كِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ وَالْقَاضِي إِلَى أُمَنَائِهِ
}7192{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ أَبِي لَيْلَى، ح.
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ أَبِي لَيْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، أَنَّهُ أَخْبَرَهُ هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ، أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إِلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأُخْبِرَ مُحَيِّصَةُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي فَقِيرٍ أَوْ عَيْنٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: مَا قَتَلْنَاهُ وَاللَّهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ، وَأَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُحَيِّصَةَ «كَبِّرْ كَبِّرْ» يُرِيدُ السِّنَّ فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ» فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ بِهِ، فَكُتِبَ مَا قَتَلْنَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ » قَالُوا: لاَ، قَالَ: «أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ» قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ. فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ، حَتَّى أُدْخِلَتْ الدَّارَ. قَالَ سَهْلٌ: فَرَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ.
فقه هذه الترجمة جواز كتابة الحاكم إلى عماله، والقاضي إلى أمنائه، واعتماد الكتابة والخط إذا كان معروفًا، وأدلة ذلك كثيرة كهذا الحديث وغيره فإن فيه كتابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل خيبر واعتمادهم ذلك، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم ذلك.
}7192{ هذه القصة فيها أن عبدالله بن سهل ومحيصة خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم، وذلك بعد فتح خيبر وإبقاء أهلها عمالاً للنبي صلى الله عليه وسلم في النخيل حيث أتى محيصة فوجد عبدالله بن سهل قتيلاً ملقىً في عين أو في فقير؛ فقال لليهود: أنتم قتلتموه، قالوا: ما قتلناه والله؛ فجاء محيصة يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل حتى قدم على قومه فذكر لهم، فأقبل محيصة هو وحويصة ـ وهو أكبر منه ـ وعبدالرحمن بن سهل وهو أخو عبدالله المقتول؛ فذهب محيصة ليتكلم، وهو الذي كان بخيبر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لمحيصة: «كَبِّرْ كَبِّرْ» يريد السن.
وفيه من الفوائد: أن الأولياء إذا كانوا متساويين في الحق فإنه يقدم الأكبر سنًّا في الكلام، وكذلك في غير الخصومة والأشياء المشتركة يقدم الأكبر في الحديث، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أراني في المنام أتسوك بسواك فجذبني رجلان أحدهما أكبر من الآخر فناولت السواك الأصغر منهما فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر»[(327)] فلما أراد محيصة أن يتقدم وكان هناك من هو أكبر منه قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَبِّرْ كَبِّرْ» .
قوله: «إِمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ» يدوا؛ أي: يدفعوا الدية، ويؤذنوا بفتح المعجمة أي: يعلموا.
قوله: «فَكَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ بِهِ» إلى اليهود: أن قتلتم «فَكُتِبَ» أي: فكتب كاتبهم «مَا قَتَلْنَاهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ:» عبدالرحمن أخوه ومحيصة وحويصة ابنا عمه: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟» تحلفون على شخص معين من اليهود أنه قتله «قَالُوا: لاَ» ما رأينا «قَالَ: «أَفَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودُ»» أنهم ما قتلوه «قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ» في اللفظ الآخر قالوا: يا رسول الله قوم كفار كيف نقبل أيمانهم؟[(328)] «فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ مِائَةَ نَاقَةٍ» أي: دفع ديته من عنده، وهذا كان من النبي صلى الله عليه وسلم قطعًا للنزاع «حَتَّى أُدْخِلَتْ الدَّارَ» أولياء القتيل «قَالَ سَهْلٌ: فَرَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ» ، يعني: ضربتني برجلها، وهذا تحقيق، يريد أن يحقق أنه رآها حتى إن واحدة منها ضربته برجلها.
وهذه القصة في هذا الحديث أصل في القسامة، وهي أن يوجد قتيل في مكان أو بلد ويوجد ما يغلب على الظن أنهم قتلوه كالعداوة بينهم وبين أهل القتيل أو غيرها، والعداوة بين المسلمين وبين اليهود ظاهرة، كما قال تعالى: [المَائدة: 82]{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا}.
وغلبة الظن كأن يكون بينهم عداوة، وكأن يوجد مثلاً عند القتيل رجل بيده سكين أو سيف فيه دم فهذه تهمة، وهي من اللوث، واللوث بمثابة البينة للمدعي؛ فيدعون أنهم قتلوه بهذه البينة وهي اللوث، ثم يحلفون خمسين يمينًا على أنه قتله، وهذه الأيمان مقوية للوث الذي هو بمثابة البينة؛ فإن نكلوا وامتنعوا حلف الخصم خمسين يمينًا أنه ما قتل.
وهذه القسامة كانت موجودة في الجاهلية فأقرها الإسلام، وهذه الأيمان الخمسون توزع على أولياء القتيل، إذا كانوا خمسين رجلاً يحلف كل واحد يمينًا، وإذا كانوا خمسة وعشرين يحلف كل واحد يمينين، وإذا كان أولياء القتيل اثنين حلف كل منهما خمسةً وعشرين يمينًا، وإن كانوا ثلاثة حلف كل واحد منهم سبعة عشر يمينًا ويجبر الكسر، وإن كانوا أربعة حلف كل واحد ثلاثة عشر يمينًا، ويجبر الكسر، وإن كانوا خمسة حلف كل واحد عشرة أيمان.
فالنبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: احلفوا على واحد خمسين يمينًا وتستحقون قاتلكم، قالوا: كيف نحلف وما رأينا، قال: تبرؤكم يهود بخمسين يمينًا، قالوا يا رسول الله: قوم كفار.
وفيه: دليل على أنه إذا نكل المدعي ترد الأيمان على الخصم، وليس لهم إلا ذلك ولو كان الخصم كافرًا، قالوا: يا رسول الله ليسوا بمسلمين؛ فوداه النبي صلى الله عليه وسلم من عنده فدفعها من بيت المال قطعًا للنزاع.
وفيه: دليل على أن دية القتيل مائة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن المنير رحمه الله: ليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى نائبه ولا إلى أمينه، وإنما كتب إلى الخصوم أنفسهم، لكن يؤخذ من مشروعية مكاتبة الخصوم والبناء على ذلك جواز مكاتبة النواب والكتاب في حق غيرهم بطريق الأولى».
استنبط المؤلف رحمه الله مشروعية مكاتبة الخصوم وأخذ من مشروعية مكاتبة الخصوم مكاتبة النواب والكتاب؛ فإذا جاز مكاتبة الخصوم جاز مكاتبة النواب من باب أولى.
هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلاً وَحْدَهُ لِلنَّظَرِ فِي الأُْمُورِ
}7193{، }7194{ حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، قَالاَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ فَاقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ، فَقَالَ الأَْعْرَابِيُّ: إِنَّ ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ فَقَالُوا لِي: عَلَى ابْنِكَ الرَّجْمُ، فَفَدَيْتُ ابْنِي مِنْهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلِيدَةٍ، ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ، فَقَالُوا: إِنَّمَا عَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَأَقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ، أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ ـ لِرَجُلٍ ـ فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا» فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا.
فقه هذه الترجمة هو جواز استنابة الحاكم أو القاضي من ينفذ الحدود وينظر في الأمور فيكون وكيلاً عنه، هذا إذا كان ثقة؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم وكل أُنيسًا أن يقيم الحد على هذه المرأة.
قوله: «هَلْ يَجُوزُ» قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «والحكمة في إيراده الترجمة بصيغة الاستفهام الإشارة إلى خلاف محمد بن الحسن فإنه قال: لا يجوز للقاضي أن يقول أقر عندي فلان بكذا لشيء يقضي به عليه من قتل أو مال أو عتق أو طلاق، حتى يشهد معه على ذلك غيره وادعى أن مثل هذا الحكم الذي في حديث الباب خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال وينبغي أن يكون في مجلس القاضي أبدًا عدلان يسمعان من يقر ويشهدان على ذلك فينفذ الحكم بشهادتهما نقله ابن بطال، وقال المهلب: فيه حجة لمالك في جواز إنفاذ الحاكم رجلاً واحدًا في الأعذار، وفي أن يتخذ واحدًا يثق به يكشف عن حال الشهود في السر».
}7193{، }7194{ في الحديث من الفوائد:
1- أنه لا يجوز الصلح بالمال عوضًا عن إقامة الحد، وأنه يرد المال على صاحبه ويقام الحد على من استوجبه؛ لأن ابن الأعرابي لما زنى بامرأة هذا أراد أن يعطي الزوج عوضًا عن إقامة الحد مالا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَمَّا الْوَلِيدَةُ وَالْغَنَمُ فَرَدٌّ عَلَيْكَ» .
ولكن يجوز أن يتعافى الناس فيما بينهم وأن يستروا عليه إذا فعل ما يوجب الحد، وأن ينصحوه قبل أن يرفع الأمر إلى الحاكم، أما إذا رفع إلى الحاكم فإنه يجب إقامة الحد، ولا تقبل الشفاعة في إسقاطه، ولا يؤخذ المال عوضًا مطلقًا، لا قبل رفعه للحاكم ولا بعده، ولهذا جاء في الحديث: «إذا وصلت الحدود إلى الحاكم فلعن الله الشافع والمشفع»[(329)] .
2- أنه لا بأس أن يقول أحد الخصمين للقاضي: اقض بيننا بكتاب الله عز وجل، وكذلك أيضًا سؤال المفتي أو القاضي عن الدليل فإنه لا بأس بذلك فيخبره بالدليل، ولا ينبغي له أن يغضب ولا يستنكر ذلك، كما لم يغضب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستنكر حين قال له الأعرابي اقض بيننا بكتاب الله عز وجل مع علمه بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقضي بكتاب الله عز وجل وبالوحي.
3- الرجوع إلى أهل العلم عند الخصومات والنزاع في أمور الدين، ولهذا لما حصلت هذه القضية قال: «ثُمَّ سَأَلْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ» كما قال تعالى: [النّحل: 43]{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ *}.
4- أنه ينبغي لمن كان عنده خدم أو أجراء أن يلاحظ اختلاطهم بالنساء، وأن يعمل الاحتياطات لمنع الاختلاط؛ فابن هذا الأعرابي كان عسيفًا ـ يعني أجيرًا ـ عند هذا الشخص فزنى بامرأته بسبب الاختلاط والملابسة وعدم أخذ الحيطة، وما يفعله بعض الناس من كونه يترك المرأة والبنت يذهب بها السائق وحدها فهذا من أسباب الشر؛ لأنها خلوة والشيطان سيكون ثالثهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان»[(330)] فلا يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة الأجنبية لا في البيت ولا في السيارة ولا في المصعد الكهربائي، فكل هذا من أسباب الفتنة.
5- أن الزاني إذا كان بكرًا فإنه يجلد مائة جلدة ويغرب عامًا كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ» والتغريب هو أن ينفى عن البلد التي وقع فيها الفاحشة لمدة عام حتى تنقطع أسباب الشر، أما المتزوج الثيب فإنه يرجم بالحجارة حتى يموت؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لأنيس: «فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَارْجُمْهَا» فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا» وفي اللفظ الآخر: «فإن اعترفت فارجمها»[(331)] .
6- أن الإقرار يؤاخذ به الإنسان؛ فالأعرابي أقر بأن ابنه زنى فجلد وغرب، والمرأة اعترفت فرجمت، والحد مطهر لصاحبه.
تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ، وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ؟
}7195{ وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ، حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُتُبَهُ، وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ.
وَقَالَ عُمَرُ وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعُثْمَانُ: مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ، فَقُلْتُ: تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا.
وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ.
}7196{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّي سَائِلٌ هَذَا فَإِنْ كَذَبَنِي فَكَذِّبُوهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ: قُلْ لَهُ إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ.
الترجمان هو الذي ينقل الكلام من لغة إلى لغة، وهو ما يعرف الآن بالمترجم، ويطلق الترجمان على المبلغ، والترجمان فيه لغات: تَرجَمان بفتح التاء والجيم، وتُرجُمان بضم التاء والجيم، وتَرجُمان بفتح التاء وضم الجيم، وقيل فيه لغة رابعة تُرجَمان وهي مختلف فيها.
قوله: «بَاب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ» ، يعني: القضاة، وفي رواية الكشميهني: «الحاكم» بالإفراد، ولفظة الحاكم يراد بها الجنس.
وقوله: «وَهَلْ يَجُوزُ تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ؟» عند القاضي، وهذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذا الاختلاف بالاستفهام.
ذهب البخاري رحمه الله والحنفية[(332)] وأحمد رحمه الله في رواية[(333)] بأنه يكفي ترجمان واحد عند القاضي، أما قول الشافعي[(334)] وأحمد في المشهور عنه[(335)] لابد من عدلين؛ يعني: إذا لم يعرف الحاكم لسان الخصم فلابد من مترجمين اثنين؛ لأن الواحد لا يؤمن؛ فقد يغير الكلام، أو لابد من عدلين مطلقًا تنزيلاً لها منزلة الشهادة كما يقول محمد بن الحسن[(336)].
وقد وجد أن بعض المترجمين يترجمون بالعكس، مثلاً كان يترجم أحدهم لفضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله بالعكس حتى جاء مترجم آخر وأخبر الشيخ أنه يترجم بالعكس لأنه كان عنده خلل في العقيدة؛ فالشيخ يقرر التوحيد وهذا يقرر الشرك، وهذه مصيبة، ولهذا قال محمد بن الحسن إنه ينبغي أن يكونا عدلين، أما المؤلف رحمه الله فقد ذكر الآثار التي تدل على الاكتفاء بترجمان واحد كما ذهب إليه هو.
}7195{ قوله: «كِتَابَ الْيَهُودِ» يعني: خط اليهود، ومن المعروف أن اليهود لغتهم اللغة العبرانية، والنصارى السريانية؛ فأمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم لغة اليهود، وكان شابًّا.
وهذا فيه: دليل على أنه يتخصص طائفة من الدعاة في تعلم اللغات الأخرى حتى يستعينوا بها في الدعوة إلى الله عز وجل، ولا يلزم من هذا أن كل الناس يتعلمون اللغة الإنجليزية أو كل الناس يتعلمون اللغة الفرنسية، إنما هذا يكون في الدعاة المتخصصين بهذا؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم لسان اليهود حتى يخاطب اليهود ويقرأ كلامهم؛ فتعلم رضي الله عنه لسان اليهود حتى حذقه، قال زيد: «حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُتُبَهُ، وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ» ، وفي لفظ أنه تعلمها في أشهر؛ فكان يكتب لهم بلغتهم كلام النبي صلى الله عليه وسلم ويقرأ كتبهم التي تأتي منهم إذا كتبوا للنبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: «وَقَالَ عُمَرُ وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ وَعُثْمَانُ: مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ» أي: المرأة التي وجدت حبلى من الزنا «قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَاطِبٍ، فَقُلْتُ: تُخْبِرُكَ بِصَاحِبِهَا الَّذِي صَنَعَ بِهَا» واكتفى به عمر رضي الله عنه وهو واحد؛ فاستدل المؤلف رحمه الله بكون النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بزيد رضي الله عنه على تعلم لسان اليهود وهو واحد، وبكون عمر وعلي وعبدالرحمن وعثمان رضي الله عنهم اكتفوا بنقل خبر المرأة بواحد.
قوله: «وَقَالَ أَبُو جَمْرَةَ:» صاحب ابن عباس رضي الله عنهما «كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَيْنَ النَّاسِ» يعني: أنه كان ينقل كلام ابن عباس رضي الله عنهما ليبلغه للناس، وهذه ترجمة.
إذن هذه الآثار والحديث الذي ذكره البخاري رحمه الله تدل لما ذهب إليه من الاكتفاء بترجمان واحد للحاكم.
قوله: «وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لاَ بُدَّ لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ» ، هذا قول محمد بن الحسن الصاحب الثاني لأبي حنيفة رحمه الله[(337)]؛ لأن الترجمة عنده تجري مجرى الشهادة، والشهادة لابد فيها من اثنين فكذلك الترجمة، وأما أبو حنيفة وأبو يوسف[(338)] فهما مع البخاري رحمه الله، في الاكتفاء بالمترجم الواحد.
}7196{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث ابن عباس رضي الله عنهما «أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ» قبل أن يسلم، وكانوا في تجارة بالشام؛ فلما سمع هرقل ملك الروم بالنبي صلى الله عليه وسلم قال: ها هنا أحد من بلاده؟ قالوا: نعم، هنا جماعة من التجار جاءوا من بلاد العرب، قال: ائتوا بهم إلي؛ فأتوا بأبي سفيان رضي الله عنه وأتوا بأصحابه، وجعل أبو سفيان رضي الله عنه أمام هرقل، وجعل أصحابه خلفه، وقال لترجمانه: قل لهم: إني سائل أبا سفيان عن هذا الرجل الذي ادعى النبوة، وقال لأصحابه الذين خلفه: إن كذبني كذبوه، وكان العرب لا يكذبون، يقول أبو سفيان رضي الله عنه: لولا أن يأثروا عني الكذب لكذبت، وسأله عن مسائل كثيرة، سأله عن حسبه، وعن نسبه، وعن أتباعه هل يزيدون أو ينقصون؟ وهل يرجع أحدهم سخطة لدينه؟ وهل من آبائه من ملك؟ كل ذلك يخبره بالواقع، وكان هذا وقت الصلح؛ فلما سأله عن المسائل قال له هرقل: «إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ» ؛ لأنه كان يقرأ الكتب السابقة، وفي رواية أنه قال: «لو استطعت أن أصل إليه لغسلت عن قدميه، وإن كان ما تقوله حقًّا فسيملك موضع قدمي»[(339)] ، لكنه شح بملكه، لما جاءه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وجمع العظماء وأراد أن يختبرهم وأغلق الأبواب وأخذ المفاتيح، وأطل عليهم من فوق، وقال لهم: يا معشر الروم أنتم تعلمون أن هذا الرسول هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي تعلمونه من كتبكم! هل لكم في السعادة الأبدية في الدنيا والآخرة؟ فلما رأوه نخروا وحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب، وكان قد احتاط لنفسه وأغلق الأبواب والمفاتيح معه؛ فلما رأى نُفْرَتهم، قال: ردوهم علي؛ فردوهم إليه وجلس كل مكانه، ثم اطلع عليهم من فوق بكبريائه، وقال: إنما قلت هذا الكلام لأختبر ثباتكم على دينكم؛ فقد رأيت فسجدوا له، هذا آخر أمره، ثم لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ضن الخبيث بالملك»[(340)] أي: شح بملكه وآثر الدنيا على الآخرة، نسأل الله تعالى السلامة والعافية.
ووجه استدلال البخاري رحمه الله بالحديث للترجمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هرقل على اعتماده على مترجم واحد، ولم ينكره، أو أن المعروف عند الأمم هو الاكتفاء بترجمان واحدة.
فهذه الآثار والحديث تدل على ما ذهب إليه البخاري رحمه الله من الاكتفاء بترجمان واحد للحاكم، والمسألة فيها أقوال كما سبق.
مُحَاسَبَةِ الإِْمَامِ عُمَّالَهُ
}7197{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ ابْنَ الأُْتَبِيَّةِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا الَّذِي لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَبَيْتِ أُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟ ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالاً مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ، فَيَأْتِي أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا؟! فَوَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا ـ قَالَ هِشَامٌ:ـ بِغَيْرِ حَقِّهِ إِلاَّ جَاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَلاَ فَلَأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٍ تَيْعَرُ» ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْتُ بَيَاضَ إِبْطَيْهِ «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟».
أتى المؤلف رحمه الله بهذه الترجمة لبيان أن للإمام محاسبة عماله على ما قبضوا، وعلى ما صرفوا.
}7197{ هذا الحديث كرره المؤلف رحمه الله لاستنباط الأحكام، وفيه: الدليل على أنه لا يجوز للعامل أو الموظف أو القاضي أن يأخذ هدية من الخصوم أو المولَّى عليهم أو ممن له حاجة عنده أو معاملة أو يتوقع أن تكون له حاجة أو قضية بعد ذلك، وأن جميع ما يعطاه بسبب العمل أو باسم العمل فإنه ينبغي أن يجعله في بيت المال أو مع الصدقات التي يجمعها أو يقول: ضعها في كذا أو لا يقبلها منه؛ لأن هذا رشوة أو في معنى الرشوة، وهي سبب الحيف والجور والميل إليه، وهي من الغلول، وأصل الغلول الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها، قال تعالى: [آل عِمرَان: 161]{وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، لكن من كان يهاديه قبل العمل أو الولاية وأهدى له بعد الولاية وليس له قضية ولا خصومة فلا بأس؛ لأنها كانت جارية بينه وبينه قبل العمل كالمهاداة بينك وبين عمك أو قريبك أو صديقك أو زميلك قبل العمل، لكن بشرط ألا يكون له خصومة ولا قضية، أما إذا كانت له خصومة أو قضية فهذا رشوة فلا يأخذها، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أن هذا من الغلول يأتي به يوم القيامة فيعذب به.
وذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي حميد الساعدي هذا «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَ ابْنَ الأُْتَبِيَّةِ» ، وفي لفظ: استعمل رجلاً يقال له: ابن اللتبية[(341)] «عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ» يعني: يجمع صدقة الفريضة «فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا الَّذِي لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي» ، أعطى النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة وقال: هذه هدايا أهدانيها الناس «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: فَهَلاَّ جَلَسْتَ فِي بَيْتِ أَبِيكَ وَبَيْتِ أُمِّكَ حَتَّى تَأْتِيَكَ هَدِيَّتُكَ إِنْ كُنْتَ صَادِقًا؟» كأنه أراد صلى الله عليه وسلم أن يقول إن الهدية ما جاءت إلا لأنك عامل عندنا، لو جلست في بيت أبيك وأمك ولست بعامل ما أعطاك أحد هدية؛ فالهدية في هذه الحال تكون رشوة من أجل العمل؛ حتى يخفف عليهم ويتساهل معهم «ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ النَّاسَ، وَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ» ، فيه: مشروعية الخطبة إذا حصل أمر جلل.
وفيه: مشروعية أن تقول أما بعد.
قوله: «فَإِنِّي أَسْتَعْمِلُ رِجَالاً مِنْكُمْ عَلَى أُمُورٍ مِمَّا وَلاَّنِي اللَّهُ» فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يسمي الأشخاص بأعيانهم وإنما يأتي بالعموم «فَيَأْتِي أَحَدُكُمْ فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِي، فَهَلاَّ جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَبَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى تَأْتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا؟!» ثم حلف النبي صلى الله عليه وسلم وأقسم لتأكيد المقام، وهو الصادق وإن لم يقسم صلى الله عليه وسلم «فَوَاللَّهِ لاَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مِنْهَا شَيْئًا ـ قَالَ هِشَامٌ:ـ بِغَيْرِ حَقِّهِ» قيده بهذا القيد «إِلاَّ جَاءَ اللَّهَ يَحْمِلُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» يعذب به «أَلاَ فَلَأَعْرِفَنَّ مَا جَاءَ اللَّهَ رَجُلٌ بِبَعِيرٍ لَهُ رُغَاءٌ» ، والرغاء صوت البعير؛ أي: يأتي يوم القيامة يحمله على رقبته وله هذا الصوت، فضيحة أمام الناس يعذب به «أَوْ بِبَقَرَةٍ لَهَا خُوَارٌ» والخوار صوت البقرة، إن كان أخذها بغير حق يأتي يحملها على رقبته لها هذا الصوت «أَوْ شَاةٍ تَيْعَرُ» ، وهو صوت الشاة، وفي لفظ: «أو رقاع تخفق»[(342)] ثم رفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه حتى رئي بياض إبطيه من المبالغة في الرفع، وهذا دليل على أنه كان صلى الله عليه وسلم عليه رداء لما رفعه رئي بياض إبطيه، ولو كان قميصًا ما رئي بياض إبطيه صلى الله عليه وسلم، وهذا على عادة العرب أنهم كانوا يلبسون الأزر والأردية في الغالب، والإزار هو ما يلبس فيشد به النصف الأسفل والرداء يلبس على الكتفين مثل المحرم، وكانوا أحيانًا يلبسون القمص من غير أن يلبسوا الغتر، وإنما يلبسون في الغالب العمائم، والنبي صلى الله عليه وسلم كانت له عمامة سوداء[(343)].
قوله: «أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟» قالوا: نعم، شهدوا له صلى الله عليه وسلم بالبلاغ؛ يعني: بلغت أن هذا غلول، وأن هذا محرم لا يجوز.
وفيه: دليل على أن الرشوة من كبائر الذنوب، ويدل عليه الحديث الآخر: «لعن الله الراشي والمرتشي»[(344)] وفي لفظ: «والرائش»[(345)] والراشي هو الذي يدفع الرشوة، والمرتشي هو الذي يأخذ الرشوة، والرائش هو الواسطة بينهما الذي يسعى بينهما، فالثلاثة ملعونون، واللعن لا يكون إلا على كبيرة.
بِطَانَةِ الإِْمَامِ وَأَهْلِ مَشُورَتِهِ الْبِطَانَةُ الدُّخَلاَءُ
}7198{ حَدَّثَنَا أَصْبَغُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى».
وَقَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ بِهَذَا.
وَعَنْ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ وَمُوسَى، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ مِثْلَهُ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَوْلَهُ.
وَقَالَ الأَْوْزَاعِيُّ وَمُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّم: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حُسَيْنٍ وَسَعِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَوْلَهُ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَر، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم .
هذه الترجمة لبطانة الإمام وأهل مشورته، والبطانة فسرها المؤلف رحمه الله فقال: «الدُّخَلاَءُ» يعني: الدخلاء على الرؤساء مكان خلوتهم الذين يشيرون عليه ويفيضون إليهم بالأسرار ويصدقونهم فيما يخبرونهم مما يخفى من أمر الرعية ويعملون بمقتضاه، ومنه قوله تعالى: [آل عِمرَان: 118]{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} فإذا كانت البطانة بطانة خير كان ذلك خيرًا للرعية، وإن كانت بطانة شر كان ذلك شرًّا على الرعية، والمعصوم من عصم الله عز وجل.
}7198{ قوله: «مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى» هذا التقسيم لا يلزم منه أن يصغي النبي صلى الله عليه وسلم إلى بطانة الشر، ولا يعمل بقولها لوجود العصمة؛ لأن الأنبياء عصمهم الله عز وجل، أما غير الأنبياء فقد يسلمون وقد لا يسلمون.
وجاء في معنى حديث الباب حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم: «من ولي منكم عملا فأراد الله به خيرًا جعل له وزيرًا صالحًا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه»[(346)] .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن التين رحمه الله: يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين الوزيرين» وزير خير ووزير شر.
ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ويحتمل أن يكون الملك والشيطان. وقال الكرماني رحمه الله: يحتمل أن يكون المراد بالبطانتين النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة المحرضة على الخير؛ إذ لكل منهما قوة ملكية وقوة حيوانية».
والأقرب ـ والله أعلم ـ أن المراد بها بطانة من الناس مثلما جاء في الحديث: «جعل له وزيرًا صالحًا إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه» ، وإذا لم يكن فيه خير جعله وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يعنه، ولا حول ولا قوة إلا بالله تعالى، والمعصوم من عصمه الله عز وجل.
كَيْفَ يُبَايِعُ الإِْمَامُ النَّاسَ
}7199{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ، أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ.
}7200{ وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَْمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ .
}7201{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه، خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ، فَقَالَ:
«اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآْخِرَهْ
فَاغْفِرْ لِلأَْنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ»
فَأَجَابُوا:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا
عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
}7202{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا: «فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ».
}7203{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: شَهِدْتُ ابْنَ عُمَرَ حَيْثُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، قَالَ: كَتَبَ إِنِّي أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ، أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ مَا اسْتَطَعْتُ، وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ.
}7204{ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ عَنْ الشَّعْبِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِي فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ.
}7205{ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ دِينَارٍ قَالَ: لَمَّا بَايَعَ النَّاسُ عَبْدَ الْمَلِكِ كَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِاللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي أُقِرُّ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِ اللَّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، فِيمَا اسْتَطَعْتُ وَإِنَّ بَنِيَّ قَدْ أَقَرُّوا بِذَلِكَ.
}7206{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، قَالَ: قُلْتُ لِسَلَمَةَ: عَلَى أَيِّ شَيْءٍ بَايَعْتُمْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ.
}7207{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ، حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ، أَنَّ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ، أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلاَّهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأَْمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمْ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنْ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ، وَلاَ يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي، حَتَّى إِذَا كَانَتْ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ، قَالَ الْمِسْوَرُ: طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنْ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا، فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ ادْعُ لِي عَلِيًّا فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي عُثْمَانَ فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَْنْصَارِ، وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَْجْنَاد،ِ وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً، فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ فَبَايَعَهُ، عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ، الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ، وَأُمَرَاءُ الأَْجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ .
قوله: «بَاب كَيْفَ يُبَايِعُ الإِْمَامُ النَّاسَ» المراد بالكيفية هنا: الصيغ القولية لا الفعلية.
}7199{، }7200{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه وفيه البيعة على السمع والطاعة، والبيعة على الهجرة، والبيعة على الجهاد، والبيعة على الصبر، والبيعة على عدم الفرار حتى الموت، والبيعة على الإسلام، وعلى بيعة النساء، وكل هذا صفة الكيفية.
وفي الحديث البيعة على السمع والطاعة لولاة الأمور في المنشط والمكره وعدم منازعتهم الولاية والإمارة والملك، هذا هو الشاهد، والبيعة على قول الحق مع عدم الخوف في الله عز وجل لومة لائم؛ ولهذا قال: «وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ» .
والبيعة على السمع والطاعة في المنشط والمكره يعني: فيما يكرهه الإنسان وفيما يحبه، وفيما يوافقه وفيما لا يوافقه، لا ينزع يدًا من طاعة ولاة الأمور ولا يخرج عليهم، ولا يؤلب الناس عليهم ولو فعلوا المعاصي، ولو فعلوا الجور والظلم.
والسمع والطاعة لولاة الأمور مقيد بالأحاديث الأخرى بما إذا لم يأمر بمعصية؛ لحديث: «إنما الطاعة في المعروف»[(347)] ، وحديث: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»[(348)] فالنصوص يقيد بعضها بعضًا.
وعدم منازعتهم مقيد بما إذا لم يعملوا كفرًا واضحًا لحديث: «إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان»[(349)] يجوز الخروج عليه بالشروط التي جاءت في الحديث وهي :
الشرط الأول: أن يكفر كفراً صريحاً واضحاً لا لبس فيه.
الشرط الثاني: عندنا فيه من الله برهان واضح.
الشرط الثالث: عدم إقامة الصلاة.
الشرط الرابع: وجود البديل المسلم الصالح.
الشرط الخامس: وجود القدرة على إزالة الإمام الفاجر الكافر وتولية الإمام العادل الصالح.
فإذا وجدت هذه الشروط جاز الخروج عليه، وإذا لم توجد فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وهذه كلها جاءت في الأحاديث؛ فالنصوص يضم بعضها إلى بعض فيجمع بين الأدلة.
}7201{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث أنس رضي الله عنه، قال: «خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ» لما تحزب الأحزاب والكفرة وجاءوا المدينة للقضاء على الإسلام وأهله أشار سلمان رضي الله عنه على النبي صلى الله عليه وسلم أن يحفر الخندق وقال: إن هذا يفعله أهل الفرس، يحاط بالمدينة ولا يجعلون له إلا أبوابًا؛ فحفروا؛ فلما جاء الأحزاب وجدوا الخندق من كل جانب فقالوا: هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها! وكان حفر الخندق في الشتاء في أيام باردة.
فهذا الحديث يدل على عدم الفرار؛ لقولهم:
«نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا»
فهذه هي البيعة.
«عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا»
وهذا هو الشاهد.
وفيه: أنه لا بأس بترداد بعض الكلمات التي تنشط العمال على العمل مثل هذه الكلمات:
«اللَّهُمَّ إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآْخِرَهْ
فَاغْفِرْ لِلأَْنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ»
ولا يشترط أن يكون قولها جماعيًّا، لكن قد تتداخل الأصوات بعضها مع بعض، وكان الصحابة رضي الله عنهم يتقوون بمثل هذه الكلمات التي يقولها العمال وهم يعملون ومما كانوا يقولون:
إن الألى بغوا علينا
فإن أبوا فتنة أبينا
ثم مدوا أصواتهم: أبينا أبينا.
فهذه كلمات تعين وتنشط، وليست مثل الأناشيد الجماعية التي يقولها بعض الناس يلحنونها بألحان تطرب! ليست مثلها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يرفعون الصوت في وقت واحد وينزلونه في وقت واحد، إنما هي كلمات يقولونها تنشطهم، وليس لهؤلاء حجة في التي يسمونها الأناشيد الإسلامية، وإنما في الواقع هي غناء صارخ واضح فيه طرب الشيطان لما عجز عنهم من الغناء جاءهم من هذه الناحية حيث يرفعون الصوت وينزلونه بصوت مطرب، وأحيانًا يلحنون، وأحيانًا يكون لهم من يلحن، والواحد منهم يتأوه تأوهات الغناء الحقيقي.
}7202{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «كُنَّا إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا: «فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ» هذا قيد، وهو الاستطاعة؛ فتكون شروط الخروج على ولاة الأمور هي: أن يفعل كفرًا بواحًا، وأن يكون عندكم من الله عز وجل فيه برهان، ووجود الاستطاعة، ووجود البديل المسلم الذي يحل محله.
وهذا القيد ـ وهو الاستطاعة ـ ليس خاصًّا بالسمع والطاعة لولاة الأمور بل هو عام في جميع الأمور في فعل الطاعات وترك المحرمات، قال الله تعالى: [التّغَابُن: 16]{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} وقال تعالى: [آل عِمرَان: 97]{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»[(350)] وقال سبحانه: [البَقَرَة: 286]{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} وقال سبحانه: [الطّلاَق: 7]{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}.
}7203{ هذا الحديث فيه: أن ابن عمر رضي الله عنهما بايع عبدالملك بن مروان لما استتب له الأمر بعد قتل عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما اعتزل الفريقين ثم توفي بعدها في آخر عام أربعة وسبعين، وذلك لما أمَّر عبدالملك بن مروان الحجاجَ بن يوسف على الحج، وقال له: اسمع كلام ابن عمر رضي الله عنهما واقتد به؛ فجاء الحجاج إلى سرادق ابن عمر رضي الله عنهما فقال: يا أبا عبدالرحمن الرواح إلى الجمعة؛ فبين له أن السنة التبكير؛ فقال له: إن كنت تريد السنة فبكر! ثم أمر رجلاً بأن يصلي بجواره ويصيب رجله بسهم مسموم فأصابه فآلمته ثم توفي بسببها، وكان ابن عمر رضي الله عنهما لم يبايع عبدالملك في زمن الخلاف بينه وبين ابن الزبير رضي الله عنهما؛ فلما قتل عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما واجتمع الناس عليه بايعه، كما أنه لم يبايع في زمن الخلاف بين الحسن علي ومعاوية رضي الله عنهما، ثم لما اجتمع الناس على معاوية رضي الله عنه بعد مقتل الحسن علي رضي الله عنه بايعه، والمراد اجتماع الكلمة.
والشاهد قوله رضي الله عنه: «مَا اسْتَطَعْتُ» وفيه: أن السمع والطاعة لولاة الأمور بالاستطاعة.
}7204{ الشاهد من الحديث هو قوله: «فَلَقَّنَنِي فِيمَا اسْتَطَعْتُ» في أن البيعة على السمع والطاعة على حسب الاستطاعة.
بايع جرير بن عبدالله رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة لولاة الأمور وعلى النصح لكل مسلم، لكن لقنه صلى الله عليه وسلم كلمة الاستطاعة؛ يعني: حسب القدرة والاستطاعة، وهذا لقوله تعالى: [البَقَرَة: 286]{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [الطّلاَق: 7]{لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا}.
}7205{ الشاهد فيه قوله: «فِيمَا اسْتَطَعْتُ» فهذا قيد.
}7206{ لما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه يقول لقريش إنه ما جاء للقتال، إنما جاء للعمرة، احتبس المشركون عثمان رضي الله عنه وشاع بين الصحابة رضي الله عنهم أنه قد قتل؛ فبايع النبي صلى الله عليه وسلم على قتال المشركين إلى الموت؛ فلما سمعت قريش بذلك خافوا وأطلقوه.
والشاهد من هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعهم على الموت؛ أي: على عدم الفرار ولو أدى ذلك إلى الموت، وفي حديث: أنه بايعهم على ألا يفروا[(351)]، والمعنى واحد.
}7207{ هذا الحديث فيه: قصة البيعة، وذلك أن عمر رضي الله عنه لما طعن جعل الأمر شورى بين ستة وهم: علي، وعثمان، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد ابن أبي وقاص، والزبير، وطلحة رضي الله عنهم، فقال لهم عبدالرحمن رضي الله عنه معناه: نحن ستة نفر نريد أن نضيق الدائرة حتى نكون ثلاثة؛ فقال واحد: جعلت أمري إلى عثمان رضي الله عنه، وقال واحد: جعلت أمري إلى علي رضي الله عنه، وقال واحد: جعلت أمري إلى عبدالرحمن رضي الله عنه فصارت بين علي وعثمان وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهم، قال عبدالرحمن رضي الله عنه للشيخين علي وعثمان رضي الله عنهما: لست أنافسكما هذا الأمر، أنا لا أريد الخلافة، لكن إن شئتما اخترت منكما، ولن آل جهدًا ونصحًا في أن أنظر وأشاور الناس؛ فصارت البيعة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما أما عبدالرحمن رضي الله عنه فصار له الاختيار وانتخاب أحدهما فصار يشاور الناس هذه الليالي الثلاث، وقد كان عبدالرحمن رضي الله عنه يخشى من علي رضي الله عنه شيئًا؛ لأنه كان تواقًا للخلافة، ولذلك شاوره أولاً قبل عثمان رضي الله عنه حتى منتصف الليل، ثم قال للمسور رضي الله عنه: ادع لي عثمان فدعاه فناجاه سرًّا حتى فرق بينهما المؤذن للصبح، ولما صلى عبدالرحمن رضي الله عنه الصبح واجتمع الناس أرسل إلى من كان حضر من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد الذين وافقوا تلك الحجة مع عمر رضي الله عنه فاجتمع أمراء الأجناد والمهاجرون والأنصار كلهم، ثم قام عبدالرحمن رضي الله عنه خطيبًا بهم، فتشهد وحمد الله عز وجل وأثنى عليه وشهد لله عز وجل بالوحدانية ولنبيه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، ثم قال: «أَمَّا بَعْدُ» فيه: مشروعية قول: أما بعد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقولها في خطبه ورسائله.
قوله: «يَا عَلِيُّ» يخاطب عليًّا رضي الله عنه «إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ» ، يعني: كلهم مالوا إلى اختيار عثمان رضي الله عنه «فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلاً» ، ثم قال لعثمان رضي الله عنه: مد يدك فمد يده «أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ» ، فقام بقية الستة، وبايعوه، ثم قام المهاجرون وبايعوه، ثم قام الأنصار وبايعوه، ثم بايع أمراء الأمصار، ثم بايع جميع المسلمين فتمت له البيعة؛ فكان إجماعًا من دون تخلف.
وقد تخلف سعد رضي الله عنه عن بيعة أبي بكر رضي الله عنه؛ لأنه كان يطمع في الخلافة وقد ولاه الأنصار، ثم بايع بعد ذلك، لكن بيعة عثمان رضي الله عنه كانت إجماعًا من الجميع، وهذا هو الشاهد من القصة مبايعة عثمان رضي الله عنه على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة الخليفتين من بعده فتمت له البيعة.
ولهذا يقول العلماء من قدم عليًّا رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه في الخلافة فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ـ يعني: احتقر رأيهم ـ لأنهم أجمعوا إجماعًا كاملاً، وهذا إجماع من العلماء على تقديم عثمان رضي الله عنه على علي رضي الله عنه في الخلافة.
ومن قدم عليًّا رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه في الخلافة فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في «العقيدة الواسطية»[(352)] عنه: فهو أضل من حمار أهله، وقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، أما من قدم عليًّا رضي الله عنه على عثمان رضي الله عنه في الفضيلة دون الخلافة فهذا قول في مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، والجمهور على تقديم عثمان رضي الله عنه أيضًا في الفضيلة، وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه رجع عن هذه الرواية ووافق الجمهور فصار إجماعًا على أن عثمان رضي الله عنه المقدم، وأن الخلفاء الأربعة ترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة فأبو بكر رضي الله عنه أفضلهم، ثم عمر رضي الله عنه، ثم عثمان رضي الله عنه، ثم علي رضي الله عنه.
ويؤخذ من مبايعة الصحابة رضي الله عنهم وإجماعهم على بيعة عثمان رضي الله عنه بطلان قول الرافضة الذين يقولون: إن خلافة الصديق وعمر وعثمان رضي الله عنهم باطلة مخالفة للنصوص! ويقولون: عندنا نصوص بأن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الخلافة بعده لعلي رضي الله عنه ثم بعد علي الحسن رضي الله عنهما ثم الخليفة الثالث الحسين بن علي رضي الله عنهما ثم تكون للخلفاء الباقين التسعة كلهم من نسل الحسين رضي الله عنه: علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر الصادق، ثم موسى ابن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم محمد بن الحسن الذي دخل سرداب سامراء سنة ستين ومائتين ولم يخرج إلى الآن على حد زعمهم! هؤلاء الاثنا عشر خليفة الذين نص عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بزعمهم.
ولهم في ذلك شبهتان: النص المزعوم، والثانية العصمة عن الخطأ! وقالوا إن الصحابة رضي الله عنهم كفروا وارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وأخفوا النصوص التي فيها النص على أن الخليفة بعده علي رضي الله عنه ـ نسأل الله تعالى السلامة والعافية ـ وهؤلاء المذكورون كلهم ما حصل لهم شيء في زمن الخلافة إلا عليًّا رضي الله عنه والخلافة في زمنه كان فيها خلاف وحروب وقتال، ثم بعد قتل علي رضي الله عنه بويع للحسن رضي الله عنه ستة أشهر، ثم تنازل عنها لمعاوية رضي الله عنه لحقن دماء المسلمين.
ثم إن الأمر لو كان كذلك كما تدعي الرافضة وهناك نص لما جعل عمر رضي الله عنه الشورى بين الستة، وما وجه التشاور في أمر فيه بيان النبي صلى الله عليه وسلم ولو كان هناك نص ما صارت هناك مشاورة، وعلى كل حال فالرافضة ليسوا أهلاً أن يؤخذ بأقوالهم، لكن العلماء ذكروا أقوالهم لبيان بطلانها وفسادها.
وفيه من الفوائد: أن الجماعة الموثوق بديانتهم إذا عقدوا عقد الخلافة لشخص بعد التشاور والاجتهاد لم يكن لغيرهم أن يحل ذلك العقد.
ولقد استنبط بعض العلماء من كون الستة جعلوا أمرهم إلى عبدالرحمن رضي الله عنه بأن فيه دليلا على أن الوكيل المفوض له أن يوكل وإن لم ينص له على ذلك؛ فعمر رضي الله عنهجعل الأمر شورى على القوم الستة، وهؤلاء الستة وكلوا أمرهم إلى عبدالرحمن رضي الله عنه فالوكيل له أن يوكل؛ لأن الخمسة أسندوا الأمر إلى عبدالرحمن رضي الله عنه وأفردوه به فاستقل به مع أن عمر رضي الله عنه لم ينص لهم على الانفراد به.
وبعضهم استنبط من هذا أن إحداث قول زائد على ما أجمع عليه لا يجوز.
وفيه: تأخير عبدالرحمن رضي الله عنه مؤامرة عثمان رضي الله عنه عن مؤامرة علي رضي الله عنه سياسة حسنة منتزعة من تأخير يوسف عليه السلام تفتيش رحل أخيه في قصة الصاع إبعادًا للتهمة وتغطية للحادث؛ لأنه رأى ألا ينكشف اختياره لعثمان رضي الله عنه قبل وقوع البيعة؛ فعبدالرحمن رضي الله عنه شاور عليًّا أولاً مثل ما فعل يوسف عليه السلام جعل الصاع في رحل أخيه إبعادًا للتهمة؛ فلو شاور عثمان رضي الله عنه أولاً لفهم منه أنه يختاره ليكون هو الخليفة.
مَنْ بَايَعَ مَرَّتَيْنِ
}7208{ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: بَايَعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ لِي يَا سَلَمَةُ: «أَلاَ تُبَايِعُ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْتُ فِي الأَْوَّلِ، قَالَ «وَفِي الثَّانِي»
هذا الباب معقود للمبايعة مرتين؛ يعني: في حالة واحدة.
}7208{ هذا الحديث يظهر فقه الترجمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع سلمة بن الأكوع رضي الله عنه يوم الحديبية تحت الشجرة مرتين، وذلك في صلح الحديبية لما بايعوا على قتال مشركي مكة لما احتبسوا عثمان رضي الله عنه حين أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إليهم بايعوه على الموت وبايعوه على عدم الفرار.
قال العلماء: إنما بايع النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن الأكوع صلى الله عليه وسلم مرتين تأكيدًا لعلمه بشجاعته وشهرته في الثبات وغَنائه في الإسلام، وهذا فيه فضيلة له، أو لأنه تفرس فيه ذلك فبايعه مرتين إشارة إلى أنه سيقوم في الحرب مقام رجلين، على كل حال فهذا فيه منقبة لسلمة رضي الله عنه.
وقد عرفت قوته وشجاعته رضي الله عنه لما أغار المشركون على سرح النبي صلى الله عليه وسلم واستلبوا النوق فجعل يصيح بهم ويلحقهم ويرميهم فظنوا أن وراءه أحدًا فصار يلحقهم حتى صاروا يلقون أمتعتهم، وكانوا كلما لحقهم ألقوا شيئًا فاستنقذ الإبل منهم وأخذ شيئًا من أمتعتهم التي ألقوها، وهذه شجاعة نادرة.
وقد أخذ بعضهم فائدة من مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم لسلمة مرتين أن إعادة لفظ العقد في النكاح لا يعتبر فسخًا للعقد الأول؛ لأن بعض الفقهاء قال: إن إعادة لفظ العقد في النكاح يعتبر فسخًا للعقد الأول، وهذا ليس بصحيح، والصواب الذي عليه الجمهور أن إعادة لفظ العقد في النكاح لا يعتبر فسخًا، والقول بأنه فسخ قول ضعيف.
بَيْعَةِ الأَْعْرَابِ
}7209{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما، أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِْسْلاَم،ِ فَأَصَابَهُ وَعْكٌ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى، فَخَرَجَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا».
هذه الترجمة على بيعة الأعراب؛ يعني: بيعتهم على الابتلاء والجهاد.
}7209{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع أعرابيًّا على الإسلام فأصاب الأعرابي وعك ـ يعني حمى ـ فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم «فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي» ، يعني: ليخر ج من المدينة، ما كان عنده صبر وما تمكن الإيمان في قلبه «فَأَبَى» النبي صلى الله عليه وسلم «ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي فَأَبَى، فَخَرَجَ» ، يعني: الأعرابي «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ» وهو النار التي يحمى بها الذهب وغيره، «تَنْفِي خَبَثَهَا» ؛ وهذا من الخبث الذي نفته المدينة، وهو نفي تدريجي؛ لأنه بقي في المدينة منافقون ويهود وهم خبث، والنفي الكامل للمدينة يكون عند خروج الدجال؛ فإذا خرج الدجال فإنه لا يدخل المدينة ولا مكة، لكن يأتي بالسبخة وينعق ثلاث نعقات فيخرج من المدينة كل خبيث وخبيثة وكل منافق ومنافقة ولا يبقى إلا المؤمنون؛ فهذا نفي كامل في زمن الدجال، أما نفي هذا الأعرابي فهو نفي جزئي.
وفيه: أن من استقال من البيعة على الإسلام لا يقال؛ لأن إقالته وسيلة إلى تركه الإسلام، ولا يعان أحد على ترك الإسلام.
قوله: «وَيَنْصَعُ طِيبُهَا» ينصع بفتح المثناة التحتية وفتح الصاد وطيبها يكون فاعلاً أو تنصع بضم المثناة من فوق وكسر الصاد وطيبها مفعول به.
وهذا الأعرابي كان يريد أن يرجع أعرابيًّا بعد أن هاجر وقد وقع الوعيد على من رجع أعرابيًّا بعد هجرته وأنه من كبائر الذنوب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن التين رحمه الله: إنما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من إقالته؛ لأنه لا يعين على معصية؛ لأن البيعة في أول الأمر كانت على ألا يخرج من المدينة إلا بإذن فخروجه عصيان، قال: وكانت الهجرة للمدينة فرضًا قبل فتح مكة، على كل من أسلم، ومن لم يهاجر لم يكن بينه وبين المؤمنين موالاة؛ لقوله تعالى: [الأنفَال: 72]{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} فلما فتحت مكة قال صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح»[(353)] ففي هذا إشعار بأن مبايعة الأعرابي المذكور كانت قبل الفتح، وقال ابن المنير رحمه الله: ظاهر الحديث ذم من خرج من المدينة، وهو مشكل فقد خرج منها جمع كثير من الصحابة ي وسكنوا غيرها من البلاد وكذا من بعدهم من الفضلاء، والجواب أن المذموم من خرج عنها كراهة فيها ورغبة عنها كما فعل الأعرابي المذكور، وأما المشار إليهم فإنما خرجوا لمقاصد صحيحة كنشر العلم وفتح بلاد الشرك والمرابطة في الثغور وجهاد الأعداء وهم مع ذلك على اعتقاد فضل المدينة وفضل سكناها».
وهذا واضح فالأعرابي كان يريد أن يترك الإسلام، أما الصحابة ي فخرجوا لنشر الإسلام.
بَيْعَةِ الصَّغِيرِ
}7210{ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ هُوَ ابْنُ أَبِي أَيُّوبَ، قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هُوَ صَغِيرٌ» فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ، وَكَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ.
هذه الترجمة في بيعة الصغير هل يبايعه الإمام وهو صغير دون البلوغ؟ وهل تشرع مبايعة الصغير؟
}7210{ بين المؤلف رحمه الله في هذا الحديث الذي ساقه أن بيعة الصغير لا تنعقد، ولهذا لما جيء بعبدالله بن هشام «وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هُوَ صَغِيرٌ»» ، فدل على عدم انعقاد بيعة الصغير، «فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ» لأجل البركة.
وفيه: دليل على صحبته؛ لأن الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا ومات على الإسلام ولو كان صغيرًا فثبتت له الصحبة لكن لم تثبت له البيعة؛ لأنه كان صغيرًا لم يبلغ.
قوله: «وَكَانَ يُضَحِّي بِالشَّاةِ الْوَاحِدَةِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ» ليبين المؤلف رحمه الله أنه كبر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا له عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم زمانًا ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له.
وفيه: دليل على أن الشاة تجزئ عن الرجل وأهل بيته، ولا ينبغي المغالاة.
قال أبو أيوب: كان الرجل يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، ولو أشرك فيها أمواتًا وأحياء أجزأه ذلك.
والأضحية مشروعة للمسافر والمقيم، ومشروعة للرجال والنساء، وقال بعض أهل العلم: لا تجزئ أضحية الرجل عن نفسه وأهل بيته، والصواب خلاف هذا وأنها تجزئ عن الرجل وأهل بيته.
ولا ينبغي المغالاة في هذا فبعض الناس يغالي فيذبح عددًا من الأضاحي عن كل فرد أضحية! وبعضهم يغالي فتكون أجرة البيت الذي أوصي أن يكون للأضحية ثمنًا مرتفعًا مثلا خمسة آلاف فيشتري بها كلها أضحية؛ فهذا من المغالاة.
مَنْ بَايَعَ ثُمَّ اسْتَقَالَ الْبَيْعَةَ
}7211{ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الإِْسْلاَمِ، فَأَصَابَ الأَْعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى الأَْعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى فَخَرَجَ الأَْعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا».
هذه الترجمة في استقالة البيعة وأن من استقال البيعة على الإسلام فلا تقال بيعته؛ لأن إقالته وسيلة لتركه الإسلام، ولا يعان أحد على تركه للإسلام، وذكر فيها قصة الأعرابي ـ وسبق في الباب الذي قبل هذا الباب ـ حينما استقال يريد أن يرجع أعرابيًّا وكونه يرتد أعرابيًّا بعد أن كان مهاجرًا ـ وهو من كبائر الذنوب ـ يكون قد تعرب يخرج إلى البادية والصحراء ويترك الجمعة والجماعة.
}7211{ قوله: «فَأَصَابَ الأَْعْرَابِيَّ وَعْكٌ» يعني: حمى بالمدينة فاستوخمها ولم يصبر؛ لأنه لم يثبت الإيمان في قلبه، فهو كما قال الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي: على طرف، [الحَجّ: 11]{فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ *}.
قوله: «أَقِلْنِي بَيْعَتِي» ، أي: افسخ بيعتي، أريد أن أرجع إلى أهلي، وأترك المدينة، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءه مرة ثانية وثالثة وقال مثل مقالته الأولى، فأبى عليه النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن إقالته وسيلة إلى تركه للإسلام، ولا يعان أحد على ترك الإسلام، فخرج الأعرابي في المرة الثالثة، وترك المدينة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا» ، والكير هو النار الذي يحمى فيه الحديد والذهب حتى يتبين صفاؤه، وهذا الأعرابي من الخبث الذي نفته المدينة، ونفي المدينة للخبث نفي جزئي؛ لأنه بقي في المدينة منافقون ويهود وهؤلاء خبث، والنفي الكامل لخبث المدينة يكون في آخر الزمان إذا خرج الدجال، فإنه يدخل كل بلد إلا مكة والمدينة، ولكنه إذا جاء إلى قرب المدينة فينزل بالسبخة كما جاء في الحديث: «فترجف المدينة ثلاث رجفات فيخرج إلى الدجال كل كافر وخبيث ومنافق»[(354)] ولا يبقى في المدينة إلا الطيب ففي ذلك الوقت تنفي الخبث نفيًا كاملاً.