المتن:
(2) كِتَاب الإِْيمَان
الإيمَان وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ.
وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4] وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] وَقَوْلُهُ: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31] وَقَوْلُهُ: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة: 124] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران: 173] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]
الشرح:
افتتح المصنف رحمه الله ـ وهو الإمام البخاري ـ كتابه «الصحيح» -كما ذكرنا- بكتاب بدء الوحي؛ وذلك لأن الوحي هو الذي حصل به الخير لهذه الأمة ولنبيها محمد ﷺ؛ فنبئ محمد ﷺ وأرسل نبيًّا خاتمًا، وشرع الله هذه الشريعة العظيمة؛ فختم بها الشرائع، وأخرج الله برسوله من شاء من الظلمات إلى النور.
ثم ثنى المصنف رحمه الله بكتاب الإيمان؛ وذلك لأن الإيمان هو الأساس والقاعدة التي تبنى عليها الأعمال؛ فلا عمل إلا بالنية، ولا عمل إلا بالإيمان، ولأن أعظم ما جاء به الوحي هو الإيمان بالله ورسوله.
والإيمان أصله التصديق والاعتراف والإقرار بالقلب، ثم تتبعه أعمال القلوب وأعمال الجوارح؛ ولهذا قال المؤلف رحمه الله: «وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ» ، وهذا هو الصواب الذي دلت عليه النصوص؛ فإن الذي قرره جمهور أهل السنة أن الإيمان قول وعمل فقول القلب هو التصديق والإقرار والاعتراف، وقول اللسان وهو الذكر وتلاوة القرآن وغير ذلك، وعمل القلب كالنية والإخلاص والمحبة والصدق والتوكل والرهبة والرغبة وغيرها، وعمل الجوارح كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيرها.
والمؤلف رحمه الله عدد أبوابًا ـ كما سيأتي ـ لبيان ما دلت عليه النصوص من أن الإيمان لابد فيه من الأقوال والأعمال؛ فلا يتحقق الإيمان إلا بالأقوال والأعمال كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة التي سيعددها المؤلف رحمه الله، وكما قرر ذلك جمهور أهل السنة خلافًا للمرجئة؛ فإن المرجئة يرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وهذا غلط منهم بقسميهم: مرجئة الفقهاء وهم الإمام أبو حنيفة وأهل الكوفة، والمرجئة المحضة وهم الجهمية ومن تبعهم.
وكلٌّ من قسمي المرجئة لا يرون أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وإن كان مرجئة الفقهاء وطائفة من أهل السنة يقولون: إن الأعمال مطلوبة ولكنها ليست من الإيمان؛ فهي واجب وهو واجب آخر؛ فالإنسان عليه واجبان: واجب الإيمان وواجب العمل.
أما المرجئة المحضة وهم الجهمية ومن تبعهم، وهم يرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان وليست مطلوبة، وهذا من أبطل الباطل.
وقال جمهور أهل السنة: الأعمال واجبة، وهي من الإيمان، وهذا هو الصواب؛ فالعمل جزء لابد منه في الإيمان، فالإيمان مكون من أمور أربعة:
1- قول القلب.
2- قول اللسان.
3- عمل القلب.
4- عمل الجوارح.
والمؤلف رحمه الله مع جمهور أهل السنة في أن الأعمال داخلة في الإيمان؛ فإنه عدد أمور الإيمان واستدل بالأدلة في التراجم الآتية الكثيرة على ذلك؛ ولهذا قال المصنف رحمه الله: «وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ» ، والفعل هو العمل؛ فالإيمان قول وعمل.
قوله: «بَاب الايمَان وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ.
المصنف ـ كما سيأتي ـ يرى أن الإسلام هو الإيمان، أي أن الإسلام والإيمان مترادفان، وهو قول لبعض أهل السنة، والصواب أن الإسلام والإيمان إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر؛ فإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا أطلق الإيمان دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل، وهذا الذي قرره جمهور أهل السنة.
والآيات التي سردها المؤلف رحمه الله كلها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4] وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] وَقَوْلُهُ: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31] وَقَوْلُهُ: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة: 124] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران: 173] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]، والإيمان هدى؛ فإن الإيمان هو البر وهو الإسلام وهو الهدى وهو التقوى، وهو يزيد بالطاعات، وإذا كان يزيد بالطاعات فإنه ينقص بالمعاصي؛ فإن كل شيء يزيد فهو ينقص، خلافًا للمرجئة الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد هو التصديق لا يزيد ولا ينقص؛ والصواب أنه يزيد وينقص؛ لأنه متعدد أقوال وأعمال، تزيد وتنقص.
كما أن النفاق والكفر أيضًا يزيد وينقص؛ قال تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التّوبَة: 125]؛ فالإيمان يزيد وينقص، والكفر يزيد وينقص.
المتن:
وَالحُبُّ فِي اللَّهِ وَالبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنَ الإِيمَانِ
وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى عَدِيِّ بْنِ عَدِيٍّ: «إِنَّ لِلْإِيمَانِ فَرَائِضَ، وَشَرَائِعَ، وَحُدُودًا، وَسُنَنًا، فَمَنِ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإِيمَانَ، فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ حَتَّى تَعْمَلُوا بِهَا، وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ»
الشرح:
قوله: «وَالْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ مِنْ الإِْيمَانِ».
الحب في الله والبغض في الله من أعمال القلوب، وأعمال القلوب من الإيمان؛ فدل ذلك على أن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان.
وقد قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله فيما أرسل إلى عدي بن عدي -كما ذكره المصنف: «إِنَّ لِلإِْيمَانِ فَرَائِضَ وَشَرَائِعَ وَحُدُودًا وَسُنَنًا» ؛ فرائض أي واجبات، وهي عبادات ومعاملات وعقائد ومنهيات.
قوله: «فَمَنْ اسْتَكْمَلَهَا اسْتَكْمَلَ الإِْيمَانَ» ؛ فالإيمان يزيد فيستكمل، وينقص فلا يستكمل، فإذا فعل الإنسان الفرائض واعتقد ما يجب وترك المنهيات زاد إيمانه ـ أي استكمل الإيمان ـ وإن نقص منها شيئًا بأن فعل المنهيات والمعاصي أو انتقص شيئًا من الواجبات لم يستكمل الإيمان ـ أي نقص إيمانه.
وقوله: «فَإِنْ أَعِشْ فَسَأُبَيِّنُهَا لَكُمْ» ، أي: سأبين هذه الفرائض والواجبات.
قوله: «وَإِنْ أَمُتْ فَمَا أَنَا عَلَى صُحْبَتِكُمْ بِحَرِيصٍ» لأنه خاف ألا يستطيع تغيير الأوضاع؛ وهو يريد أن يغيرها.
المتن:
الشرح:
ومن النصوص الدالة على زيادة الإيمان ونقصانه سؤال إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [البَقَرَة: 260].
أي: أمره أن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن، ويجعل كل قطعة على جبل، ثم يناديهن بعد ذلك، وقال بعض المفسرين: جعل رءوسها في يده -أي رءوس هذه الطيور الأربعة- وجعل يناديها فتأتيه عند الجبل؛ فيركب الرأس على الجسد، فإذا لم يكن الرأس للجسد امتنع، وإذا كان للجسد ركب، وشاهد بعينه كيف يحيي الله الموتى.
وأما قوله ﷺ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ. [(73)] فسيأتي البحث فيه، والصواب أن المعنى أنه سمى الدرجة التي بين علم اليقين وعين اليقين[(74)] شكًّا، وليست شكًّا حقيقةً فإبراهيم لم يشك، ونبينا ﷺ لم يشك، وقال بعضهم: إن المعنى: أنا لم أشك وإبراهيم لم يشك، ولكن لو شك فأنا أولى بالشك، لكن الصواب هو ما ذكرناه؛ لأنه يريد أن يرتقي إلى درجة أعلى، فإبراهيم سأل ربه أن ينتقل من مرتبة علم اليقين إلى مرتبة عين اليقين، فسمى النبي ﷺ ما بينهما شكًّا للانتقال من هذه إلى هذه، وهي ليست شكًّا؛ لكن درجة عين اليقين أقوى من درجة علم اليقين.
المتن:
الشرح:
قول معاذ : «اجْلِسْ بِنَا نُؤْمِنْ سَاعَةً» أي: نذكر الله وندعوه ونتفكر في آلاء الله فيزداد إيماننا؛ فدل على أن الإيمان يزيد وينقص.
المتن:
الشرح:
اليقين هو التصديق الجازم، وهو الإيمان كله؛ لأن من كان عنده تصديق جازم وإرادة جازمة فإنه لابد أن يعمل، فإذا عمل حصل على الإيمان كله، فاليقين الصادق هو الإيمان كله؛ لأنه يحمل صاحبه على العمل، ولا يُترك العمل إلا لنقص في اليقين، فإذا قوي يقينه فلابد أن يعمل، إلا إذا كان هناك مانع.
المتن:
الشرح:
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لاَ يَبْلُغُ الْعَبْدُ حَقِيقَةَ التَّقْوَى حَتَّى يَدَعَ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ» أي: أن العبد لا يبلغ حقيقة التقوى حتى يترك ما يشك فيه ويتردد فيه، ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه حذرًا من الوقوع في المحرم؛ فالشيء المشتبه الذي لا يدرى حلال هو أم حرام فمن التقوى أن يُترك.