الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ الْمَخْتُومِ، وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَضِيقُ
عَلَيْهِمْ، وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عَامِلِهِ، وَالْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلاَّ فِي الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأً فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأَِنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالاً بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ.
وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ فِي الْجَارُودِ.
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي سِنٍّ كُسِرَتْ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي جَائِزٌ إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ.
وَكَانَ الشَّعْبِيُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقَاضِي، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ.
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الثَّقَفِيُّ: شَهِدْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى قَاضِيَ الْبَصْرَةِ، وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَبِلاَلَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الأَْسْلَمِيَّ، وَعَامِرَ بْنَ عَبِيدَةَ، وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ، يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ، فَإِنْ قَالَ الَّذِي جِيءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ إِنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ، جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِي عِنْدَ فُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَجَازَهُ.
وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلاَبَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا.
وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ: «إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ».
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ وَإِلاَّ فَلاَ تَشْهَدْ.
}7162{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ قَالُوا: إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِهِ وَنَقْشُهُ [مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ].
قال المؤلف رحمه الله: «بَاب الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ الْمَخْتُومِ، وَمَا يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ وَمَا يَضِيقُ عَلَيْهِمْ، وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عَامِلِهِ، وَالْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي» . تضمنت هذه الترجمة ثلاثة أحكام: الشهادة على الخط، وكتاب القاضي إلى القاضي، والشهادة على الإقرار بما في الكتاب، وفي هذه الأحكام خلاف كما أشار إليه البخاري، وكما أشار إليه الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه، لكن ظاهر صنيع البخاري جواز الشهادة على الخط، فإذا رأى الخط ولا سيما إذا كان مختومًا وعرفه شهد عليه، ومن العلماء من فصل في هذا تفصيلات قال: لا يشهد عليه إلا أن يتذكر فإذا تذكر الشهادة ورأى الخط شهد، وكذلك أيضًا كتاب القاضي إلى القاضي فبعضهم اشترط أن يشهد شاهدان أن هذا كتاب القاضي، وإلا فلا وكذلك الشهادة على الإقرار بما في الكتاب.
قوله: «وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ:» ـ هم بعض الحنفية[(264)] ـ يقولون: «كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلاَّ فِي الْحُدُودِ» فاستثنوا الحدود ثم قال ـ يعني: البعض من الأحناف ـ: إن كان القتل خطأ فهو جائز يعني: يجوز فيه كتاب الحاكم؛ لأنه يئول إلى المال[(265)]، فالقتل الخطأ يجب فيه المال.
قال المؤلف رحمه الله يناقش هذا القول: «وَإِنَّمَا صَارَ مَالاً بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَالْخَطَأُ وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ» فأراد أن يبين تناقض الأحناف ما الفرق بين القتل العمد والخطأ؟ فإذا قال: القتل الخطأ يؤول إلى المال والعمد يجب فيه القصاص أجاب عنه المؤلف أنه إنما صار مالاً بعد أن ثبت القتل، وعلى هذا فالخطأ والعمد واحد! يبين تناقض الأحناف فيقول: استثناء الحدود لا وجه له وكذلك استثناء القتل الخطأ.
قوله: «وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى عَامِلِهِ فِي الْجَارُودِ» ، وهذا يدل على أن الكتابة في الحدود غير مستثناة.
قوله: «وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي سِنٍّ كُسِرَتْ» ، يعني: وهذه من مسائل القصاص أيضًا.
قوله: «وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ:» ـ هو ابن يزيد النخعي ـ.
قوله: «كِتَابُ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي جَائِزٌ إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ» يعني: عرف أن هذا خط فلان بن فلان وعرف ختمه فلا بأس أن يشهد، وأما إذا أشكل عليه الأمر فلا يشهد.
قوله: «َكَانَ الشَّعْبِيُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ مِنْ الْقَاضِي، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ» يعني: إذا جاء كتاب مختوم من القاضي شهد به أجاز الشهادة.
قوله: «وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الثَّقَفِيُّ:» ، هذا هو المعروف بالضال، سمي الضال؛ لأنه ضل في طريق مكة، قال: «شَهِدْتُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ يَعْلَى قَاضِيَ الْبَصْرَةِ، وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ، وَبِلاَلَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الأَْسْلَمِيَّ، وَعَامِرَ بْنَ عَبِيدَةَ، وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ، يُجِيزُونَ كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ» ، هؤلاء كلهم يجيزون كتب القضاة ويعتمدون ما فيها بغير محضر من الشهود، وبعض العلماء يقول: لا يجوز كتاب القاضي حتى يشهد شاهدان أن هذا كتاب القاضي.
قال: «فَإِنْ قَالَ الَّذِي جِيءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ إِنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ فَالْتَمِسْ الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ» ، يعني: اطلب الخروج من عهدة ذلك؛ إما بالقدح في البينة، وإما بما يدل على أنه براءة من المشهود به، وهذا يؤيد القول بأنه يعمل بالكتاب بغير شهود.
قوله: «وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ» ، يعني: كانوا قبل ذلك يقبلون كتاب القاضي بدون بينة، وأول من سأل البينة ابن أبي ليلى وسوار بن عبدالله.
قوله: «وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ، جِئْتُ بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِي الْبَصْرَةِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِي عِنْدَ فُلاَنٍ كَذَا وَكَذَا وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَجِئْتُ بِهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَأَجَازَهُ» يعني: أمضى كتاب القاضي وأقام عنده البينة أنه يطلب فلانًا بكذا وكذا فأجازه وأمضاه.
قوله: «وَكَرِهَ الْحَسَنُ وَأَبُو قِلاَبَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؛ لأَِنَّهُ لاَ يَدْرِي لَعَلَّ فِيهَا جَوْرًا» والمراد بالكره هنا المنع، يعني: منع الحسن وأبو قلابة الإشهاد على وصية حتى يعلم ما فيها، يعني: لابد أن يقرأ الوصية ويعلم ما فيها؛ لأنه قد يكون فيها جور وظلم.
قوله: «وَقَدْ كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ: «إِمَّا أَنْ تَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ»» هذا في قصة القتيل الذي قتله أهل خيبر في قصة عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابني مسعود لما جاؤوا ووجدوا صاحبهم قتيلاً قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تحلفون خمسين يمينًا» قالوا: يا رسول الله لم نشهد ولم نر، قال: «تبرئكم يهود بخمسين يمينا»[(266)] قالوا: قوم كفار كيف نقبل أيمانهم؛ فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده.
قوله: «وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ وَرَاءِ السِّتْرِ: إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ وَإِلاَّ فَلاَ تَشْهَدْ» ، أي: وإن لم تعرفها فلا تشهد، يعني: عرفها بأي طريق فرض شهد، ولا يشترط أن يراها حالة الإشهاد مستدلاً بقصة أنس.
}7162{ هذا الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له: «إِنَّهُمْ لاَ يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلاَّ مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ» ، وهذا يدل على أن الخط المختوم يقبل؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب الكتاب ويختمه.
أشار الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى الخلاف في هذا وقال: «وقع في «المغني» لابن قدامة: يشترط في قول أئمة الفتوى أن يشهد بكتاب القاضي إلى القاضي شاهدان عدلان ولا تكفي معرفة خط القاضي بختمه، وحكي عن الحسن وسوار والحسن العنبري أنهم قالوا: إذا كان يعرف خطه وختمه قبله وهو قول أبي ثور».
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «فَاتَّخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَاتَمًا...» إلخ. تقدم شرحه مستوفى في أواخر اللباس، وجملة ما تضمنته هذه الترجمة بآثارها ثلاثة أحكام: الشهادة على الخط، وكتاب القاضي إلى القاضي، والشهادة على الإقرار بما في الكتاب، وظاهر صنيع البخاري جواز جميع ذلك، فأما الحكم الأول فقال ابن بطال: اتفق العلماء على أن الشهادة لا تجوز للشاهد إذا رأى خطه إلا إذا تذكر تلك الشهادة، فإن كان لا يحفظها فلا يشهد، فإنه من شاء انتقش خاتمًا ومن شاء كتب كتابًا، وقد فُعل مثله في أيام عثمان في قصة مذكورة في سبب قتله، وقد قال الله تعالى: [الزّخرُف: 86]{إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ *}.
وأجاز مالك الشهادة على الخط، ونقل ابن شعبان عن ابن وهب أنه قال: لا آخذ بقول مالك في ذلك، وقال الطحاوي: خالف مالكًا جميع الفقهاء في ذلك وعدوا قوله في ذلك شذوذًا؛ لأن الخط قد يشبه الخط وليست شهادة على قول منه ولا معاينة... وقال أبو علي الكرابيسي في كتاب «أدب القضاء» له: أجاز الشهادة على الخط قوم لا نظر لهم، فإن الكتاب يشبهون الخط بالخط حتى يشكل ذلك على أعلمهم. انتهى. وإذا كان هذا في ذلك العصر فكيف بمن جاء بعدهم وهم أكثر مسارعة إلى الشر بمن مضى وأدق نظرًا فيه وأكثر هجومًا عليه».
مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ؟
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لاَ يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَلاَ يَخْشَوْا النَّاسَ، وَلاَ يَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً، ثُمَّ قَرَأَ [ص: 26]{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *} وَقَرَأَ [المَائدة: 44]{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ *} {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} اسْتُوْدِعُوا {مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} وَقَرَأَ [الأنبيَاء: 78-79]{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ *} فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ، وَلَوْلاَ مَا ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ.
وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ: قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِي مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ، أَنْ يَكُونَ فَهِمًا حَلِيمًا عَفِيفًا صَلِيبًا عَالِمًا سَئُولاً عَنْ الْعِلْمِ.
هذه الترجمة «بَاب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ؟» يعني: متى يستحق أن يكون قاضيا.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال أبو علي الكرابيسي صاحب الشافعي في كتاب «آداب القضاء» له: لا أعلم بين العلماء ممن سلف خلافًا أن أحق الناس أن يقضي بين المسلمين من بان فضله وصدقه وعلمه وورعه قارئًا لكتاب الله، عالمًا بأكثر أحكامه، عالمًا بسنن رسول الله حافظًا لأكثرها، وكذا أقوال الصحابة عالمًا بالوفاق والخلاف، وأقوال فقهاء التابعين، يعرف الصحيح من السقيم، يتبع في النوازل الكتاب فإن لم يجد فالسنن، فإن لم يجد عمل بما اتفق عليه الصحابة، فإن اختلفوا فما وجده أشبه بالقرآن، ثم بالسنة، ثم بفتوى أكابر الصحابة عمل به، ويكون كثير المذاكرة مع أهل العلم، والمشاورة لهم مع فضل وورع، ويكون حافظًا للسانه وبطنه وفرجه، فهما بكلام الخصوم، ثم لابد أن يكون عاقلاً مائلاً عن الهوى، ثم قال: وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم».
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لاَ يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَلاَ يَخْشَوْا النَّاسَ، وَلاَ يَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً» . هذه من صفات الحاكم: ألا يتبع الهوى، ولا يخشى الناس، ولا يعتاض عن الحق بالمال أو بالجاه أو بغيرهما، والدنيا كلها ثمن قليل «ثُمَّ قَرَأَ: [ص: 26]{يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ *}» .
وقوله تعالى: « [المَائدة: 44]{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلاَ تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ *}» .
هاتان آياتان عامتان تشمل العامد والمخطئ، وفيها الوعيد المطلق على العامد، لكن خصصتهما آية قصة الحرث؛ لأن الوعيد فيها خاص بالعامد في قصة سليمان ودواد، وهذه الآية خصصت الآيتين السابقتين؛ لأن الله تعالى قال: [الأنبيَاء: 78-79]{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ *فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ *}.
قوله: «فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ» على أنه أصاب الحق.
وقوله: «وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ» ؛ فدل على أن المفتي معذور.
فيجب الحذر من تكفير العلماء المجتهدين إذا أخطؤوا، لكن الأحزاب العلمانية تكفر، وكذلك من فعل كفرًا صريحًا وقامت عليه الحجة فهو كافر، ومن لم يكفر الكافر فهو كافر، ومن نواقض الإسلام عدم تكفير المشركين، من لم يكفر المشركين أو صحح مذهبهم، أو اعتقد صحة مذهبهم فهو كافر مثلهم؛ لأنه من نواقض الإسلام، فالأحزاب العلمانية كافرة ليس فيها إشكال، وكذلك الرؤساء الكفرة الذين كفرهم واضح، كأن يكون رئيسًا علمانيًّا أو رافضيًّا أو يدعي النبوة أو نصيريًّا أو درزيًّا.
أما ما يفعله بعض الشباب السفهاء الذين يكفرون العلماء، ويكفرون الحكام بغير بصيرة، ويكفرون أمراء المسلمين؛ لأنهم خالفوا أهواءهم وشهواتهم فهذا من الجهل، أما تكفير المعين إذا كان كافرًا يهوديًّا أونصرانيًّا أو وثنيًّا فهذا يكفر، وإذا كان مسلمًا ظاهره الإسلام ولكنه فعل شيئًا متأولاً ولم تقم عليه الحجة لا يكفر حتى تقوم عليه الحجة.
قوله: «وَقَالَ مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ: قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِي مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ، أَنْ يَكُونَ فَهِمًا حَلِيمًا عَفِيفًا صَلِيبًا عَالِمًا سَئُولاً عَنْ الْعِلْمِ» الخطة يعني: الخصلة، و «كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ» ، يعني: كان فيه عيب.
وبين أن من الصفات التي يجب أن تكون في القاضي أن يكون عنده فهم، وأن يكون حليمًا، وأن يكون عفيفًا عن الحرام، وأن يكون قويًا في الحق، ولا يميل مع الهوى، وأن يكون عالمًا مذاكرًا للعلم مع غيره.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وهذا وإن كنا نعلم أنه ليس على وجه الأرض أحد يجمع هذه الصفات، ولكن يجب أن يطلب من أهل كل زمان أكملهم وأفضلهم». يعني: يختار الأمثل فالأمثل.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال المهلب: لا يكفي في استحباب القضاء أن يرى نفسه أهلاً لذلك، بل أن يراه الناس أهلاً لذلك». أي: ينبغي أن يرشح من قبل أهل العلم. وعلى كل حال فهذه صفات ينبغي لمن ابتلي بالقضاء أن يجاهد نفسه أن يعمل بها.
رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا
وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَأْكُلُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ.
وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
}7163{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي السَّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنُ أُخْتِ نَمِرٍ، أَنَّ حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى أَخْبَرَهُ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ السَّعْدِيِّ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِي خِلاَفَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِيَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالاً، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ فَقُلْتُ: بَلَى فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ لِي أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا وَأَنَا بِخَيْرٍ، وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ عُمَرُ: لاَ تَفْعَلْ، فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِي أَرَدْتَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالاً فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».
}7164{ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالاً فَقُلْتُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَالاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».
قوله: «بَاب رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا» . والرزق هو ما يرتبه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين، فهو المرتب الشهري أو السنوي لمن يعمل في وظيفة.
وقيل: إن الرزق هو ما يخرجه الإمام كل شهر للمرتزقة، والعطاء: هو ما يخرجه كل عام من رواتب للقضاة، وحكمه هو موضوع الترجمة، وأخذ الرزق من بيت المال للقاضي أو إمام المسجد أو المؤذن أو محتسب الهيئة أو غيرهم لا بأس به على الصحيح؛ لأن بيت المال فيه كفاء يكفل المسلمين جميعًا، و «وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ أَجْرًا» وهذا هو الصواب، وهو مذهب جمهور العلماء.
وقيل: لا يجوز له أخذ الرزق من بيت المال؛ لأنه يجب أن يكتسب القاضي ويكون عمله لوجه الله، وقيل: مكروه وليس بحرام، وإذا لم يعط القاضي من بيت المال ما يكفي حاجته، وليس له مورد يقوم بحاجته، ولا يستطيع أن يتكسب فإنه يجوز له على الصحيح أخذ الأجرة من الخصوم، على كل خصومة يأخذ الشيء اليسير من المال، ولا يضره.
قوله: «وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَأْكُلُ الْوَصِيُّ بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ» . بضم العين، الوصي: هو الوصي على اليتيم يعمل في ماله وينميه ويجنبه الأخطار ويأخذ أجرته بقدر عمالته، ولكن إذا كان غنيا فالأفضل له أن يستعفف، وإن كان فقيرًا يأكل ويأخذ الأقل من كفايته أو أجرته، إذا كانت أجرته مثلا مائة وكفايته ثمانون يأخذ ثمانين، وإذا كانت كفايته مائة والأجرة ثمانون يأخذ الأقل من أجرته وكفايته، يقول الله تعالى: [النِّسَاء: 6]{وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}، ويقاس عليه القاضي.
قصد المؤلف أنه كما أن الوصي يأكل من مال اليتيم، والأصل فيها المنع، فكذلك القاضي يأخذ كفايته من بيت المال.
قوله: «وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ» أي: لما تولى أبو بكر رضي الله عنه الخلافة أكل من بيت المال، وجاء في الأثر عند ابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: لما استخلف أبو بكر رضي الله عنه قال: قد علم قومي أن حرفتي لم تكن تعجز عن مؤنة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، وكان أبو بكر رضي الله عنه يحترف ويشتغل، لكن لما ولي الخلافة ما استطاع، ثم قال: سيأكل آل أبي بكر من هذا المال ويحترف للمسلمين، وأما عمر رضي الله عنه لما ولي أكل هو وأهله من المال واحترف في مال نفسه.
وجاء أن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة أراد أن يذهب إلى السوق ليبيع ويشتري فقيل له: يا خليفة رسول الله كيف تذهب إلى السوق وأنت خليفة المسلمين؟! الآن تفرغ، قال: لا أترك أهلي يضيعون، فقالوا: نفرض لك درهمين، ففرض له المسلمون درهمين في كل يوم من بيت المال؛ فلا بأس للوالي أن يأخذ مرتبا يكفيه، سواء كان أميرًا أو واليًا أو إماما للمسلمين أو قاضيًا.
}7163{ ذكر المؤلف رحمه الله أثر عمر رضي الله عنه أنه قدم عليه عبدالله بن السعدي في خلافته «فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِيَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالاً، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟» يعني: إذا أعطيت أجرة على عمل رددتها؛ فقال عبدالله بن السعدي: «بَلَى» ، أي: أردها «فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ لِي أَفْرَاسًا» جمع فرس ، «وَأَعْبُدًا» ، وهم العبيد «وَأَنَا بِخَيْرٍ» ، يعني: أنا غني، «وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ» ، أي: ما أنا بحاجة إليها، أنا أريد أن أتصدق بعملي على المسلمين.
قوله: «قَالَ عُمَرُ: لاَ تَفْعَلْ، فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِي أَرَدْتَ» ، يعني: أنا كنت أريد أن أفعل مثل الذي فعلت، فأرد الذي يأتيني من النبي صلى الله عليه وسلم «فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ» ، يعني: من بيت المال، «فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالاً فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ» ، يعني: فتملكه ويكون من مالك، «وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَإِلاَّ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» أي: إذا جاء الإنسان مال وهو غير سائل له، ولا تطلعت نفسه إليه فإن عليه أن يأخذه، إذا كان بحاجة استفاد منه وانتفع به، وإذا لم يكن بحاجة تصدق به أو أنفقه في المشاريع الخيرية.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ورخص الشافعي وأكثر أهل العلم».
وفي الحديث: النهي عن السؤال؛ لقوله: «وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ» . فلا يسأل إلا لضرورة؛ وجاء في الحديث الوعيد على من سأل، «من سأل الناس تكثرًا فإنما يسأل جمرًا»[(267)] ، «ولا يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم»[(268)] فالقادر على الكسب يحرم عليه السؤال؛ لأن ما عنده يكفيه أو لأنه يقدر على الكسب.
قال النووي: في هذا الحديث: منقبة لعمر رضي الله عنه وبيان فضله وزهده وإيثاره رضي الله عنه.
وفي الحديث: ذم التطلع إلى ما في أيدي الأغنياء، والتشوف إلى فضولهم وأخذه منهم، وهي حالة مذمومة تدل على شدة الرغبة في الدنيا.
}7164{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما بهذا المعنى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي عمر العطاء فيقول: «أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالاً فَقُلْتُ أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَالاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»» .
مَنْ قَضَى وَلاَعَنَ فِي الْمَسْجِدِ
وَلاَعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الْمَسْجِدِ.
وَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ.
وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِي الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ.
}7165{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ الزُّهْرِيُّ: عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: شَهِدْتُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا.
}7166{ حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلٍ أَخِي بَنِي سَاعِدَةَ، أَنَّ رَجُلاً مِنْ الأَْنْصَارِ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً أَيَقْتُلُهُ؟ فَتَلاَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ.
قوله: «بَاب مَنْ قَضَى وَلاَعَنَ فِي الْمَسْجِدِ» ، يعني: هل يجوز للقاضي أن يقضي بين متخاصمين في المسجد؟ وهل يجوز له أن يلاعن في المسجد؟ والأدلة التي ذكرها المؤلف تدل على أن القضاء والملاعنة في المسجد لا بأس بها.
قوله: «وَلاَعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» . لاعن يعني: حكم بإيقاع اللعان بين الزوجين عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أبلغ في التمسك به على جواز اللعان في المسجد، وخص عمر المنبر؛ لأنه كان يرى أن التحليف عند المنبر أبلغ في التغليظ.
قوله: «وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِيُّ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِي الْمَسْجِدِ» ، يعني: لا بأس بأن يقضي القاضي بين المتخاصمين في بيته أو في المسجد، وهذا كان يعمل به إلى عهد قريب، فقضى شريح في المسجد، وقضى الشعبي في المسجد، وقضى يحيى بن يعمر في المسجد، لكن الآن لما كثر الناس وتوسعوا في الأمور وكثر المبطلون خصص لهم محاكم.
قوله: «وَقَضَى مَرْوَانُ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ» ، يعني: عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد.
قوله: «ووَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَوْفَى يَقْضِيَانِ فِي الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ» . الرحبة: بناء يكون أمام باب المسجد غير منفصل عنه، مثل المظلة التي تكون أمام باب المسجد، والآن في اصطلاحنا هي حوش المسجد أو الاستراحة التي تكون في المسجد.
}7165{ قوله: «شَهِدْتُ الْمُتَلاَعِنَيْنِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا» ، لما جاء رجل مع امرأته وتلاعنا في المسجد وأنا شاهد، فدل على أنه لا بأس باللعان في المسجد؛ لأنها أيمان.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: استحب القضاء في المسجد جماعة، وقال مالك: هو الأمر القديم؛ لأن المسجد يصل إلى القاضي فيه المرأة والضعيف بخلاف البيت فقد لا يصل إليه، وكره بعض العلماء القضاء في المسجد، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى القاسم بن عبدالرحمن: ألا تقضي في المسجد؛ فإنه يأتيك الحائض والمشرك.
وقال الشافعي: أحب إلي أن يُقضى في غير المسجد، وقال الكرابيسي: كره بعضهم الحكم في المسجد من أجل أنه قد يكون الحكم بين مسلم ومشرك فيدخل المشرك المسجد، قال: ودخول المشرك المسجد مكروه، ولكن الحكم بينهم لم يزل من صنيع السلف في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم».
والصواب: القول الأول أنه لا بأس به إذا لم يكن هناك محذور، وهو قول الإمام أحمد[(269)] وإسحاق وجماعة، وما زال عليه العمل.
}7166{ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وكان غرض البخاري منه قول سهل: «فَتَلاَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ» ، وكان النبي هو الذي لاعن بينهما، فدل ذلك على جواز الحكم في المسجد والتلاعن فيه بين الزوجين؛ فإنه حكم عليهما بالتلاعن ولاعن بينهما.
ولا خلاف نعلمه بين العلماء في جواز الملاعنة في المساجد بين الزوجين المسلمين، وإنما اختلفوا: هل ذلك مستحب أو واجب أو مباح: فأوجبه الشافعي في قول له، واستحبه في قوله الآخر، وأكثر أصحابنا، ومنهم من قال: هو جائز غير مستحب».
مَنْ حَكَمَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حَدٍّ
أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُقَامَ
وَقَالَ عُمَرُ أَخْرِجَاهُ مِنْ الْمَسْجِدِ.
وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ نَحْوُهُ.
}7167{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَنَادَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا قَالَ: «أَبِكَ جُنُونٌ» قَالَ لاَ قَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ».
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى.
رَوَاهُ يُونُسُ وَمَعْمَرٌ وَابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الرَّجْمِ.
هذه الترجمة معقودة لإقامة الحدود في المسجد، وهل يقام الحد بأن يجلد الزاني أو يرجم، أو يجلد شارب الخمر، أو تقطع يد السارق في المسجد؟
نقل الحافظ ابن حجر رحمه الله عن ابن بطال قال: «ذهب إلى المنع من إقامة الحدود في المسجد الكوفيون، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، واجازه الشعبي وابن أبي ليلى، وقال مالك: لا بأس بالضرب بالسياط اليسيرة فإذا كثرت الحدود فليكن ذلك خارج المسجد».
فمالك[(270)] يقول: إذا كانت جلدات عشرة أو عشرين فلا بأس في المسجد، فإذا زادت يكون خارج المسجد، فإذا زاد الضرب فقد يخرج منه بول ويلوث المسجد أو ما أشبه ذلك.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال ابن بطال: قول من نزه المسجد عن ذلك أولى، وفي الباب حديثان ضعيفان في النهي عن إقامة الحدود في المساجد والمشهور فيه حديث مكحول عن أبي الدرداء وواثلة وأبي أمامة مرفوعًا: «جنبوا مساجدكم صبيانكم» ، وفيه: «وإقامة حدودكم»[(271)] ، لكنه ضعيف. ثم قال: والحديث الثاني: حديث ابن ماجه من حديث ابن عمر: «خصال لا تنبغي في المسجد: لا يتخذ طريقًا ولا يضرب فيه حد»[(272)] لكن إسناده ضعيف».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن المنير: من كره إدخال الميت المسجد للصلاة عليه خشية أن يخرج منه شيء أولى بأن يقول: لا يقام الحد في المسجد».
يعني: بعض العلماء يكره أن يصلى على الميت في المسجد، قال: النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلي على الجنائز في المسجد، وإنما كان يصلي في مكان للجنائز، لكن ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على البعض في المسجد، قالت عائشة: ما أسرع ما نسي الناس؛ قد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابن بيضاء في المسجد[(273)]، وبعض العلماء يقول: لا يصلى على الميت في المسجد خشية أن يخرج من الميت شيء، وعلى هذا القول أولى بأن لا يقام الحد في المسجد؛ لأنه لا يؤمن خروج الدم من المجلود والقتل أولى بالمنع.
قوله: «بَاب مَنْ حَكَمَ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَيُقَامَ» ، يعني: الحكم يكون في المسجد، فإذا أريد إقامة الحد يخرج من المسجد، كالحكم على السارق بأن تقطع يده في المسجد، فإذا أريد تنفيذ الحد تقطع يده خارج المسجد، ويحكم على الزاني بالرجم في المسجد، فإذا أريد إقامة الحد يرجم خارج المسجد؛ لئلا يحصل تلويث للمسجد من بول أو دم ونحوه.
قوله: «وَقَالَ عُمَرُ أَخْرِجَاهُ مِنْ الْمَسْجِدِ» . هذا كله يؤيد الترجمة.
}7167{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث ماعز، والشاهد فيه: أن ماعزًا لما أقرَّ لأن الحكم للقاضي على نفسه بالزنا حكم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم في المسجد، ولكن نفذ الحكم خارج المسجد فرجم في المصلى ولم يرجم في المسجد، وهذا المصلى مكان في الصحراء، كما في قوله: «فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعًا قَالَ: «أَبِكَ جُنُونٌ» قَالَ لاَ قَالَ اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ»».
قوله: «كُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى» الشاهد: أنه أقيم عليه حد الرجم بالمصلى وليس بالمسجد.
مَوْعِظَةِ الإِْمَامِ لِلْخُصُومِ
}7169{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ».
هذه الترجمة في مشروعية موعظة الإمام للخصوم؛ فإذا جاء خصوم عند القاضي فعليه أن يعظهم ويخوفهم بالله ويقول: إن الإنسان عليه أن يؤدي الحق الذي عليه، وإن الدنيا لا تغني عن الآخرة، وإن الإنسان إذا لم يؤد الحق في الدنيا أداه في الآخرة، ويعظهم حتى لا يجحد أحد منهم الحق الذي عليه، وحتى لا يتكلم أحد بالباطل.
}7169{ الحديث فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ الناس، وقال: «إنما أنا بشر» ، يعني: لست ربًّا ولا إلهًا أعلم الغيب «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِي عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ» ، يعني: بعض الخصوم يكون قويًّا في الحجة عنده فصاحة فأقضي له على حسب بينته، لكن هذا القضاء الذي أقضي له ليس حقًّا له، وتنتهي الخصومة في الدنيا، لكن هناك خصومة بين يدي الله يوم القيامة؛ ولهذا قال: «فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ» وفي اللفظ الآخر: «فليأخذها أو ليتركها»[(274)] إنما أقطع له من حق أخيه يعني: حسب البينات وهو معذور، لكن الآخذ غير معذور، فالقاضي معذور؛ لأنه يقضي على البينات، والمبطل غير معذور. الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلاَيَتِهِ الْقَضَاءَ
أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ فَقَالَ: ائْتِ الأَْمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً عَلَى حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ؟ فَقَالَ شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ صَدَقْتَ.
قَالَ عُمَرُ: لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِي، وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالزِّنَا أَرْبَعًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ.
وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ.
وَقَالَ الْحَكَمُ أَرْبَعًا.
}7170{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ يَحْيَى، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَةَ، أَنَّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ: «مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ» فَقُمْتُ لأَِلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي، فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلاَحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي، قَالَ: فَأَرْضِهِ مِنْهُ فَقَالَ أَبُو بَكْر رضي الله عنه كَلاَّ لاَ يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ، فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ، قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: عَنْ اللَّيْثِ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ.
وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْحَاكِمُ لاَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ، شَهِدَ بِذَلِكَ فِي وِلاَيَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لآِخَرَ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي عَلَيْهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ، وَمَا كَانَ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلاَّ بِشَاهِدَيْنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ يَقْضِي بِهِ؛ لأَِنَّهُ مُؤْتَمَنٌ، وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنْ الشَّهَادَةِ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنْ الشَّهَادَةِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الأَْمْوَالِ، وَلاَ يَقْضِي فِي غَيْرِهَا.
وَقَالَ الْقَاسِمُ: لاَ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِيَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِي الظُّنُونِ.
وَقَدْ كَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظَّنَّ فَقَالَ: «إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ».
}7171{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، الأُْوَيْسِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ، فَلَمَّا رَجَعَتْ انْطَلَقَ مَعَهَا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلاَنِ مِنْ الأَْنْصَارِ، فَدَعَاهُمَا فَقَالَ: «إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ» قَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! قَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ».
رَوَاهُ شُعَيْبٌ وَابْنُ مُسَافِرٍ، وَابْنُ أَبِي عَتِيقٍ، وَإِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيٍّ يَعْنِي ابْنَ حُسَيْنٍ، عَنْ صَفِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله: «بَاب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي وِلاَيَتِهِ الْقَضَاءَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ» يعني: إذا كان عند الحاكم شهادة لأحد الخصمين، وهذه الشهادة علمها في ولاية القضاء، أو علمها قبل أن يكون قاضيا فما الحكم؟
وهذه الترجمة ذكر فيها المؤلف خلاف الفقهاء وأقوالهم، وهي أقوال كثيرة، وهذا الكتاب عظيم، فهو كتاب حديث وفقه وتفسير ولغة، وضرب في كل نوع من العلم بسهم، وهنا ذكر أربعة أقوال لأهل العلم:
الأول: قال أهل الحجاز: لا يقضي بعلمه مطلقًا، فإذا كان يعلم القاضي بعلمه أن هذا هو صاحب الحق، فلا حتى يأتي شاهدان ويشهدا.
الثاني: أنه يقضي بعلمه مطلقًا؛ وهذا قول أهل العراق، قالوا: لأنه مؤتمن.
الثالث: يقضي بعلمه في الأموال دون الحدود.
الرابع: يقضي بعلمه فيما سمع أو رآه في مجلس القضاء دون غيره. وهذه كلها مسائل فقهية.
والأرجح أنه يقضي في الأموال وحقوق الناس دون الحدود؛ لأن الحدود مبنية على الستر، وحقوق الخلق مبنية على المشاحة، كما سبق في «بَاب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِي أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفْ الظُّنُونَ، وَالتُّهَمَةَ».
مر في قصة هند أن القاضي له أن يقضي بعلمه في أمر الناس وفي حقوق الناس دون الحدود بشروط:
الأول: ألا يكون في الحدود، ويكون في أمور الناس.
الثاني: أن يكون الأمر مشهورًا.
الثالث: أن تنتفي التهمة.
ودل على الشرط الأول قصة هند فأمرها مشهور أنها زوجته، ولم يقل هات بينة أنك زوجة أبي سفيان حتى تأخذي من ماله، ودل على الشرط الثاني قصة صفية بنت حيي، ودل على الشرط الثالث في أمور الناس أن الحدود مبنية على الستر، فلا يقضي في الحدود، وإنما يقضي في أمور الناس.
أما شهادة القاضي عند قاض آخر فليس فيه إشكال؛ لأنه يصير شاهدًا.
قال المؤلف رحمه الله: «وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ الشَّهَادَةَ فَقَالَ: ائْتِ الأَْمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ لَكَ» . سأله إنسان أن يشهد له؛ وفي اللفظ الآخر قال: «أشهد رجل شريحًا ثم جاء فخاصم إليه فقال: ائت الأمير وأنا أشهد لك».
قوله: «وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلاً عَلَى حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ؟ فَقَالَ شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، قَالَ صَدَقْتَ» ؛ وفي لفظ آخر قال: «أرأيت لو رأيت رجلاً على حد» ، يحتمل أن يقول: لو رأيت أنت يا ابن عوف، أو لو رأيت أنا، وفي لفظ قال: «أصبت».
قوله: «قَالَ عُمَرُ: لَوْلاَ أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِي» وآية الرجم كانت آية تتلى ونسخت وهي في سورة النور: «والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم» فهذه آية نسخ لفظها وبقي حكمها.
يعني: فلم يلحقها عمر في المصحف بشهادته وحده؛ لأنه يحتاج أن يشهد معه غيره، فدل على أنه لا يحكم بشهادته بنفسه، لوجود احتمالات أخرى ومنها: النسخ، كما هو معلوم عند جماهير الصحابة.
قوله: «وَأَقَرَّ مَاعِزٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالزِّنَا أَرْبَعًا فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ» ، يعني: أقر عنده وعمل بإقراره، ولم يقل لمن حضر: اشهدوا على إقراره حتى أحكم بشهادتكم، بل أخذ بإقراره فدل على جواز الشهادة بعلمه.
قوله: «وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ الْحَاكِمِ رُجِمَ» ـ وهو حماد بن أبي سليمان من أهل الكوفة، وهو شيخ الإمام أبي حنيفة ـ قال حماد: يكفي مرة.
قوله: «وَقَالَ الْحَكَمُ أَرْبَعًا» يعني: لا يرجم حتى يقر أربعًا، والحكم هو ابن عتيبة، وفي كل من الحالتين لم يشهد.
}7170{ ذكر المؤلف رحمه الله قصة أبي قتادة في غزوة حنين لما قتل رجلاً من المشركين فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ» . والسلب: ما يكون على القتيل من سلاح وثياب وفرس، وهذا يعطى لمن قتله، فقائد الجيش يشجعه، ويقول: من يقتل واحدًا من المشركين فله سلب القتيل زيادة على الغنيمة، سلاحه ودابته وسيفه وثيابه يأخذها، وأبو قتادة رضي الله عنه أسد من الأسود ذكر قصته يوم حنين: أنه قتل رجلاً من المشركين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لما انتهت المعركة: «مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ قَتَلَهُ فَلَهُ سَلَبُهُ» ، فقام أبو قتادة قال: «فَقُمْتُ لأَِلْتَمِسَ بَيِّنَةً عَلَى قَتِيلِي» ، وفي اللفظ الآخر قال: «من يشهد لي؟»[(275)] .
قال: «فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِي، فَجَلَسْتُ ثُمَّ بَدَا لِي فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلاَحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِي يَذْكُرُ عِنْدِي، قَالَ: فَأَرْضِهِ مِنْهُ» ، وفي اللفظ الآخر: «قال: صدق يا رسول الله وسلبه عندي فأرضه عني»[(276)] .
يعني: عندي سلب ذلك الرجل فأعطه بدله، «فَقَالَ أَبُو بَكْر رضي الله عنه كَلاَّ لاَ يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ عَنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ، أضيبع يعني: رجل ليس له قيمة.
وفي لفظ آخر من الحديث: «قال: لاه الله، يترك أسدًا من أسد الله يدافع عن الله ورسوله ويعطيك سلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم أعطه سلبه»[(277)] هذا رجل أخذ سلبه وقال: يا رسول الله هذا عندي أرضه عني، فقال: «أعطه إياه» فجاء الرجل وأعطى أبا قتادة السلب والسلاح.
وقوله: ««قَالَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ، فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا» ، وفي لفظ: «مخرفًا فإنه أول مال تأثلته في الإسلام»[(278)] يعني: اشترى به بستانًا، وأول مال كسبه في الإسلام كان ثمن هذا السلاح؛ فكان السلب ثمينًا، قال: «فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ تَأَثَّلْتُهُ» ، يعني: اكتسبته. «قَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ: عَنْ اللَّيْثِ فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَأَدَّاهُ إِلَيَّ» .
ثم ذكر المؤلف الخلاف فقال: «وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ: الْحَاكِمُ لاَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ، شَهِدَ بِذَلِكَ فِي وِلاَيَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا» ، يعني: لا يقضي مطلقًا سواء الشهادة قبل الولاية أو بعد الولاية، قال: «وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ عِنْدَهُ لآِخَرَ بِحَقٍّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ؛ فَإِنَّهُ لاَ يَقْضِي عَلَيْهِ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا إِقْرَارَهُ» . حتى ولو في مجلس القضاء أقر واحد لا يحكم بعلمه حتى يأتي بشاهدين، لكن يرد هذا قصة ماعز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشهد عليه.
قوله: «وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بَلْ يَقْضِي بِهِ؛ لأَِنَّهُ مُؤْتَمَنٌ» ؛ هذا قول أهل العراق، ولأنه يراد من الشهادة معرفة الحق، وعلم القاضي أكثر من الشهادة.
وقوله: «وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْضِي بِعِلْمِهِ فِي الأَْمْوَالِ، وَلاَ يَقْضِي فِي غَيْرِهَا»؛ يعني: دون الحدود، وهذا هو الصواب كما سبق.
قوله: «وَقَالَ الْقَاسِمُ: لاَ يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِيَ قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِي الظُّنُونِ» ، وكأن المؤلف يميل لقول القاسم بأنه لا ينبغي للحاكم أن يقضي قضاء بعلمه دون علم غيره مع أن علمه أكثر من شهادة غيره؛ لأن فيه تهمة.
قوله: «وَقَدْ كَرِهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الظَّنَّ فَقَالَ: «إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ»» ، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يخشى من التهمة والظن فغيره من باب أولى.
}7171{ ثم ذكر حديث قصة صفية لما زارته وهو معتكف «فَلَمَّا رَجَعَتْ انْطَلَقَ مَعَهَا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلاَنِ مِنْ الأَْنْصَارِ» ، وفي اللفظ الآخر أنهما أسرعا فقال: «على مهلكما إنما هي صفية» ، قالا: سبحان الله يا رسول الله ما عندنا شك! فقال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شرًّا أو شيئًا»[(279)] فيه: أنه ينبغي للإنسان أن يدفع عن نفسه التهمة حتى لا يوقع الشيطان في نفس أخيه شيئًا.
وفي الحديث: دليل على أن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
وفيه: الرد على المعتزلة وغيرهم الذين يقولون بمنع دخول الجني الإنسي، وقالوا: لا يمكن دخول ذات في ذات، وهذا من جهلهم وضلالهم، وقالوا: لا يمكن أن يكون جسم في جسم، لكن يقال: الجسم اللطيف يدخل في الجسم الثقيل، مثل الماء يجري في العروق والدم، والنار تجري في الفحم، فالجسم الخفيف لا بأس أن يدخل في الجسم الثقيل.
أَمْرِ الْوَالِي إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى مَوْضِعٍ
أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلاَ يَتَعَاصَيَا
}7172{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبِي وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ فَقَالَ: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا» فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى: إِنَّهُ يُصْنَعُ بِأَرْضِنَا الْبِتْعُ فَقَالَ: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ».
وَقَالَ النَّضْرُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَوَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}7172{ هذه الترجمة في أمر الوالي والحاكم أو إمام المسلمين إذا وجه أميرين إلى موضع أن يتطاوعا ولا يتعاصيا.
فيه: دليل على جواز أن يولى في بلد واحد أو في مقاطعة واحدة واليان أو قاضيان، والدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ولى على اليمن أميرين: معاذًا، وأبا موسى الأشعري، فكان كل واحد منهما على مخلاف؛ لأن اليمن مخلافان، وأمرهما بأن يتطاوعا ولا يتعاصيا؛ ولهذا قال: «بَاب أَمْرِ الْوَالِي إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلاَ يَتَعَاصَيَا» ، يعني: يتوافقا في الحكم ولا يختلفا؛ لأن الاختلاف يؤدي إلى اختلاف الأتباع، ويفضي إلى العداوة، ثم المحاربة، والمرجع في الاختلاف إلى الكتاب والسنة، قال الله تعالى: [النِّسَاء: 59]{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً *}.
ذكر المؤلف رحمه الله في هذه الترجمة: بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل إلى اليمن أميرين وحاكمين قاضيين ومعلمين وداعيين.
وفيه: وصية الوالي لهما بالاتفاق والتطاوع وعدم التعاصي والاختلاف؛ ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذ بن جبل قال: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا» فيه: الأمر بالتيسير والتبشير «وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا» ، وفي اللفظ الآخر: «ولا تختلفا»[(280)] .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال وغيره: في الحديث الحض على الاتفاق لما فيه من ثبات المحبة والألفة والتعاون على الحق.
وفيه: جواز نصب قاضيين في بلد واحد فيقعد كل منهما في ناحية. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أشركهما فيما ولاهما، فهذا الحديث أصل في تولية اثنين قاضيين مشتركين في الولاية».
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن التين: الظاهر اشتراكهما، لكن جاء في غير هذه الرواية أنه أقر كلا منهما على مخلاف، وكان اليمن مخلافين. قلت وهذا هو المعتمد»، يعني: الصواب المعتمد ـ كما جاء في رواية ـ أن اليمن مخلافان كل منهما على مخلاف؛ ولهذا كان يزور كل منهما صاحبه، كما زار معاذ أبا موسى ووجد عنده يهوديًا أسلم ثم ارتد فلم يجلس معاذ حتى قتل اليهودي[(281)].
ثم قال: «وفي الحديث الأمر بالتيسير في الأمور والرفق بالرعية وتحبيب الإيمان إليهم وترك الشدة؛ لئلا تنفر قلوبهم، ولا سيما فيمن كان قريب العهد بالإسلام، أو قارب حد التكليف من الأطفال ليتمكن الإيمان من قلبه ويتمرن عليه، وكذلك الإنسان في تدريب نفسه على العمل إذا صدقت إرادته لا يشدد عليها، بل يأخذها بالتدريج والتيسير، حتى إذا أنست بحال وداومت عليها نقلها لحال آخر، وزاد عليها أكثر من الأولى حتى يصل إلى قدر احتمالها، ولا يكلفها بما لعلها تعجز عنه.
وفيه: مشروعية الزيارة وإكرام الزائر؛ لأن معاذا زار أبا موسى.
وفيه: أفضلية معاذ في الفقه على أبي موسى وقد جاء في الحديث: «أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل»[(282)] ».
قال المؤلف رحمه الله: «وَقَالَ النَّضْرُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَيَزِيدُ بْنُ هَارُونَ وَوَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم» ، يعني: موصولاً، ورواية النضر ووكيع تقدمت موصولة في المغازي، وحديث الباب هذا مرسل؛ لأن سعيد بن أبي بردة قال: سمعت أبي، وأبوه أبو بردة لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه موصول برواية النضر.
إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ
وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ.
}7173{ حَدَّثَنَا مُسَدَّد،ٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي مَنْصُورٌ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «فُكُّوا الْعَانِيَ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ».
هذه الترجمة معقودة لإجابة الحاكم والقاضي الدعوة يعني: هل القاضي إذا جاء وعين في البلد ثم جعل الناس يدعونه إلى الولائم هل يجيب أو لا يجيب؟
قوله: «بَاب إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ» ، لم يجزم المؤلف رحمه الله بالحكم؛ لأن المسألة فيها خلاف.
قال: «وَقَدْ أَجَابَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ» دعاه وهو أمير المؤمنين فأجاب دعوته.
}7173{ ثم ذكر حديث أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فُكُّوا الْعَانِيَ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ» . العاني: الأسير، وهذا أمر بفك الأسير المسلم، فإذا كان هناك أسراء عند الكفار وجب على المسلمين أن يخلصوهم من الأسر من بيت المال، أو من الزكاة أو من غيرها، وفي «صحيح مسلم»: «أجيبوا الدعوة» [(283)].
وهذا عام فينبغي على المسلم أن يجيب دعوة أخيه إذا لم يكن عليه ضرر، وإجابة الدعوة فيها مصالح كتأنيس الداعي وجبر خاطره، وإذا كان طالب علم ودعاه إلى وليمة فقد تتحول الدعوة ووليمة العرس إلى حلقة علم، إذا كان المدعو طالب علم يفتي ويرشد وينصح، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله»[(284)] ، وفي لفظ آخر: «فقد عصى أبا القاسم» [(285)].
وهذا عام يشمل القاضي وغيره، لكن إذا كان الداعي عاصيًا فإنه يهجر ولا تجاب دعوته إذا كان ينفعه الهجر، أما إذا كان يزيده شرًّا فلا، وكذلك إذا كان في الدعوة منكر لا يستطيع إزالته فهذا يبيح عدم إجابة الدعوة، وإذا لم يكن فيه منكر ثم رأيت منكرًا فإنك تنكر، فإن أزيل المنكر وإلا تنصرف، وكذلك المرأة إذا دعيت ورأت منكرًا تنكر، فإن أزلن النساء المنكر وإلا انصرفت.
وكذلك إذا كان يترتب على الدعوة ضرر كالسهر الكثير فربما يؤدي إلى ترك صلاة الفجر، أو يترك ورده، فهذا أمر بالتخلف، فإذا دعاك الساعة الثانية عشرة وقلت يا أخي أنا علي ضرر، يقول: يا أخي الرسول يقول: «من لم يجب دعوة أخيه فقد عصى أبا القاسم» ، تقول: هذا مشروط بما ليس فيه ضرر، فإذا كان الإنسان مشغولاً واعتذر من الداعي وقبل عذره فالحمد لله، وإلا فالأصل وجوب إجابة الدعوة.
وخص الجمهور وجوب إجابة الدعوة بوليمة العرس، يقولون: الواجب وليمة العرس، وغير وليمة العرس مستحب وليس بواجب، ولكن ظاهر الأدلة العموم في دعوة العرس وغيرها، وهذا الحديث: «فُكُّوا الْعَانِيَ وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ» ، هذا عام؛ ولهذا ذكره المؤلف في هذا الباب ليبين أن الحاكم يجيب الدعوة كغيره.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «الأصل فيه عموم الخبر وورود الوعيد في الترك من قوله: «ومن لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم» [(286)].
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال العلماء: لا يجيب الحاكم دعوة شخص بعينه دون غيره من الرعية لما في ذلك من كسر قلب من لم يجبه، إلا إذا كان له عذر في ترك الإجابة كرؤية المنكر الذي لا يجاب إلى إزالته.
قال ابن بطال عن مالك: لا ينبغي للقاضي أن يجيب الدعوة إلا في الوليمة خاصة، ثم إن شاء أكل وإن شاء ترك والترك أحب إلينا؛ لأنه أنزه إلا أن يكون لأخ في الله، أو خالص قرابة أو مودة، وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم».
وعلى كل حال فهذه أقوال علماء، لكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وَأَجِيبُوا الدَّاعِيَ» عام. هذا هو الأصل.
لكن هناك موانع خاصة بالنسبة للقضاة كأن يدعوه شخص مثلاً له قضية عنده ونحو ذلك، أو إذا كان هذا ثمنًا لدينه أو يخشى عليه أن تكون رشوة فهذا عذر له.
هَدَايَا الْعُمَّالِ
}7174{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ بَنِي أَسْدٍ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الأُْتَبِيَّةِ، عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، قَالَ سُفْيَانُ أَيْضًا: فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي. فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ» ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ: «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟ ثَلاَثًا».
قَالَ سُفْيَانُ: قَصَّهُ عَلَيْنَا الزُّهْرِيُّ.
وَزَادَ هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعَ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنِي، وَسَلُوا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَإِنَّهُ سَمِعَهُ مَعِي.
وَلَمْ يَقُلْ الزُّهْرِيُّ سَمِعَ أُذُنِي {خُوَارٌ} صَوْتٌ وَالْجُؤَارُ مِنْ {تَجْأَرُونَ} كَصَوْتِ الْبَقَرَةِ.
هذه الترجمة معقودة لهدايا العمال، يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «إنها لفظ حديث أخرجه أحمد وأبو عوانة من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن عروة عن أبي حميد رفعه: «هدايا العمال غلول»[(287)] إلا أنه ضعيف من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وروايته ضعيفة».
}7174{ قوله: «مِنْ بَنِي أَسْدٍ» : بفتح الهمزة وسكون السين المهملة، ويقال: أزد، وهم غير بني أسَد بفتح السين نسبة إلى أسَد بن خزيمة القبيلة المشهورة، أو إلى أسَد بن عبد العزى بطن من قريش.
قال أبو حميد الساعدي: «اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مِنْ بَنِي أَسْدٍ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الأُْتَبِيَّةِ، عَلَى صَدَقَةٍ» ، يعني: يجمع الزكاة ويأخذها لولي الأمر، فصار الناس يعطونه هدايا، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: هذه الزكاة، وهذه الهدايا أعطانيها الناس، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وقام على المنبر «فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ» .
فيه: مشروعية الحمد والثناء على الله، ثم قال: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي. فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟» ، يعني: لولا أنه موظف ما أعطي هدية، فلو كان جالسًا في بيته ما أعطاه أحد شيئًا، إنما أعطي من أجل العمل فتكون تابعة للعمل، فإما أن يردها وإما أن تكون تابعة للصدقات؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لاَ؟».
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الهدية إذا أخذها ولم يضعها في بيت المال تكون غلولاً يعذب به يوم القيامة، قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يَأْتِي بِشَيْءٍ إِلاَّ جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى رَقَبَتِهِ، إِنْ كَانَ بَعِيرًا لَهُ رُغَاءٌ» ، إن كان أعطوه بعيرًا يحمله يوم القيامة له رغاء، يعني: فضيحة أمام الناس، «أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ» أو «جؤار»: صوت البقرة، وإذا كانت الهدية «أَوْ شَاةً تَيْعَرُ» صوت الشاة، وفي لفظ: «على رقبته رقاع تخفق» [(288)].
قال: «ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ:» ، والعفرة نوع من الأدمة ليس بياضًا ناصعًا وهذا من شدة تبليغه صلى الله عليه وسلم ظهر بياض إبطيه، ثم قال: «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟» ثلاث مرات.
قوله: «سَمِعَ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنِي» . هذا قول الراوي.
والحديث فيه: أن هدايا العمال من الغلول، والغلول هو السرقة من الغنيمة قبل أن تقسم مثل السرقة من بيت المال، والسرقة من الصدقات التي جمعت، أو زكاة أو أوقاف كل هذا غلول، وينبغي للموظف أن يتنزه عما يعطاه من الهدية؛ لأنه وسيلة إلى الحيف، فإما أن يردها أو يجعلها مع الصدقات التي يقبضها في العمل الذي وكل إليه.
فهدايا العمال والموظفين غلول يحرم عليه، ويأتي به يوم القيامة ويعذب به.
ففي الحديث: الوعيد الشديد على الغلول.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: يلحق بهدية العامل الهدية لمن له دين ممن عليه الدين».
وفيه: إبطال كل طريق يتوصل بها من يأخذ المال إلى محاباة المأخوذ منه.
وفيه: سد الذرائع، وأن من رأى متأولاً أخطأ في تأويل يضر من أخذ به أن يشهر القول للناس ويبين خطأه.
وفيه: جواز توبيخ المخطئ، واستعمال المفضول في الإمارة والإمامة.
وفيه: استشهاد الراوي والناقل بقول من يوافقه ليكون أوقع في نفس السامع.
اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِي وَاسْتِعْمَالِهِمْ
}7175{ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، قَالَ: كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأَْوَّلِينَ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ.
}7175{ قوله: «بَاب اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِي» يعني: تولية العبيد العتقاء غير الأحرار القضاء، «وَاسْتِعْمَالِهِمْ» يعني: على إمرة البلاد، أو إمرة الحرب والجهاد، أو الخراج، أو إمامة الصلاة، والجواب: أنه لا بأس باستقضاء الموالي واستعمالهم أمراء على بعض البلدان أو أئمة أو مؤذنين؛ والدليل هذا الحديث عن ابن جريج «أَنَّ نَافِعًا أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما أَخْبَرَهُ، قَالَ: كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأَْوَّلِينَ وَأَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ وَزَيْدٌ» هو ابن حارثة «وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ» يعني: كلهم يصلون خلفه؛ فدل على أنه لا بأس باستقضاء المولى إذا كان أهلاً لذلك، ولا بأس أن يستعمل أميرًا على بعض البلدان، أو يستعمل إمامًا أو مؤذنًا، إنما الذي يكون في قريش خاصة الإمامة العظمى لما سبق من الحديث: «إن هذا الأمر في قريش ما أقاموا الدين»[(289)] وهذا إذا كان الاختيار للمسلمين يختارون من قريش، وأما إذا غلبهم بسيفه وسلطانه وجب السمع له والطاعة وثبتت له الخلافة.
ومناسبة الحديث للترجمة من جهة تقديم سالم ـ وهو مولى ـ على من ذكر من الأحرار في إمامة الصلاة، ومن كان رضا في أمر الدين فهو رضا في أمور الدنيا، فيجوز أن يولى القضاء، والإمرة على الحرب، وعلى جباية الخراج.
الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ
}7176{، }7177{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ـ حِينَ أَذِنَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فِي عِتْقِ سَبْيِ هَوَازِنَ ـ: «إِنِّي لاَ أَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ» فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ، أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا.
هذه الترجمة في العُرَفاء للناس، والعرفاء: جمع عريف بوزن عظيم، وهو القائم بأمر طائفة من الناس، والعريف يشبه الآن عمدة المحلة ورئيس البلدية وشيخ القبيلة؛ لأنه يلي أمر سياستهم وحفظ أمورهم، ولكونه يتعرف أمورهم حتى يعرف بها من فوقه عند الاحتياج إليه؛ لأنه ليس كل أحد يمكن أن يرفع حاجته إلى الملك أو الإمام أو رئيس الدولة.
}7176{، }7177{ هذا الحديث فيه: بيان مشروعية جعل عرفاء للناس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هؤلاء العرفاء، وهو نوع من الإمارة والولاية، والناس لا تقوم أمورهم ولا تستقيم أحوالهم إلا بأمراء ورؤساء، وإلا أصبح أمر الناس فوضى لا سراة لهم إذا جهالهم سادوهم؛ ولهذا اختلف العلماء في حكم إقامة إمام للمسلمين هل هو فرض كفاية أو مستحب؟
والصواب: أنه فرض فيجب على الأمة أن تقيم إماما للناس يلي أمورهم، ولا تستقيم أحوالهم إلا بهذا، فيكون لهم رئيس وإمام وخليفة للمسلمين يلي أمرهم، ثم هذا الخليفة يولي الولايات من قبله على بعض البلاد، كل بلد يولي عليها أميرا، يولي قضاة يحكمون بين الناس، ويجعل على القبائل عرفاء ورؤساء.
وفي غزوة حنين لما كان فيها سبي هوازن ثم جاءوا مسلمين بعد ذلك أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد إليهم سبيهم، ولكن كان ذلك بعد توزيع السبي على الناس، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم بالناس وقال: «إن إخوانكم قد جاؤوا مسلمين، وإني استأنيت بهم بضع عشرة ليلة فلم يأتوا» ، وكان قد وزع السبي: «وإني رأيت أن أرد إليهم سبيهم، فمن أراد أن يردهم بدون مقابل وطابت نفسه فله ذلك، ومن لم يرد إلا بمقابل فله من كل فريضة من أول ما يفيء الله علينا»[(290)] عن كل واحد ستة يعطى في المستقبل، فقال ناس: طيبنا لرسول الله، فقال للناس: «إِنِّي لاَ أَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ» ، وهذا هو الشاهد حتى نعرف من طيب ممن لم يطيب، من طابت نفسه بدون مقابل، ومن لم تطب إلا بمقابل، فرجع الناس فرفع أمرهم عرفاؤهم.
ففي هذه القصة «أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَاهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ـ حِينَ أَذِنَ لَهُمْ الْمُسْلِمُونَ فِي عِتْقِ سَبْيِ هَوَازِنَ ـ: «إِنِّي لاَ أَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ» هذا هو الشاهد، أي: رؤساؤكم والقائمون بأمر سياستكم وحفظ أموركم.
قوله: «فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ، فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرُوهُ، أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا».
فقه هذا الحديث في الترجمة جواز جعل العرفاء على الناس ليرفعوا أمور الناس وحوائجهم إلى الأمير، أو السلطان، وعلى هؤلاء العرفاء أن يتقوا الله، ويقوموا بواجب الأمانة والرعاية. وجاء الوعيد على الأمراء وعلى العرفاء، جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داود: «العرافة حق، ولابد للناس من عريف والعرفاء في النار»[(291)] وفي حديث أبي هريرة: «ويل للأمراء ويل للعرفاء»[(292)] وهذا يشعر بأن العرافة على خطر، وأن من باشرها غير آمن من الوقوع في المحذور المفضي إلى العذاب، فهو كقوله تعالى: [النِّسَاء: 10]{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}، فتوعد الأمراء بما توعد به العرفاء؛ لأنها نوع من الولاية.
مَا يُكْرَهُ مِنْ ثَنَاءِ السُّلْطَانِ وَإِذَا خَرَجَ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ
}7178{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ أُنَاسٌ لاِبْنِ عُمَرَ: إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا فَنَقُولُ لَهُمْ خِلاَفَ مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ، قَالَ: كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا.
}7179{ حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِرَاكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ الَّذِي يَأْتِي هَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاَءِ بِوَجْهٍ».
هذه الترجمة معقودة للثناء على السلطان في وجهه وهو بحضرته، ثم إذا خرج قال كلاما آخر أي: عابه وسبه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مَا يُكْرَهُ مِنْ ثَنَاءِ السُّلْطَانِ» . هذه الإضافة للمفعول، أي: من الثناء على السلطان بحضرته، بقرينة قوله: «وَإِذَا خَرَجَ» ووقع عند ابن بطال: «مِنْ ثَنَاءِ السُّلْطَانِ» . وهذه أوضح.
}7178{ قوله: «كُنَّا نَعُدُّهَا نِفَاقًا» فيه: دليل على أن مدح الأمراء والسلاطين والثناء عليهم في وجوههم ثم الكلام بخلاف ذلك في غيبتهم من النفاق.
وللخرائطي في «المساوئ» من طريق الشعبي: كنا نعد هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاقا، وهذا له حكم الرفع[(293)].
وساق الحافظ ابن حجر رحمه الله طرقًا لحديث ابن عمر فقال: «قوله: «قَالَ أُنَاسٌ لاِبْنِ عُمَرَ:» ، وسمي منهم عروة بن الزبير ومجاهد وأبو إسحاق الشيباني، ووقع عند الحسن بن سفيان من طريق معاذ عن عاصم عن أبيه: دخل رجل على ابن عمر أخرجه أبو نعيم من طريقه، قوله: «إِنَّا نَدْخُلُ عَلَى سُلْطَانِنَا» وفي رواية الطيالسي: «سلاطيننا» بصيغة الجمع قوله «فنقول لهم» ، أي: نثني عليهم.
ووقع عند ابن أبي شيبة من طريق أبي الشعثاء قال: «دخل قوم على ابن عمر فوقعوا في يزيد بن معاوية. يتكلمون فيه ويعيبونه، فقال: أتقولون هذا في وجوههم؟ قالوا: بل نمدحهم ونثني عليهم». وفي رواية عروة بن الزبير عند الحارث بن أبي أسامة والبيهقي قال: «أتيت ابن عمر فقلت: إنا نجلس إلى أئمتنا هؤلاء فيتكلمون في شيء نعلم أن الحق غيره فنصدقهم، فقال: كنا نعد هذا نفاقًا، فلا أدري كيف هو عندكم؟!». لفظ البيهقي في رواية الحارث يا أبا عبدالرحمن ـ كنية ابن عمر ـ «إنا ندخل على الإمام يقضي بالقضاء نراه جورًا ـ يعني: ظلمًا ـ فنقول: تقبل الله، فقال: إنا نحن معاشر محمد نعد هذا نفاقًا».
}7179{ هذا الحديث فيه: أن الثناء على السلطان ومدحه في حضوره ثم ذمه وعيبه في غيبته من عمل ذي الوجهين؛ فيكون من شر الناس.
وفي الحديث من الفوائد والأحكام: أنه ينبغي مناصحة ولاة الأمور وقول الحق عند الدخول عليهم وعدم المجاملة والمداهنة لهم في دين الله عز وجل بذكر ما لا يعتقده.
ولكن هل هناك تعارض بين هذا الحديث وقصة الرجل الذي استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «ائذنوا له بئس أخو العشيرة»[(294)] ثم لما دخل ألان له القول؟ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وتعرض ابن بطال رحمه الله هنا لذكر ما يعارض ظاهره من قوله صلى الله عليه وسلم للذي استأذن عليه: «بئس أخو العشيرة» ، فلما دخل ألان له القول، وتكلم على الجمع بينهما، وحاصله أنه حيث ذمه كان لقصد التعريف بحاله وحيث تلقاه بالبشر كان لتأليفه أو لاتقاء شره؛ فما قصد بالحالتين إلا نفع المسلمين، ويؤيده أنه لم يصفه في حال لقائه بأنه فاضل ولا صالح».
وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشًا ولا متفحشًا[(295)] ثم أيضًا أهل الشر والفساد يجوز غيبتهم؛ فتذكر عيوبهم للتحذير منهم، وهذا من الأمور الستة التي يستثنى فيها الغيبة، منها: التحذير من الأشرار، ومنها الاستعانة في إزالة المنكر أيضًا، ومنها الاستفتاء، ومنها التعريف عند من لا يعرف إلا بهذا الوصف.
وبذلك فلا منافاة بين هذين الحديثين.
الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ
}7180{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ هِنْدًا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ، فَأَحْتَاجُ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ قَالَ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».
}7180{ هذه الترجمة في القضاء على الغائب، وهذا في حقوق الآدميين دون حقوق الله عز وجل؛ فإنه لو قامت البينة على غائب بسرقة مثلاً فإنه يحكم بالمال ولا يحكم بقطع يده حتى يحضر، والبخاري رحمه الله وجماعة احتجوا بهذا الحديث على الحكم على الغائب، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على أبي سفيان رضي الله عنه وهو غائب بأن تأخذ زوجته من ماله ما يكفيها وولدها بدون علمه، لكن هل هذا حكم على الغائب؟
قال البخاري رحمه الله وجماعة: هذا حكم على الغائب.
وقال آخرون من أهل العلم: هذه فتوى وليست بحكم.
أما إذا احتيج إلى القضاء على الغائب؛ يعني: إذا كان خصمه الحاضر لا يصبر مثلا فإنه تسمع بينته ويحكم له بها؛ فإذا قدم الغائب فهو على حقه تسمع بينته ويحكم له بها، وهذا ليس فيه حضور؛ فهي فتوى.
وهذه المسألة ـ وهي الحكم على الغائب ـ مسألة خلافية بين أهل العلم حيث إن مالكًا رحمه الله[(296)] وجماعة والشافعي رحمه الله[(297)] أجازوا الحكم على الغائب، واستثنى ابن القاسم عن مالك رحمه الله ما يكون للغائب فيه حجج كالأرض والعقار[(298)].
وذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه لا يحكم على الغائب، منهم ابن أبي ليلى وأبو حنيفة رحمه الله[(299)].
وأما من هرب أو استتر بعد إقامة البينة فقالوا: ينادي القاضي عليه ثلاثًا؛ فإن جاء وإلا أنفذ الحكم عليه.
وممن أجاز الحكم على الغائب ابن شبرمة والأوزاعي وإسحاق والإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه[(300)].
وممن منع الحكم على الغائب: الشعبي والثوري وهي الرواية الأخرى عن أحمد رحمه الله[(301)].
واستثنى الإمام أبو حنيفة رحمه الله من له وكيل فيجوز الحكم عليه بعد الدعوى على وكيله[(302)].
والذين منعوا الحكم على الغائب استدلوا بأدلة، منها:
1- حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «لا تقضين لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر»[(303)] ، وهو حديث حسن أخرجه أبو داود والترمذي وغيرهما.
2- حديث الأمر بالمساواة بين الخصمين، والقاضي مأمور بأن يسوي بين الخصمين ومع غيبة أحدهما كيف يسوي بين الخصمين؟! فلابد من وجود الخصمين أمام القاضي ليسوي بينهما ويسمع كلام كل منهما، وهذا لا يمكن مع غيبة واحد منهما.
3- أنه لو حضر لم تسمع بينة المدعي حتى يسأل المدعى عليه؛ فإن غاب فلا تسمع.
4- أنه لو جاز الحكم على الغائب مع غيبته لم يكن الحضور واجبًا عليه والحضور واجب.
والذين أجازوا الحكم على الغائب قالوا: هذا لا يمنع الحكم على الغائب؛ لأن حجته إذا حضر قائمة فتسمع، ويعمل بمقتضاها ويحكم عليه، وإذا حضر فهو على بينته ولو أدى هذا إلى نقض الحكم السابق.
وأجابوا عن حديث علي رضي الله عنه السابق «لا تقضين لأحد الخصمين حتى تسمع من الآخر» قالوا: هذا محمول على المدعي والمدعى عليه إذا كانا حاضرين، وهذا إنما هو مع إمكان السماع كما قال ابن العربي رحمه الله: فأما من تعذر حضوره بمغيب فلا يمنع الحكم عليه كما لو تعذر حضوره بإغماء أو جنون أو كونه محجورًا عليه لكونه صغيرًا.
وقد عمل الحنفية بهذا في الشفعة قالوا: يحكم عليه ولو كان غائبًا[(304)]، واحتج بهذا الشافعي رحمه الله[(305)] وجماعة لجواز القضاء على الغائب، لكن الذين منعوا الحكم على الغائب قالوا: إن أبا سفيان رضي الله عنه لم يكن غائبًا ولكنه كان حاضرًا في البلد.
وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز خروج المرأة في حاجتها وإن كان من الأفضل بقاؤها في البيت، لكن إذا احتاجت تخرج، ولهذا قال العلماء: حتى المعتدة من الوفاة إذا احتاجت إلى أن تخرج لحاجتها كأن تشتري مثلا طعامًا أو خبزًا وليس عندها أحد تخرج نهارًا لا ليلاً، أو إذا كان عليها دعوى تخرج للمحكمة أو مدرسة أو طالبة، وإن كان من الأولى بقاؤها في البيت، والدليل أن هندًا جاءت وسألت النبي صلى الله عليه وسلم.
واستُدل من الحديث أيضًا على أن صوت المرأة ليس بعورة وهي مسألة خلافية، قيل: إن صوت المرأة عورة، وقيل: ليس بعورة، والأقرب أنه ليس بعورة؛ لأن النساء كن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسألن النبي صلى الله عليه وسلم وتسألن الصحابة رضي الله عنهم وأمهات المؤمنين كذلك كن يكلمن الناس، لكن المرأة ممنوعة من الخضوع بالقول؛ فعليها أن تتكلم بصوت عادي ليس فيه ترخيم، قال الله تعالى: [الأحزَاب: 32]{فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}، والمرض هنا مرض الشهوة.