصة في الصف أو يأتي عن يمين الإمام، فإن لم يجد ينتظر حتى يأتي أحد يصف معه ويكون معذورًا.

;  إِذَا دُعِيَ الإِْمَامُ إِلَى الصَّلاَةِ وَبِيَدِهِ مَا يَأْكُلُ

}675{ حَدَّثَنَا عَبْدُالْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنْ صَالِحٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْكُلُ ذِرَاعًا يَحْتَزُّ مِنْهَا فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

 

}675{ الأحاديث السابقة فيها: «لا صلاة بحضرة الطعام» [(321)] و «إذا حضر العَشاء فابدءوا بالعَشاء» [(322)] وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دعي إلى الصلاة، فطرح السكين وأقبل على الصلاة، ويجمع بينهما بأن هذا الحديث محمول على أنه صلى الله عليه وسلم أخذ نهمته من الطعام، وأما الأحاديث التي فيها الأمر بالأكل قبل الصلاة فمحمولة على ما إذا لم يقض نهمته، ويحتمل أن يكون هذا الحديث صارفًا للأمر في الأحاديث التي في الباب قبله من الوجوب إلى الندب، ويكون الأحاديث التي فيها: «ابدءوا بالعشاء» يعني من باب الاستحباب، ويكون هذا مؤيدًا قول الجمهور بأن النفي ليس للصحة، وإنما هو نفي للكمال، فيكون: «إذا حضر العشاء فابدءوا بالعشاء» [(323)] على الاستحباب والصارف له عن الوجوب إلى الاستحباب فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعي إلى الصلاة وهو يحتز فطرح السكين وأقبل على الصلاة، مثلما جاء في الحديث الآخر: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائمًا» [(324)] ثم شرب قائمًا من زمزم[(325)]، فالنهي ليس للتحريم بل للكراهة، والذي صرفه إلى الكراهة فعله عليه الصلاة والسلام من كونه شرب قائمًا.

والقاعدة عند أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نهى عن شيء ثم فعله دل على أن النهي ليس للتحريم.

وقال بعضهم: لعل المراد التفصيل بين إذا أقيمت الصلاة قبل الشروع في الأكل، وبين إذا أقيمت بعده.

وقوله: «فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَقَامَ فَطَرَحَ السِّكِّينَ» يشعر بأنه لو لم يدع لاستمر في الأكل.

وفي هذا الحديث: دليل على عدم وجوب الوضوء مما مست النار، وأن الأمر بوجوب الوضوء مما مست النار منسوخ أو محمول على الندب؛ فكانوا في أول الإسلام يتوضئون مما مست النار، فكل شيء تمسه النار يجب الوضوء منه، ثم نسخ بحديث جابر: كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار[(326)] فنسخ الوجوب وبقي الاستحباب، ومن الأدلة على النسخ هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أكل لحمًا قد مسته النار، ثم دعي إلى الصلاة فطرح السكين وصلى ولم يتوضأ.

;  مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَهْلِهِ فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَخَرَجَ

}676{ حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَْسْوَدِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ مَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ فِي بَيْتِهِ قَالَتْ: كَانَ يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ تَعْنِي خِدْمَةَ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ.

 

}676{ قوله: «مِهْنَةِ» يقال فيها: مِهنة ومَهنة، وهذا الحديث فيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يعاون أهله وليس كما يفعل بعض الناس فتجده متكبرًا لا يساعد أهله ولا يعينهم، ولا يتكلم إلا بصوت مرتفع، بينما كان الرسول صلى الله عليه وسلم في خدمة أهله يتواضع معهم؛ فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة.

وإذا كان الإنسان مشغولاً بشيء، أو كان في مهنة أهله، أو يعمل في بيته نجارة أو حدادة أو سباكة، أو أي شيء، ثم جاءت الصلاة فهل يلحق هذا بالطعام فيقال: إن ذهنه مشوش وإن له أن يستمر في العمل ويترك الصلاة أم أن هذا خاص بالطعام؟ الظاهر أن هذا خاص بالطعام، وأن هذا لا يلحق به ولو كان كذلك لما وجد الإنسان وقتًا للصلاة؛ فكل الأوقات شغل للإنسان.

فكأن البخاري رحمه الله أراد أن يبين أن الإنسان إذا كان في عمل في بيته، ثم أقيمت الصلاة أو حضرت الصلاة فإنه يذهب إلى الصلاة ولا يستمر في عمله ولا يقول: إن ذهني مشوش مثل من قدم له الطعام؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يكون في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة خرج إليها ولا يستمر في مهنة أهله.

وأما ما كان من الضرورات، كالشيء الذي يفسد مثل الخبز يحترق وما أشبه ذلك فقد يُذكر في الأعذار، وكذلك الحارس الذي هو مستأمن على مكان فإذا ذهب إلى الصلاة ضاع ما في المكان أو سرق فهذا عذر له في ترك الجماعة؛ لأن الضرورات تقدر بقدرها، ولا يقال هذا لكل أحد.;  مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ

وَهُوَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلاَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتَهُ

}677{ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: جَاءَنَا مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فِي مَسْجِدِنَا هَذَا فَقَالَ: إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ أُصَلِّي كَيْفَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فَقُلْتُ لأَِبِي قِلاَبَةَ: كَيْفَ كَانَ يُصَلِّي قَالَ: مِثْلَ شَيْخِنَا هَذَا قَالَ: وكَانَ شَيْخًا يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى.

 

}677{ قوله: «بَاب مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ وَهُوَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ صَلاَةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَسُنَّتَهُ» أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأُصَلِّي بِكُمْ وَمَا أُرِيدُ الصَّلاَةَ» واستشكل بعضهم قوله بنفي الإرادة؛ لأنه يلزم منه أنه لا يريد الصلاة؛ فلا تكون الصلاة قربة، ونجيب بأنه ما أراد نفي القربة، وإنما أراد أنه لا يريد أن يصلي في هذا الوقت وأنه يثاب على ذلك.

وقوله: «وكَانَ شَيْخًا يَجْلِسُ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ قَبْلَ أَنْ يَنْهَضَ فِي الرَّكْعَةِ الأُْولَى» هذه الجلسة يقال لها: جلسة الاستراحة، وهي جلسة خفيفة ليس فيها ذكر ولا دعاء، وتكون بعد الركعة الأولى قبل أن ينهض للثانية، وبعد الثالثة قبل أن ينهض للرابعة، واختلف العلماء: هل هي سنة مطلقة أو تفرض عند الحاجة لمرض أو كبر؟

فذهب بعض الشافعية[(327)] وبعض العلماء إلى أنها سنة مطلقة للكبير ولغير الكبير، وذهب إلى هذا طائفة من أهل الحديث وهو ظاهر هذا الحديث.

والمشهور من مذهب الحنابلة[(328)] وعند كثير غيرهم أنها تفعل عند الحاجة إذا كان الإنسان مريضًا أو كبير السن، وقالوا: إن مالك بن الحويرث قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته بعدما كبر وأسن وأخذه اللحم، وقالوا: ويدل على أنها ليست سنة مطلقة أنه خلا منها بعض الأحاديث، كحديث أبي حميد وغيره.

وعلى كل حال فالقول بأنها سنة مطلقة له وجاهته.

وجلسة الاستراحة ليس فيها إشكال بالنسبة للمأموم، ولكن بالنسبة للإمام فإنه إذا جلس سبقه المأمومون، فماذا يفعل؟ نقول: يجلس قبل أن يكبر، ثم ينهض بالتكبير حتى لا يسبقه المأمومون، إلا إذا أعلمهم أفعال جلسة الاستراحة وقال لهم: لا تعجلوا، وذلك لا يتأتى إلا إذا كان المأمومون محدودين في مكان ليس معهم غيرهم، لكن في المدن لا يمكن هذا، فالمساجد كبيرة ويأتي الناس ولا يعلمون أن الإمام سيجلس جلسة الاستراحة.

;  أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْفَضْلِ أَحَقُّ بِالإِْمَامَةِ

}678{ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: مَرِضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ قَالَ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ» فَعَادَتْ فَقَالَ: «مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

}679{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رضي الله عنها أَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِي مَرَضِهِ «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ» قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لِحَفْصَةَ: قُولِي لَهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ إِذَا قَامَ فِي مَقَامِكَ لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ فَفَعَلَتْ حَفْصَةُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَهْ إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ» فَقَالَتْ حَفْصَةُ لِعَائِشَةَ: مَا كُنْتُ لأُِصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا.

}680{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ وَكَانَ تَبِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَخَدَمَهُ وَصَحِبَهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُصَلِّي لَهُمْ فِي وَجَعِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الاِثْنَيْنِ وَهُمْ صُفُوفٌ فِي الصَّلاَةِ فَكَشَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سِتْرَ الْحُجْرَةِ يَنْظُرُ إِلَيْنَا وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ ثُمَّ تَبَسَّمَ يَضْحَكُ فَهَمَمْنَا أَنْ نَفْتَتِنَ مِنْ الْفَرَحِ بِرُؤْيَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ وَظَنَّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَارِجٌ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَشَارَ إِلَيْنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ.

}681{ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمْ يَخْرُجْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثًا فَأُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ يَتَقَدَّمُ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ فَلَمَّا وَضَحَ وَجْهُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا نَظَرْنَا مَنْظَرًا كَانَ أَعْجَبَ إِلَيْنَا مِنْ وَجْهِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ وَضَحَ لَنَا فَأَوْمَأَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَقَدَّمَ وَأَرْخَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْحِجَابَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ.

}682{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ قِيلَ لَهُ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ الْبُكَاءُ قَالَ: مُرُوهُ فَيُصَلِّي فَعَاوَدَتْهُ قَالَ: «مُرُوهُ فَيُصَلِّي إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ».

تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ وَابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى الْكَلْبِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

وَقَالَ عُقَيْلٌ وَمَعْمَرٌ: عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ حَمْزَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

 

}678{ قوله في حديث الباب الأول: «مُرُوا» وفي رواية: «مري» [(329)] الخطاب لعائشة رضي الله عنها.

وقوله: «فَأَتَاهُ الرَّسُولُ» يعني أتى أبا بكر الرسول الذي أرسله النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث واضح في الاستدلال للترجمة، فهو دليل على تقديم أهل الفضل والعلم وأنهم أحق بالإمامة من غيرهم؛ ولهذا قدم النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر في الإمامة؛ لأنه أفضل الصحابة وأحقهم بها وقدمه الصحابة للإمامة الكبرى استدلالاً بتقديم النبي صلى الله عليه وسلم له لإمامة الصلاة.

 

}679{ قوله: «مَا كُنْتُ لأُِصِيبَ مِنْكِ خَيْرًا» أي لما رأت عدم موافقة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وهذا مما يحصل بين النساء والضرائر.

قوله: «إِنَّكُنَّ لَأَنْتُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ» فيه: التحذير من كيد النساء، وعدم طاعة النساء فيما لم يظهر فيه وجه المصلحة.

وهذا الحديث دليل على تقديم أهل العلم والفضل وأنهم أحق الناس بالإمامة؛ ولذا أكد النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة فقال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ لِلنَّاسِ» أكثر من مرة.

 

}680{ قوله: «كَأَنَّ وَجْهَهُ وَرَقَةُ مُصْحَفٍ» يعني في الاستنارة والصفاء والجمال، كما يدل عليه حديث أنس الذي بعده حيث قال: «ما نظرنا منظرًا كان أعجب إلينا من وجه النبي صلى الله عليه وسلم» والمراد المصحف الذي جمع فيه القرآن بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان محفوظًا في الصدور ومجموعًا في الرقاع واللحاء، ولم يجمعه الصحابة في المصحف إلا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي؛ جمعه أبو بكر، ثم عثمان رضي الله عنهما.

وقوله: «فَنَكَصَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى عَقِبَيْهِ لِيَصِلَ الصَّفَّ» أي لما كشف النبي صلى الله عليه وسلم الستر رآه أبو بكر؛ لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كان يراها الإمام إذا كان من جهة اليسار؛ ولذا نكص أبو بكر وتأخر؛ ظنًّا منه أن النبي صلى الله عليه وسلم سيأتي ويتقدم، فأشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم «أَنْ أَتِمُّوا صَلاَتَكُمْ» يعني استمر في مكانك على الإمامة، «وَأَرْخَى السِّتْرَ فَتُوُفِّيَ مِنْ يَوْمِهِ» .

والشاهد: أن أبا بكر رضي الله عنه كان هو الذي يصلي بالناس بأمر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أحق الناس وأفضلهم وأعلمهم؛ فدل على ما ترجم به المؤلف من أن أهل العلم والفضل أحق بالإمامة.

 

}681{ قوله: «لَمْ يَخْرُجْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثًا» يعني: لم يخرج ثلاثة أيام من شدة المرض.

وقوله: «بِالْحِجَابِ فَرَفَعَهُ» يعني: وهو في حجرته، فظنوا لما كشف الحجاب أنه سيأتي، لكنه أومأ إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى الحجاب.

والشاهد: تقديم أبي بكر؛ لأنه أفضل الناس وأعلمهم.

 

}682{ والشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أكد ثلاث مرات أن يصلي أبو بكر بالناس؛ لأنه أعلم الناس وأفضلهم فهو أحقهم بالإمامة.

;  مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الإِْمَامِ لِعِلَّةٍ

}683{ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فِي مَرَضِهِ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ.

قَالَ عُرْوَةُ: فَوَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ فَإِذَا أَبُو بَكْرٍ يَؤُمُّ النَّاسَ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ اسْتَأْخَرَ فَأَشَارَ إِلَيْهِ أَنْ كَمَا أَنْتَ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِذَاءَ أَبِي بَكْرٍ إِلَى جَنْبِهِ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِصَلاَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ.

 

قوله في ترجمة الباب: «مَنْ قَامَ إِلَى جَنْبِ الإِْمَامِ لِعِلَّةٍ» يعني لسبب، كأن يكون الإمام الراتب مريضًا أو صوته ضعيفًا، فيجلس إلى جنبه من يبلغ عنه.

ولا بأس أن يقف المأموم عن يمين الإمام إلى جنبه إذا جاء ولم يجد مكانًا في الصف، أو كان المأموم واحدًا، وإذا وقف عن يساره صحت الصلاة، لكنه منهي عنه، والأولى أن يديره الإمام إلى يمينه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن عباس بإعادة أول صلاته لما صف عن يساره في صلاة الليل وإنما أداره إلى يمينه[(330)]، ومثل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما صلى وفي نعليه نجاسة وأخبره جبريل خلعهما ولم يعد أول صلاته.

}683{ احتج العلماء بحديث الباب على جواز التبليغ عن الإمام إذا كان صوته ضعيفًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جاء وجلس حذاء أبي بكر رضي الله عنه عن يساره فكان أبو بكر رضي الله عنه يقتدي به ويرفع صوته بالتبليغ، ويقتدي الناس بأبي بكر رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر رضي الله عنه قائم كما سبق فيما مضى من أحاديث.

;  مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ فَجَاءَ الإِْمَامُ الأَْوَّلُ فَتَأَخَّرَ الأَْوَّلُ

أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ جَازَتْ صَلاَتُهُ فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

}684{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلاِبْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إِلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ فَحَانَتْ الصَّلاَةُ فَجَاءَ الْمُؤَذِّنُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ فِي الصَّلاَةِ فَتَخَلَّصَ حَتَّى وَقَفَ فِي الصَّفِّ فَصَفَّقَ النَّاسُ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَّصْفِيقَ الْتَفَتَ فَرَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَشَارَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ امْكُثْ مَكَانَكَ فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَدَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ اسْتَأْخَرَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى اسْتَوَى فِي الصَّفِّ وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟» فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا لِي رَأَيْتُكُمْ أَكْثَرْتُمْ التَّصْفِيقَ مَنْ رَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيُسَبِّحْ فَإِنَّهُ إِذَا سَبَّحَ الْتُفِتَ إِلَيْهِ وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ».

 

هذه الترجمة من التراجم العظيمة في صحيح البخاري، فالبخاري رحمه الله امتاز في صحيحه عن غيره بأمرين عظيمين:

الأمر الأول: صحة الأحاديث؛ فإنه أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل بقول المحققين من أهل العلم؛ لما فيه من أسانيد عظيمة.

الأمر الثاني: التراجم وما فيها من الفقه العظيم والاستنباطات والفهم الثاقب، حتى إنه حير العلماء الكبار في كثير من تراجمه.

ومن ذلك هذه الترجمة العظيمة وما فيها من الفقه المأخوذ من الحديث، فقوله في الترجمة: «مَنْ دَخَلَ لِيَؤُمَّ النَّاسَ» يعني: إذا تقدم شخص وأم الناس لتأخر الإمام الراتب «فَجَاءَ الإِْمَامُ الأَْوَّلُ» يعني: الإمام الراتب، «فَتَأَخَّرَ الأَْوَّلُ أَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ جَازَتْ صَلاَتُهُ» يعني: إذا تأخر الإمام الراتب فتقدم خليفته أو نائبه ثم جاء الإمام الراتب فهو بالخيار، فإن شاء صلى مع الناس مأمومًا، وإن شاء تقدم، وإذا تقدم يتأخر الإمام الأول فيكون مأمومًا والراتب يكون الإمام، سواء فاته شيء من الصلاة أو لم يفته، فإن كان في أول الصلاة ـ في الركعة الأولى ـ فلا إشكال، وإن كان في الركعة الثانية أو الثالثة فإنه يؤم الناس ثم يأتي بما بقي عليه ثم ينتظره الناس حتى يسلم فيسلمون معه، لكن الأولى في مثل هذه الحال ـ إذا كان الإمام الراتب قد فاته شيء من الصلاة ـ ألا يتقدم بل يصلي مأمومًا، أما إذا كانوا في أول الصلاة ـ في الركعة الأولى ـ فله أن يتقدم، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الباب؛ لأنه لم يفته شيء من الصلاة.

أما في قصة إمامة عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه في غزوة تبوك لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، وقدم الصحابة عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه فصلى بهم ركعة، ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم والمغيرة، فصلى مأمومًا صلى الله عليه وسلم ولم يصل إمامًا، فلما سلم عبدالرحمن رضي الله عنه قام النبي صلى الله عليه وسلم وقضى الركعة التي فاتته وكذلك المغيرة بن شعبة رضي الله عنه، فحصل للصحابة بعض التكدر، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «أحسنتم وأصبتم» [(331)].

وقوله: «فِيهِ عَائِشَةُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» يعني: فيه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

}684{ وحديث الباب فيه عدة فوائد:

منها : أن الإمام إذا تأخر قدَّم الناس من يصلي بهم ولا يُحبسَون؛ ولهذا لما تأخر النبي صلى الله عليه وسلم قال المؤذن لأبي بكر رضي الله عنه: «أَتُصَلِّي لِلنَّاسِ فَأُقِيمَ؟ قَالَ: نَعَمْ» .

منها : أنه ينبغي للإمام أن لا يغضب إذا قدم الناس من يصلي بهم في حال تأخره؛ لئلا يجمع بين سيئتين: حبس الناس والغضب، وإن كان ينبغي للمؤذن والجماعة في المسجد أن يلاحظوا الإمام وينتظروه بعض الشيء حتى يزول الوقت الذي يمكن أن يأتي فيه، ثم يصلون.

منها : أن الالتفات بالرأس عند الحاجة لا بأس به ولا يبطل الصلاة، وهو مكروه بدون حاجة، لكن عند الحاجة لا بأس به كما فعله أبو بكر رضي الله عنه، فإنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر الناس من التصفيق التفت، وكان أبو بكر عادة لا يلتفت في الصلاة، أما الالتفات بكامل الجسد واستدبار القبلة فتبطل به الصلاة.

منها : أن رفع اليدين في الصلاة لحمد الله والثناء عليه لا بأس به، كما فعله أبو بكر رضي الله عنه.

منها : أن من نابه شيء في الصلاة فله أن ينبه الإمام، فالرجال ينبهون بالتسبيح والنساء بالتصفيق؛ ولهذا أنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم لما صفقوا فقال: «وَإِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ» . وقد ورد في الآية أن التصفيق من خصائص الكفار، فقال تعالى: [الأنفَال: 35]{وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} فالمكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، فلا ينبغي للمسلم أن يشابه الكفرة في التصفيق، ولكن إذا أراد الرجل أن ينبه الإمام قال: سبحان الله، أما المرأة فلها أن تصفق للحاجة؛ فتنبيهها باليد أهون من تنبيهها بالصوت.

منها : تواضع الصديق رضي الله عنه وهضمه لنفسه وتعظيمه للنبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما أشار إلى أبي بكر رضي الله عنه أن يبقى في مكانه فهم أبو بكر أن الإشارة ليست للوجوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تخلص حتى جاء إلى الصف الأول، فكأنه يريد أن يتقدم؛ ولهذا تأخر، فلما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَثْبُتَ إِذْ أَمَرْتُكَ؟» قال: «مَا كَانَ لاِبْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم».

منها : مشروعية الإصلاح بين الناس، ولاسيما للعلماء والأمراء والقادة، فيستحب لهم المبادرة بالإصلاح بين الناس؛ لذهاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم.

منها : أن الإمام الراتب إذا جاء وتقدم انتقل الإمام الأول من كونه إمامًا إلى كونه مأمومًا في صلاة واحدة، وصلاته صحيحة، ولا يضر كونه صلى في أول الصلاة إمامًا وفي آخرها مأمومًا، وكذلك تصح صلاة الإمام الراتب، فصلاة كل منهما صحيحة.

;  إِذَا اسْتَوَوْا فِي الْقِرَاءَةِ فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ

}685{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ شَبَبَةٌ فَلَبِثْنَا عِنْدَهُ نَحْوًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَحِيمًا فَقَالَ: «لَوْ رَجَعْتُمْ إِلَى بِلاَدِكُمْ فَعَلَّمْتُمُوهُمْ مُرُوهُمْ فَلْيُصَلُّوا صَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَصَلاَةَ كَذَا فِي حِينِ كَذَا وَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ».

 

أخذ المؤلف رحمه الله الترجمة من قوله في حديث الباب: «وَنَحْنُ شَبَبَةٌ» أي متقاربون في القراءة والعلم بالسنة، فلما صاروا متقاربين في القراءة وفي العلم بالسنة لم يبق إلا التقديم بالكبر.

}685{ قوله في حديث الباب: «وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» محمول على تساويهم في القراءة والعلم بالسنة، فإذا استووا في القراءة أمهم أكبرهم، والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم سلمًا» [(332)] أي: إسلامًا، وفي لفظ: «فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سنًّا» [(333)].

;  إِذَا زَارَ الإِْمَامُ قَوْمًا فَأَمَّهُمْ

}686{ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: سَمِعْتُ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ الأَْنْصارِيَّ قَالَ: اسْتَأْذَنَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَذِنْتُ لَهُ فَقَالَ: «أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟» فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي أُحِبُّ فَقَامَ وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وَسَلَّمْنَا.

 

}686{ حديث الباب فيه: مشروعية صلاة النافلة جماعة أحيانًا إذا لم تتخذ عادة، فإذا اجتمع جماعة في الضحى أو الليل وأرادوا التنفل فأمهم أحدهم وصلوا جماعة فلا بأس إذا لم يُتخذ هذا عادة؛ ولهذا لما زار النبي صلى الله عليه وسلم عتبان بن مالك صلى بهم النافلة جماعة، وكان ذلك ضحى.

وفيه: أن الأمير ـ الذي له الولاية ـ إذا زار أحدًا في بيته يجوز له أن يتقدمه في الإمامة، وإلا فالأصل أن صاحب البيت هو الذي يتقدم؛ لحديث: «لا يؤمن الرجل رجلاً في سلطانه أو في بيته، ولا يقعد على تكرمته إلا بإذنه» [(334)]، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم هو السلطان الأعظم الذي له الولاية؛ ولهذا صلى بهم إمامًا، أما غير السلطان الأعظم فليس له ذلك، فإذا زار شخص شخصًا في بيته فليس له أن يتقدم للإمامة إلا بإذنه، فصاحب البيت أحق بالإمامة، كما أنه لا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه.

;  إِنَّمَا جُعِلَ الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ

وَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهُوَ جَالِسٌ.

وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الإِْمَامِ يَعُودُ فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ ثُمَّ يَتْبَعُ الإِْمَامَ.

وَقَالَ الْحَسَنُ: فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الإِْمَامِ رَكْعَتَيْنِ وَلاَ يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الآْخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُْولَى بِسُجُودِهَا وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ يَسْجُدُ.

}687{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي عَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ فَقُلْتُ: أَلاَ تُحَدِّثِينِي عَنْ مَرَضِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: بَلَى ثَقُلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ قَالَ: ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ قَالَتْ: فَفَعَلْنَا فَاغْتَسَلَ فَذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» قَالَتْ: فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» قُلْنَا: لاَ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» فَقَعَدَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ ذَهَبَ لِيَنُوءَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: «أَصَلَّى النَّاسُ؟» فَقُلْنَا: لاَ هُمْ يَنْتَظِرُونَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالنَّاسُ عُكُوفٌ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُونَ النَّبِيَّ عليه السلام لِصَلاَةِ الْعِشَاءِ الآْخِرَةِ فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَأَتَاهُ الرَّسُولُ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تُصَلِّيَ بِالنَّاسِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَكَانَ رَجُلاً رَقِيقًا يَا عُمَرُ صَلِّ بِالنَّاسِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَنْتَ أَحَقُّ بِذَلِكَ فَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ تِلْكَ الأَْيَّامَ ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ مِنْ نَفْسِهِ خِفَّةً فَخَرَجَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا الْعَبَّاسُ لِصَلاَةِ الظُّهْرِ وَأَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ ذَهَبَ لِيَتَأَخَّرَ فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأَنْ لاَ يَتَأَخَّرَ قَالَ: «أَجْلِسَانِي إِلَى جَنْبِهِ» فَأَجْلَسَاهُ إِلَى جَنْبِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالنَّاسُ بِصَلاَةِ أَبِي بَكْرٍ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَاعِدٌ.

قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَدَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ لَهُ: أَلاَ أَعْرِضُ عَلَيْكَ مَا حَدَّثَتْنِي عَائِشَةُ عَنْ مَرَضِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: هَاتِ فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ حَدِيثَهَا فَمَا أَنْكَرَ مِنْهُ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: أَسَمَّتْ لَكَ الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ مَعَ الْعَبَّاسِ؟ قُلْتُ: لاَ قَالَ: هُوَ عَلِيٌّ.

}688{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاكٍ فَصَلَّى جَالِسًا وَصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَامًا فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ أَنْ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: إِنَّمَا جُعِلَ الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا.

}689{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ فَرَسًا فَصُرِعَ عَنْهُ فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَْيْمَنُ فَصَلَّى صَلاَةً مِنْ الصَّلَوَاتِ وَهُوَ قَاعِدٌ فَصَلَّيْنَا وَرَاءَهُ قُعُودًا فَلَمَّا انْصَرَفَقَالَ إِنَّمَا جُعِلَ الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَإِذَا صَلَّى قَائِمًا فَصَلُّوا قِيَامًا وَإِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ.

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَوْلُهُ إِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا هُوَ فِي مَرَضِهِ الْقَدِيمِ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقُعُودِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالآْخِرِ فَالآْخِرِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.

 

قوله في ترجمة الباب: «وَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهُوَ جَالِسٌ» يعني: والناس خلفه قيامًا، ولم يأمرهم بالجلوس؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه تقدم وصلى بالناس قائمًا، وجاء النبي صلى الله عليه وسلم وجلس إلى جنب أبي بكر رضي الله عنه، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم جالسًا، واقتدى به أبو بكر رضي الله عنه قائمًا، واقتدى الناس بصلاة أبي بكر رضي الله عنه.

أما في مرضه الأول فقد صلى بهم صلى الله عليه وسلم جالسًا، ولما قاموا أشار إليهم بالقعود، وقال: «كدتم أن تفعلوا كما تفعل الأعاجم يقفون على رءوس ملوكهم وهم جلوس إنما جعل الإمام ليؤتم به» [(335)] فما الجمع بينهما؟

اختار المؤلف رحمه الله في آخر الباب ما اختاره شيخه الحميدي أبو الزبير، أن أمرَه الناسَ بالجلوس في مرضه الأول منسوخ بفعله الأخير في مرض موته، وقال: إنما يؤخذ بالآخر، وهو قول لبعض أهل العلم.

والقول الآخر لأهل العلم: إنه لا نسخ؛ لإمكان الجمع، فيجمع بينهما بأن أمره الأول بالجلوس كان على سبيل الاستحباب، وتركه لهم قيامًا وهو جالس محمول على الجواز، فهذا جائز وذاك مستحب.

وقال آخرون من أهل العلم: يجمع بينهما بأنه إذا ابتدأ الصلاة قاعدًا وجب عليهم القعود، وإذا ابتدأها قائمًا ثم اعتل وجب عليهم القيام؛ لأنه في مرضه الأول ابتدأ الصلاة قاعدًا فأمرهم بالجلوس، وفي مرضه الأخير بدأ بهم أبو بكر الصلاة قائمًا ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم فجلس وأقرهم على القيام. فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم.

وقول ابن مسعود: «إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الإِْمَامِ يَعُودُ» يعني: إذا رفع المأموم رأسه قبل الإمام من السجود أو الركوع ناسيًا أو ظانًّا أن الإمام كبر يعود كما كان، «فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ ثُمَّ يَتْبَعُ الإِْمَامَ» أي ثم يرفع بعد الإمام، ولا شيء عليه في هذه الحالة ما دام لم يتعمد.

وقول الحسن: «يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الآْخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُْولَى بِسُجُودِهَا» أي إذا ركع مع الإمام ركعتين ولا يقدر على السجود ـ للزحام مثلاً، كما في المسجد الحرام في وقت الحج ـ قال بعض الفقهاء: يسجد على ظهر من أمامه، لكن هذا ليس بجيد؛ فقد لا يتحمل بعض الناس أن يسجد من خلفه على ظهره.

أما الحسن رحمه الله فيقول: يسجد سجدتين للركعة الأخيرة ـ أي إذا قاموا ـ فتصح له ركعة ويقضي الركعة الثانية. لكن الأولى في مثل هذه الحالة ـ أي إذا لم يقدر على السجود للزحام ـ أن يقف حتى يرفع الإمام من السجدة الأولى والثانية، ثم إذا قاموا سجد سجدتين ثم يتبع الإمام، ويكون معذورًا في هذا.

قوله: «وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ يَسْجُدُ» أي: إذا نسي سجدة رجع وسجدها وتصح صلاته.

 

}687{ قوله: «لِيَنُوءَ» يعني ليقوم.

قوله: «فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَفَاقَ» يعني: أفاق من الإغماء.

قوله: «الْمِخْضَبِ» وعاء واسع مثل الطست الآن.

قوله: «فَاغْتَسَلَ» ؛ لأن الحمى يخففها الاغتسال، وقد جاء ما يدل على ذلك، كما في كتاب الطب أنه صلى الله عليه وسلم قال: «فأبردوها بالماء» [(336)]، والحمى أنواع، فهناك نوع من الحمى يضره الماء، ونوع يفيده الماء فيخففها، وهي التي قيل فيها هذا الحديث: «الحمى من فيح جهنم؛ فأبردوها بالماء» [(337)]؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ضَعُوا لِي مَاءً فِي الْمِخْضَبِ» أي: لأنه مريض بالحمى.

وكونه صلى الله عليه وسلم كلما اغتسل أغمي عليه، حتى أغمي عليه ثلاث مرات، فهذا لعظم أجره عند الله سبحانه وتعالى، وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يوعك كما يوعك رجلان، حتى قال بعض الصحابة: أذلك لأن لك أجرين؟ قال: «نعم إن ذلك كذلك» [(338)]، وما ذاك إلا لكرامته على الله، و «الحمى تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد» [(339)].

وهذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان سيد الخلق وأفضل الناس ـ إلا أنه بشر يصيبه ما يصيب البشر من الأمراض وغيرها، فهو ليس إلهًا يعبد، وإنما الرب سبحانه هو الذي لا يلحقه نقص ولا عيب ولا مرض وهو غني عن العالمين، أما الأنبياء فبشر ويصيبهم ما يصيب البشر من الأمراض والهموم والأوجاع والأحزان، ويحتاجون لما يحتاج إليه البشر من الأكل والشرب وغير ذلك.

وفيه: دليل على أن الإمام هو الذي يستخلف من يصلي بالناس إذا مرض أو كانت له حاجة؛ ولهذا قال في الحديث: «فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَبِي بَكْرٍ بِأَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ» .

وفيه: إشارة إلى أن أبا بكر رضي الله عنه هو الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستدل الصحابة بتقديمه للصلاة على أنه هو الخليفة الأعظم، وأنه أولى الناس بالإمامة، فاختاروه.

وقوله: «فَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَأْتَمُّ بِصَلاَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» أي: لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وجلس عن يسار أبي بكر انتقل أبو بكر من كونه إمامًا إلى كونه مأمومًا، وظل واقفًا عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ عنه؛ لأن صوته كان ضعيفًا، فكان أبو بكر يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم والناس يقتدون بصلاة أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم وهو قاعد وأقرهم على القيام؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه ابتدأ بهم الصلاة قائمًا، بخلاف مرضه الأول فإنه صلى الله عليه وسلم ابتدأ بهم الصلاة قاعدًا؛ ولهذا أمرهم بالقعود.

وهذا الحديث يؤخذ منه حرص النبي صلى الله عليه وسلم على صلاة الجماعة، حتى في حال المرض، فالنبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى الصلاة وهو يهادى بين العباس وعلي، وكل واحد منهم آخذ بعضد النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك كان الصحابة من بعده يحرصون على الجماعة؛ ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه: ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين اثنين حتى يقام في الصف ـ أي: حرصًا على الجماعة، ـ وقال رضي الله عنه: ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها ـ أي: الجماعة في المسجد ـ إلا منافق معلوم النفاق.

 

}688{ قوله: «وَهُوَ شَاكٍ» يعني: يشكو من المرض.

وهذا الحديث ـ حديث عائشة رضي الله عنها ـ وحديث أنس رضي الله عنه الآتي كلاهما في مرض النبي صلى الله عليه وسلم الأول، ففي مرضه الأول صلى جالسًا صلى الله عليه وسلم وصلى وراءه قوم قيامًا فأشار إليهم بالجلوس، أما في مرضه الأخير فأقرهم على القيام.

وفي هذا الحديث: وجوب الائتمام بالإمام ومتابعته؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِْمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا» والفاء للتعقيب والترتيب ولا تفيد التراخي، والمعنى: أن على المأموم أن ينتظر حتى ينقطع صوت الإمام ثم يتابعه، ولا يتأخر ولا يتراخى.

 

}689{ قوله: «فَصُرِعَ عَنْهُ» يعني سقط عن الفرس.

وقوله: «فَجُحِشَ شِقُّهُ» يعني: جرح وخدش.

وهذا فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ وإن كان أشرف الخلق ـ إلا أنه يجرح ويصيبه ما يصيب البشر، ويقدر الله عز وجل عليه المصائب ليعظم له الأجر.

وقوله: «فَصَلُّوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ» يعني: كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الواقعة؛ حيث صلى بالناس قاعدًا، وصلى الناس خلفه قعودًا، وهذا فيه إشكال ـ كما سبق ـ لأن النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير صلى بالناس قاعدًا وهم خلفه قيامًا.

وقوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ:» هو البخاري.

وقوله: «قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: قَوْلُهُ إِذَا صَلَّى جَالِسًا فَصَلُّوا جُلُوسًا هُوَ فِي مَرَضِهِ الْقَدِيمِ ثُمَّ صَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَالنَّاسُ خَلْفَهُ قِيَامًا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِالْقُعُودِ وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالآْخِرِ فَالآْخِرِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» أي: فدل على أن صلاته صلى الله عليه وسلم بهم في مرضه الأخير وهو قاعد وهم قيام تنسخ أمره لهم بالقعود في مرضه الأول. وهذا هو اختيار الحميدي وتبعه عليه البخاري.

ولكن هذا مرجوح؛ لأن القاعدة عند أهل العلم أنه لا يعدل إلى النسخ إلا إذا لم يمكن الجمع، فإذا وجد حديثان متعارضان فللناظر فيهما أربعة أحوال:

الحالة الأولى: أن يجمع بينهما ـ إن أمكن الجمع بينهما ـ بأن يحمل كل حديث على حالة فهذا هو الأولى؛ لأن فيه عملاً بالحديثين جميعًا.

الحالة الثانية: ألا يمكن الجمع فينتقل إلى النسخ، بأن يعرف المتقدم من المتأخر، فينسخ المتأخرُ المتقدمَ.

الحالة الثالثة: ألا يعرف التاريخ، فيسلك مسلك الترجيح، فإذا كان أحدهما مثلاً في الصحيحين والآخر في السنن رجح الذي في الصحيح.

الحالة الرابعة: ألا يمكن تحقيق واحد من الثلاثة السابقة، فيتوقف العالم حتى يتبين له.

والبخاري رحمه الله أخذ بالنسخ مع إمكان الجمع، والجمع أولى؛ لأنا إذا قلنا بالنسخ ألغينا أحد الحديثين فلم نعمل به، فالبخاري رحمه الله ألغى حديث مرضه الأول وعمل بالحديث الثاني، ويجمع بينهما بأن أمره إياهم في مرضه الأول ليس للوجوب وإنما هو للاستحباب، والذي صرفه عن الوجوب إلى الاستحباب إقراره إياهم في مرضه الأخير، فهم بالخيار إن شاءوا صلوا قيامًا وإن شاءوا صلوا قعودًا، وإذا صلوا قعودًا فهو الأفضل؛ لأن الأمر للاستحباب وإن صلوا قيامًا فهو جائز. وهناك جمع آخر اختاره بعض أهل العلم: وهو أن أمره إياهم بالقعود في مرضه الأول محمول على ما إذا ابتدأ بهم الصلاة قاعدًا، أما إذا ابتدأ بهم الصلاة قائمًا ثم اعتل يستمرون قيامًا، كما في مرضه الأخير.

فهذه ثلاثة أقوال لأهل العلم.

;  مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإِْمَامِ

قَالَ أَنَسٌ: فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا.

}690{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ وَهُوَ غَيْرُ كَذُوبٍ قَالَ: كُانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ.

حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ نَحْوَهُ بِهَذَا.

 

قوله في ترجمة الباب: «بَاب مَتَى يَسْجُدُ مَنْ خَلْفَ الإِْمَام» هذا سؤال وجوابه أنه يسجد إذا سجد الإمام وانقطع صوته بالتكبير بدون تأخير؛ ولهذا قال: «قَالَ أَنَسٌ: فَإِذَا سَجَدَ فَاسْجُدُوا» .

 

}690{ قوله في حديث الباب: «كُانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدًا ثُمَّ نَقَعُ سُجُودًا بَعْدَهُ» أي: إذا وقع الإمام ساجدًا وانقطع صوته بالتكبير تبعه المأموم، ومثله القيام، فلا يقوم المأموم من السجود حتى يستوي الإمام قائمًا وينقطع صوته بالتكبير، وكذلك في الركوع، لا يركع حتى يحني الإمام ظهره وينقطع صوته بالتكبير، ثم يتبعه بدون تأخر.

وفيه: دليل على أن المأموم لا يوافق الإمام في الركوع والسجود ـ أي لا يسجد ولا يركع معه في آن واحد ـ والمشهور عند العلماء أن الموافقة مكروهة، ولكن ظاهر الحديث يدل على أنها ممنوعة، والأشد من الموافقة المسابقة.

فالمأموم له مع الإمام أربع حالات:

أولها: المتابعة ، وهي أن ينتظر المأموم الإمام حتى يقع منه الفعل وينقطع صوته بالتكبير ثم يتبعه، وذلك في القيام والركوع والسجود، وكذلك في تكبيرة الإحرام، فينتظر حتى يكبر الإمام وينقطع صوته، أما لو كبر المأموم قبل أن ينقطع صوت الإمام في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته ولا تصح، فلابد أن ينتظر المأموم في تكبيرة الإحرام حتى ينقطع صوت الإمام، وهذه مسألة مهمة.

ثانيها: الموافقة ، وهي أن يوافق المأموم الإمام في الفعل، فيركع معه ويسجد معه ويقوم معه، وهذه الموافقة المشهور فيها عند الفقهاء أنها مكروهة، لكن الصواب أنها محرمة ممنوعة.

ثالثها: المسابقة ، وهي أن يسبق المأموم الإمام بركن أو ركنين، فيركع قبله أو يسجد قبله، وهذا إن كان متعمَّدًا بطلت به الصلاة، أما إذا كان المأموم ناعسًا أو ناسيًا أو ظانًّا أن الإمام كبر، فهو معذور ويرجع بقدر ما سبق، ثم يتبع الإمام ولا شيء عليه.

رابعها: التأخير ، بأن يتأخر المأموم عن الإمام كثيرًا، مثلما لو قام الإمام للركعة الثانية والمأموم ما زال ساجدًا يسبح ويدعو، وهذا غلط كبير، وهو مخل بالمتابعة، وقد يخل بالصلاة، فليس للمأموم أن يجلس في وقت القيام، أما إذا كان مريضًا أو كبير السن فهذا معذور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فجالسًا» [(340)].

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد