فالإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وكرهت أن يطلع عليه الناس، ولا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما حاك في صدره؛ أي يرتاب فيه ولا يرتاح إليه ولا إلى فعله؛ لكونه يخشى أن يكون من المحرمات؛ فيترك الإنسان ما لا بأس به حذرًا مما به بأس، وهذا من أوصاف المتقين وأوصاف السابقين والمقربين؛ فالسابقون المقربون يؤدون الفرائض ويفعلون المستحبات ويتركون المحرمات والمكروهات ويتركون فضول المباحات خوفًا من الوقوع في الشبهات؛ فمن كان بهذه المثابة فإنه يبلغ حقيقة التقوى؛ لأن هذا الورع يحمله على أداء الفرائض والابتعاد عن المحرمات وترك المكروهات وترك ما يشك فيه أيضًا؛ وهو تاركٌ الحرام الواضح بقياس الأولى.
فالسابقون المقربون هم أعلى طبقة من طبقات المتقين؛ فهم يؤدون الفرائض وينتهون عن المحارم ويزيدون عنهم نشاطًا، ومن نشاطهم أنهم يؤدون النوافل زيادة على الفرائض، ومن نشاطهم أنهم يتركون المكروهات أيضًا ويتركون فضول المباحات؛ فلا يتوسعون في المباحات خوفًا من أن يصلوا إلى المكروهات.
أما الأبرار وأصحاب اليمين فإنهم يؤدون الفرائض وينتهون عن المحارم لكن ليس لهم نشاط في فعل المستحبات، وقد يفعلون المكروهات، وقد يتوسعون في المباحات.
وهناك مرتبة ثالثة، وهم الظالمون لأنفسهم الذين يخلون ببعض الواجبات ويقعون في بعض المحرمات، فهؤلاء من المؤمنين لكن على خطر من دخول النار وعلى خطر من الأهوال التي تصيبهم يوم القيامة، وعلى خطر من عذاب القبر، ومصيرهم إلى الجنة.
والأصناف الثلاثة في الجنة، ولكن الصنفين الأولين يدخلون الجنة من أول وهلة، والصنف الثالث ـ وهم الظالمون لأنفسهم ـ على خطر؛ قال الله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أْسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ [فَاطِر: 32-33].
وما ذكره المصنف في الباب يدل على أن الأعمال من الإيمان؛ لأن التقوى هي الإيمان؛ فالتقوى والإيمان والبر والإسلام والهدى كلها بمعنى واحد؛ فتشمل أمور الدين كلها إذا أطلقت، فالذي يبلغ حقيقة التقوى هو الذى يؤدي ما أوجب الله عليه وينتهي عما حرم الله، وهو بذلك يؤدي أمور الإيمان كلها فيترك الأشياء التي يشك فيها خوفًا من الوقوع في الحرام.
المتن:
الشرح:
قوله: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَرَعَ لَكُمْ [الشّورى: 13] أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا» يعني: بـ «وَإِيَّاهُ» نوحًا عليه الصلاة والسلام، و «دِينًا وَاحِدًا» تفسير لقوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ:» وصل هذا التعليق عبد بن حميد في تفسيره، والمراد أن الذي تظاهرت عليه الأدلة من الكتاب والسنة هو شرع الأنبياء كلهم.
تنبيه:
قال شيخ الإسلام البلقيني: وقع في أصل الصحيح في جميع الروايات في أثر مجاهد هذا تصحيف قل من تعرض لبيانه، وذلك أن لفظه: «وَقَالَ مُجَاهِدٌ: شَرَعَ لَكُمْ [الشّورى: 13] أَوْصَيْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ وَإِيَّاهُ دِينًا وَاحِدًا» والصواب: أوصاك يا محمد وأنبياءه».
يعني: نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى، وهذا كلام البلقيني، ولكن يمكن توجيه ما جاء في الرواية بأنه يقصد: شرع لك وإياه؛ يعني نوحًا، والأنبياء تبع له.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله بعد ذلك: «كذا أخرجه عبد بن حميد والفريابي والطبري وابن المنذر في تفاسيرهم، وبه يستقيم الكلام، وكيف يفرد مجاهد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة انتهى.
ولا مانع من الإفراد في التفسير، وإن كان لفظ الآية بالجمع على إرادة المخاطب والباقون تبع، وإفراد الضمير لا يمتنع؛ لأن نوحًا أُفرد في الآية، فلم يتعين التصحيف، وغاية ما ذكر من مجيء التفاسير بخلاف لفظه أن يكون مذكورًا عند المصنف بالمعنى. والله أعلم.
وقد استدل الشافعي، وأحمد، وغيرهما، على أن الأعمال تدخل في الإيمان بهذه الآية وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ إلى قوله: دِينُ الْقَيِّمَةِ [البَيّنَة: 5]؛ قال الشافعي: ليس عليهم أحج من هذه الآية. أخرجه الخلال في كتاب السنة[(75)]».
وذلك لأن قوله تعالى: وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البَيّنَة: 5]؛ سماه دينًا، فالدين يجمع الأعمال والاعتقاد، وإذا أطلق الدين أو الإيمان أو الإسلام أو البر أو الهدى فكلها بمعنى واحد يشمل الاعتقاد وأقوال القلب وأقوال اللسان وأعمال الجوارح وأعمال القلوب.
وقال العيني: «قوله: «وَإِيَّاهُ» ؛ يعني نوحًا ؛ أي هذا الذي تظاهرت عليه أدلة الكتاب والسنة من زيادة الإيمان ونقصانه، هو شرع الأنبياء عليهم السلام الذين قَبْل نبينا كما هو شرع نبينا؛ لأن الله قال: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى [الشّورى: 13]، ويقال: جاء نوح بتحريم الحرام وتحليل الحلال، وهو أول من جاء من الأنبياء بتحريم الأمهات والبنات والأخوات، ونوح أول نبي جاء بعد إدريس»[(76)].
قيل إن إدريس هو خانوخ، وهو جد نوح؛ والقول الثاني أن إدريس من أولاد نوح وأن نوحًا هو الأب الثاني بعد آدم عليه الصلاة والسلام.
قال العيني: «وقد قيل: إن الذي وقع في أثر مجاهد تصحيف، والصواب: أوصيناك يا محمد وأنبياءه، وكيف يقول مجاهد بإفراد الضمير لنوح وحده مع أن في السياق ذكر جماعة.
قلت: ليس بتصحيف؛ بل هو صحيح، ونوح أفرد في الآية وبقية الأنبياء عطفت عليه، وهم داخلون فيما وصى به نوحًا، وكلهم مشتركون في هذه الوصية؛ فذكر واحد منهم يغني عن الكل على أن نوحًا أقرب المذكورين، وهو أولى بعود الضمير إليه، فافهم».
وهذا عين تعليق الحافظ على كلام البلقيني.
المتن:
الشرح:
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا سَبِيلاً وَسُنَّةً» أي: أنه قد جاء في تفسير ابن عباس لقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المَائدة: 48] أنه السبيل والسنة، وهذا لف ونشر غير مرتب؛ فالأصل في «سَبِيلاً وَسُنَّةً» أن يقول: سنة وسبيلاً؛ لأن السبيل هو المنهاج والشرعة هي السنة.
قوله: «دُعَاؤُكُمْ إِيمَانُكُمْ» جاء في بعض روايات البخاري بعد قول ابن عباس السابق: «باب دعاؤكم إيمانكم» ، وهو خطأ، والصواب: أنه تابع لكلام ابن عباس، وقد نبه على ذلك جمع من الشراح؛ فلعل كلمة «باب» خطأ من بعض النساخ.
وأراد ابن عباس تفسير الدعاء بالإيمان في قول الله تعالى في آخر سورة الفرقان: قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا [الفُرقان: 77] أي: لولا إيمانكم؛ فالدعاء سواء أكان دعاء عبادة أو دعاء مسألة، فهو من الإيمان، وإذا كان من الإيمان صح أن الإيمان قول وعمل، فأراد هنا المصنف أن يستدل من قول ابن عباس على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.
المتن:
الشرح:
8 قوله: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ، هذا الحديث تابع لترجمة الباب؛ لأن أول الترجمة «بَاب الايمَان وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: بُنِيَ الإِْسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ.
وقوله: عَلَى خَمْسٍ، يعني: على خمس دعائم أو خمسة أركان:
أصلها وأساسها: الشهادة لله بالوحدانية وأن تؤمن برسالته ﷺ؛ فهذا هو أساس الدين وأساس الملة، أي شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
ثم الركن الثاني: إقام الصلاة.
ثم الركن الثالث: الزكاة.
ثم الركن الرابع: حج بيت الله الحرام.
ثم الركن الخامس: صوم رمضان.
فالإسلام بني على هذه الخمس، وهذه الخمس من الإسلام، والإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان؛ فهذه الخمس من الإسلام ومن الإيمان؛ فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.
والبخاري يرى أن الإسلام والإيمان شيء واحد وأنهما مترادفان، وعلى هذا فتكون هذه الخمس من الإسلام ومن الإيمان؛ لأن الإسلام هو الإيمان والإيمان هو الإسلام؛ فتكون الأعمال داخلة في مسمى الإيمان؛ حيث إن النبي ﷺ أخبر أن الإسلام مبني على خمسة أعمال؛ أصلها وأساسها اعتقاد شهادة ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصوم، ثم الحج.
وفيه: الرد على المرجئة الذين يقولون إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان.
وقد جاء الحديث في بعض رواياته بتقديم الصوم على الحج.
ويقول زين الدين بن رجب رحمه الله عن رأي جمهور أهل السنة: «وأكثر العلماء قالوا: هو قول وعمل، وهذا كله إجماع من السلف وعلماء أهل الحديث، وقد حكى الشافعي إجماع الصحابة والتابعين عليه، وحكى أبو ثور الإجماع عليه أيضًا».
أقول: هذا هو إجماع أكثر السلف [(77)] وأكثر أهل السنة، خلافًا لمرجئة الفقهاء من الأحناف ـ وأول من قال بالإرجاء حماد بن أبي سليمان شيخ الإمام أبي حنيفة[(78)] ـ قالوا: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان وإن كانت الأعمال مطلوبة.
وهذا خطأ له آثار تترتب عليه، وبعض العلماء كشارح «الطحاوية» يقول: «إنه خلاف لفظي»[(79)]، والحاصل أنه خلاف لفظي من جهة ولا يترتب عليه فساد في الاعتقاد، لكنه معنوي من جهة أخرى وله آثار تترتب عليه؛ لأن المرجئة خالفوا الكتاب والسنة في اللفظ وإن كانوا وافقوهما في المعنى، والواجب على المسلم أن يتأدب مع النصوص فلا يخالفها لا في اللفظ ولا في المعنى.
ثم إن مرجئة الفقهاء فتحوا بابًا للمرجئة المحضة الذين هم الجهمية، حتى قالوا: الأعمال ليست مطلوبة أصلا.
وكذلك فتحوا بابًا للفساق والعصاة، فالفاسق الذي يعمل الكبائر يقول: أنا مؤمن كامل الإيمان، إيماني كإيمان أبي بكر وعمر؛ لأن التصديق واحد، والأعمال ليست من الإيمان.
ومن ذلك: مسألة الاستثناء في الإيمان، وهي قول الإنسان: أنا مؤمن إن شاء الله، فمرجئة الفقهاء يمنعون هذا؛ لأنك تعلم من نفسك أنك مصدق فلا تشك في إيمانك، وقالوا: من قال: أنا مؤمن إن شاء الله شك في إيمانه، ويسمون من يستثني: الشكاك.
كما أن الإيمان عندهم شيء واحد وهو التصديق فلا يشك فيه بالاستثناء.
وفصَّل الجمهور في المسألة، فقالوا: إن قصد الإنسان حينما يقول: أنا مؤمن إن شاء الله الشك في أصل إيمانه فإنه ممنوع، وأما إذا لم يقصد الشك وقصد أنه لا يزكي نفسه وأن شعب الإيمان كثيرة متعددة وأنه لا يجزم أنه أدى ما عليه فلا بأس أن يستثني، وكذلك إذا أراد تعليق الأمر بمشيئة الله والتبرك بذكر اسم الله أو أراد عدم علمه مع عدم الشك في أصل إيمانه فلا بأس من الاستثناء.
قال ابن رجب: «وقال الأوزاعي: كان من مضى ممن سلف لا يفرقون بين الإيمان والعمل، وحكاه غير واحد من سلف العلماء عن أهل السنة والجماعة، وممن حكى ذلك عن أهل السنة والجماعة: الفضيل بن عياض ووكيع بن الجراح، وممن روي عنه أن الإيمان قول وعمل: الحسن وسعيد بن جبير وعمر بن عبدالعزيز وعطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والنخعي والزهري، وهو قول الثوري والأوزاعي وابن المبارك ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وغيرهم؛ حتى قال كثير منهم: إن الرقبة المؤمنة لا تجزئ في الكفارة حتى يؤخذ منها الإقرار وهو الصلاة والصيام، منهم: الشعبي، والنخعي، وأحمد في رواية.
وخالف في ذلك طوائف من علماء أهل الكوفة والبصرة وغيرهم، وأخرجوا الأعمال من الإيمان، وقالوا: الإيمان المعرفة مع القول».
وهؤلاء كما قلنا يسمون مرجئة الفقهاء، وهم طوائف من أهل الكوفة والبصرة.
ومقصدهم بـ«المعرفة مع القول»: التصديق بالقلب مع الإقرار باللسان فقط، وهذا هو المشهور عن الإمام أبي حنيفة[(80)].
والرواية الثانية عن الإمام أبي حنيفة: أن الإيمان هو التصديق فقط، والقول ركن زائد ليس من الإيمان لكنه مطلوب.
واصطلح العلماء على تسميتهم مرجئة الفقهاء، من الإرجاء وـ هو التأخير ـ لأنهم يرجئون الأعمال ويؤخرونها فلا يدخلونها في مسمى الإيمان فالإرجاء في اللغة: التأخير، ومنه قوله تعالى: وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَِمْرِ اللَّهِ[التّوبَة: 106].
وأما المرجئة المحضة أو الجهمية فيقولون: الأعمال ليست مطلوبة، ويكفي في الإيمان المعرفة.
فالجهم بن صفوان يقول: الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب فقط، ويقول: لا يضر مع الإيمان معصية، ولو فعل الإنسان جميع المنكرات كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
ومن العلماء من كَفَّرهم، بل قد ذكر ابن القيم أنه قد كَفَّر الجهميةَ خمسمائة عالم، والجهمية هم الذين ينكرون الأسماء والصفات.
والجهم ـ قبحه الله ـ زعيم المرجئة ونفاة الصفات اشتهر بأربع عقائد:
أ- عقيدة نفي الصفات: فنفى عن الله الأسماء والصفات.
ب- عقيدة الإرجاء: وهو القول بأن الأعمال ليست من الإيمان وليست مطلوبة.
ج- عقيدة الجبر: وهو القول بأن العبد مجبور على أعماله، وليس له اختيار ولا إرادة، كالريشة في الهواء تقلبها الرياح.
د- القول بفناء الجنة والنار: فيقول: إن الجنة والنار تفنيان يوم القيامة.
قال ابن القيم رحمه الله عن الجهمية[(81)]:
وَلَقَدْ تَقَلَّدَ كُفْرَهُمْ خَمْسُونَ في | عَشْرٍ مِنَ العُلَمَاءِ في البُلْدَانِ |
أي: خمسون في عشرة فيكونون خمسمائة.
قال ابن رجب: «وحدث بعدهم من يقول: الإيمان المعرفة خاصة».
نقول: هذه المرجئة المحضة كما بيَّنا فيما سبق- يقولون: الإيمان المعرفة خاصة، أي إذا عرفت ربك بقلبك فهذا هو الإيمان.
وهذا من أبطل الباطل؛ لأن إبليس يعرف ربه بقلبه، فعلى مذهبهم يكون إبليس مؤمنًا؛ لأن الله أخبر عنه: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحِجر: 36] فأخبر أنه عرف ربه.
وعلى مذهبهم يكون فرعون مؤمنًا؛ قال الله تعالى عن فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النَّمل: 14]، فهو مستيقن في الباطن فيكون مؤمنًا على رأي الجهم، وهذا من أبطل الباطل.
يقول ابن رجب: «ومن يقول: الإيمان القول خاصة».
وهذا مذهب الكَرَّامية، وهو من أفسد الأقوال؛ فإنهم يقولون: إن الإيمان هو مجرد النطق باللسان، فمن نطق كلمة التوحيد بلسانه فهو مؤمن ولو كان كافرًا في الباطن، فالمنافقون مؤمنون كاملو الإيمان عندهم. وهم مخلدون في النار؟!
والحاصل أن الكرامية يقولون: الإيمان مجرد القول، والجهم يقول: الإيمان مجرد المعرفة بالقلب، ومرجئة الفقهاء يقولون: الإيمان هو التصديق والأعمال مطلوبة لكن ليست من الإيمان.
والذي عليه أهل السنة أن الإيمان يشمل أمورًا أربعة: تصديق القلب وإقراره، وعمل القلب، وقول اللسان، وعمل الجوارح.
قال ابن رجب: «ثم قال البخاري رحمه الله: «وَهُوَ قَوْلٌ وَفِعْلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح: 4] وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى [مريم: 76] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ [محمد: 17] وَقَوْلُهُ: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31] وَقَوْلُهُ: أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة: 124] وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا [آل عمران: 173] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا [الأحزاب: 22]»، زيادة الإيمان ونقصانه قول جمهور العلماء، وقد روي هذا الكلام عن طائفة من الصحابة كأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم من الصحابة، وروي معناه عن علي وابن مسعود أيضًا، وعن مجاهد وغيره من التابعين، وتوقف بعضهم في نقصه، فقال: يزيد، ولا يقال: ينقص. وروي ذلك عن مالك، والمشهور عنه كقول الجماعة».
قول الجمهور: إن الإيمان يزيد وينقص وهو الصواب، وروي عن الإمام مالك رحمه الله أنه توقف في نقصانه، والمشهور عن الإمام مالك أنه وافق الجمهور، والرواية المخالفة لرأيهم ضعيفة.
قال: «وعن ابن المبارك قال: الإيمان يتفاضل[(82)]، وهو معنى الزيادة والنقص. وقد تلا البخاري الآيات التي فيها ذكر زيادة الإيمان. وقد استدل بها على زيادة الإيمان أئمة السلف قديمًا، منهم: عطاء بن أبي رباح فمن بعده، وتلا البخاري أيضًا الآيات التي ذكر فيها زيادة الهدى، فإن المراد بالهدى هنا فعل الطاعات كما قال تعالى بعد وصف المتقين بالإيمان بالغيب وإقام الصلاة والإنفاق مما رزقهم وبالإيمان بما أنزل إلى محمد وإلى من قبله باليقين بالآخرة: أُولَئِكَ عَلَى هُدَىً مِنْ رَبِّهِمْ [البَقَرَة: 5]، فسمى ذلك كله هدى، فمن زادت طاعته فقد زاد هداه.
ولما كان الإيمان يدخل فيه المعرفة بالقلب والقول والعمل كله كانت زيادته بزيادة الأعمال ونقصانه بنقصانها.
وقد صرح بذلك كثير من السلف فقالوا: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية[(83)].
فأما زيادة الإيمان بزيادة القول ونقصانه بنقصانه فهو كالعمل بالجوارح أيضًا، فإن من زاد ذكره لله وتلاوته لكتابه زاد إيمانه، ومن ترك الذكر الواجب بلسانه نقص إيمانه.
وأما المعرفة بالقلب: فهل تزيد وتنقص؟ على قولين: أحدهما: أنها لا تزيد ولا تنقص.
قال يعقوب بن بختان: سألت أبا عبدالله ـ يعني أحمد بن حنبل ـ عن المعرفة والقول: يزيد وينقص؟ قال: لا، قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل».
والصواب: أن التصديق يزيد وينقص، والمعرفة تزيد وتنقص، فتصديق الأنبياء ليس كتصديق غيرهم.
ومعنى قول الإمام أحمد: قد جئنا بالقول والمعرفة وبقي العمل أي: جئنا بقول القلب وتصديقه وبقي العمل.
قال ابن رجب: «ومراده بالقول: التلفظ بالشهادتين خاصة، وهذا قول طوائف من الفقهاء والمتكلمين، والقول الثاني: أن المعرفة تزيد وتنقص»، وهذا هو الصواب.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «قال المروذي: قلت لأحمد في معرفة الله بالقلب تتفاضل فيه؟ قال: نعم، قلت: ويزيد؟ قال: نعم. ذكره الخلال عنه، وأبو بكر عبد العزيز في كتاب «السنة» أيضًا عنه، وهو الذي ذكره القاضي أبو يعلى من أصحابنا في كتاب «الإيمان»، وكذلك ذكره أبو عبدالله بن حامد.
وحكى القاضي في «المعتمد» وابن عقيل في المسألة روايتين عن أحمد، وتأولا رواية أنه لا يزيد ولا ينقص. وتفسير زيادة المعرفة بمعنيين:
أحدهما: زيادة المعرفة بتفاصيل أسماء الله وصفاته وأفعاله، وأسماء الملائكة، والنبيين وصفاتهم، والكتب المنزلة عليهم، وتفاصيل اليوم الآخر، وهذا ظاهر لا يقبل نزاعًا.
الثاني: زيادة المعرفة بالوحدانية بزيادة معرفة أدلتها؛ فإن أدلتها لا تحصر؛ إذ كل ذرة من الكون فيها دلالة على وجود الخالق ووحدانيته، فمن كثرت معرفته بهذه الأدلة زادت معرفته على من ليس كذلك، وكذلك المعرفة بالنبوات واليوم الآخر والقدر وغير ذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به.
ومن هنا فرق النبي ﷺ بين مقام الإيمان ومقام الإحسان، وجعل مقام الإحسان أن يعبد العبدُ ربَّه كأنه يراه، والمراد: أن ينور قلبه بنور الإيمان حتى يصير الغيب عنده مشهودًا بقلبه كالعيان.
وقد ذكر محمد بن نصر المروزي في كتابه أن التصديق يتفاوت وحكاه عن الحسن والعلماء، وهذا يشعر بأنه إجماع عنده».
قلنا: وهذا هو الصواب، أي أن الإيمان يزيد وينقص، والتصديق يتفاوت؛ فتصديق الأنبياء ليس كتصديق غيرهم.
وقال العيني: «يعني فسر ابن عباس قوله تعالى: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ [الفُرقان: 77] فقال: المراد من الدعاء الإيمان، فمعنى دُعَاؤُكُمْ: إيمانكم. وأخرجه ابن المنذر بسنده إليه أنه قال: لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ: لولا إيمانكم، وقال ابن بطال: لولا دعاؤكم الذي هو زيادة في إيمانكم، وقال النووي:... اعلم أنه يقع في كثير من نسخ البخاري هذا: باب: دعاؤكم إيمانكم... إلى آخر الحديث بعده».
المتن:
بَابُ أُمُورِ الإِيمَانِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: لَيْسَ البِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا، وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ [البقرة: 177] وَقَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ... [المؤمنون: 1] الآيَةَ
هذه الترجمة قصد بها المؤلف رحمه الله أن يعدد أمور الإيمان؛ ولذلك ذكر هذه الآية، وهي آية البر التي عدد الله تعالى فيها أمور الإيمان، وهي أقوال وأفعال: قول اللسان، وقول القلب، وعمل القلب، وعمل الجوارح، وكلها موجودة في هذه الآية، قال سبحانه: وَلَكِنَّ البِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فتصديق القلب وإقراره من الإيمان.
ثم قال: وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ فإيتاء المال عمل من أعمال الجوارح، وإنما يكون عن عقيدة، وهو من الإيمان.
وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وهو أيضًا عمل من أعمال الجوارح.
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا فالوفاء بالعهد من الإيمان.
وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ؛ فالصبر في البأساء، والضراء، من الإيمان؛ والصبر: حبس النفس عن الجزع، واللسان عن التشكي، والجوارح عن فعل المحرمات.
وَحِينَ الْبَأْسِ أي: في الحرب وحينما يمس الإنسان الضر والبؤس والشدة والكرب فصبره من الإيمان.
فهذه الأمور كلها من أمور الإيمان، وتعدادها فيه دليل على أن أمور الإيمان متعددة؛ ففي هذه الآية الكريمة ذكر الله تصديق القلب، وعمل الجوارح، وقول اللسان، فدل على أن الإيمان يشمل هذه الأمور كلها.
ثم قال: أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: في إيمانهم، وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البَقَرَة: 177].
فالإيمان هو البر، وهو التقوى، وهو الإسلام، وهو الهدى، فهذه الخصال المذكورة من خصال الإيمان، ومن خصال الإسلام؛ لأن الإسلام من الإيمان، وإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا أطلق الإيمان دخل فيه الإسلام، وهي من البر، ولهذا قال: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البَقَرَة: 177]، وصاحبها متق؛ لأنه يتقي سخط الله ويتقي عذاب الله، وهي من الهدى؛ لأن صاحبها مهتد.
وفي الآية الأخرى قال سبحانه: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون: 1]، ثم ذكر أوصافًا: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لأَِمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون: 2-11].
فهذه كلها خصال المؤمنين؛ وهي رد على المرجئة الذين يقولون: الإيمان قول القلب فقط، وأعمال القلوب وأعمال الجوارح ليست من الإيمان، وأقوال اللسان ليست من الإيمان.
وقد ذهب أهل السنة والجماعة إلى أن الإيمان قول باللسان، وعمل بالجوارح، وعمل بالقلب، يزيد وينقص؛ يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فأراد المؤلف رحمه الله أن يبين النصوص التي تدل على أن أمور الإيمان متعددة، وأن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، خلافًا للمرجئة، سواء المرجئة المحضة أو مرجئة الفقهاء؛ فكلهم لا يرون أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان، وهذه الآية وغيرها من النصوص ردٌّ عليهم.
أما قوله تعالى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحُجرَات: 14] فسوف يأتي الكلام عليها عند ترجمة البخاري بها، وأن جمهور العلماء يرون أنها في ضعاف الإيمان وليست في المنافقين.
والبخاري رحمه الله يرى أن الإسلام والإيمان مترادفان، وهو قول بعض أهل العلم، وقال آخرون: إن الإسلام هو كلمة الشهادة، والإيمان هو العمل؛ وهو قول الزهري؛ وقال آخرون: إن الإسلام هو العمل، والإيمان هو التصديق؛ كما في حديث جبريل.
والصواب الذي عليه جمهور العلماء: أن الإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
فإذا اجتمعا في نص واحد اختلف المعنى، فصار الإسلام يراد به العمل، والإيمان يراد به التصديق، كما في حديث جبريل حين سأل النبي ﷺ عن الإسلام، فأجابه بأركان الإسلام الخمسة، وسأله عن الإيمان؛ فأجابه بأنه الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله[(84)]، فصار يراد بالإيمان الأعمال الباطنة، وبالإسلام الأعمال الظاهرة.
أما إذا أطلق أحدهما فيدخل فيه الآخر، فإذا أطلق الإسلام وحده دخلت فيه الأعمال الباطنة، والظاهرة؛ وإذا أطلق الإيمان كذلك دخلت فيه الأعمال الباطنة، والظاهرة؛ وهذا الذي عليه المحققون، كشيخ الإسلام ابن تيمية وجماعة.
المتن:
الشرح:
9 وحديث الباب أول حديث يرويه أبو هريرة في «صحيح البخاري»، وقد روى له البخاري ما يقرب من أربعمائة حديث.
قوله: الإِْيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنْ الإِْيمَانِ. وفي رواية عند الإمام مسلم رحمه الله: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ [(85)]، وفي رواية أخرى عند مسلم: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ[(86)].
والبضع يطلق على العدد من ثلاثة إلى تسعة، والمعنى أنه فوق الستين ودون السبعين.
وهذا الحديث من أصح الأحاديث في «صحيحي البخاري ومسلم»؛ وهو من أقوى الأدلة في الرد على المرجئة؛ لأنه جعل الإيمان شعبًا كثيرة، والمرجئة يقولون: هذه الشعب لا تدخل في الإيمان، وإنما الإيمان هو التصديق بالقلب فقط.
ثم إن النبي ﷺ مثَّل لشعب الإيمان بالأعلى، والأدنى؛ فقال: فَأَعلاهَا: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وهذه كلمة التوحيد، وهي قول باللسان، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وهو عمل بدني، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ والحياء عمل قلبي، وبين الأعلى والأدنى شعب: فالصلاة شعبة، والزكاة شعبة، والصوم شعبة، والحج شعبة، وبر الوالدين شعبة، والجهاد في سبيل الله شعبة، والأمر بالمعروف شعبة، والنهي عن المنكر شعبة، والإحسان إلى الناس شعبة، وكف الأذى عن الناس شعبة، وهكذا.
وقد تتبع بعض العلماء شعب الإيمان من النصوص وعدَّدها، ومن ذلك البيهقي رحمه الله في كتابه «شعب الإيمان» فإنه ذكر شعب الإيمان الواردة في أحاديث النبي ﷺ.
من هنا يتبين لطالب العلم غلط المرجئة، وإن كان مرجئة الفقهاء كالإمام أبي حنيفة رحمه الله وأهل الكوفة يوافقون جمهور أهل السنة في أن الأعمال مطلوبة وأن مرتكب الكبيرة يستحق الوعيد ويقام عليه الحد الذي رتبته عليه النصوص، لكن ينبغي التأدب مع نصوص الكتاب والسنة، فإذا سمى الله في كتابه أو سمى رسول الله ﷺ في سنته شيئًا من الأعمال إيمانًا نسميه إيمانًا كذلك.
وسبق أن خلاف مرجئة الفقهاء مع أهل السنة يترتب عليه أمور، وأنه ليس خلافًا لفظيًّا من جميع الوجوه كما ذكر شارح «الطحاوية»؛ بل يترتب عليه فساد في العقيدة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «(فائدة): قال القاضي عياض: تكلف جماعة حصر هذه الشعب بطريق الاجتهاد، وفي الحكم بكون ذلك هو المراد صعوبة، ولا يقدح عدم معرفة حصر ذلك على التفصيل في الإيمان». اهـ.
ولم يتفق من عد الشعب على نمط واحد، وأقربها إلى الصواب طريقة ابن حبان، لكن لم نقف على بيانها من كلامه، وقد لخصت مما أوردوه ما أذكره، وهو أن هذه الشعب تتفرع عن أعمال القلب وأعمال اللسان وأعمال البدن.
فأعمال القلب فيه المعتقدات، والنيات؛ وتشتمل على أربع وعشرين خصلة:
الإيمان بالله ويدخل فيه الإيمان بذاته وصفاته وتوحيده بأنه ليس كمثله شيء واعتقاد حدوث ما دونه، والإيمان بملائكته، وكتبه، ورسله، والقدر خيره وشره، والإيمان باليوم الآخر ويدخل فيه المسألة في القبر والبعث والنشور والحساب والميزان والصراط والجنة والنار، ومحبة الله، والحب والبغض فيه، ومحبة النبي ﷺ، واعتقاد تعظيمه ويدخل فيه الصلاة عليه واتباع سنته، والإخلاص، ويدخل فيه ترك الرياء والنفاق، والتوبة، والخوف، والرجاء، والشكر، والوفاء، والصبر، والرضا بالقضاء، والتوكل، والرحمة، والتواضع ويدخل فيه توقير الكبير ورحمة الصغير وترك الكبر والعجب، وترك الحسد، وترك الحقد، وترك الغضب.
وأعمال اللسان؛ وتشتمل على سبع خصال:
التلفظ بالتوحيد، وتلاوة القرآن، وتعلم العلم، وتعليمه، والدعاء، والذكر؛ ويدخل فيه الاستغفار، واجتناب اللغو.
وأعمال البدن، وتشتمل على ثمان وثلاثين خصلة:
منها ما يختص بالأعيان وهي خمس عشرة خصلة: التطهير حسًّا وحكمًا ويدخل فيه اجتناب النجاسات وستر العورة، والصلاة فرضًا ونفلاً، والزكاة كذلك، وفك الرقاب، والجود ويدخل فيه إطعام الطعام وإكرام الضيف، والصيام فرضًا ونفلاً، والحج، والعمرة كذلك، والطواف، والاعتكاف، والتماس ليلة القدر، والفرار بالدين ويدخل فيه الهجرة من دار الشرك، والوفاء بالنذر، والتحري في الأيمان، وأداء الكفارات.
ومنها ما يتعلق بالأتْباع، وهي ست خصال: التعفف بالنكاح، والقيام بحقوق العيال، وبر الوالدين وفيه اجتناب العقوق، وتربية الأولاد، وصلة الرحم، وطاعة السادة أو الرفق بالعبيد.
ومنها ما يتعلق بالعامة، وهي سبع عشرة خصلة: القيام بالإمرة مع العدل، ومتابعة الجماعة، وطاعة أولي الأمر، والإصلاح بين الناس ويدخل فيه قتال الخوارج والبغاة، والمعاونة على البر ويدخل فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، والجهاد ومنه المرابطة، وأداء الأمانة، ومنه أداء الخمس، والقرض مع وفائه، وإكرام الجار، وحسن المعاملة؛ وفيه جمع المال من حله، وإنفاق المال في حقه ومنه ترك التبذير والإسراف، ورد السلام، وتشميت العاطس، وكف الأذى عن الناس، واجتناب اللهو، وإماطة الأذى عن الطريق؛ فهذه تسع وستون خصلة؛ ويمكن عدها تسعًا وسبعين خصلة باعتبار إفراد ما ضم بعضه إلى بعض مما ذكر. والله أعلم.
فائدة:
في رواية مسلم من الزيادة: فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ [(87)]، وفي هذا إشارة إلى أن مراتبها متفاوتة».
فتبين من هذا أن خصال الإيمان وشعبه كثيرة.
وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وهذا يدل على أن الخصال المذكورة فيها هي خصال الإيمان المطلق، فإذا أطلق الإيمان دخل فيه كل ما ذكر في هذه الآية، كما سأل السائل عن الإيمان فتلا عليه النبي ﷺ هذه الآية.
وإذا قرن الإيمان بالعمل فقد يكون من باب عطف الخاص على العام، وقد يكون المراد بالإيمان حينئذ: التصديق بالقلب، وبالعمل: عمل الجوارح؛ كما ذكر في هذه الآية الإيمان بالله، واليوم الآخر، والملائكة، والكتاب، والنبيين؛ ثم عطف عليه أعمال الجوارح».
وهذا يبين أن الإيمان إذا أطلق وحده تدخل فيه جميع الخصال التي ذكرت في آية البر ويدخل فيه جميع الأقوال والأعمال والاعتقادات والنيات، أما إذا عطف عليه العمل فهذا فيه كلام: إما أن يقال: من عطف الخاص على العام، أو يقال: يراد به التصديق؛ لأن العمل فصل عنه.
قال ابن رجب: «وأما الاختلاف في لفظ الحديث: فالأظهر أنه من الرواة، كما جاء التصريح في بعضه بأنه شك من سهيل بن أبي صالح. وزعم بعض الناس أن النبي ﷺ كان يذكر هذا العدد بحسب ما ينزل من خصال الإيمان، وكلما نزلت خصلة منها ضمها إلى ما تقدم وزادها عليه، وفي ذلك نظر.
وقد ورد في بعض روايات «صحيح مسلم» عدد بعض هذه الخصال، ولفظه: «أَعلاهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ [(88)]؛ فأشار إلى أن خصال الإيمان منها ما هو قول باللسان، ومنها ما هو عمل بالجوارح، ومنها ما هو قائم بالقلب. وقد انتدب لعدها طائفة من العلماء كالحَليمي والبيهقي وابن شاهين وغيرهم، فذكروا ما ورد تسميته إيمانًا في الكتاب والسنة من الأقوال والأعمال، وبلغ بها بعضهم سبعًا وسبعين، وبعضهم تسعًا وسبعين، وفي القطع على أن ذلك هو مراد الرسول ﷺ من هذه الخصال عسر، كذا قاله ابن الصلاح، وهو كما قال».
يعني: أن الجزم بأن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد هذا يحتاج إلى دليل، لكنها من شعب الإيمان، فيحتمل أن تزيد شعب الإيمان على هذا العدد، والمراد أن هذه شعب كبيرة للإيمان ترجع إليها شعب أخرى.
وهذه الشعب منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب؛ فالواجب إذا تركه الإنسان ضعف إيمانه ونقص، وإذا أتى به أو بالمستحب كمل إيمانه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فإن قيل: الحياء من الغرائز فكيف جُعل شعبة من الإيمان؟ أجيب: بأنه قد يكون غريزة وقد يكون تخلقًا، ولكن استعماله على وفق الشرع يحتاج إلى اكتساب وعلم ونية، فهو من الإيمان لهذا، ولكونه باعثًا على فعل الطاعة وحاجزًا عن فعل المعصية، ولا يقال: رُبَّ حياء يمنع عن قول الحق وفعل الخير؛ لأن ذاك ليس شرعيًّا».
ومراده أن الحياء خلق داخلي يبعث على فعل الفضائل من الواجبات، أو المستحبات، ويمنع عن فعل الرذائل من المحرمات، والمكروهات.
أما الحياء الذي يمنع الإنسان من طلب العلم، وسؤال العلماء فليس حياءً؛ وإنما هو جبن وخور؛ فإنه يمنع الإنسان من التفقه في الدين.
المتن:
بَابٌ: المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ
10 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ هُوَ ابْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَقَالَ عَبْدُ الأَعْلَى، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
الشرح:
10 يرتبط هذا الحديث بالباب؛ لأنه دال على أمر من أمور الإيمان.
قوله: الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ومراده بالمسلم: المسلم الكامل، وإلا فالمسلم الذي لا يسلم المسلمون من لسانه ويده في قلبه أصل الإسلام، لكن إسلامه ناقص.
والمسلم الكامل هو الذي يؤدي حق الله وحقوق العباد، ويكف نفسه عن المحرمات، فيسلم المسلمون من لسانه ويده.
والمسلم إذا أطلق يدخل فيه المؤمن. والبخاري رحمه الله يرى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، لكن الصواب أن الإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، وكذلك المؤمن.
قوله: وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ أي: أن المهاجر الحقيقي هو الذي هجر ما نهى الله عنه، أي الذي هجر السيئات والمحرمات.
ومن ذلك: انتقاله من بلد الشرك إلى بلد الإسلام؛ فالمهاجر من بلد الشرك إلى بلد الإسلام مهاجر كامل، وأكمل منه الذي يهجر المحرمات والسيئات جميعًا.
وذكره المسلم الكامل في إسلامه الذي يسلم المسلمون من لسانه ويده مع أداء الفرائض والانتهاء عن المحرمات ـ دال على أن الإسلام يزيد وينقص، وكذلك الإيمان يزيد وينقص؛ لأن الذي لا يسلم المسلمون من لسانه، ويده، ينقص إيمانه، وينقص إسلامه؛ والذي يسلم المسلمون من لسانه، ويده، يكمل إسلامه، ويكمل إيمانه.
فهذه الترجمة أراد بها أن يبين شيئًا من خصال الإسلام، والإيمان؛ وهي: سلامة الناس من لسانك ويدك.
المتن:
بَابٌ: أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟
11 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القُرَشِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى ، قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الإِسْلاَمِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ.
الشرح:
11 قوله: «أَيُّ الإِْسْلاَمِ أَفْضَلُ؟» فيه: بيان أن الإسلام يزيد وينقص فيتفاضل.
والمسلمون إذا أُطلقوا أريد بهم المؤمنون؛ لأنه كما سبق وقلنا: إن الإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان.
وحيث جعل أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده، وبين أن من يفعل ذلك هو المسلم الكامل؛ إذن فالإسلام يتفاوت؛ فدل على أنه يزيد وينقص، وكذلك الإيمان يتفاوت ويزيد وينقص؛ لأن الإيمان يدخل في الإسلام عند الإطلاق، والإسلام من الإيمان، ويدخل فيه عند الإطلاق؛ فظهر مناسبة الحديث لأمور الإيمان.
والحديث: يبين أن الكف عن أذى المسلمين باللسان واليد من أفضل خصال الإسلام.
المتن:
بَابٌ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلاَمِ
12 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي الخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: تُطْعِمُ الطَّعَامَ وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ.
الشرح:
12 فيه: بيان أن إطعام الطعام للفقير وللضيف وما أشبه ذلك من خصال الإسلام، وهو عمل؛ فدل على أن العمل داخل في مسمى الإسلام، وداخل في مسمى الإيمان؛ لأن الإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان.
وفيه: الرد على المرجئة.
قوله: وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ، أي: كل من لقيته تسلم عليه، إلا إذا عرفت أنه كافر فلا تبدأه بالسلام، أما إذا لم تعرف فالأصل في بلاد الإسلام أن من فيها مسلم.
وذكر البخاري رحمه الله عن عمار بن ياسر معلقًا مجزومًا به قال: «ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِيمَانَ: الإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِنْفَاقُ مِنَ الإِقْتَارِ».
فالإنصاف من النفس، بأن تقول الحق ولو على نفسك.
والإنفاق من الإقتار، بأن تنفق مع قلة ذات اليد ـ أي: مع فقرك ـ وكان الصحابة رضوان الله عليهم إذا حثهم النبي ﷺ على الصدقة وليس عندهم شيء يحاملون على ظهورهم ـ أي: يعملون حمالين يحملون أمتعة الناس ـ فإذا أعطاهم الناس درهمين تصدقوا بدرهم وأبقوا درهمًا لأهلهم، فهذا هو الإنفاق من الإقتار.
وفي الحديث: سَبَقَ دِرْهَمٌ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ [(89)] فقيل: كيف هذا؟ قيل: فقير ما عنده إلا درهمان أنفق واحدًا وأبقى لأهله واحدًا، وشخص عنده آلاف الدراهم أنفق مائة ألف درهم وما يضره ولا يدري به.
وبذل السلام للعالَم، بأن تُسلم على جميع الناس، كما في الحديث: وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ.
والأصل في بلاد الإسلام أن تسلم على من لقيت معلومًا أو مجهولا، وعلى المدخن والحليق، وتنصحه؛ إلا إذا علمت أنه ليس بمسلم فلا تسلم عليه، وإذا احتجت إلى تحية فَحِيِّهِ بغير السلام، كأن تقول: مساء الخير، وصباح الخير، ونحو ذلك.
المتن:
بَابٌ: مِنَ الإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ
13 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَعَنْ حُسَيْنٍ المُعَلِّمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ.
الشرح:
13 هذا حديث عظيم، ومن أعظم الأحاديث وأجمعها في بيان حق المؤمن على أخيه المؤمن، وفي بيان أمور الإيمان القولية، والفعلية، التي تكون بين المؤمنين.
والمراد بقوله: لاَ يُؤْمِنُ: الإيمان الكامل الواجب، فإذا أحب لنفسه شيئاً، ولم يحبه لأخيه أو أحب لأخيه شيئًا لا يحبه لنفسه، يكون إيمانه ناقصًا، وضعيفاً، ويكون عاصياً، ولو كان في قلبه أصل الإيمان، فأن تحب لأخيك ما تحب لنفسك من أمور الإيمان القلبية.
فحق المسلم على أخيه أن يحب له ما يحبه لنفسه، فإذا كان يحب لنفسه العمل الصالح، فيجب أن يحب لأخيه العمل الصالح، وإن كان يحب لنفسه أن يرزقه الله علماً، أو مالاً، فيجب أن يحب لأخيه مثله.
وفي الحديث: بيان أنه ينبغي للمسلم أن يبذل لأخيه ما يبذله لنفسه من الخير فلا يجوز له أن يشبع وجاره جائع؛ فالحديث من أدلة وجوب إطعام الجائع المضطر.
قال العيني: «قوله: لاَ يُؤْمِنُ حَتَّى يُحِبَّ، وفي رواية المستملي: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ، وفي رواية الأصيلي: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدٌ حَتَّى يُحِبَّ،، وقال الشيخ قطب الدين: قد سقط لفظ أَحَدُكُمْ في بعض نسخ البخاري، وثبت في بعضها كما جاء في مسلم: حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ [(90)]، وكذا في رواية لمسلم عن أبي خيثمة، وفي رواية لمسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ.... الحديث[(91)].
قوله: حَتَّى يُحِبَّ لأَِخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، هكذا هو عند البخاري، ووقع في مسلم على الشك في قوله: لأَِخِيهِ» اهـ.
وطريقة العيني في شرح أحاديث البخاري أنه يورد بيان اختلاف الروايات أولا، ثم يتكلم على الرجال، ثم لطائف إسناد الحديث، ثم بيان من أخرجه، ثم بيان اللغة، ثم الأسئلة والأجوبة.
قال العيني رحمه الله: « الأسئلة والأجوبة :
منها: ما قيل: إذا كان المراد بالنفي كمال الإيمان يلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنا كاملا، وإن لم يأت ببقية الأركان؟
وأجيب بأن هذا مبالغة، كأن الركن الأعظم فيه هذه المحبة، نحو: لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ [(92)]، أو هي مستلزمة لها، أو يلزم ذلك لصدقه في الجملة، وهو عند حصول سائر الأركان؛ إذ لا عموم للمفهوم.
ومنها: ما قيل: من الإيمان أنه يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه ولو لم يذكره.
وأجيب : بأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه؛ فيدخل تحت ذلك، أو أن الشخص لا يبغض شيئًا لنفسه، فلا يحتاج إلى ذكره بالمحبة.
ومنها ما قيل: إن قوله: لِأَخِيهِ: ليس له عموم؛ فلا يتناول سائر المسلمين.
وأجيب بأن معنى قوله: لِأَخِيهِ: للمسلمين؛ تعميمًا للحكم، أو يكون التقدير: لأخيه من المسلمين؛ فيتناول كل أخ مسلم». اهـ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «المتن المساق هنا لفظ شعبة، وأما لفظ حسين من رواية مسدد التي ذكرناها؛ فهو: لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُحِبَّ لِجَارِهِ أَوْ لِأَخِيهِ [(93)]، وللإسماعيلي من طريق روح، عن حسين: حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ مِنَ الْخَيْرِ [(94)]، فبين المراد بالأخوة، وعين جهة الحب. وزاد مسلم في أوله عن أبي خيثمة، عن يحيى القطان: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، [(95)]، وأما طريق شعبة فصرح أحمد والنسائي في روايتهما بسماع قتادة له من أنس[(96)]؛ فانتفت تهمة تدليسه.
قوله: لاَ يُؤْمِنُ أي: من يدعي الإيمان، وللمستملي أَحَدُكُمْ، وللأصيلي أَحَدٌ، ولابن عساكر عَبْدٌ، وكذا لمسلم، عن أبي خيثمة، والمراد بالنفي كمال الإيمان» اهـ.
قول الحافظ ابن حجر رحمه الله: «كمال الإيمان» ، أي: الكمال الواجب، و ليس معناه كمالاً غير مطلوب.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ونفي اسم الشيء ـ على معنى نفي الكمال عنه ـ مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان. فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنًا كاملاً، وإن لم يأت ببقية الأركان؛ أجيب بأن هذا ورد مورد المبالغة، أو يستفاد من قوله: لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ [(97)] ملاحظة بقية صفات المسلم. وقد صرح ابن حبان من رواية ابن أبي عدي، عن حسين المعلم بالمراد، ولفظه: لَا يَبْلُغُ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ [(98)]، ومعنى الحقيقة هنا: الكمال، ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافرًا؛ وبهذا يتم استدلال المصنف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخصلة من شعب الإيمان».
وهذا معناه أن الناس يتفاوتون في ذلك تفاوتًا واضحًا؛ فبعضهم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وبعضهم لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولا شك أن الذي يحب لأخيه ما يحب لنفسه أكمل إيمانًا من الذي لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ فدل هذا على أن الإيمان يتفاوت، فيزيد وينقص، وفي هذا رد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: حَتَّى يُحِبَّ بالنصب؛ لأن حتى جارة وأن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون حتى عاطفة؛ فلا يصح المعنى؛ إذ عدم الإيمان ليس سبباً للمحبة.
قوله: مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ أي: من الخير كما تقدم عن الإسماعيلي، وكذا هو عند النسائي[(99)]، وكذا عند ابن منده من رواية همام، عن قتادة أيضًا[(100)]، والخير: كلمة جامعة تعم الطاعات، والمباحات الدنيوية، والأخروية، وتخرج المنهيات؛ لأن اسم الخير لا يتناولها.
والمحبة: إرادة ما يعتقده خيرًا، قال النووي: المحبة: الميل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسه كحسن الصورة، أو بفعله، إما لذاته كالفضل والكمال، وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضرر،انتهى ما يحصل له.
والمراد هنا بالميل الاختياري دون الطبيعي والقسري[(101)].
والمراد أيضًا أن يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له، لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له لا مع سلبه عنه ولا مع بقائه بعينه له؛ إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال».
وعليه فإنه يجب على المرء أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه في كل شيء؛ سواء كان من الأمور المحسوسة كالمال، أو الأمور المعنوية كالعلم.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقال أبو الزناد بن سراج: ظاهر هذا الحديث طلب المساواة، وحقيقته تستلزم التفضيل؛ لأن كل أحد يحب أن يكون أفضل من غيره، فإذا أحب لأخيه مثله فقد دخل في جملة المفضولين. قلت: أقر القاضي عياض هذا، وفيه نظر؛ إذ المراد الزجر عن هذه الإرادة؛ لأن المقصود الحث على التواضع. فلا يحب أن يكون أفضل من غيره، فهو مستلزم للمساواة. ويستفاد ذلك من قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القَصَص: 83]، ولا يتم ذلك إلا بترك الحسد، والغل، والحقد، والغش؛ وكلها خصال مذمومة.
فائدة:
قال الكرماني: ومن الإيمان أيضًا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره؛ لأن حب الشيء مستلزم لبغض نقيضه؛ فترك التنصيص عليه اكتفاءًا، والله أعلم».
هذا هو المفهوم من الحديث، فالحديث له منطوق وله مفهوم، فمنطوقه: أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، ومفهومه أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «فأما حب التفرد عن الناس بفعل ديني أو دنيوي فهو مذموم، قال الله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [القَصَص: 83]، وقد قال علي وغيره: هو ألاَّ يحب أن يكون نعله خيرًا من نعل غيره ولا ثوبه خيرًا من ثوبه. وفي الحديث المشهور في السنن: مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَيُجَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، وَيَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ [(102)]. وهذا وعيد شديد.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وأما الحديث الذي فيه أن رجلا سأل النبي ﷺ، فقال: إني أحب الجمال، وما أحب أن يفوقني أحد بشراك أو بشسع نعلي، فقال له النبي ﷺ: ليس ذلك من الكبر [(103)]، فإنما فيه أنه أحب ألاَّ يعلو عليه أحد، وليس فيه محبة أن يعلو هو على الناس، بل يصدق هذا أن يكون مساويًا لأعلاهم فما حصل بذلك محبة العلو عليهم والانفراد عنهم، فإن حصل لأحد فضيلة خصَّه الله بها عن غيره فأخبر بها على وجه الشكر، لا على وجه الفخر كان حسنًا، كما كان النبي ﷺ يقول: أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ، وَلَا فَخْرَ، وَأَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَلَا فَخْرَ [(104)]. وقال ابن مسعود: لو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغه الإبل لأتيته».
والمراد أن هذا حديث عظيم، فيه حث للمسلم أن يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه، ويبغض لأخيه من الشر ما يبغضه لنفسه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب مِنْ الإِْيمَانِ» . قال الكرماني: قدم لفظ الإيمان بخلاف أخواته، حيث قال: «إطعام الطعام من الإيمان» ، إما للاهتمام بذكره أو للحصر، كأنه قال: المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان. قلت: وهو توجيه حسن، إلا أنه يرد عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام والحصر معًا، وهو قوله: «بَاب حُبُّ الرَّسُولِ ﷺ مِنْ الإِْيمَانِ» ، فالظاهر أنه أراد التنويع في العبارة، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول فقدمه. والله أعلم».
فالإمام البخاري رحمه الله يرى أن الإسلام والإيمان مترادفان، وهذا قول لبعض أهل العلم، ويستدلون بقول الله تعالى في قصة لوط : فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ[الذّاريَات: 35-36]، فوصفهم بالإيمان ووصفهم بالإسلام، وهم أهل بيت واحد، فدل على أن الإيمان والإسلام شيء واحد.
وأجيب : بأن أهل بيت لوط اتصفوا بالإيمان واتصفوا بالإسلام [(105)].