مَنْ بَايَعَ رَجُلاً لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِلدُّنْيَا
}7212{ حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَاهُ، إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلاَّ لَمْ يَفِ لَهُ، وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ، فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا».
هذه الترجمة في بيان الوعيد على من بايع إمامًا أو أميرًا لأجل الدنيا؛ لأنه ينبغي أن تكون مبايعة الأمراء والخلفاء لأجل الدين؛ لأن الإمام يقيم الله به الدين وتؤمن به السبل وترد الحقوق إلى أهلها وينتصف للمظلوم من الظالم، فهذا هو المقصود من البيعة، ولهذا فإن البيعة واجبة، فيجب على الأمة أن تقيم إمامًا للمسلمين لأجل إقامة أمور الدين، فالمبايعة طاعة لله، والذي يبايع الإمام لأجل الدنيا لا يقصد طاعة الله.
}7212{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ، وهذا يدل على أن كل واحد من هؤلاء الثلاثة ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب، حيث توعد عليه بالعذاب وعدم التكليم، أي: لا يكلمهم الله كلام رضا، وقد يكلمهم كلام سخط، كما قال الله لأهل النار: [المؤمنون: 108]{قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ *}، فهذا كلام سخط وغضب.
وقوله: «وَلاَ يُزَكِّيهِمْ» يعني: لا يطهرهم من الذنوب.
وهؤلاء الثلاثة المذكورون في الحديث ليس المراد بهم ثلاثة أشخاص بأعيانهم، ولكن المراد ثلاثة أصناف من الناس:
الأول: «رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ السَّبِيلِ» يعني: عنده ماء فاضل عن حاجته في بئر مثلاً، أو حوض، أو عنده غدير في برية، فيمنع منه المحتاج وابن السبيل ـ وهو الغريب أو المسافر في الطريق، وسمي ابن السبيل لملازمته لها ـ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاثة...»[(355)] وذكر منها الماء، فالإنسان إذا كان له ماء فهو أولى به؛ يأخذ منه حاجته، لكن إذا أخذ حاجته وفضلَ فضلٌ فلا يمنعه غيره، فإن هذا يدل على الشح والاستئثار، ومن يفعل هذا عليه الوعيد الشديد وهو مرتكب لكبيرة.
الثاني: «وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لاَ يُبَايِعُهُ إِلاَّ لِدُنْيَاهُ، إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ وَإِلاَّ لَمْ يَفِ لَهُ» ، أي: بايع إمامًا للمسلمين لا لأجل مصلحة المسلمين، من استتباب الأمن وتأمين السبل، ورد الحقوق إلى أهلها، والانتصاف للمظلوم من الظالم، بل من أجل الدنيا، وهذا عليه الوعيد الشديد؛ لأنه غاش لإمام المسلمين ويلزم منه غش الرعية.
الثالث: «وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ أُعْطِيَ بِهَا كَذَا وَكَذَا فَصَدَّقَهُ، فَأَخَذَهَا وَلَمْ يُعْطَ بِهَا» ، أي: رجل باع سلعة من السلع بعد صلاة العصر، فحلف بالله: إني اشتريتها بمائة فصدَّقه، وهو كذاب ولم يشترها إلا بثمانين، فأخذها بمائة، فهذا عليه الوعيد الشديد؛ لكونه ختم نهاره بالحلف الكاذب، ووقت بعد العصر وقت شريف تجتمع فيه ملائكة النهار وملائكة الليل، فكون هذا الشخص يختم نهاره بهذه الجريمة يدل على ضعف إيمانه ونقصه.
والشاهد في هذا الحديث الوعيد على من نكث البيعة وخرج على الإمام؛ لما فيه من تفريق الكلمة، قال سبحانه: [الفَتْح: 10]{فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا *}.
وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله أنه جاء في حديث آخر: «ورجل حلف على يمين كاذبة بعد العصر؛ ليقتطع بها مال امرئ مسلم»[(356)] وجاء في حديث آخر: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئًا إلا من به، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب، والمسبل إزاره»[(357)] فجاء ما يقرب من عشرة أشخاص كلهم توعدوا بالوعيد.
ونقل رحمه الله عن الخطابي: «خص وقت العصر بتعظيم الإثم وإن كانت اليمين الفاجرة محرمة في كل وقت؛ لأن الله عظم شأن هذا الوقت بأن جعل الملائكة تجتمع فيه، وهو وقت ختام الأعمال، والأمور بخواتيمها، فغلظت العقوبة فيه لئلا يقدم عليه تجرؤا؛ لأن من تجرأ عليه فيه اعتاده في غيره، وكان السلف يحلفون بعد العصر».
والأصل في مبايعة الإمام المبايعة على أن يعمل بالحق ويقيم الحدود، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلا يبايع على هذه الدنيا، وكما سبق أن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه لما بايع عثمان رضي الله عنه، قال: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده، فمن جعل مبايعته لمال يعطاه دون ملاحظة المقصود في الأصل فقد خسر خسرانًا مبينًا، ودخل في الوعيد.
وفيه: أن كل عمل لا يقصد به وجه الله وأريد به عرض الدنيا، فهو فاسد وصاحبه آثم.
بَيْعَةِ النِّسَاءِ
رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
}7213{ حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، ح.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ يَقُولُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي مَجْلِسٍ: «تُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا وَلاَ تَزْنُوا وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ» فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.
}7214{ حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلاَمِ، بِهَذِهِ الآْيَةِ [المُمتَحنَة: 12]{أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} قَالَتْ: وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ إِلاَّ امْرَأَةً يَمْلِكُهَا.
}7215{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَايَعْنَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْنَا {أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتْ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا فَقَالَتْ: فُلاَنَةُ أَسْعَدَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَذَهَبَتْ ثُمَّ رَجَعَتْ، فَمَا وَفَتْ امْرَأَةٌ إِلاَّ أُمُّ سُلَيْمٍ وَأُمُّ الْعَلاَءِ، وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ أَوْ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ.
}7213{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم بايعهم على ستة أشياء وهي:
* أن لا يشركوا بالله شيئًا.
* البعد عن السرقة.
* البعد عن الزنا.
* البعد عن قتل الأولاد.
* ترك الإتيان ببهتان.
* عدم المعصية في معروف.
وهذه الأشياء الستة التي بايع عليها النبي صلى الله عليه وسلم الرجال هي التي بايع عليها النساء في قوله تعالى في سورة الممتحنة: [المُمتَحنَة: 12]{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ}.
قوله: «فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ» ، أي: من التزم بالبيعة ولم يفعل شيئًا من المحرمات فأجره على الله.
قوله: «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ» فيه: دليل على أن إقامة الحد كفارة، والله تعالى أكرم من أن يجمع على عبده عقوبتين، عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة، فإذا أقيم عليه الحد فهو طهرة له، وإذا تاب أيضًا ولم يقم عليه الحد فالتوبة طهارة.
قوله: «وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ» ، أي: إذا لم يقم عليه الحد، ولم يتب فهذا أمره إلى الله، فالأحوال أربعة:
الحال الأولى: الوفاء بالبيعة، فهذا يجد أجره موفورًا عند الله.
الحال الثانية: أن لا يفي بالبيعة، لكن يعاقب ويقام عليه الحد، أو يصاب بمصائب فيكون كفارة له.
الحال الثالثة: ألا يفي ولا يقام عليه الحد، ولكن يتوب فهو كفارة له.
الحال الرابعة: ألا يفي ولا يتوب ولا يعاقب، فهذا أمره إلى الله، إن شاء الله عفا عنه ودخل الجنة من أول وهلة، وإن شاء عذبه في النار أو في القبر، كما قال الله تعالى: [النِّسَاء: 48]{إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
}7214{ قوله: «كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلاَمِ، بِهَذِهِ الآْيَةِ» ، وهي آية الممتحنة، فتأتي النساء وتقام أمام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يبايعهن على ألا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن.
قوله: «وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدَ امْرَأَةٍ إِلاَّ امْرَأَةً يَمْلِكُهَا» ، يعني: يبايعهن بالكلام،؛ لأنهن أجنبيات، أما الرجال فكانت البيعة بالمصافحة، وفي الحديث الآخر قالت عائشة: والله ما مست يد النبي صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط، إنما كان يبايعهن بالكلام[(358)].
وفيه: أن مبايعة النساء بالكلام من دون مس يد.
وفيه: أنه لا يجوز مصافحة المرأة الأجنبية ولا مس جسدها، وقال بعضهم: المصافحة أشد من النظر لما فيها من الفتنة، ولا يمس جسدها إلا للضرورة؛ والضرورات تقدر بقدرها، كأن ينقذها من غرق فيضطر إلى أن يلمس جسدها أو ينقذها من نار أو للعلاج في حالة ما إذا لم توجد طبيبة، أو غير ذلك من الضرورات.
والسلام على الأجنبية يكون أيضًا بالكلام فقط من دون مصافحة، لكن بشرط ألا يكون هناك خلوة ولا ريبة ولا خضوع بالقول.
وقال بعض العلماء: وصوت المرأة الأجنبية عورة، والصواب أنه ليس بعورة؛ لأنه ما زالت الصحابيات والنساء يسألن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما الممنوع هو الخضوع بالقول، فإذا رخمت القول طمع من في قلبه مرض، وإنما تتكلم كلامًا عاديًّا.
وبعض الجهلاء قد يأمر زوجته بمصافحة الأجانب وهي لا تريد المصافحة، ولا شك أن من يفعل هذا قليل الديانة، وأنصح من ابتليت بزوج كهذا أن تصبر على دينها، وعليها أن تنظر من ينصحه ويبين له أنه لا يجوز للمرأة أن تصافح الرجل الأجنبي، وإذا أصر على ذلك فلا خير فيه، لعل الله أن يعوضها خيرًا منه.
}7215{ قوله: «وَنَهَانَا عَنْ النِّيَاحَةِ» ، والنياحة: رفع الصوت بالبكاء على الميت.
قوله: «فُلاَنَةُ أَسْعَدَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا» ، يعني: تساعدها، وكانوا في الجاهلية إذا مات ميت لإحداهن تأتي الصديقات والجيران يبكين معها بكاءً مصطنعًا، وهذه تسمى مساعدة، فلما نهى صلى الله عليه وسلم عن النياحة، قبضت امرأة وقالت: يا رسول الله فلانة بكت معي وأريد أن أبكي معها، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فراحت وبكت معها، ثم رجعت.
قوله: «فَمَا وَفَتْ امْرَأَةٌ إِلاَّ أُمُّ سُلَيْمٍ وَأُمُّ الْعَلاَءِ، وَابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ امْرَأَةُ مُعَاذٍ أَوْ ابْنَةُ أَبِي سَبْرَةَ وَامْرَأَةُ مُعَاذٍ» ، المعنى أن أم عطية رضي الله عنها بينت أن أكثر النساء ما وفين، ولم يف منهن إلا أربع نساء.
مَنْ نَكَثَ بَيْعَةً
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: [الفَتْح: 10]{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا *}.
}7216{ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا قَالَ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: بَايِعْنِي عَلَى الإِْسْلاَمِ، فَبَايَعَهُ عَلَى الإِْسْلاَمِ، ثُمَّ جَاءَ الْغَدَ مَحْمُومًا، فَقَالَ: أَقِلْنِي فَأَبَى فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا».
هذه الترجمة في نكث البيعة يعني: نقضها، وذكر فيها آية سورة الفتح: « [الفَتْح: 18]{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا *}.
وقوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ}» ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المبلغ عن الله، وبايعهم بأمر الله، فمن بايع النبي صلى الله عليه وسلم فقد بايع الله، كما أن من أطاع النبي صلى الله عليه وسلم قد أطاع الله، قال تعالى: [النِّسَاء: 80]{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}.
وفي الآية من الفوائد:
1- إثبات اليد لله عز وجل، ففي ذلك: الرد على المعتزلة والأشاعرة الذين أنكروا اليد لله وأنها يد حقيقية.
2- إثبات الفوقية والعلو لله سبحانه.
3- إثبات المعية الخاصة.
4- الوعيد الشديد على نكث العهد وهو الشاهد من الترجمة.
5- فضل من وفى بالبيعة وأن أجره على الله، ونكَّر الأجر لبيان عظمه وأنه غير محدد ولا يعلم قدره إلا الله، ثم وصفه أيضًا بالعظم، فقال: [الفَتْح: 10]{فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا *}.
}7216{ كرر المؤلف رحمه الله حديث جابر رضي الله عنه، وهو حديث الأعرابي السابق لاستنباط الأحكام.
قوله: «مَحْمُومًا» أي: مصابًا بالحمى، قوله: «فَقَالَ: أَقِلْنِي» ، يعني: أريد أن أفسخ بيعتي، فأبى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أنه قال ذلك ثلاث مرات، ثم ولى وخرج من المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا» ، وسبق أن فيه وجهين تَنصَع وتُنصِع بضم المثناة الفوقية وفتحها، ونصب طيبها فيكون الطيب مفعولاً، أو ضمها فيكون الطيب فاعلاً.
وفيه: الوعيد على من نكث الصفقة والبيعة، وورد الوعيد على من نكث البيعة، وهو حديث ابن عمر أنه قال: لا أعلم غدرًا أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله ثم ينصب له القتال، وجاء مرفوعًا بلفظ: «من أعطى بيعة ثم نكثها، لقي الله وليس معه يمينه» . أخرجه الطبراني[(359)] بسند جيد، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «الصلاة كفارة إلا من ثلاث: الشرك بالله ونكث الصفقة وترك السنة»[(360)] والمؤمن قوي الإيمان يصبر في الرخاء والشدة، في السراء والضراء، أما ضعيف الإيمان فإنما يصبر في السراء ولا يصبر في الضراء، قال تعالى: [الحَجّ: 11]{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} يعني: ارتد عن الإيمان.
الاِسْتِخْلاَفِ
}7217{ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: وَارَأْسَاهْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ذَاكِ لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ، وَأَدْعُو لَكِ » فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلِيَاهْ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ، فَأَعْهَدَ أَنْ يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ، ثُمَّ قُلْتُ يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ».
}7218{ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قِيلَ لِعُمَرَ: أَلاَ تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: رَاغِبٌ رَاهِبٌ وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا لاَ لِي وَلاَ عَلَيَّ، لاَ أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَلاَ مَيِّتًا.
}7219{ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الآْخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَتَشَهَّدَ وَأَبُو بَكْرٍ صَامِتٌ لاَ يَتَكَلَّمُ، قَالَ: كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَدْبُرَنَا، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ آخِرَهُمْ، فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم قَدْ مَاتَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ، هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَانِيَ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ، فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لأَِبِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ: اصْعَدْ الْمِنْبَرَ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ فَبَايَعَهُ النَّاسُ عَامَّةً.
}7220{ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فِي شَيْءٍ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ؟ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ: إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ.
}7221{ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ لِوَفْدِ بُزَاخَةَ: تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الإِْبِلِ حَتَّى يُرِيَ اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ.
}7222{، }7223{ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا» فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا فَقَالَ أَبِي: إِنَّهُ قَالَ: «كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ».
هذا الباب في بيان حكم الاستخلاف، وهو تعيين الخليفة بعد موته وليًّا للعهد بعده، ولم يجزم المؤلف بالحكم.
}7217{ قوله: «لَوْ كَانَ وَأَنَا حَيٌّ فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ، وَأَدْعُو لَكِ » فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَاثُكْلِيَاهْ» ، وفي بعض الأحيان يقال: واثكل أماه، قالت: «وَاللَّهِ إِنِّي لَأَظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِي، وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلَلْتَ آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ» ، يعني: لو مت تتزوج في الحال وتنساني، وهذا من المداعبة بين الزوجين، فهي رضي الله عنها أحب أزواجه إليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَلْ أَنَا وَارَأْسَاهْ» ، في هذا الحديث من الفوائد جواز قول: وارأساه، وابطناه، واظهراه، وأن هذا ليس من الشكوى، بل من الإخبار بالمرض، ولذلك أقر النبي صلى الله عليه وسلم عائشة على قولها وقال كما قالت.
وفيه: الرد على الصوفية القائلين بأن أنين المريض شكوى، وهذا يروى عن الإمام أحمد أنه كان يئن فقيل له: إن الأنين من الشكوى فلم يئن، فهذا يحتاج إلى ثبوت، فكون الإنسان يُسأل عن حاله فيخبر الطبيب أو يخبر أهله أو أصدقاءه بقوله: أحس بكذا وكذا، فهذا ليس من الشكوى لكنه من الإخبار.
قوله: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَوْ أَرَدْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَابْنِهِ، فَأَعْهَدَ» ، يعني: أُعين القائم بالأمر بعدي، أي: الخليفة بعده، وهذا هو الذي فهمه البخاري، وإن كان العهد أعم من ذلك.
فالحديث فيه: دليل على جواز الاستخلاف؛ لأن النبي لا يهم إلا بأمر جائز.
قوله: «يَقُولَ الْقَائِلُونَ أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ» ، يعني: يقول القائلون بغير ذلك، أو يتمنى المتمنون هناك من تكون له رغبة في غير أبي بكر، ثم ترك ذلك إلى قضاء الله وقدره وانتخاب المسلمين، ثم قال: «يَأْبَى اللَّهُ وَيَدْفَعُ الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى الْمُؤْمِنُونَ» ، وفي اللفظ الآخر أنه قال: يأبى المؤمنون إلا أبا بكر[(361)].
}7218{ ثم ذكر المؤلف رحمه الله حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنه، قال: «قِيلَ لِعُمَرَ: أَلاَ تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ، وهذا دليل على أنه يجوز للخليفة أن يستخلف وليًّا للعهد بعده، ويجوز أن يترك، أما دليل الاستخلاف فيؤخذ من عزمه صلى الله عليه وسلم الذي حكته عائشة، وهو لا يعزم إلا على أمر جائز، وقد فهم أبوبكر رضي الله عنه من عزمه الجواز، ولهذا استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنهما واتفق الناس على قبوله، ورجح عمر الترك؛ لأنه الذي وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: رَاغِبٌ رَاهِبٌ» ، قال ابن بطال: يحتمل أمرين؛ أحدهما: أن الذين أثنوا عليه إما راغب في حسن رأيي فيه وتقربي إليه، وإما راهب من إظهار ما يضمره من كراهته، أو المعنى راغب فيما عندي وراهب مني، أو المراد الناس راغب في الخلافة وراهب منها، فإن وليت الراغب فيها خشيت ألا يعان عليها، وإن وليت الراهب خشيت ألا يقوم بها»، وهذه كلها أقوال ولهذا ترك الناس إلى الستة، ثم قال: «وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا لاَ لِي وَلاَ عَلَيَّ، لاَ أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَلاَ مَيِّتًا» ، وهذا من ورع عمر رضي الله عنه مع سيرته العادلة وجهاده وصحبته الطويلة للنبي صلى الله عليه وسلم، فودَّ أن يحصل على الكفاف وترك الأمر شورى بين الستة المعروفين، وهم: الزبير وطلحة وسعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وعثمان وعلي رضي الله عنهم.
$ر مسألة: هل ما فعله أبو بكر رضي الله عنه من الاستخلاف أولى أو ما فعله عمر رضي الله عنه؟
_خ الجواب: ما فعله أبو بكر رضي الله عنه من عهده إلى واحد بعده أولى من ترك الشورى لستة؛ لما فيه من جمع الكلمة.
وفي الحديث: دليل أن على خلافة أبي بكررضي الله عنه ثبتت بالانتخاب والاختيار، لا بالنص، ومن أدلة هذا: قول عمر رضي الله عنه.
القول الثاني: أنها ثبتت بالنص، والذين قالوا بالنص اختلفوا، فمنهم من قال: بالنص الجلي، ومنهم من قال: بالنص الخفي، واستدلوا بأدلة منها:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم قدَّم أبا بكر ليؤم الناس في مرض موته[(362)].
2- حديث المنام، الدلو الذي دلي من السماء وأخذه بعرقيها صلى الله عليه وسلم ثم أخذ بعرقيها أبو بكر[(363)].
3- حديث المرأة التي جاءت، وقالت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن لم أجدك قال صلى الله عليه وسلم: «فائتي أبا بكر»[(364)] .
4- قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً»[(365)] .
لكن الواقع أن هذه ليست صريحة، والصواب : أن خلافة أبي بكر إنما ثبتت بالاختيار والانتخاب من أهل الحل والعقد، وأما هذه الأمور التي ذكروها فهي مرشدة، ترشد الناس وتدلهم على اختيار أبي بكر، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله.
}7219{ قوله: «كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَدْبُرَنَا» ، بفتح الأول وسكون الدال، فيه: دليل على أن خلافة الصديق رضي الله عنه إنما ثبتت ببيعة الناس لا بالنص؛ لأن عمر رضي الله عنه جلس على المنبر في اليوم الثاني من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب الناس بين يدي أبي بكر، فقال: كنت أظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يتأخر وأن نموت قبله، لكن الواقع أن النبي صلى الله عليه وسلم مات قبلنا.
قوله: «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ، هَدَى اللَّهُ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم» ، هو القرآن والسنة، أي: الوحي.
قوله: «وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ» يعني: بايع هو والأنصار في سقيفة بني ساعدة، ثم جاء اليوم الثاني فبايعه بيعة عامة على المنبر.
وقد استدل المؤلف على أن الخلافة ثبتت لأبي بكر بمبايعة الناس له لا بنص من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقول عمر: «فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ» ، ولقوله: «فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ» ، ولذكر عمر أعظم الفضائل التي استحق بها أن يكون خليفة، وهي قوله: «ثَانِيَ اثْنَيْنِ» ، هذه الأدلة تدل على أن الخلافة ثبتت بالاختيار والانتخاب، وهو الصواب.
وقيل: ثبتت بالنص، والذين قالوا بهذا استدلوا بأدلة متعددة، منها: إمامة الصلاة، ومنها الميزان الذي دلي من السماء.
}7220{ قوله: «إِنْ لَمْ تَجِدِينِي فَأْتِي أَبَا بَكْرٍ» ، استدل به من قال: إن خلافة الصديق ثبتت بالنص، والصواب: أنه ليس نصًّا، لكن فيه إرشاد إلى مبايعة أبي بكر، كما دل عليه الحديث: «يأبى الله ويدفع المؤمنون أو يدفع الله ويأبى المؤمنون»[(366)] هذه وكالة في قضاء الحوائج، وقد يوكل في قضاء الحوائج من لا يصلح للخلافة، كما وكل النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا لما هاجر أن ينام في فراشه ويرد الودائع.
}7221{ قوله: «عَنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه قَالَ» ، أي: أنه قال، ولفظة أنه يحذفونها كثيرًا من الخط اختصارًا.
قوله: «خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم» ، أي: الذي خلفه، فقام بالأمر بعده لما بايعه الناس خليفة.
قال العيني رحمه الله: «قال النووي رحمه الله وغيره أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف»، فإذا استخلف الإمام السابق ثبتت له البيعة، وأنه يجب على المسلمين أن يقيموا خليفة، وألا يترك أمر الناس، قال الشاعر:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم
ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهم سادوا
فإذًا إقامة الخليفة فرض على الأمة، ولهذا يقول العلماء: ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام، فالبيعة تثبت بثلاثة أمور:
الأمر الأول: مبايعة أهل الحل والعقد.
الأمر الثاني: بالاستخلاف لولاة العهد بالعهد السابق من الخليفة.
الأمر الثالث: بالقوة والغلبة، فإذا غلب بقوته وسلطانه واستتب له الأمر وجب السمع له والطاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «اسمع وأطع وإن تأمر عليك عبد حبشي كأن رأسه زبيبة»[(367)] .
وأجمعوا على أن وجوبه بالشرع لا بالعقل، وخالف بعضهم فقال: يجب بالعقل لا بالشرع، وهم المعتزلة قالوا: إن الخلافة تجب بالعقل لا بالشرع.
ومن الأدلة على أن أبا بكر كانت خلافته بالمبايعة أن عمر ذكر فضائله، قال: هو صاحبه في الغار ثاني اثنين، ولو كان هناك نص لذكره في هذا الوقت، ففي سقيفة بني ساعدة بعد أن اجتمع الأنصار وقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فجاء أبوبكر وعمر وأبو عبيدة، قال أبوبكر: رضيت لكم أحد اثنين إما عمر وإما أبا عبيدة، وجاء عمر يذكر فضائل الصديق، وقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «هذا الأمر لا يكون إلا في قريش»[(368)] أي: الخلافة، فلو كان هناك نص لذكره عمر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «عن طارق بن شهاب قال جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية، فقالوا: هذه المجلية قد عرفناها فما المخزية؟ قال: ننزع منكم الحلقة والكراع ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما أصبتم منا وتدون لنا قتلانا ويكون قتلاكم في النار وتتركون أقوامًا يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة رسوله والمهاجرين أمرًا يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم، فقام عمر فقال: قد رأيت رأيا وسنشير عليك أما ما ذكرت فذكر الحكمين الأولين قال: فنعم ما ذكرت وأما تدون قتلانا ويكون قتلاكم في النار فإن قتلانا قاتلت على أمر الله وأجورها على الله، ليست لها ديات، قال: فتتابع القوم على ما قال عمر. قال الحميدي: اختصره البخاري فذكر طرفًا منه وهو قوله لهم: تتبعون أذناب الإبل».
}7222{، }7223{ حديث جابر بن سمرة: «يَكُونُ اثْنَا عَشَرَ أَمِيرًا» ، وفي صحيح مسلم: «لا يزال أمر الناس ماضيًا ما وليهم اثنا عشر خليفة»[(369)] وهؤلاء الاثنا عشر على الأرجح هم الذين اجتمع عليهم الناس، وكان الإسلام في زمنهم عزيزًا منيعًا، والصواب أن هؤلاء متوالون وهم: الخلفاء الراشدون الأربعة ـ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ـ والخامس معاوية رضي الله عنهم والسادس ابنه يزيد والسابع مروان بن الحكم وأبناؤه الأربعة الوليد بن عبدالملك وسليمان بن عبدالملك وهشام بن عبدالملك ويزيد بن عبدالملك، وبينهم عمر بن عبدالعزيز، فهم اثنا عشر خليفة يكون الإسلام في زمنهم عزيزًا منيعًا ولا يزال أمر الناس ماضيًا، أما عبدالله بن الزبير رضي الله عنهما فلم يجتمع الناس عليه، وأما الحسن بن علي رضي الله عنهما فولايته تابعة لولاية أبيه.
القول الثاني: ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله أن الأظهر أنهم غير متوالين، وأن المهدي منهم في آخر الزمان.
والصواب : أنهم متوالون، والواقع يؤيد هذا، وأما قول: إن المهدي منهم فهذا بعيد؛ لأن المهدي لا يخرج إلا في آخر الزمان، وفي زمانه يخرج الدجال، ويحصل اختلاف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يزال أمر الناس ماضيًا» ، وأين المضي وقد حصل اختلاف قبل المهدي في سنوات خداعة؟!
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال عن المهلب: لم ألق أحدًا يقطع في هذا الحديث بمعنى، وقوم يقولون: يكونون متوالين إمارتهم. وقوم يقولون: يكونون في زمن واحد كلهم من قريش يدعي الإمارة، والذي يغلب على الظن أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن حتى يفترق الناس في وقت واحد على اثني عشر أميرًا قال: ولو أراد غير هذا -كأنه أنذر بشرط من الشروط وبعضه يقع- لقال: يكون اثنا عشر أميرًا يفعلون كذا ويصنعون كذا، فلما أعراهم من الخبر علمنا أنه أراد يكونون فى زمن واحد». وقد أشار الحافظ ابن حجر رحمه الله إلى ما ذكره القاضي عياض أنه يتوجه على هذا سؤالان:
السؤال الأول: أنه يعارض ظاهر قوله في حديث سفينة: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكًا»[(370)] لأن ثلاثين سنة لم يكن فيها إلا الخلفاء الأربعة وأيام الحسن.
السؤال الثاني: أنه ولي الخلافة أكثر من هذا العدد. قالوا: والجواب عن الأول أن المراد في حديث سفينة خلافة على النبوة، وقد قيل: إنهم يكونون في زمان واحد ويفترق الناس عليهم، وعلى كل حال فالأقوال في هذا كثيرة، والصواب ما مرَّ.
وفي هذا الحديث: الرد على الرافضة الذي يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على اثني عشر خليفة، وأن الخليفة الأول بعده علي رضي الله عنه ثم الحسن ثم الحسين بن علي، ثم الباقي من سلالة الحسين حتى آخرهم، فقد دخل أحدهم سرداب سامراء، وقالوا: إن هؤلاء هم المعصومون، وإن الصحابة ارتدوا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخفوا النصوص التي فيها أن الخلافة بعده لعلي - نسأل الله العافية - لكن الرافضة لا عبرة بكلامهم؛ لأنهم ليسوا مسلمين.
فالرافضة يعتقدون أن عليا رضي الله عنه هو الخليفة الأول، ثم الحسن رضي الله عنه الخليفة الثاني، ثم الحسين رضي الله عنه الخليفة الثالث، ثم الباقي كلهم من نسل الحسين: علي بن الحسين زين العابدين، ثم محمد بن علي الباقر، ثم جعفر بن محمد الصادق، ثم موسى بن جعفر الكاظم، ثم علي بن موسى الرضا، ثم محمد بن علي الجواد، ثم علي بن محمد الهادي، ثم الحسن بن علي العسكري، ثم المهدي المنتظر الذي دخل سرداب سامراء محمد بن الحسن سنة ستين ومائتين ولم يخرج إلى الآن، وشيخ الإسلام يقول: «دخل السرداب من أكثر من أربعمائة سنة، ولا يعرف له عين ولا أثر ولا يدرك له حس ولا خبر»[(371)]، ونحن نقول: مضى عليه ألف ومائتا سنة ولم يخرج، لأنه شخص موهوم لا حقيقة له؛ لأن أباه الحسن بن علي العسكري مات عقيمًا، ولكنهم اختلقوا له ولدًا وأدخلوه السرداب، وهم يقولون: إنه دخل السرداب بعد موت أبيه، وعمره إما سنتان، وإما ثلاث، وإما خمس، وإما نحو ذلك، ومثل هذا بنص القرآن يتيم يجب أن يحفظ له ماله حتى يؤنس منه الرشد، ويحضنه من يستحق حضانته من أقربائه، فإذا صار له سبع سنين أمر بالطهارة، والصلاة، فمن لا توضأ، ولا صلى، وهو تحت حجر وليه في نفسه، وماله بنص القرآن لو كان موجودا يشهده العيان لما جاز أن يكون هو إمام أهل الإيمان، فكيف إذا كان معدوما، أو مفقودا مع طول هذه الغيبة؟![(372)]، والمرأة إذا تأخر زوجها وطالت غيبته فإنها تفسخ منه لرفع الضرر عنها، فكيف بالأمة كلها تكون معلقة بخروج شخص موهوم، فهذا من جهلهم وخرافاتهم.
إِخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ مِنْ الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ
وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ.
}7224{ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ».
هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لإخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت بعد المعرفة، وهذا يكون من قبل ولاة الأمور، فولي الأمر كأمير البلدة أو المحتسب أو القاضي يشرع له إخراج أهل الريب من البيوت بعد معرفة ذلك والتحقق منه.
قال: «وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ أُخْتَ أَبِي بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ» ؛ لأن النياحة من المعاصي، ومن كبائر الذنوب، وفي الحديث: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب»[(373)] وإخراج عمر أخت أبي بكر حين ناحت من باب التعزير والتأديب لهم.
وإخراج أهل الريب من البيوت أدلته كثيرة، من ذلك:
1- إخراج المخنثين، والمخنث هو الذي يشبه المرأة في خلقته وحركاته، ولا حاجة له في النساء، فقد ذكر مخنثًا كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فلما وصف النساء بما يدل على ميله للنساء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإخراجه، وقال: «لا يدخل هؤلاء عليكم»[(374)] .
2- إخراج المتهمين.
3- تغريب الزاني عامًا، فكل هذا من باب التعزير والتأديب.
}7224{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث أبي هريرة في همه صلى الله عليه وسلم بإحراق بيوت من يتخلف عن الصلاة.
قوله: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ» فيه: إثبات اليد لله عز وجل، والمراد باليد هنا جنس اليد، وقد جاء في القرآن الكريم إثبات اليدين لله، وأن لله سبحانه يدين كريمتين، قال سبحانه: [المَائدة: 64]{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}، وقال: [ص: 75]{خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}، ومعلوم أن نفوس العباد كلها بيد الله، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقسم بهذا القسم، وأكَّد ذلك لبيان الأهمية، وإلا فهو الصادق صلى الله عليه وسلم وإن لم يقسم.
قوله: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ» فيه: دليل على أن التخلف عن الجماعة معصية كبيرة، ولذلك همَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يحرق بيوت المتخلفين عن الصلاة، وفي رواية عند أحمد: «لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقتها عليهم»[(375)] ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ» ، والعرق هو اللحم المختلط بالعظم، والمرماتان فسَّرها المؤلف قال: «مرماة ما بين ظلف الشاة من اللحم» وقيل: ما بين الأضلاع من اللحم، والمعنى أنه لو يجد أحدهم شيئًا من حطام الدنيا لشهد العشاء ولكنه يزهد فيما عند الله.
جاء في بعض نخ صحيح البخاري قوله: «قال محمد بن يوسف» ، هذا هو الفربري راوي الصحيح عن البخاري، «قال أبو عبدالله» ، أي: البخاري.
ومناسبة الحديث للترجمة أن المتخلفين عن الصلاة إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم أراد تحريقهم خرجوا من البيوت.
وفيه: إخراج أهل المعاصي والريب من البيوت.
هَلْ لِلإِْمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُجْرِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ
مِنْ الْكَلاَمِ مَعَهُ وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ
}7225{ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ مِنْ بَنِيهِ حِينَ عَمِيَ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَهُ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا.
هذه الترجمة في هجر العصاة، قال: «بَاب هَلْ لِلإِْمَامِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُجْرِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ مِنْ الْكَلاَمِ مَعَهُ وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ» ، يعني: يهجر ويمنع المجرمين والعصاة من أن يكلموه أو يزوره.
}7225{ ذكر المؤلف رحمه الله حديث كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة تخلفه عن غزوة تبوك.
قوله: «وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا» ، وهذا هو موضع الشاهد، قال: «فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا» ، يعني: أعلم الناس لما أنزل الله توبتهم في قوله: [التّوبَة: 118]{وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}، فالنبي صلى الله عليه وسلم هجر كعب بن مالك وصاحبيه هلال بن أمية ومرارة بن الربيع رضي الله عنهم خمسين ليلة، وهذا الهجر على حسب المصلحة كما ذهب إلى ذلك المحققون من أهل العلم، فإن كان الهجر يرتدع به العاصي عن معصيته وجريمته فإنه يُهجر، أما إن كان الهجر يزيده شرًّا فلا يُهجر، بل يجب الاستمرار في نصيحته؛ ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم هجر الثلاثة خمسين ليلة ولم يهجر عبدالله بن أبي والمنافقين؛ لأن بعض الناس إذا هجرته يزيد شره لا يبالي، أما إذا كان الهجر يمنعه من الجريمة فهذا الهجر يجعله يفكر في نفسه ويتوب ويترك المعصية، فهذا مشروع فيهجر العاصي ولا يكلم ولا يرد عليه السلام، ولا تجاب دعوته حتى يتوب إلى الله، وهذا الهجر إذا كان هجرًا لأجل الدين فيكون حتى يتوب، وليس له حد محدد، أما إذا كان هجرًا من أجل الدنيا وحظوظ النفس فهذا لا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»[(376)] فأباح النبي صلى الله عليه وسلم الهجر من أجل الدنيا ثلاثة أيام؛ لأن النفس قد يحدث عندها بعض الكدر، فأبيح لها يوم ويومان وثلاثة، ولا يجوز أكثر من ثلاثة أيام.