(93)كِتَاب الأَحْكَامِ
كِتَاب الأَحْكَامِ
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}
}7137{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ، عَنْ يُونُسَ عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي».
}7138{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِْمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ، أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
قوله: «كتاب الأحكام» الأحكام جمع حكم، وهو إسناد أمر إلى آخر إثباتًا أو نفيًا، وفي اصطلاح الأصوليين: هو خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير.
وأما خطاب السلطان لرعيته، وخطاب السيد لعبده في وجوب طاعته فهذا بحكم الله تعالى؛ لأن الله تعالى أمر بطاعة ولي الأمر، وأمر العبد بطاعة سيده، ومادة الحكم من الإحكام وهو إتقان الشيء ومنعه من العيب، ويدخل في هذا الكتاب الأحكام التي تتعلق بالحاكم والخليفة، والقاضي.
قوله: «بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [النِّسَاء: 59]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}» هذه الآية الكريمة فيها الأمر بطاعة الله وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر، وبذلك تستقيم أمور الدين وأمور الدنيا.
وهذه الآية الكريمة لم يعد الله تعالى فيها الفعل في طاعة أولي الأمر، فلم يقل: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر.
قال العلماء: الحكمة في ذلك أنه أعاد الفعل في طاعة الرسول؛ لأن الرسول طاعته طاعة مستقلة؛ لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله، قال الله تعالى: [النِّسَاء: 80]{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وذلك بخلاف أولي الأمر، فطاعتهم ليست مستقلة، بل هي مقيدة بطاعة الله ورسوله، فإذا أمر ولي الأمر بمعصية فلا يطاع كما سيأتي، لكن ليس معنى ذلك الخروج عليه؛ لهذا قال: ُ " ! $ £ × % ( ِ يعني: إذا كانوا يأمرون بطاعة الله أو في الأمور المباحة، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد.
وقوله تعالى: ُ × % ( ِ قيل: إن المراد الأمراء، وقيل: العلماء، والصواب أنها تشملهما، فأولو الأمر يطاعون من العلماء، ومن الحكام والولاة كذلك، فالعلماء عليهم البيان والأمراء عليهم التنفيذ، وكل منهما يطاع في طاعة الله ورسوله؛ لأن العالم قد يخطئ وكذلك الأمير؛ فإذا أخطأ الأمير أو أمر بمعصية فلا يطاع، وإذا أخطأ العالم أو أمر بمعصية فلا يطاع.
}7137{ قوله: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» هذا الإطلاق في طاعة الأمير مقيد بما إذا لم يأمر بمعصية كما سيأتي في الأحاديث، كحديث: «إنما الطاعة في المعروف»[(178)] وحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[(179)] .
فالنصوص يضم بعضها إلى بعض، ويقيد بعضها بعضًا، ويفسر بعضها بعضًا.
}7138{ قوله: «أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإِْمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ» المراد بالإمام هو الإمام الأعظم، وهو خليفة المسلمين، أو الملك، أو رئيس الجمهورية.
قوله: «وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أعظم الولاة مسؤولية هو الملك أو الخليفة أو رئيس الدولة.
قوله: «وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» وهذه رعاية أقل، فالرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن زوجته، وعن أبنائه، وعن بناته ومن تحت يده من الخدم والأجراء إذا كانوا تحته، فكل هؤلاء هو مسئول عنهم.
قوله: «وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى أَهْلِ بَيْتِ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ» المرأة راعية على أبنائها وبناتها، وراعية في مال زوجها ومسئولة عما يدخل في البيت وعما يخرج، ومسؤولة عن نفسها أيضًا كحفظ نفسها وعرضها، ومسؤولة فيمن تأذن له ومن لا تأذن له.
قوله: «وَعَبْدُ الرَّجُلِ رَاعٍ عَلَى مَالِ سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ» فالعبد مسؤول عن مال سيده؛ لأنه مستأمن، فسيده يأمنه على المال في دخوله وإخراجه وفي الكسب وغيره.
قوله: «أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أول الحديث، ثم أعاده مرة أخرى.
وفي الحديث: دليل على عموم الرعاية والمسؤولية، ولكنها تختلف في الخطورة والعظم، فإذا كان مديرًا أو رئيسًا حتى ولو كان على اثنين، أو كان إمامًا في المسجد يؤم الناس فإن مسؤوليته تكون أعظم؛ لأنه مسؤول عن جماعة.
ومن لم يكن له زوجة ولا ولد، وليس له ولاية، وليس إمامًا فهو مسؤول عن أعضائه وعن نفسه، فأعضاؤه يستعملها في طاعة الله وينتهي عما حرم الله عليه، ونفسه يأمرها بطاعة الله، وينهاها عن معصية الله، فمن لم يكن له ولاية لا يكون متنصلاً عن المسؤولية.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومن بديع الجواب قول بعض التابعين لبعض الأمراء من بني أمية لما قال له: أليس الله أمركم أن تطيعونا في قوله: [النِّسَاء: 59]{وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} فقال له: أليس قد نزعت عنكم يعني: الطاعة إذا خالفتم الحق بقوله: [النِّسَاء: 59]{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ}؟... وفي الحديث وجوب طاعة ولاة الأمور وهي مقيدة بغير الأمر بالمعصية كما تقدم... وقيل: الحكمة في الأمر بطاعتهم المحافظة على اتفاق الكلمة لما في الافتراق من الفساد».
ولا شك أنه إذا أطاع الناسُ ولاةَ الأمور انتظمت الكلمة، واستقرت الأحوال، وصاروا يدًا واحدة ضد أعدائهم من الكفرة، أما إذا اختلفوا وتفرقوا فإنها من باب التنازع في العمل تختل الأمور، وتختل أحوال الناس ويتدخل الأعداء.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي هذا الحديث بيان كذب الخبر الذي افتراه بعض المتعصبين لبني أمية، قرأت في كتاب «القضاء» لأبي علي الكرابيسي قال: أنبأنا الشافعي عن عمه ـ هو محمد بن علي ـ قال: دخل ابن شهاب على الوليد بن عبدالملك فسأله عن حديث: «إن الله إذا استرعى عبدًا الخلافة كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات» ، فقال له ابن شهاب: هذا كذب، ثم تلا: [ص: 26]{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *}» فقال الوليد: إن الناس ليغروننا عن ديننا».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الطيبي: في هذا الحديث أن الراعي ليس مطلوبًا لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فينبغي أن لا يتصرف إلا بما أذن الشارع فيه».
الأُْمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ
}7139{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ، فَغَضِبَ فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلاَ تُوثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَالأَْمَانِيَّ الَّتِي تُضِلُّ أَهْلَهَا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ هَذَا الأَْمْرَ فِي قُرَيْشٍ لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ».
تَابَعَهُ نُعَيْمٌ عَنْ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرٍ.
}7140{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَزَالُ هَذَا الأَْمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ».
قوله: «بَاب الأُْمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ» ، جزم المؤلف رحمه الله في هذه الترجمة بالحكم لوضوح الأحاديث وصراحتها، والمراد منها أن يكون ولاة الأمر الذين يتولون رئاسة الدولة من قريش، ولفظ الترجمة جاء على لفظ الحديث كما أشار إليه الحافظ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لفظ الترجمة لفظ حديث أخرجه يعقوب بن سفيان[(180)] وأبو يعلى[(181)] والطبراني[(182)] من طريق سكين بن عبدالعزيز حدثنا سيار بن سلامة أبو المنهال قال: «دخلت مع أبي على أبي برزة الأسلمي» فذكر الحديث الذي أوله: «إني أصبحت ساخطًا على أحياء قريش»، وفيه: «أن ذاك الذي بالشام إن يقاتل إلا على الدنيا»، وفي آخره سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الأمراء من قريش»[(183)] الحديث، وقد تقدم التنبيه عليه في الفتن في: «باب إذا قال عند قوم شيئًا ثم خرج فقال بخلافه»؛ وفي لفظ للطبراني: «الأئمة»[(184)] بدل: «الأمراء» ، وله شاهد من حديث علي رفعه: «ألا إن الأمراء من قريش ما أقاموا ثلاثًا»[(185)] الحديث أخرجه الطبراني[(186)]، وأخرجه الطيالسي[(187)] والبزار[(188)] والمصنف في «التاريخ»[(189)] من طريق سعد بن إبراهيم عن أنس بلفظ: «الأئمة من قريش ما إذا حكموا فعدلوا» الحديث، وأخرجه النسائي[(190)]، والبخاري أيضا في «التاريخ»[(191)] ، وأبو يعلى[(192)] من طريق بكير الجزري عن أنس؛ وله طرق متعددة عن أنس منها للطبراني[(193)] من رواية قتادة عن أنس بلفظ: «إن الملك من قريش» الحديث، وأخرج أحمد[(194)] هذا اللفظ مقتصرًا عليه من حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي بكر الصديق بلفظ: «الأئمة من قريش» ورجاله رجال الصحيح، لكن في سنده انقطاع، وأخرجه الطبراني[(195)] والحاكم[(196)] من حديث علي بهذا اللفظ الأخير، ولما لم يكن شيء منها على شرط المصنف في «الصحيح» اقتصر على الترجمة، وأورد الذي صح على شرطه مما يؤدي معناه: في الجملة» فهذه النصوص كلها تدل على أن الخلافة والولاية تكون في قريش.
}7139{ قوله: «كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَلَغَ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ عِنْدَهُ فِي وَفْدٍ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ قَحْطَانَ، فَغَضِبَ» فيه: الإنكار من العالم لما لا يعلمه.
وفيه: الغضب لله عز وجل، وأن الغضب لله مشروع كما في الحديث: وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها[(197)].
وفيه: منقبة لمعاوية رضي الله عنه وفضيلة له، وهذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان.
قوله: «فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رِجَالاً مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلاَ تُوثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأُولَئِكَ جُهَّالُكُمْ» ، فيه: التحذير من التحديث بأحاديث ليست في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن هذا من الجهل.
وفيه: أن الأماني تضل أهلها، فما خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهو من الأماني التي يضل بها أصحابها.
قوله: «إِنَّ هَذَا الأَْمْرَ فِي قُرَيْشٍ» ، المراد بالأمر: الخلافة والولاية، وفيه: دلالة على أن الولاية والإمارة العظمى والخلافة والحكم يجب أن تكون في قريش؛ لأن هذا الخبر بمعنى الأمر، والمعنى: اجعلوا الإمارة في قريش ولو كان خبرًا محضًا لما تخلفت الولاية عن قريش في كثير من الأزمنة.
وهذا في حال الاختيار والانتخاب فيجب على أهل الحل والعقد أن يختاروا خليفة من قريش يصلح للولاية.
قوله: «لاَ يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلاَّ كَبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ» ، يعني: لا ينازعهم أحد في الأمر إلا كان مقهورًا في الدنيا معذبًا في الآخرة.
قوله: «مَا أَقَامُوا الدِّينَ» هذا قيد، يدل على أن تولية الخلافة في قريش لابد أن تكون مقيدة بالدين، ويدل على أنه يجب على أهل الحل والعقد أن يختاروا من قريش من يصلح للولاية؛ لأن المقصود إقامة دين الله، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية[(198)]، فجميع الولايات في الدولة: الولاية العظمى الخلافة والإمارة والقضاء وإمامة الصلاة والأعمال كلها والمدارس ورئاسة الأقسام كلها المقصود منها إقامة الدين، فإن لم يوجد من يقيم دين الله من قريش فإنه يختار من غيرهم.
ولا يولى كافر ولا فاسق، وهذا في حال الاختيار، وإذا وكل الأمر للمسلمين فإنهم يختارون من قريش.
أما في حال الغلبة فإنه إذا جاء أمير أو وال وغلب الناس بسيفه وسلطانه وقهرهم حتى استتب له الأمر فإنه يسمع ويطاع له ولو لم يكن قرشيًّا، حتى ولو كان عبدًا حبشيًا ما لم يأمر بمعصية الله عملاً بحديث أنس الآتي في الباب الذي بعده: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشي»[(199)] فهو يقيد هذا الحديث، ويحمل حديث معاوية، وحديث ابن عمر على حال الاختيار، وحديث أنس على حال الغلبة والقوة، وبهذا تجتمع النصوص ولا تتعارض.
فالولاية والخلافة تثبت بواحد من ثلاثة أمور:
أولاً: في حال الاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، كما ثبتت الخلافة لأبي بكر الصديق بالاختيار والانتخاب، وثبتت الخلافة لعثمان بالاختيار والانتخاب وثبتت الخلافة لعلي بالاختيار والانتخاب.
ثانيًا: تثبت بولاية العهد كما ثبتت ولاية عمر بولاية العهد من أبي بكر الصديق.
ثالثًا: تثبت بالقوة والغلبة.
ولم تثبت الولاية بالاختيار والانتخاب إلا في ثلاثة: الصديق، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم، والباقي من عهد الصحابة إلى الآن كلها بالقوة والغلبة، أو بولاية العهد.
وقد يقال: إن خلافة معاوية بعدما تنازل الحسن بن علي رضي الله عنه له أجمع المسلمون على ولايته وبايعوه وأنها باختيارهم؛ لأنها ثبتت بعد ذلك بالاختيار.
أما حديث عبدالله بن عمرو فهذا حديث ثابت، ثبت أنه سيكون ملك من قحطان، قال: «لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه»[(200)] ويحمل على أن معاوية لم يعلم بهذا الحديث، وعبدالله بن عمرو معذور.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قيل: يحتمل أن يكون مفهومه فإذا لم يقيموه لا يسمع لهم، وقيل: يحتمل أن لا يقام عليهم». هذا الكلام في التولية عند الاختيار والانتخاب، أما إذا اختير وانتخب وتمت له البيعة فلا يجوز الخروج عليه، ولو جار وظلم إلا بالكفر الصريح، كما دلت النصوص الأخرى، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان»[(201)] كأن يفعل كفرًا صريحًا لا لبس فيه والدليل واضح ببرهان من الكتاب أو السنة، ويوجد البديل، وتوجد القدرة أيضًا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «جاءت الأحاديث على ثلاثة أنحاء، الأول: وعيدهم باللعن إذا لم يحافظوا على المأمور به كما ذكر في الأحاديث التي ذكرتها في الباب الذي قبله حيث قال: «الأمراء من قريش ما فعلوا ثلاثًا ما حكموا فعدلوا»[(202)] وفيه: «فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة الله»[(203)] والثاني: وعيدهم بأن يسلط عليهم من يبالغ في أذيتهم، فعند أحمد وأبي يعلى من حديث ابن مسعود رفعه: «يا معشر قريش إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب»[(204)] قال ابن بطال: هذا يرد قول النظام وضرار ومن وافقهما من الخوارج: أن الإمام ليس من شرطه أن يكون قرشيًا. قالوا: وإنما استحق الإمامة من كان قائمًا بالكتاب والسنة من أفناء الناس من العجم وغيرهم. قال ضرار: وإن اجتمع رجلان قرشيّ ونبطيّ ولَّينا النبطيّ؛ لأنه أقل عشيرة، فإذا عصى الله وأردنا خلعه كانت شوكته علينا أهون. قال أبو بكر بن الطيب: وهذا قول ساقط لم يعرج المسلمون عليه، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الخلافة في قريش، وعمل بذلك المسلمون قرنًا بعد قرن فلا معنى لقولهم، وقد صح عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه أوصى بالأنصار، وقال: «من ولي منكم من هذا الأمر شيئًا فليتجاوز عن مسيئهم»[(205)] ولو كان الأمر إليهم لما أوصى بهم.
ومما يشهد لصحة هذه الأحاديث احتجاج أبي بكر وعمر بها على رؤوس الأنصار فى السقيفة، وما كان من إذعان الأنصار، وخضوعهم لها عند سماعها وإذكارهم بها حتى قال سعد بن عبادة: منا الوزراء، ومنكم الأمراء. ورجعت الأنصار عما كانوا عليه حين تبين لهم الحق بعد أن نصبوا الحرب، وقال الحباب بن المنذر: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب، وانقادوا لأبي بكر مذعنين. ولولا علمهم بصحة هذه الأخبار لم يلبثوا أن يقدحوا فيها، ويتعاطوا ردها، ولا كانت قريش بأسرها تقر كذبًا يدعى عليها؛ لأن العادة جرت فيما لم يثبت من الأخبار أن يقع الخلاف والقدح فيها عند التنازع، ولا سيما إذا احتج به في هذا الأمر العظيم مع إشهار السيوف، واختلاط القول. ومما يدل على كون الإمام قرشيًا اتفاق الأمة فى الصدر الأول وبعده من الأعصار على اعتبار ذلك في صفة الإمام قبل حدوث الخلاف في ذلك، فثبت أن الحق في اجتماعها وإبطال قول من خالفها».
}7140{ قوله: «لاَ يَزَالُ هَذَا الأَْمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن هبيرة: يحتمل أن يكون على ظاهره، وأنه لا يبقى منهم في آخر الزمان إلا اثنان أمير ومؤمر عليه، والناس لهم تبع»، وهذا ليس بصحيح.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «يحتمل أن يحمل المطلق على المقيد في الحديث الأول، ويكون التقدير: لا يزال هذا الأمر أي: لا يسمى بالخليفة إلا من يكون من قريش».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ذهب جمهور أهل العلم إلى أن شرط الإمام أن يكون قرشيًّا، وقيد ذلك طوائف ببعض قريش... وقالت الخوارج وطائفة من المعتزلة: يجوز أن يكون الإمام غير قرشي وإنما يستحق الإمامة من قام بالكتاب والسنة».
أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [المَائدة: 47]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *}.
}7141{ حَدَّثَنَا شِهَابُ بْنُ عَبَّادٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا».
قوله: «بَاب أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ» المراد بالحكمة العلم النافع المأخوذ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن قضى بالحكمة فله أجر عظيم وهو مغبوط محسود حسد غبطة، ولم يبين هنا مقدار الأجر لكن لا شك أن أجره عظيم؛ لأن كونه يغبط يدل على أن أجره عظيم.
قوله: «لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [المَائدة: 47]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *}» جعل الآية علة لأجر من قضى بالحكمة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وجه الاستدلال بالآية لما ترجم به أن منطوق الحديث دل على أن من قضى بالحكمة كان محمودًا حتى إنه لا حرج على من تمنى أن يكون له مثل الذي له من ذلك؛ ليحصل له مثل ما يحصل له من الأجر وحسن الذكر، ومفهومه يدل على أن من لم يفعل ذلك فهو على العكس من فاعله وقد صرحت الآية بأنه فاسق» يعني: من لم يحكم بالعلم النافع فإن حكم بالجهل فهو فاسق. فالآية دلت بمنطوقها على أن من حكم بغير ما أنزل الله فهو فاسق، وبمفهومها أن من حكم بما أنزل الله فهو عادل، والذي يحكم بما أنزل الله هو الذي يقضي بالحكمة، فاستدلال المؤلف بالآية استدلال دقيق.
والآية وإن كانت في أهل الكتاب إلا أنها تشمل هذه الأمة فهي عامة، وهذا هو الصواب. وقال بعض العلماء: إنها خاصة بأهل الكتاب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وحكى ابن التين عن الداودي أن البخاري اقتصر على هذه الآية دون ما قبلها عملاً بقول من قال: إن الآيتين قبلها نزلتا في اليهود والنصارى» وهذه الآية يعني: في المسلمين.
ثم قال: «ونسق الآية لا يقتضي ما قال... إن الآيات كلها وإن كانت في أهل الكتاب لكن عمومها يتناول غيرهم».
قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} ، ثم قال في آخرها: [المَائدة: 44]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ *} ثم قال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} يعني: أهل الكتاب. ثم قال: [المَائدة: 45]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *} ثم قال: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ}، ثم قال: [المَائدة: 47]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *} فالآيات الثلاث في أهل الكتاب، لكن عمومها يتناول هذه الأمة، فليس المراد أهل الكتاب خاصة، كما قال بعض السلف: مضى القوم ولم يُعنَ به سواكم، وكما قال سبحانه: [المَائدة: 68]{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ}، أي: لستم على شيء من الخير ولا على شيء من الدين {تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} وهذه ليست خاصة بهم، وهذه الأمة ليست على شيء حتى تقيم كتاب الله وسنة رسوله فليست خاصة بأهل الكتاب.
وفي سورة البقرة آيات كثيرة، تتحدث عن بني إسرائيل وماجرى لهم، منها قول الله تعالى: [البَقَرَة: 49]{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وقوله تعالى: [البَقَرَة: 61]{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ}، وقوله جل شأنه: [آل عِمرَان: 181]{وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} فكل هذا تحذير لهذه الأمة أن تفعل مثل فعلهم فيصيبها ما أصابهم فكذلك هذه الآيات في أهل الكتاب: [المَائدة: 44]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ *}، وقوله: [المَائدة: 45]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *}، وقوله: [المَائدة: 47]{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *}.
}7141{ قوله: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ» . المراد بالحسد هنا الغبطة، وهي تمني مثل ما لفلان من الخير دون زواله عنه، فإن تمنيت زوال النعمة عنه فهو حسد مذموم يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب.
قوله: «رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ» ، أنفق المال في الحق لا في الباطل.
وقوله: «وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً» . هذا هو الشاهد، والحكمة هي العلم النافع، وهو المأخوذ من الكتاب والسنة.
قوله: «فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» ، وفي رواية للحديث: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار»[(206)] والمعنى واحد.
وقوله: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ» ؛ هذا حكم وليس خبرًا فليس المراد بالنفي حقيقته، أي: لا يوجد الحسد إلا في اثنتين، لا، بل يوجد الحسد في غيرهما، لكن هذا حكم من النبي صلى الله عليه وسلم لو كان خبرًا محضا للزم الخلف في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يوجد من الناس من يحسد إلا في هاتين الخصلتين، والناس حسدوا في غير هاتين الخصلتين وغبطوا من فيه سواهما.
بعض الناس غبطوا صاحب الأموال الذي يجمعها من حلال وحرام وينفقها في الحرام يغبطونه، غبطوا قارون الذي أهلكه الله [القَصَص: 79]{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ *} وقارون كافر جمع ماله من حلال وحرام، لكن أهل البصيرة وأهل الإيمان قالوا ما أخبر الله عنه: [القَصَص: 80]{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلاَ يُلْقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ *}، قال الله: [القَصَص: 81-83]{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ *وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلاَ أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ *تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *}.
فمعنى الحديث حصر المرتبة العليا من الغبطة في هاتين الخصلتين وما يتبعهما، فكأنه قال: هما آكد القربات التي يغبط بها.
وقوله في الحديث الآخر: «رجل آتاه الله القرآن»[(207)] قيل: المراد به القرآن، وقيل: المراد أعم من ذلك، وهو الصواب.
واستنبط بعض العلماء من هذا الحديث الترغيب في ولاية القضاء.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي الحديث الترغيب في ولاية القضاء لمن استجمع شروطه، وقوي على أعمال الحق، ووجد له أعوانًا لما فيه من الأمر بالمعروف ونصر المظلوم، وأداء الحق لمستحقه، وكف يد الظالم، والإصلاح بين الناس، وكل ذلك من القربات، ولذلك تولاه الأنبياء ومن بعدهم من الخلفاء الراشدين».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومن ثم اتفقوا على أنه من فروض الكفايات» أي: القضاء «لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، وكتب عمر إلى عماله: استعملوا صالحيكم على القضاء واكفوهم».
قلت: والصديق رضي الله عنه لما تولى الخلافة ولى عمر القضاء، قيل: وإنما فر منه من فر خشية العجز عنه وعند عدم المعين له، واختلف السلف هل يستحب لمن استجمع شروطه وقوي عليه أن يتولى أو لا يتولى؟
من العلماء من قال: الأفضل ألا يتولى، لما فيه من الخطر والغرر، ومنهم من قال: يتولى.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال بعضهم: إن كان من أهل العلم وكان خاملاً بحيث لا يحمل عنه العلم، أو كان محتاجًا وللقاضي رزق من جهة ليست بحرام استحب... وأما إن لم يكن في البلد من يقوم مقامه فإنه يتعين عليه لكونه من فروض الكفاية».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وعن أحمد لا يأثم؛ لأنه لا يجب عليه إذا أضر به».
السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإِْمَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً
}7142{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ».
}7143{ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ الْجَعْدِ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْوِيهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
}7144{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ».
}7145{ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ، حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنْ الأَْنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِرَارًا مِنْ النَّارِ، أَفَنَدْخُلُهَا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتْ النَّارُ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ».
قوله: «بَاب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإِْمَامِ مَا لَمْ تَكُنْ مَعْصِيَةً» المراد بالإمام: الإمام الأعظم وهو ولي الأمر، وأتى المصنف رحمه الله بالقيد في هذه الترجمة؛ لأن هذا القيد موجود في الحديث الثالث: «ما لم يؤمر بمعصية» ، وكذلك في الحديث الرابع: «إنما الطاعة في المعروف» ، وفي حديث آخر: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[(208)] فهذه الأحاديث الثلاثة تقيد الأحاديث المطلقة في طاعة ولاة الأمور، وأن السمع والطاعة يكون في طاعة الله، أما المعاصي فلا يطاع فيها أحد، ولكن ليس معنى أنه لا يطاع في المعصية أنه يتمرد عليه ويخرج عليه، بل المراد ألا يطاع في خصوص المعصية، فإذا قال له: اشرب الخمر لا يشربه لكن لا يخرج عليه، كما أن الأب إذا أمر ابنه بمعصية فلا يطيعه الابن، وليس معنى ذلك أن يعق والده، وكذلك الزوجة إذا أمرها زوجها بمعصية فلا تطيعه، وليس معنى ذلك أن تتمرد عليه وتكون ناشزًا، وكذلك العبد إذا أمره سيده بالمعصية فلا يطيعه، إذا قال له مثلاً: اشتر لي دخانًا، فلا يطيعه وليس معنى ذلك أن يتمرد عليه ويصير عبدًا آبقًا.
}7142{ قوله: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ» فيه: السمع والطاعة لمن غلب من ولاة الأمور ولو لم يكن قرشيًّا.
وهذا الحديث مخصص لعموم حديث معاوية، وحديث ابن عمر السابقين في الباب الذي قبله، وهو: «لا يزال هذا الأمر في قريش» فيقال: هذا في حال الاختيار، وأما هذا الحديث فهو في حال الغلبة.
وحديث: «لا يزال هذا الأمر في قريش»[(209)] في حال الاختيار والانتخاب وبذلك يعمل بالحديثين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ونقل ابن بطال عن المهلب قال: قوله: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا» لا يوجب أن يكون المستعمل للعبد إلا إمام قرشي لما تقدم أن الإمامة لا تكون إلا في قريش، وأجمعت الأمة على أنها لا تكون في العبيد، قلت: ويحتمل أن يسمى عبدًا باعتبار ما كان قبل العتق، وهذا كله إنما هو فيما يكون بطريق الاختيار، وأما لو تغلب عبد حقيقة بطريق الشوكة فإن طاعته تجب إخمادًا للفتنة ما لم يأمر بمعصية كما تقدم تقريره. وقيل: المراد أن الإمام الأعظم إذا استعمل العبد الحبشي على إمارة بلد مثلاً وجبت طاعته، وليس فيه أن العبد الحبشي يكون هو الإمام الأعظم، وقال الخطابي: قد يضرب المثل بما لا يقع في الوجود، يعني: وهذا من ذاك».
}7143{ قوله: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا فَكَرِهَهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا فَيَمُوتُ إِلاَّ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» ، فيه: دليل على أن الخروج على ولاة الأمور من الكبائر.
وقوله: «مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» ظاهره الكفر؛ لأن أهل الجاهلية يموتون على الكفر، ولكن ليس المقصود بهذا الحكم عليه بالكفر، وإنما المقصود أنه مرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب.
}7144{ قوله: «السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ» هذا قيد يقيد به طاعة ولاة الأمور، وهو أن طاعتهم واجبة في غير معصية الله، ولكن لا يجوز الخروج عليهم أو قتالهم، أو خلعهم إلا إذا كفروا كفرًا بواحًا مع الشروط الأخرى.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ»، أي: لا يجب ذلك بل يحرم على من كان قادرًا على الامتناع، وفي حديث معاذ عند أحمد: «لا طاعة لمن لم يطع الله»[(210)] وعنده وعند البزار في حديث عمران ابن حصين والحكم بن عمرو الغفاري: «لا طاعة في معصية الله»[(211)] وسنده قوي، وفي حديث عبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني: «لا طاعة لمن عصى الله تعالى»[(212)] وقد تقدم البحث في هذا الكلام على حديث عبادة في الأمر بالسمع والطاعة، قال: «إلا أن تروا كفرًا بواحا»[(213)] بما يغني عن إعادته وهو في «كتاب الفتن» ، وملخصه أنه ينعزل بالكفر إجماعًا فيجب على كل مسلم القيام في ذلك فمن قوي على ذلك فله الثواب» هذا دليل على أنه لابد من القدرة.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومن داهن فعليه الإثم، ومن عجز وجبت عليه الهجرة من تلك الأرض».
}7145{ قوله: «بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً مِنْ الأَْنْصَارِ» . جاء في حديث آخر أن هذا الأمير هو عبدالله بن حذافة السهمي، وبنو سهم بطن من قريش وليسوا من الأنصار، فيحتمل أنهما قصتان.
قوله: «َأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُطِيعُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: قَدْ عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا، وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا، فَجَمَعُوا حَطَبًا فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا هَمُّوا بِالدُّخُولِ فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِرَارًا مِنْ النَّارِ، أَفَنَدْخُلُهَا فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ خَمَدَتْ النَّارُ، وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ» . المعنى أن أجسامهم تحترق بالنار، وتنقل أرواحهم إلى النار في الآخرة، فيتصل عذاب الآخرة بعذاب الدنيا، وهذا من الوعيد والتحذير من دخول النار.
وفيه: عدم طاعة من يأمر بدخولها وأنه من الكبائر. فإذا قال شخص: ادخل النار أو أحرق نفسك أو انتحر فلا يطاع؛ لأن الانتحار كبيرة من كبائر الذنوب جاء الوعيد عليها، قال صلى الله عليه وسلم: «من قتل نفسه بسم فهو يتحساه في نار جهنم، ومن قتل نفسه بسكينة فهو يجأ بها بطنه في نار جهنم، ومن تردى من جبل فهو يتردى في نار جهنم»[(214)] كذلك من انتحر بالإحراق يحرق في نار جهنم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا» ، قال الداودي: يريد تلك النار؛ لأنهم يموتون بتحريقها فلا يخرجون منها أحياء. قال: وليس المراد بالنار نار جهنم ولا أنهم مخلدون فيها؛ لأنه قد ثبت في حديث الشفاعة: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان»[(215)] قال: وهذا من المعاريض التي فيها مندوحة يريد أنه سيق مساق الزجر والتخويف ليفهم السامع أن من فعل ذلك خلد في النار وليس ذلك مرادًا، وإنما أريد به الزجر والتخويف وقد تقدم له توجيهات في «كتاب المغازي» .
مَنْ لَمْ يَسْأَلْ الإِْمَارَةَ أَعَانَهُ اللَّهُ
}7146{ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِم،ٍ عَنْ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلْ الإِْمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ».
قوله: «بَاب:مَنْ لَمْ يَسْأَلْ الإِْمَارَةَ أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهَا» ذكر فيه حديث عبدالرحمن بن سمرة رضي الله عنه.
}7146{ استنبط المؤلف رحمه الله من هذا الحديث حكمين:
الحكم الأول: أن من لم يسأل الإمارة أعانه الله عليها، وهذا أخذه من قوله: «وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا» .
الحكم الثاني: ترجم عليه بقوله في الترجمة التالية: «بَاب مَنْ سَأَلَ الإِْمَارَةَ وُكِلَ إِلَيْهَا» أخذه من الجملة الأولى وهي قوله: «يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلْ الإِْمَارَةَ فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا» .
فهذان حكمان مستنبطان من الحديث، وهما النهي عن سؤال الإمارة، وأن من لم يسأل الإمارة ثم بلي بها وألزم بها فإن الله يعينه على ذلك، أما إذا سألها وطلبها وحرص عليها فإنه يوكل إليها، ومن وكل إليها خذل.
وهذا الحديث أصل في عدم سؤال الولايات وطلبها والحرص عليها، وأن من طلبها وكل إليها، ومن أعطيها من غير طلب أعين عليها.
ويدخل في الإمارة المنهي عن طلبها الإمارة العظمى، وهي الخلافة ورئاسة الدولة، كالملك، ورئيس الجمهورية، وخليفة المسلمين، وإمامهم، هذه هي الخلافة العظمى، كما تدخل أيضًا الإمارة الصغرى وهي الولاية على بعض البلاد.
ويدخل في ذلك أيضًا طلب ما يتعلق بالحكم كالقضاء فيطلب أن يكون قاضيًا، والحسبة، ويستثنى من ذلك من وجد في نفسه الكفاية، وكانت الحاجة ماسة إليه كما قال الله تعالى عن يوسف صلى الله عليه وسلم: [يُوسُف: 55]{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ *} فيوسف عليه السلام طلب الولاية؛ لأنه وجد من نفسه الكفاية، ولا يوجد من يقوم بها غيره، فالحاجة ماسة إليه فطلبها لا لأجل الدنيا، وإنما لأجل إقامة دين الله وإقامة شرع الله؛ لأن الولايات كلها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المقصود منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر[(216)].
فبالولاية العظمى تؤدى الحقوق لأصحابها، ويأخذ المظلوم حقه، ويؤخذ على يد الظالم، ويؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وكذلك عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه لما طلب الإمامة في الصلاة قال: اجعلني إمام قومي، وكان أقرأهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت إمامهم واقتد بأضعفهم واتخذ مؤذنًا لا يأخذ على أذانه أجرًا»[(217)] فطلب الإمامة ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد يقال: إنه يؤخذ من فحوى الأدلة أن الممنوع طلب الإمارة الكبرى والصغرى ونحوها مما يتعلق بالحكم كالقضاء والحسبة دون الوظائف التي ليس فيها شيء من الإمارة، وما يتعلق بالحكم كإمامة الصلاة، والأذان، والتدريس، والوظائف الكتابية التي لا تتعلق بالحكم.
وفي الحديث أحكام أخرى أيضًا منها: أن المسلم إذا حلف على يمين، فإنه ينظر في المصلحة من البقاء على يمينه، أو الحنث في يمينه، فإن كانت المصلحة في البقاء على يمينه بقي عليه، وإن كانت المصلحة في الحنث حنث وكفر عن يمينه.
وفيه: أنه إذا حنث في يمينه يجوز له تقديم الكفارة ويجوز تأخيرها، وهذا مأخوذ من الحديثين: فقدم الكفارة في قوله: «وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ، وَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» ، وأخر الكفارة في قوله في رواية أخرى: «وإذا حلفت على يمينٍ فرأيت غيرها خيرًا منها فأْتِ الذي هو خير وكفِّر عن يمينك»[(218)] فدل على أنه مخير بين الأمرين.
ومن هنا يتبين أن بعض العامة حينما يلج في يمينه ليس على صواب، فبعض العامة يحلف على يمين وتكون المصلحة والخير في عدم البقاء على اليمين فيصر على البقاء على اليمين، وهذا بسبب الجهل فإذا قلت: يا فلان لماذا لا تدخل بيت فلان؟ لماذا لا تزور جارك؟ لماذا لا تزور قريبك؟ قال: والله أنا عليّ يمين، حلفت ألا أدخل بيت فلان، ولا آكل طعام فلان، فيقال له: إن الخير والمصلحة في أن تدخل بيته وتأكل طعامه فكفر عن يمينك، فاليمين لا تمنع من فعل الخير، ويدل على ذلك ما ثبت في «الصحيحين» أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لأن يلج أحدكم في يمينه آثم له عند الله من أن يعطي الكفارة»[(219)] يعني: كونه يستمر على يمينه أشد إثمًا من كونه يكفر عن يمينه ويفعل الذي هو خير، فلا ينبغي للإنسان أن يلج في يمينه والخير في الحنث في اليمين.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال المهلب: جاء تفسير الإعانة عليها في حديث بلال بن مرداس عن خيثمة عن أنس رفعه: «من طلب القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله عليه ملكًا يسدده»[(220)] أخرجه ابن المنذر... وفي معنى الإكراه عليه أن يدعى إليه فلا يرى نفسه أهلاً لذلك هيبةً له وخوفًا من الوقوع في المحذور فإنه يعان عليه إذا دخل فيه ويسدد»، يعني: إذا طُلب منه مثلاً ولاية القضاء وهو لا يرى نفسه أهلاً لها فيمتنع عنها، فإذا ألزم بها فإنه يعان ويسدد.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والأصل فيه أن من تواضع لله رفعه... يعارض هذا الحديث حديث أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه: «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدلُه جورَه فله الجنة، ومن غلب جورُه عدلَه فله النار»[(221)] .
وأجاب عن قوله: «من طلب القضاء» ، بأن يحمل الطلب على القصد، ويحمل المنع في الحديث على التولية، ويدل عليه حديث أبي موسى: «إنا لا نولي هذا الأمر أحدًا طلبه أو حرص عليه»[(222)] وقوله: «من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب عدلُه جورَه فله الجنة» . قد يقال: إن هذا يحمل على ما إذا رأى نفسه أهلاً لذلك، وليس هناك من يقوم مقامه كما قال الله عن يوسف: [يُوسُف: 55]{قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ}. وقوله: «ومن غلب جورُه عدلَه»: محمول على ما إذا لم يكن أهلاً لذلك.
مَنْ سَأَلَ الإِْمَارَةَ وُكِلَ إِلَيْهَا
}7147{ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ، عَنْ الْحَسَنِ، قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: « يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ، لاَ تَسْأَلْ الإِْمَارَةَ فَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ »
قوله: «بَاب مَنْ سَأَلَ الإِْمَارَةَ وُكِلَ إِلَيْهَا» . أعاد المصنف رحمه الله حديث عبدالرحمن بن سمرة ليستنبط منه الأحكام.
}7147{ تقدم شرحه في الذي قبله فهما حديث واحد.
مَا يُكْرَهُ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى الإِْمَارَة
}7148{ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِْمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ».
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُمْرَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ.
}7149{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَالَ الآْخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ: «إِنَّا لاَ نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ».
قوله: «بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى الإِْمَارَة» . هذه الكراهة مأخوذة من الحديث السابق: «لا تسأل الإمارة»[(223)] ومن الحديث الآتي: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِْمَارَةِ» والمقصود بالكراهة ـ كما هو ظاهر ـ التحريم، فيحرم على الإنسان أن يحرص على الإمارة؛ لما فيها من الخطر على دين الإنسان، فالحرص على الولاية والمناصب والحرص على المال كل منهما يفسد دين الإنسان، بل إن فسادهما أعظم من فساد الذئب إذا أطلق على الغنم وليس عنده أحد، كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث قال صلى الله عليه وسلم: «ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه»[(224)] وهذا يدل على تحريم الحرص على الولاية، وأن الكراهة كراهة تحريم.
والحديث فيه: تقديم وتأخير، والتقدير: ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم بأفسد لها لدينه من حرص المرء على المال، والشرف هو المنصب وهذا الحديث حديث عظيم، أفرد شرحه الحافظ ابن رجب رحمه الله في رسالة مستقلة.
}7148{ هذا حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه قوله: «إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى الإِْمَارَةِ» ؛ ستحرصون بفتح الراء وكسرها.
قوله: «وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . والتي تكون ندامة لا يجوز الإقدام عليها؛ فيؤخذ من هذا القول، ومن قوله في الحديث الآخر: «لا تسأل الإمارة»[(225)] أن الكراهة كراهة تحريم.
قوله: «فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ» ؛ لأن الإنسان ينفق من هذا المال ويستمتع به في الدنيا كالطفل الذي يرضع، وهذا شيء مؤقت «وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ» ، أي: أن الإنسان ينقطع عنه هذا المال بعد الموت أو بعد عزله من الولاية، وهذا واضح فالمنصب يحصل منه الجاه فيقال مثلاً: أمير أو وزير أو رئيس فيحصل له مال وجاه، ويحصل له نفاذ الرأي فيكون مسموع الكلمة، وتحصيل اللذات الحسية وتحصل له اللذات الوهمية أيضًا. ونعم من أفعال المدح وبئس من أفعال الذم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الداودي: «فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ» ، أي: في الدنيا، «وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ» ، أي: بعد الموت؛ لأنه يصير إلى المحاسبة على ذلك فهو كالذي يفطم قبل أن يستغني فيكون في ذلك هلاكه، وقال غيره: نعم المرضعة لما فيها من حصول الجاه والمال ونفاذ الكلمة وتحصيل اللذات الحسية والوهمية حال حصولها، وبئست الفاطمة عند الانفصال عنها بموت أو غيره وما يترتب عليها من التبعات في الآخرة».
قوله: «عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَوْلَهُ» يعني: من قول أبي هريرة موقوفًا عليه ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث الأول حديث أبي هريرة مرفوعًا قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الوقف عن عمر بن الحكم، وقد تعرض له الحافظ ابن حجر رحمه الله فقال: «إن الحديث الأول عقب بالطريق الثاني طريق عبدالحميد قال: إشارة منه إلى إمكان تصحيح القولين، فهو كان عند سعيد عن عمر بن الحكم عن أبي هريرة موقوفًا على ما رواه عنه عبدالحميد، وكان عنده عن أبي هريرة بغير واسطة».
وقال: «ورواية الوقف لا تعارض رواية الرفع؛ لأن الراوي قد ينشط فيسند وقد لا ينشط فيقف».
وهذه قاعدة وهي أن رواية الوقف لا تعارض رواية الوصل، فإذا جاء الحديث عن راو مرة موصولاً ومرة موقوفًا فلا تعارض؛ لأن الراوي قد ينشط فيسند الحديث وقد لا ينشط فيقف، والحكم للوصل إذا كان الواصل ثقة؛ لأن الوصل زيادة والزيادة من الثقة مقبولة كما قال العراقي في ألفيته:
واحكم لوصل ثقة في الأظهر
وكما قال الحافظ في «نخبة الفكر»: «وزيادة راويهما ـ أي: الصحيح والحسن ـ مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق».
وهذا هو ما ذهب إليه المتأخرون كالحافظ وغيره، أما القدامى فبعضهم يقدم قول الأكثر، فإذا كان الأكثر الواصل يقدم قوله، وإذا كان الأكثر الواقف يقدم قوله، وقيل: يقدم قول الأحفظ. وهذا عليه المتقدمون من الحفاظ كأبي داود والنسائي.
واستنبط من الحديث أن الذي يناله المتولي من السراء والنعماء دون ما يناله من البأساء والضراء لقوله: «فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ وَبِئْسَتْ الْفَاطِمَةُ» ؛ لأن ما يحصل الإنسان عليه من الولاية وقت قليل، ومدة ولايته وما يناله من البأساء ومحاسبته في الآخرة أشد، وقد يعزل في الدنيا فيتضرر في الدنيا قبل الآخرة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال القاضي البيضاوي: فلا ينبغي لعاقل أن يفرح بلذة يعقبها حسرات، وقال المهلب: الحرص على الولاية هو السبب في اقتتال الناس عليها حتى سفكت الدماء، واستبيحت الأموال والفروج، وعظم الفساد في الأرض بذلك، ووجه الندم أنه قد يقتل أو يعزل أو يموت فيندم على الدخول فيها؛ لأنه يطالب بالتبعات التي ارتكبها وقد فاته ما حرص عليه بمفارقته.
قال: ويستثنى من ذلك من تعين عليه كأن يموت الوالي ولا يوجد بعده من يقوم بالأمر غيره، وإذا لم يدخل في ذلك يحصل الفساد بضياع الأحوال».
وهذا يدخل في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: [يُوسُف: 55]{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ}، فإذا دخل في الولاية بقصد الإصلاح لا بقصد الدنيا، ورأى أنه أهل لذلك وأنه ليس هناك من يقوم مقامه فهذا مستثنى كما أخبر الله عن يوسف، وكما قال عثمان بن أبي العاص: اجعلني إمام قومي[(226)]، ولهذا قيل: إنه قد يغتفر الحرص في حق من تعين عليه لكونه يصير واجبًا عليه، وتولية القضاء على الإمام قيل: إنها فرض عين وقيل: فرض كفاية.
}7149{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي موسى رضي الله عنه وفيه قوله: «دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَا وَرَجُلاَنِ مِنْ قَوْمِي، فَقَالَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ» يعني: ولنا على عمل أو لو قيدت بوظيفة منها «وَقَالَ الآْخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ: «إِنَّا لاَ نُوَلِّي هَذَا مَنْ سَأَلَهُ وَلاَ مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ» يعني: العمل والمنصب وفي الحديث الآخر أنه جاء أبو موسى رضي الله عنه من اليمن ومعه رجلان من أصحابه فقال أحدهما: أمِّرني يا رسول الله، وقال الآخر مثل ذلك فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى فقال: «ما تقول يا أبا موسى أو يا عبدالله بن قيس؟» قلت: والذي بعثك بالحق ما أطلعاني على ما في أنفسهما وما شعرت أنهما يطلبان العمل وكأني أنظر إلى سواكه تحت شفته قلصت قال: «لن نستعمل أو لا نستعمل على عملنا من أراده»[(227)] يعني: الإمارة ويؤيد هذا الحديث السابق: «لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها»[(228)] ففيه: دليل على أنه ينبغي لولي الأمر ألا يولي الولاية من يسألها أو يحرص عليها؛ لأن سؤالها والحرص عليها دليل على أنه ليس عنده ورع، ولو كان عنده ورع لما سألها أو حرص عليها.