ومن الخطأ عند بعض الأئمة أنه يتعجل التكبير قبل أن يهوي، والذي ينبغي له أن يبدأ بالتكبير مع الفعل، فالحركة تكون مع التكبير؛ حتى لا يتسبب في مسابقة بعض المأمومين له.
; إِثْمِ مَنْ رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِْمَامِ
}691{ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَمَا يَخْشَى أَحَدُكُمْ أَوْ لاَ يَخْشَى أَحَدُكُمْ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ الإِْمَامِ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ رَأْسَهُ رَأْسَ حِمَارٍ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ صُورَتَهُ صُورَةَ حِمَارٍ».
}691{ حديث الباب فيه: وعيد شديد في حق من رفع رأسه قبل الإمام، وهذا يدل على تحريم رفع المأموم رأسه قبل الإمام في الركوع والسجود والتغليظ في ذلك ـ ومثله كونه يخفض قبله ـ وأنه يخشى فيه العقوبة العاجلة، وهي المسخ وأن يجعل الله رأسه رأس حمار، وفي اللفظ الآخر: «أن يحول الله رأسه رأس كلب» [(341)]، والمراد حقيقة المسخ خلاًفا لمن تأول فقال: ليس المراد به المسخ، وإنما المراد به أن يكون بليدًا كالحمار، وهذا لا وجه له؛ لما ورد في اللفظ الآخر من الوعيد بالمسخ على صورة كلب.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن المأموم إذا تعمد مسابقة الإمام بطلت صلاته؛ لأن النهي يفيد الفساد، وذهب الجمهور إلى أن الصلاة صحيحة مع الإثم.
والصواب أنه تبطل صلاته؛ لأن النهي يقتضي الفساد وهو نهي يرجع إلى ذات المنهي عنه؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: «ليس لمن يسبق الإمام صلاة؛ لهذا الحديث؛ حيث توعد عليه بالمسخ وهو أشد العقوبات، ولو كانت له صلاة لرجي له الثواب ولم يخش عليه العقاب» [(342)]، فالإمام أحمد رحمه الله استدل بالوعيد الشديد في هذا الحديث على أن صلاته باطلة، وهذا وجيه، خلافًا للجمهور الذين رجحوا صحة صلاته مع الإثم.
وهذا الوعيد الشديد في الحديث إنما هو في حق المتعمد، أما الناسي والناعس فهو معذور.
; إِمَامَةِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى
وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنْ الْمُصْحَفِ وَوَلَدِ الْبَغِيِّ وَالأَْعْرَابِيِّ وَالْغُلاَمِ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَؤُمُّهُمْ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ.
}692{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأَْوَّلُونَ الْعُصْبَةَ مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا.
}693{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».
هذه الترجمة من دقائق فقه الإمام البخاري رحمه الله، فالترجمة معقودة لبيان حكم إمامة خمسة أصناف من الناس:
الأول: العبد.
الثاني: المولى، وهو العتيق.
الثالث: ولد البغي ـ وهو ولد الزنا ـ يعني: هل يكون إمامًا إذا صح دينه؟
الرابع: الأعرابي ـ أي الذي يسكن البادية ـ هل يكون إمامًا لأهل الحضر؟
الخامس: الغلام الذي لم يبلغ.
فما حكم إمامة هؤلاء الخمسة؟
قول البخاري رحمه الله: «وَكَانَتْ عَائِشَةُ يَؤُمُّهَا عَبْدُهَا ذَكْوَانُ مِنْ الْمُصْحَفِ» فيه: دليل على أن عائشة رضي الله عنها ترى أنه لا بأس بإمامة المولى والعتيق.
وقوله: «مِنْ الْمُصْحَفِ» ـ يقال: مِصحف ومُصحف بكسر الميم وضمها ـ فيه: دليل على أنه لا بأس بالقراءة من المصحف في النافلة، أما الفرائض فالأولى فيها أن تكون القراءة من الحفظ؛ لأن القراءة فيها مبنية على التخفيف.
وفيه أيضًا: الرد على من كره القراءة من المصحف في الصلاة مثل الأحناف[(343)] وغيرهم، فقد كرهوا القراءة من المصحف لما فيها من الحركة. والجواب أن الحركة تغتفر للحاجة. وهذا في حق الإمام، أما المأموم فلا ينبغي له أن يأخذ المصحف، بل ينصت لقراءة الإمام، إلا إذا كان عَيَّنه الإمام؛ ليصحح له خطأه فلا بأس. والمقصود أن القراءة من المصحف لا بأس بها في النافلة، أما في الفرائض فلا.
والذي عليه الجمهور ـ وهو الصواب ـ أنه لا حرج في إمامة هؤلاء، وأن إمامتهم صحيحة، أما الإمام مالك رحمه الله[(344)] فخالف وقال: لا يؤم العبد الأحرار إلا إذا كان قارئًا وهم لا يقرءون فيؤمهم، إلا في الجمعة فلا يؤم؛ لأنها لا تجب عليه. وخالف أشهب فقال: إنها تصح حتى في الجمعة، واحتج بأنها تجزئه إذا حضرها.
وكذلك كره الإمام مالك[(345)] أن يكون ولد الزنا إمامًا راتبًا؛ لأنه يصير عرضة لكلام الناس فيغتابونه، وقيل: لأنه في الغالب ليس له من يفقهه فيغلب عليه الجهل.
والحنابلة يقولون: تصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما[(346)]؛ لأن ولد الزنا في الغالب لا يسلم دينه، وكذلك الجندي، والصواب أن إمامة الجندي وولد الزنا صحيحة؛ لأن ولد الزنا ليس عليه إثم، فالإثم على من فعل الزنا، وقد قال تعالى: [الإسرَاء: 15]{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ}، فإذا سلم دينه صحت إمامته وكذلك الجندي، وقول مالك: إن الناس يتعرضون له بالكلام لا وجه له.
وكذلك خالف الإمام مالك[(347)] في الأعرابي، فقال: لا تصح إمامته؛ لأن الغالب على الأعراب غلبة الجهل، وقيل: لأنهم يداومون على ترك السنن والنوافل وترك حضور الجماعة.
والصبي الذي لم يبلغ فيه أيضًا خلاف، فإذا كان يعقل ويفهم فالصواب صحة إمامته، وإلى هذا ذهب بعض العلماء كالحسن البصري والشافعي[(348)] وإسحاق، والجمهور كرهوه، فكرهه الإمام مالك[(349)] والثوري، وللإمام أحمد[(350)] وأبي حنيفة[(351)] روايتان في صحة إمامة الصبي، فذهبا في رواية إلى المنع، وفي أخرى إلى الجواز، والمشهور عند الإمام أحمد[(352)] وأبي حنيفة[(353)] أنها تجوز إمامته في النافلة دون الفريضة.
والصواب أن إمامة الصبي ـ إذا كان يعقل ويفهم ـ جائزة، ودليلها قصة عمرو بن سلمة، فإن قومه قدموه يؤمهم وهو ابن سبع سنين؛ لأنه كان أكثرهم قرآنًا، والوفد الذين قدموه كانوا جماعة من الصحابة.
وإن كان الإمام أبو حنيفة[(354)] وأحمد[(355)] قد أجابا عن قصة عمرو بن سلمة بجوابين:
أحدها: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلع على تقديمه.
الثاني: أن عمرو بن سلمة إنما كان يصلي بالناس النافلة دون الفريضة.
وأجيب عن الأول بأن زمان نزول الوحي لا يقع فيه ـ لأحد من الصحابة ـ التقرير على ما لا يجوز فعله، فلو فرضنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم فالله يعلم، فلو كان هذا غير جائز لنزل الوحي على نبينا صلى الله عليه وسلم وبين له أن ما فعله هؤلاء ليس بصواب، فلما لم ينزل الوحي دل على أنه جائز، وهذا على التسليم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم.
وعليه فلا يمكن أن يقال: إن الشيء الذي يقع في زمن النبوة لا يكون حجة، ولهذا استدل أبو سعيد وجابر رضي الله عنهما على جواز العزل بأنهم كانوا يعزلون والقرآن ينزل[(356)]؛ فلو كان شيئًا يُنهى عنه لنهى عنه القرآن.
وأما قولهما في الجواب الثاني: إنه كان يؤمهم في النوافل دون الفرائض فهذا ليس بصحيح، والصواب أنه كان يؤمهم في الفريضة.
وبهذا يتبين أن الصواب صحة إمامة الصبي إذا كان يعقل ويفهم ويحسن الوضوء.
}692{ وقد استدل المؤلف رحمه الله على صحة إمامة المولى بحديث ابن عمر: «لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأَْوَّلُونَ الْعُصْبَةَ مَوْضِعٌ بِقُبَاءٍ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَؤُمُّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَكَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» : فلما أقر النبي صلى الله عليه وسلم سالمًا على إمامة المهاجرين وهو مولى دل على صحة إمامة المولى. ومثله العبد الذي لم يعتق تصح إمامته.
}693{ قوله صلى الله عليه وسلم: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» فيه: صحة إمامة العبد؛ لأنه إذا صحت إمارة العبد ـ وهي الإمامة الكبرى ـ حتى أُمر الناس بطاعته فالأمر بالصلاة خلفه من باب أولى.
فالصواب في هذه المسائل كلها: أن العبد والمولى وولد البغي ـ إذا سلم دينه ـ والأعرابي والصبي كلهم تصح إمامتهم، خلافًا لمن منع ذلك من أهل العلم.
وقوله: «حَبَشِيٌّ» يعني: من الحبشة، ومعروف أن الحبشة عبيد، وفي اللفظ الآخر: «وإن استعمل عليكم عبد حبشي» [(357)].
وهذا الحديث استدل به أهل العلم على أن الإمامة تثبت للإمام بالقوة والغلبة، فإذا غلب الناس بقوته وسلطانه وسيفه واستقر له الأمر ثبتت له الخلافة والإمامة، ولا يجوز الخروج عليه ولو كان عبدًا حبشيًّا؛ لأنه لو كان الاختيار للمسلمين لما اختاروا عبدًا حبشيًّا، ولاختاروا قرشيًّا، كما ورد: «الأئمة من قريش» [(358)]، وجاء في الحديث الآخر: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان ما أقاموا الدين» [(359)] يعني: الخلافة.
وتثبت الإمامة أيضًا بالاختيار والانتخاب، كما اختار الناس أبا بكر وعثمان للخلافة، وتثبت بولاية العهد، أي: بالاستخلاف من الإمام السابق، كما ثبتت الولاية لعمر بن الخطاب باستخلاف أبي بكر له.
; إِذَا لَمْ يُتِمَّ الإِْمَامُ وَأَتَمَّ مَنْ خَلْفَهُ
}694{ حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَْشْيَبُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوافَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ».
}694{ قوله: «يُصَلُّونَ لَكُمْ» يعني: الأئمة، «فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ» يعني: فلكم الأجر، وفي رواية أحمد: «فإن أصابوا فلكم ولهم» [(360)] «وَإِنْ أَخْطَئُوافَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» أي: فلكم الأجر وعليهم الخطأ والإثم.
وهذا الحديث احتج به العلماء على أنه إذا بطلت صلاة الإمام لا تبطل صلاة المأموم، فإذا صلى الإمام مثلاً على غير طهارة ثم تذكر بعد الصلاة أنه كان على غير طهارة فإنه يتوضأ ـ أو يغتسل ـ ويعيد الصلاة، وصلاة المأمومين صحيحة. وثبت أن عمر رضي الله عنه صلى بالناس وعليه جنابة ثم أعاد ولم يعد المأمومون. وكذلك إذا صلى بالناس ثم تذكر في أثناء الصلاة أنه على غير طهارة تأخر وقدم من يتم بهم الصلاة، والحنابلة يفرقون بين ما إذا سبقه الحدث أو لم يسبقه، فقالوا: فإذا سبقه الحدث تبطل صلاته وصلاتهم ـ إذا كان في أثناء الصلاة ـ وعليهم أن يعيدوا الصلاة من جديد، أما إذا أحس أنه سينتقض وضوءه ولا يستطيع الاستمرار فإنه يتأخر ـ وهو على طهارة ـ ويقدم من خلفه[(361)]، والصواب أنه لا فرق بين الحالتين سواء سبقه الحدث أو لم يسبقه الحدث، والحجة قوله صلى الله عليه وسلم: «يُصَلُّونَ لَكُمْ فَإِنْ أَصَابُوا فَلَكُمْ وَإِنْ أَخْطَئُوافَلَكُمْ وَعَلَيْهِمْ» .
والحديث فيه: دليل على صحة الصلاة خلف الفاسق؛ لأن الفاسق مسلم وصلاته صحيحة؛ فتصح الصلاة خلفه، وهذا مذهب المالكية[(362)] والحنفية[(363)]. وذهب الشافعية إلى أن الصلاة خلف الفاسق تصح ولكن مع الكراهة، فمن صلى خلف فاسق أجزأته صلاته وليس عليه إعادة[(364)].
أما الحنابلة[(365)] فقد ذهبوا إلى أن الصلاة خلف الفاسق لا تصح، وإذا صلى أحد خلفه أعاد الصلاة، وقالوا: لأنه إذا صلى خلفه وهو فاسق فقد أقره على المنكر.
والصواب: أن الصلاة صحيحة، ومسألة إنكار المنكر شيء خارج عن الصلاة لا يتعلق بها.
وكذلك تصح الصلاة خلف إمام مخالف للمأموم في الاجتهاد، كأن يكون الإمام يرى أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء، والمأموم يرى أن لحم الجزور ينقض الوضوء، حتى ولو أكل الإمام لحم جزور وتقدم بالناس ولم يتوضأ؛ لأن هذه المسألة من المسائل الاجتهادية، وكذلك لو كان المأموم يرى أن خروج الدم الكثير ينقض الوضوء والإمام لا يرى ذلك تصح الصلاة. وقد حج بالناس الخليفة هارون الرشيد فاحتجم وخرج منه دم، فأفتاه بعض العلماء بأن الدم لا ينقض الوضوء، فصلى بالناس وصلى خلفه أبو يوسف، وأبو يوسف يرى أن خروج الدم ينقض الوضوء، فقيل له: أصليت خلفه وأنت ترى أن الدم ينقض؟ فقال: إمام المسلمين.
والصحابة صلوا خلف الحجاج بن يوسف وكان فاسقًا ظالمًا، وصلوا أيضًا خلف الوليد بن عقبة ـ أمير الكوفة ـ وكان يشرب الخمر، حتى إنه أمهم مرة وهو سكران فصلى بهم الفجر أربعًا، ثم التفت إليهم فقال: هل تريدون أن أزيدكم؟ فقالوا: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة، ثم أعادوا الصلاة، فلما أُبلغ أمير المؤمنين عثمان جلده وعزله.
والشاهد من هذا: أنهم صلوا خلفه، فدل على أن الصلاة خلف الفاسق تصح.
وكذلك أيضًا ـ كما في الحديث الآتي: لما حصر الثوار أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه يريدون قتله وحانت الصلاة وصف الناس يصلون تقدم بهم رجل من الثوار، فقال عبيد الله بن عدي بن الخيار لعثمان رضي الله عنه: إنك إمام عامة، ونزل بك ما ترى، ويصلي لنا إمام فتنة ونخرج، فقال له عثمان رضي الله عنه: الصلاة أحسن ما يعمل الناس فإن أحسنوا فأحسن معهم وإن أساءوا فاجتنب إساءتهم.
فالصواب: أن الصلاة خلف الفاسق صحيحة، لكن الصلاة خلف العدل أولى.
واختلف العلماء فيما إذا تقدم شخص به سلس البول، والمشهور عند العلماء أنه لا يتقدم ولا يكون إمامًا للناس؛ لأنه بسبب حدثه يستبيح الصلاة استباحة. وقال آخرون: تصح صلاته؛ لأن من صحت صلاته لنفسه صحت الصلاة خلفه. لكن الأولى والأحوط ألا يكون إمامًا.
; إِمَامَةِ الْمَفْتُونِ وَالْمُبْتَدِعِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ.
}695{ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ خِيَارٍ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه وَهُوَ مَحْصُورٌ فَقَالَ: إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍ وَنَزَلَ بِكَ مَا نَرَى وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ فَقَالَ: الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُمْ.
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لاَ بُدَّ مِنْهَا.
}696{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لأَِبِي ذَرٍّ: «اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».
هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الائتمام بالمبتدع والفاسق والمفتون، يعني هل تصح الصلاة خلفه أو لا؟
والمسألة فيها خلاف على قولين لأهل العلم، فمن العلماء من قال: لا تصح الصلاة خلفهم، ومن صلى خلفهم فإنه يعيد، وفي رواية لمذهب الحنابلة يرى الموفق وجماعة أنه إذا كان الفاسق ظاهر الفسق والمبتدع داعيًا إلى بدعته فلا تجوز الصلاة خلفه، أما إذا كان مستور الحال، كفاسق لم يظهر فسقه أو مبتدع لم يدع إلى بدعته صحت الصلاة خلفه[(366)].
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه تصح الصلاة خلفهم مع الكراهة، وأن الصلاة خلف العدل أولى، وهذا مذهب الأحناف والشافعية[(367)]، وهذا إذا وجد غيره، أما إذا لم يجد إمامًا غيره فإنه يصلي خلفه بالاتفاق عند عامة أهل السنة والجماعة، فإذا لم يكن في البلد إلا جمعة واحدة، أو لم يكن إلا مصلى واحد للعيد، وكان الإمام فاسقًا أو مبتدعًا صلى خلفه ولا يصلي وحده، وكذلك إذا لم يكن في القرية إلا مسجد واحد وإمامه فاسق أو مبتدع ولا يستطاع عزله يُصلى خلفه، أو كان هذا الفاسق أو المبتدع هو إمام المسلمين.
وكذلك إمام الحج بعرفة لو صلى بالناس وهو فاسق أو مبتدع صلى الناس خلفه.
وإذا لم يكن إلا إمام واحد وهو فاسق أو مبتدع فتركه أحدهم وصلى وحده فإنه مبتدع عند عامة أهل السنة؛ لأن مصلحة الجماعة مقدمة على مفسدة الصلاة خلفه.
وعليه فإذا لم يجد المرء إلا إمامًا فاسقًا أو مبتدعًا صلى خلفه ولا كراهة، وكذلك إذا وجد غيره لكن يترتب على ترك الصلاة خلفه مفسدة، كأن ينشق الناس قسمين ويحصل بينهم نزاع وشقاق، فيقولون مثلاً: لولا أن هذا الفاسق لا تصح الصلاة خلفه لما ترك الصلاة خلفه العالم الفلاني، فينقسمون وتحصل بينهم الضغائن والأحقاد. أو يترتب على ترك الصلاة خلف هذا الفاسق أو المبتدع ضرر في نفسه أو أهله أو ماله، ففي هاتين الحالتين يصلي خلفه وإن وجد غيره من العدول.
وإنما محل الخلاف إذا وجد إمامًا غيره، ولم يترتب على ترك الصلاة خلفه مفسدة، وكان الإمام الفاسق أو المبتدع غير إمام المسلمين، فهل تصح الصلاة؟
قولان لأهل العلم:
فالحنابلة[(368)] والمالكية[(369)] يرون أن الصلاة غير صحيحة، وإذا صلى فإنه يعيد، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» [(370)]، وقالوا: إذا صلى خلفه فقد ترك الإنكار عليه، فتكون صلاته منهيًّا عنها؛ لكونه مرتكبًا للإثم لعدم إنكاره للمنكر، فصلاته خلفه إقرار له على المنكر، وكذلك استدلوا بأحاديث منها: «لا تؤمّن امرأة رجلاً ولا أعرابي مهاجرًا ولا فاجر مؤمنًا» [(371)] والفاجر هو الفاسق، وحديث: «اجعلوا أئمتكم خياركم» [(372)]، لكن الحديثين ضعيفان.
أما الشافعية والأحناف[(373)] فيرون أن الصلاة صحيحة.
والصواب: أن الصلاة صحيحة وإن كانت مكروهة، وهذا هو اختيار الإمام البخاري في هذه الترجمة؛ ولهذا استدل بأثر الحسن حيث قال: «صَلِّ وَعَلَيْهِ بِدْعَتُهُ» .
}695{ والدليل على صحة الصلاة أمران:
الأمر الأول: حديث أبي هريرة في الباب الذي قبله: «يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم» [(374)]، وكذلك أيضًا ما ذكره المؤلف هنا في قصة عثمان عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو محصور ـ يعني محاصر ـ من قبل الثوار الذين أحاطوا ببيته يريدون قتله، فلما حان وقت الصلاة تقدم رجل من الثوار مبتدع، فجاء رجل من المسلمين وسأل الخليفة عثمان وقال: «إِنَّكَ إِمَامُ عَامَّةٍْ» يعني أنت إمام الجماعة، «وَيُصَلِّي لَنَا إِمَامُ فِتْنَةٍ وَنَتَحَرَّجُ» يعني: ونخاف الوقوع في الإثم، فهل علينا من حرج أن نصلي خلفه؟ فقال الخليفة الراشد عثمان رضي الله عنه: «الصَّلاَةُ أَحْسَنُ مَا يَعْمَلُ النَّاس» يعني: بعد التوحيد والإيمان، «فَإِذَا أَحْسَنَ النَّاسُ فَأَحْسِنْ مَعَهُمْ» يعني: ولا يضرك كونه مفتونًا، «وَإِذَا أَسَاءُوا فَاجْتَنِبْ إِسَاءَتَهُم» . وهذا أثر ثابت عن عثمان رضي الله عنه فيه أنه يرى أنه لا بأس بالصلاة خلف هذا المبتدع الثائر الذي يريد قتل الخليفة.
وثبت أيضًا عند البخاري أن الصحابة كانوا يصلون خلف الحجاج بن يوسف، وكان فاسقًا ظالمًا أسرف في القتل، فقد صلى خلفه ابن عمر وأنس بن مالك، وكذلك صلوا خلف الوليد بن عقبة، وكان أميرًا على الكوفة ـ وهو ابن أخت عثمان رضي الله عنه ـ وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم مرة وهو سكران فصلى بهم الفجر أربعًا فالتفت إليهم وقال: هل تريدون أن أزيدكم؟ فقالوا: ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة، وأعادوا الصلاة بعد ذلك، ثم رفع أمره إلى الخليفة فجلده وعزله عن الإمارة، والشاهد أن الصحابة كانوا لا يبطلون الصلاة خلف الفساق.
الأمر الثاني: أن الفاسق ـ وكذا المبتدع ـ ما زال مسلمًا، وصلاته في نفسها صحيحة، وكل من صحت صلاته لنفسه صحت الصلاة خلفه، وهذا هو الصواب في هذه المسألة، ولكن لا ينبغي أن يُرتَّب إمامًا على الناس، بل يجب أن ينكر عليه ويرفع إلى ولاة الأمور حتى يعزل، لكن لو صلى خلفه الناس فالصلاة صحيحة.
وقوله: «وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ نَرَى أَنْ يُصَلَّى خَلْفَ الْمُخَنَّثِ إِلاَّ مِنْ ضَرُورَةٍ لاَ بُدَّ مِنْهَا» المخنَّث بفتح النون المشددة وروي بكسرها هو الذي فيه تكسر وتثنٍّ وتشبه بالنساء فيقال: رجل متخنث، أي يتشبه بالنساء في حركاته وأفعاله وصوته، فإن كان هذا خِلْقَةً فلا يضره، وإن كان متعمَّدًا فهو نوع من المعصية وفسق.
والزهري رحمه الله يرى أن الصلاة لا تصح خلف المخنث إلا من ضرورة لابد منها، بأن يكون صاحب شوكة، أو كانت الجماعة ستعطل بسببه فإنه يصلي خلفه.
والصواب أن قول الزهري هذا فيه نظر، فإنه تكفي الحاجة ولا تشترط الضرورة، فإذا احتاج إلى الصلاة خلفه صلى، وإذا لم يحتج إلى الصلاة خلفه فلا يصل ويصلي خلف غيره.
والمقصود: أن إمامة المبتدع والفاسق والمفتون صحيحة مع الكراهة، ما دام فسقهم وبدعتهم لا تخرجهم من الإسلام، لكن الصلاة خلف العدل أولى.
}696{ قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه: «اسْمَعْ وَأَطِعْ وَلَوْ لِحَبَشِيٍّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» يعني أن هذا الرجل الذي غلب الناس بسيفه وسلطانه ولو كان حبشيًّا مفتونًا في نفسه ـ حيث إنه رضي أن يكون إمامًا وهو ليس أهلاً لذلك ـ يجب له السمع والطاعة، فإذا ثبتت إمامته العظمى فإمامة الصلاة من باب أولى، وهذا هو وجه الدلالة من هذا الحديث للباب.
وفيه: أن الإمامة تثبت بالقوة والغلبة كما تثبت بالاختيار؛ لأنه لو كان بالاختيار لما اختير الحبشي، بل يُختار إمام من قريش؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الأئمة من قريش» [(375)]، ولحديث: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان ما أقاموا الدين» [(376)]، يعني: لا تزال الخلافة في قريش ما وجد فيهم من يقيم الدين.
وتثبت بالاختيار كما اختار الصحابة أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما.
والخلافة تثبت أيضًا بولاية العهد، كما عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما بالخلافة.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: «الأمر بطاعة الحبشي يدخل فيه الصلاة خلفه إذا استُعمل على الناس».
يعني إذا أمر بالسمع والطاعة له في الإمامة الكبرى، فإمامته في الصلاة ـ وهي إمامة صغرى ـ جائزة من باب أولى.
ثم قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقد قيل: إن هَذَا من بَاب ضرب المثل لطاعة الأمراء عَلَى كل حال، كقوله: «من بنى مسجدًا، ولو كمفحص قطاة» [(377)]، مَعَ أَنَّهُ لا يكون المسجد كذلك، فكذلك العبد الحبشي لا يكون إمامًا؛ فإن الأئمة من قريش».
وهذا غير صحيح، فالأئمة من قريش إذا كان الاختيار للمسلمين، أما إذا غلبهم الحبشي بسيفه وسلطانه ثبتت له الإمامة بالقوة والغلبة، ولم تثبت بالاختيار إلا في عهد الخلفاء الراشدين لأبي بكر وعثمان، وثبتت لعمر بولاية العهد، ولعلي بولاية أكثر أهل الحل والعقد، أما بعد الخلفاء الراشدين فكل خلفاء بني أمية وبني عباس ثبتت لهم الخلافة بالقوة والغلبة أو بولاية العهد من الخليفة لخليفة بعده، ثم إن الأكراد والمماليك قد تولوا الخلافة وما هم من قريش.
والمقصود أنه إذا لم يوجد غيرُ المبتدع صحت الصلاة خلفه، بل وجبت، ومن ترك الصلاة خلفه وصلى وحده فهو مبتدع، كما قرر ذلك أهل السنة والجماعة مثل شيخ الإسلام[(378)] وغيره؛ لأن مصلحة الجماعة مقدمة على كونه فاسقًا، وإذا وجد غيره وترتب على ترك الصلاة خلفه مفسدة صلى خلفه، أما إذا لم يترتب على ترك الصلاة خلفه مفسدة ولا مضرة فهذا هو محل الخلاف.
وهذا إذا كانت البدعة غير مكفرة، أما إذا كانت البدعة مكفرة فالإمام الكافر لا تصح الصلاة خلفه بالإجماع، مثل القبوري الذي يدعو غير الله أو يذبح لغير الله، ومثل الرافضة الذين يعبدون أهل البيت أو يكفرون الصحابة، أو القدري الذي ينكر علم الله بالأشياء، وكذلك الجهمي الذي يقول: إن الله في كل مكان، فهؤلاء كفار لا تصح الصلاة خلفهم.
لكن إذا كانت البدعة لا توصل إلى الكفر فهذا هو محل الخلاف.
وإذا صلى خلف من بدعته مكفرة ولم يعلم أعاد الصلاة بإجماع المسلمين.
وكذلك الإمام المحْدِث الذي يُعلم أنه على غير طهارة لا تصح الصلاة خلفه بالاتفاق؛ لأن هذا متلاعب وليس بمصَلٍّ، لكن إن لم يعلم المأموم بحدث الإمام حتى سلم فصلاته صحيحة.
; يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ
}697{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْعِشَاءَ ثُمَّ جَاءَ فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ نَامَ ثُمَّ قَامَ فَجِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى خَمْسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ نَامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أَوْ قَالَ: خَطِيطَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ.
قوله: «بِحِذَائِهِ سَوَاءً» يعني: متساويين، لا يتقدم المأموم عن الإمام ولا يتأخر.
وقوله: «إِذَا كَانَا اثْنَيْنِ» يعني: إذا كانت الجماعة اثنين يكون المأموم عن يمين الإمام بحذائه لا يتقدم ولا يتأخر، لا كما يفعل بعض الناس، فبعض الناس يتأخر عن الإمام قليلاً، وهذا خطأ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقوله: «سَوَاءً» أخرج به من كان إلى جنبه لكن على بعد عنه، كذا قال الزين بن المنير، والذي يظهر أن قوله: «بِحِذَائِهِ» يخرج هذا أيضًا. وقوله: «سَوَاءً» أي: لا يتقدم ولا يتأخر، وفي انتزاع هذا من الحديث الذي أورده بُعْدٌ. وقد قال أصحابنا: يستحب أن يقف المأموم دونه قليلاً».
قول الحافظ: «قال أصحابنا» يعني الشافعية؛ لأن الحافظ شافعي، والشافعية يستحبون أن يقف المأموم دون الإمام[(379)]، أي: متأخرًا عنه، وقد خالفهم في هذا البخاري رحمه الله ـ وإن كان البخاري يميل في حملة اختياراته لمذهب الشافعي ـ فقال: «بِحِذَائِهِ سَوَاءً» أي: لا يتقدم ولا يتأخر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وكأن المصنف أشار بذلك إلى ما وقع في بعض طرقه، فقد تقدم في الطهارة من رواية مخرمة عن كريب عن ابن عباس بلفظ: «فقمت إلى جنبه» وظاهره المساواة. وروى عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس نحوًا من هذه القصة، وعن ابن جريج قال: قلت لعطاء: الرجل يصلي مع الرجل أين يكون منه؟ قال: إلى شقه الأيمن. قلت: أيحاذي به حتى يصف معه لا يفوت أحدهما الآخر؟ قال: نعم. قلت: أتحب أن يساويه حتى لا تكون بينهما فرجة؟ قال: نعم. وفي الموطأ عن عبدالله بن عتبة بن مسعود قال: دخلت على عمر بن الخطاب بالهاجرة فوجدته يسبح فقمت وراءه فقربني حتى جعلني حذاءه عن يمينه».
و«يسبح» يعني: يصلي صلاة السبحة، وهي صلاة النافلة، فالنافلة تسمى سبحة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والسياق ظاهر في أن المصنف جازم بحكم المسألة لا متردد، والله أعلم».
فهذه من التراجم التي جزم فيها المؤلف رحمه الله بالحكم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد نقل بعضهم الاتفاق على أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام، إلا النخعي فقال: إذا كان الإمام ورجل قام الرجل خلف الإمام، فإن ركع الإمام قبل أن يجيء أحد قام عن يمينه».
يعني: أن النخعي قال بالتفصيل، فإذا كان المأموم اثنين وقف المأمومان خلف الإمام، ولو كان المأموم واحدًا، فإن جاء أحد وصف معه قبل أن يركع الإمام ثبت في مكانه، وإن لم يأت أحد تقدم عن يمين الإمام، وهذا التفصيل لا وجه له.
}697{ الحديث فيه: أن نوم النبي صلى الله عليه وسلم لا ينقض الوضوء؛ لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه؛ ولهذا خرج إلى الصلاة بعد النوم ولم يتوضأ، أما غير النبي صلى الله عليه وسلم فإن نومه ينقض الوضوء؛ لحديث صفوان بن عسال، وفيه: «ولكن من غائط وبول ونوم» [(380)]، فالنوم ينقض الوضوء، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نومه مستثنى.
وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى أربع ركعات بعد العشاء، ثم صلى في آخر الليل خمس ركعات، فتكون تسعًا، ثم صلى ركعتين، فتكون كلها إحدى عشرة، وهذا نوع من صلاته صلى الله عليه وسلم أن يوتر بإحدى عشرة ركعة، وإذا كانت راتبة العشاء من ضمن الأربع الأولى يكون قد أوتر بتسع ركعات، وفي حديث عائشة رضي الله عنها: «ما كان يزيد في رمضان ولا غيره عن إحدى عشرة ركعة» [(381)]، وهذا محمول على أنه الأكثر والأغلب من حاله صلى الله عليه وسلم، وإلا فإنه قد ثبت أنه أوتر بثلاث عشرة في حديث ابن عباس[(382)]، وأوتر أيضًا بتسع ركعات[(383)]، وجاء أنه أوتر مرة بسبع ركعات[(384)]، لكن الغالب أنه يوتر بإحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة.
وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قام في آخر الليل توضأ، وفي اللفظ الآخر: «أنه قام إلى شن معلق فصب منه فتوضأ» [(385)]، فقام يصلي، ففعل ابن عباس مثل ذلك؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في اللفظ الآخر أن أباه العباس أرسله حتى يعلم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من ذكائه أنه لم ينم هذه المدة، بل ظل يراقب الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في الحديث الآخر: «أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأهله ناما بطول الوسادة ونام هو بعرضها» [(386)]؛ لأنه كان صغيرًا ابن سبع سنوات ـ أو عشر سنوات ـ وميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هي خالته، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تقدم إلى شن معلق فصب منه وتوضأ وقام يصلي، فقام ابن عباس وصب من الشن المعلق وتوضأ، ثم جاء وصف مع النبي صلى الله عليه وسلم عن يساره، فأداره النبي صلى الله عليه وسلم وجعله عن يمينه وأوقفه بجنبه دون تقدم أو تأخر، فالحديث ليس فيه أنه جعل ابن عباس متأخرًا عنه ولا متقدمًا، بل وقف بجنبه بحذائه. وهذا استدل به المؤلف على أن الاثنين إذا صليا يكون المأموم على يمين الإمام بحذائه لا يتقدم ولا يتأخر سواء، كما قال المؤلف في الترجمة: «بَاب يَقُومُ عَنْ يَمِينِ الإِْمَامِ بِحِذَائِهِ سَوَاءً» .
; إِذَا قَامَ الرَّجُلُ عَنْ يَسَارِ الإِْمَامِ فَحَوَّلَهُ الإِْمَامُ إِلَى يَمِينِهِ
لَمْ تَفْسُدْ صَلاَتُهُمَا
}698{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ عَبْدِ رَبِّهِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: نِمْتُ عِنْدَ مَيْمُونَةَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي فَقُمْتُ عَلَى يَسَارِهِ فَأَخَذَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ فَصَلَّى ثَلاَثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ نَامَ حَتَّى نَفَخَ وَكَانَ إِذَا نَامَ نَفَخَ ثُمَّ أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَخَرَجَ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قَالَ عَمْرٌو: فَحَدَّثْتُ بِهِ بُكَيْرًا فَقَالَ: حَدَّثَنِي كُرَيْبٌ بِذَلِكَ.
}698{ الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثلاث عشرة ركعة، وهذا هو الغالب من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يوتر بإحدى عشرة أو ثلاث عشرة.
وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم نام حتى نفخ، ثم أتاه المؤذن فخرج فصلى ولم يتوضأ؛ لأن نومه صلى الله عليه وسلم لا ينقض الوضوء؛ لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، وهذا خاص به صلى الله عليه وسلم.
وفيه: أن ابن عباس صف عن يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ برأسه وأداره من خلفه عن يمينه ولم تؤثر هذه الحركة على صلاته صلى الله عليه وسلم ولا على صلاة ابن عباس؛ حيث لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة، بل أقره على ذلك واستمر في صلاته، فدل على أن المأموم لو وقف عن يسار الإمام فالصلاة صحيحة لكن ينبغي أن يديره الإمام؛ لأنه لو كانت صلاته باطلة لقال له: أعد صلاتك لأنك وقفت عن يساري، فلما أداره وأوقفه عن يمينه ولم يأمره بإعادة الصلاة دل على صحة الصلاة.
ومن العلماء من قال: إن هذا خاص بالنافلة.
والصواب: أنه عام في النافلة والفريضة، وفي رواية عن الإمام أحمد أنه تبطل الصلاة إذا صلى عن يساره؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقره على ذلك[(387)].
والصواب قول الجمهور: إنها لا تبطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أداره واستمر في صلاته، فلو كانت صلاته باطلة لقال: أعد الصلاة؛ ولهذا قال المؤلف في الترجمة: «بابُ إذا قام الرجل عن يسار الإمام فحوله الإمام إلى يمينه لم تفسد صلاتهما» فجزم الإمام البخاري بالحكم؛ لقوة دليله ووضوحه.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وأما الإمام أحمد فعنده لا تصح صلاة من وقف على يسار الإمام إذا لم يكن عن يمينه أحد، وإنما يبطل عنده إذا استمر في موقفه حتى ركع الإمام ورفع، فأما إن كبر على يسار الإمام، ثم تحول إلى يمينه، أو وقف عن يمين الإمام آخر قبل الركوع، فإن الصلاة عنده صحيحة».
والصواب: أنه لا تفسد الصلاة ولو ركع.
وفيه: أن الحركة اليسيرة لا بأس بها في الصلاة، ومثل ذلك ما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم فتح الباب لعائشة رضي الله عنهما وهو يصلي[(388)]، وحمل أمامة بنت ابنته زينب وهو يصلي بالناس إذا قام حملها وإذا سجد وضعها[(389)]، وكونه صلى على منبر يعلم الناس، فيركع ثم يتأخر القهقرى ثم يسجد على الأرض فإذا قام صعد درج المنبر، وقال: «إنما فعلت هذا لتقتدوا بي ولتعلموا صلاتكم» [(390)] فمثل هذا العمل القليل لا يبطل الصلاة، وكذلك إذا كان كثيرًا ولكنه متفرق، مثل ما فعل بعض الصحابة ـ بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ـ من أنه كان معه فرس وكان يمسكها ويصلي، فإذا تقدمت تقدم وإذا تأخرت تأخر، فأنكر عليه بعض التابعين، فلما سلم أخبره وقال: إني صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وشاهدت تسهيله الأمر وتيسيره، وإني أخاف أن تنطلق مني الفرس، ولا أستطيع أن أرجع إلى أهلي[(391)].
فالعمل الكثير لا يبطل الصلاة إلا إذا توالى، وكونه صلى الله عليه وسلم أدار ابن عباس من خلفه فهذا من العمل القليل.
وفيه: أنه تصح مصافة الصبي، بشرط أن يكون مميزًا، يضبط الصلاة ويضبط الوضوء، غير متلاعب، والمذهب[(392)] أنه لا تصح مصافة الصبي في الفريضة وتصح في النافلة، واستدلوا بحديث ابن عباس وقالوا: إنه صف مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل، أي في النافلة، أما في الفريضة فلا.
والصواب أن النافلة والفريضة سواء، فإذا صحت مصافة الصبي في النافلة صحت في الفريضة، ولا يفرق بينهما إلا بدليل، ولا دليل.
وصلاة الجنازة كصلاة الفريضة، إذا كان المأموم واحدًا يصلي عن يمين الإمام، وإذا كانا اثنين أو أكثر فموقفهم خلفه.
; إِذَا لَمْ يَنْوِ الإِْمَامُ أَنْ يَؤُمَّ ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُمْ
}699{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ فَقُمْتُ أُصَلِّي مَعَهُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِرَأْسِي فَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ.
قوله: «بَاب إِذَا لَمْ يَنْوِ الإِْمَامُ أَنْ يَؤُمَّ ثُمَّ جَاءَ قَوْمٌ فَأَمَّهُمْ» أي: صح ذلك، والفريضة كالنافلة، إلا إذا وُجد دليل يفرق بينهما، ولا دليل.
والمؤلف رحمه الله لم يجزم بالحكم في ترجمة الباب؛ لأن المسألة فيها خلاف، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لم يجزم بحكم المسألة لما فيه من الاحتمال».
أي: لأنه ليس في حديث الباب التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو الإمامة.
}699{ وحديث الباب هو حديث ابن عباس السابق، كرره المؤلف رحمه الله لاستنباط الأحكام، فالمؤلف رحمه الله دقيق في الاستنباط، فيأتي بالحديث الواحد ويكرره ويعدد التراجم حتى يستنبط منها الأحكام.
وهذا الحديث يؤخذ منه أنه إذا صلى المرء منفردًا ـ أي ناويًا الانفراد ـ ثم جاء قوم وصفوا خلفه فنوى الإمامة صحت نيته وصحت الصلاة، والفريضة والنافلة في ذلك سواء، فالنبي صلى الله عليه وسلم قام من الليل يصلي فجاء ابن عباس فصف عن يساره، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم في الأول يصلي منفردًا، فلما صف بجواره ابن عباس نوى الإمامة؛ وعليه فإذا صلى الإنسان منفردًا ولم ينو الإمامة، ثم جاء شخص وصلى بجواره ونوى الإمامة صحت الصلاة سواء كانت فريضة أو نافلة، كما أنه إذا صلى شخص بالناس إمامًا ثم جاء الإمام الراتب تأخر وصار مأمومًا بعد أن كان إمامًا، وكذلك أيضًا إذا حصل عذر للإمام تأخر وقدم رجلاً ممن يصلي خلفه ليتم بالناس، فينتقل من تقدم من كونه مأمومًا إلى كونه إمامًا، ولا حرج في هذا، كما فعل عمر رضي الله عنه لما طعن فأخذ بيد عبدالرحمن وقدمه ليتم الصلاة، فانتقل عبدالرحمن من كونه مأمومًا إلى كونه إمامًا.
والمؤلف رحمه الله لم يجزم بالحكم في الترجمة؛ لعدم التصريح به في حديث الباب، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لم يجزم بحكم المسألة لما فيه من الاحتمال؛ لأنه ليس في حديث ابن عباس التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينو الإمامة، كما أنه ليس فيه أنه نوى لا في ابتداء صلاته ولا بعد أن قام ابن عباس فصلى معه، لكن في إيقافه إياه منه موقف المأموم ما يشعر بالثاني، وأما الأول فالأصل عدمه، وهذه المسألة مختلف فيها، والأصح عند الشافعية لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الإمام الإمامة».
وهذا هو الصواب: أنه لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الإمام الإمامة، فإذا جاء إنسان وصلى بجواره صح.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «واستدل ابن المنذر أيضًا بحديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في شهر رمضان قال: «فجئت فقمت إلى جنبه، وجاء آخر فقام إلى جنبي حتى كنا رهطًا، فلما أحس النبي صلى الله عليه وسلم بنا تجوز في صلاته» الحديث[(393)]». يعني: خفف من صلاته.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهو ظاهر في أنه لم ينو الإمامة ابتداء، وائتموا هم به وأقرهم، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم وعلقه البخاري كما سيأتي في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى. وذهب أحمد إلى التفرقة بين النافلة والفريضة فشرط أن ينوي في الفريضة دون النافلة، وفيه نظر؛ لحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وحده فقال: «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه» [(394)].
فظاهره أنه كان يصلي الفريضة، أي فاتته الصلاة فصف يصلي وحده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه» [(395)] فدل على أنه لا فرق بين الفريضة والنافلة، وتفرقة الحنابلة[(396)] في هذا بين النافلة والفريضة لا وجه لها، فما صح في النافلة صح في الفريضة سواء، إلا بدليل يفرق بينهما.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «فتضمن ذلك مسألتين مختلفا فيهما: إحداهما: أن من لم ينو الإمامة في ابتداء صلاته هل يصح أن يأتم به غيره، أم لا؟ وفي المسألة أقوال:
أحدها: يجوز ذلك، فلا يشترط أن ينوي الإمام الإمامة».
وهذا هو اختيار البخاري في الترجمة، وهو الصحيح.
ثم قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «بل لو نوى المأموم الاقتداء بمنفرد جاز، هذا قول مالك والشافعي والثوري في رواية وزفر، وحكي رواية عن أحمد.
القول الثاني: لا يجوز بحال، وهو ظاهر مذهب أحمد، وقول الثوري في رواية إسحاق. واستدل لهم بأن الجماعة قربة وعبادة فلا تنعقد إلا بإمام ومأموم، وفضلها مشترك بينهما، فلا يحصل لهما ذلك بدون النية؛ عملاً بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لامرئ ما نوى» [(397)].
وأجاب بعض أصحابنا عن حديث ابن عباس بأن النبي صلى الله عليه وسلم إمام الخلق على كل حال فلا يحتاج إلى نية الإمامة، فلا يلحق به غيره».
وهذا ضعيف، والصواب الأول.
ثم قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: « والقول الثالث: يصح ذلك في الفرض دون النفل، وهو رواية منصوصة عن أحمد؛ استدلالاً بحديث ابن عباس هذا».
وهذا ضعيف أيضًا.
ثم قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: « والقول الرابع: إن أم رَجُل رجلاً لم يحتج أن ينوي الإمامة، وإن أم امرأة احتاج إلى نية الإمامة، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه».
والصواب القول الأول أنه لا يشترط أن ينوي الإمام الإمامة مطلقًا سواء كان المأموم رجلاً أو امرأة ولا فرق في ذلك بين الفريضة والنافلة.
ثم قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: « المسألة الثانية: إذا أحرم منفردًا ثمَّ نوى الإمامة، وفيه أيضًا أقوال:
أحدها: أنَّه لا يجوز ذلك، وهو قول أكثر أصحابنا، وبناء على أصلهم في أن الإمام يشترط أن ينوي الإمامة على ما سبق، فيصير ذلك من ابتداء صلاته.
الثاني: يجوز ذلك، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشافعي؛ بناء على أصولهم في أن نية الإمام للإمامة ليس شرطًا، على ما سبق. ووافقهم بعض أصحابنا لمعنى آخر، وهو: أن طرفي الصلاة يجوز أن يكون في أولها إمامًا وفي الآخر منفردًا، وهو المسبوق إذا استخلفه الإمام، فكذا بالعكس».
وعلى كل حال فالصواب الجواز مطلقًا، فإذا صلى المرء منفردًا ثم صلى خلفه أناس صح ائتمامهم به.
أما إذا كان يصلي الفريضة منفردًا وأحس بالجماعة فله أن يكمل صلاته على النفل، ثم يسلم ويدخل مع الجماعة، وهذا إذا كان الوقت واسعًا باقيًا، أما إذا كان الوقت لا يتسع فلابد أن يستمر في صلاته، وكذلك إذا صلى الفريضة منفردًا وانتهى من الصلاة فليس له أن يلغيها ويجعلها نفلاً لأجل أن يصليها ثانية مع الجماعة، بل تكون الأولى هي الفريضة والثانية نفلاً ولو كانت الثانية في جماعة.
; إِذَا طَوَّلَ الإِْمَامُ وَكَانَ لِلرَّجُلِ حَاجَةٌ فَخَرَجَ فَصَلَّى
}700{ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ.
}701{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍقَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى الْعِشَاءَ فَقَرَأَ بِالْبَقَرَةِ فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ فَكَأَنَّ مُعَاذًا تَنَاوَلَ مِنْهُ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ» ثَلاَثَ مِرَارٍ أَوْ قَالَ: «فَاتِنًا فَاتِنًا فَاتِنًا» وَأَمَرَهُ بِسُورَتَيْنِ مِنْ أَوْسَطِ الْمُفَصَّلِ.
قَالَ عَمْرٌو: لاَ أَحْفَظُهُمَا
وهذه الترجمة عكس الترجمة السابقة؛ لأن الترجمة السابقة في جواز الائتمام بمن لم ينو الإمامة، وهذه في مأموم قطع الائتمام بالإمام ونوى الانفراد. وهذا لا يجوز إلا لعذر من مرض وغيره، فإذا وجد العذر جاز أن يقطع المأموم الائتمام بالإمام بعد الدخول وينوي الانفراد ويكمل صلاته.
}700{ فيه: أن معاذًا رضي الله عنه كان إمام قومه، لكنه كان يحب أن يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذا كان يصلي الفريضة مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يذهب فيصلي بقومه في مسجدهم؛ فتكون له نافلة ولهم فريضة.
}701{ فيه: أن معاذًا كان يطول الصلاة إذا أم قومه؛ حيث قرأ بالبقرة كاملة، وكان في الصف خلفه رجل من الأنصار متعبٌ مجهدٌ، فلما رأى هذا الرجل أن معاذًا طول نوى الانفراد وقطع الائتمام به، وأكمل صلاته وانصرف، فأخبر معاذ بذلك فتناوله، وجاء في بعض الروايات أنه قال: «إنه منافق» فذهب ذلك الرجل فشكى معاذًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على معاذ، وقال: فَتَّانٌ فَتَّانٌ فَتَّانٌ ثَلاَثَ مِرَارٍ أَوْ قَالَ: فَاتِنًا فَاتِنًا فَاتِنًا» وفي رواية أنه قال: « هلا قرأت بـ [الأعلى: 1]{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *}، و [الغَاشِيَة: 1]{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ *}، و [الشّمس: 1]{وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا *}، و [العَلق: 1]{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}» [(398)]، أي: بالسور التي من أوسط المفصل، وفي لفظ: «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف؛ فإن من ورائه الضعيف والصغير وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء» [(399)].
فدل هذا: على أن الإنسان إذا كان معذورًا فله أن ينوي الانفراد ويقطع الائتمام بالإمام، أما إذا لم يكن هناك حاجة فيحرم عليه ذلك.
; تَخْفِيفِ الإِْمَامِ فِي الْقِيَامِ وَإِتْمَامِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ
}702{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسًا قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو مَسْعُودٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: واللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ».
هذه الترجمة فيها مشروعية تخفيف الإمام في القيام، وأن التخفيف إنما يكون في القيام ـ أي في القراءة ـ أما الركوع والسجود فلابد أن يتمهما، وليس معنى التخفيف أن ينقر الإنسان صلاته نقر الغراب، بل لابد من الإتمام والطمأنينة في الركوع والسجود، والرفع من الركوع، والرفع من السجود، أما التخفيف فيكون بعدم الإطالة في القراءة.
}702{ قوله: «أَنَّ رَجُلاً قَالَ: واللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الْغَدَاةِ» صلاة الغداة هي صلاة الفجر.
وقوله: «مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا» جاء أن هذا الرجل هو أبي بن كعب رضي الله عنه، وأنه كان يصلي بالناس في قباء، فصلى بسورة طويلة، فشق ذلك على هذا الرجل فقال ما قال، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا.
وقوله: «إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ» «مَا» زائدة للتأكيد، والمعنى: فأيكم صلى بالناس فليخفف؛ «فَإِنَّ فِيهِمْ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ» .
وقد بين المؤلف رحمه الله أن التخفيف إنما هو في القراءة، أما الركوع والسجود فلابد فيهما من الإتمام والطمأنينة، فلا ينقر صلاته نقر الغراب، والتخفيف إنما يرجع إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان ـ كما في حديث أنس ـ يحزر له في الركوع عشر تسبيحات، وفي السجود عشر تسبيحات مع التدبر[(400)]، وكان إذا رفع رأسه من الركوع وقف حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجود جلس حتى يقول القائل: قد نسي[(401)]؛ أي لأنه يطمئن، فالتخفيف إنما هو في القيام فلا يقرأ قراءة طويلة.
ويستحب أن تكون القراءة كقراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يصلي في صلاة الفجر بالستين إلى المائة آية[(402)].
ويستحب أيضًا أن يصلي صلاة معتدلة، مثل ما جاء في الحديث عن البراء بن عازب قال: «رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبًا من السواء» [(403)]، وفي اللفظ الآخر: «ما خلا القيام والقعود» [(404)] أي فالقيام والقعود ـ يعني التشهد ـ أطول، أما الباقي فيكون متساويًا.
وله أن يقرأ بأمثال ق، والذاريات، والواقعة، والرحمن، وقد سمع، وإذا قرأ بقصار السور فلا بأس، أما أن يقرأ بالطوال، كأن يقرأ البقرة كاملة، أو آل عمران أو النساء فهذا فيه مشقة على الناس.
وعليه فيجوز للمأموم أن يفارق إذا شقت عليه صلاة الإمام أو كان معذورًا، ولا يجوز له أن يفارق بغير عذر.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «ولو فارق المأموم لغير عذر لم يجز في أصح الروايتين عن أحمد، وهو قول أبي حنيفة ومالك. والثانية: يجوز، وهو قول أبي يوسف ومحمد، وللشافعي قولان. واستدلوا على أنه لا يجوز ـ وأن الصلاة تبطل به ـ بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه» [(405)]، ومفارقته من غير عذر من الاختلاف عليه. وأيضًا فقد سبق الاستدلال على وجوب الجماعة، والواجب إذا ما شرع فيه لم يجز إبطاله وقطعه لغير عذر، كأصل الصلاة. والله سبحانه وتعالى أعلم».
فالصواب من قول العلماء: أنه إذا فارق من غير عذر لا تصح صلاته؛ لأمرين:
الأمر الأول: أن هذا من الاختلاف على الإمام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه» [(406)].
الأمر الثاني: أن الجماعة واجبة؛ فليس له أن ينوي الانفراد وقطع الجماعة بغير عذر، أما المعذور فتسقط عنه الجماعة.
; إِذَا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ
}703{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ مِنْهُمْ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالْكَبِيرَ وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ.
هذه الترجمة فيها أن للمنفرد أن يطول ما شاء؛ فالمنفرد أمير نفسه وليس مرتبطًا بغيره فله أن يطول وله أن يخفف، قال العلماء: إلا إذا خشي خروج الوقت، فإذا كان يصلي الفريضة وخشي خروج الوقت وجب عليه التخفيف حتى لا تخرج الصلاة عن وقتها، أما ما دام الوقت باقيًا فله أن يطول ما شاء.
}703{ قوله: «فَلْيُخَفِّفْ» يعني تخفيفًا مع الإتمام، وهذا القيد مأخوذ من النصوص الأخرى، التي فيها وصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وأن تخفيفه كان مع الإتمام للركوع والسجود، وليس تخفيفًا مُخِلًّا، فالنبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ» ومع ذلك كانت صلاته ـ كما وصف الصحابة: يحزرون له في الركوع عشر تسبيحات مع التدبر، وفي السجود عشرا[(407)]، وكان إذا رفع رأسه من الركوع وقف حتى يقول القائل: قد نسي، وإذا رفع رأسه من السجود جلس حتى يقول القائل: قد نسي[(408)]، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في فجر يوم الجمعة [السَّجدَة: 1-2]{الم *تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ *}، وجاء في رواية: «وكان يديم ذلك» [(409)]، وثبت أيضًا: أنه في السفر قرأ سورة الزلزلة في الركعتين كلتيهما؛ الأولى والثانية[(410)].
وصلاته صلى الله عليه وسلم هي التخفيف؛ فالتخفيف يفسر بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وما زاد عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فليس تخفيفًا، فإذا سبح الإمام سبع تسبيحات أو عشر تسبيحات كان هذا تخفيفًا، أما إذا سبح عشرين أو ثلاثين تسبيحة كان هذا تطويلاً؛ لأنه زائد عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهكذا.
أما النافلة فأمرها أوسع؛ لأن من شق عليه القيام في النافلة جاز له أن يجلس وله نصف الأجر، أما الفريضة فالقيام فيها واجب.