شعار الموقع

شرح كتاب الإيمان من صحيح البخاري (2-3) من بَابٌ حُبُّ الرَّسُولِ ﷺ مِنَ الإِيمَانِ - إلى بَاب فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ

00:00
00:00
تحميل
203

المتن:

بَابٌ: حُبُّ الرَّسُولِ ﷺ مِنَ الإِيمَانِ

14 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ.

15 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، ح وحَدَّثَنَا آدَمُ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.

الشرح:

هذه الترجمة من تراجم كتاب الإيمان فيها: بيان أن «حُبُّ الرَّسُولِ ﷺ مِنْ الإِْيمَانِ»، وهذا الحب عمل قلبي، وكمال الإيمان وكمال المحبة أن يكون الله ورسوله أحب إليه أي: إلى العبد ـ مما سواهما، فيكون الله والرسول أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، فإذا لم يكن الله ورسوله أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين فإن إيمانه ناقص ويكون بذلك عاصيًا، وفي هذا دليل أيضًا على أن الإيمان يتفاوت، وأنه يزيد وينقص، والناس أيضًا يتفاوتون في هذا، فمنهم من يصل إلى كمال الإيمان بكمال المحبة الواجبة، ومنهم من يقدم بعض الأشياء على محبة الله ورسوله؛ فيكون عاصيًا ناقص الإيمان.

 14 قوله: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، يعني: الإيمان الكامل الواجب، وهذا فيه دليل على تفاوت الإيمان وتفاضله.

قوله: حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ، يعني: لا يؤمن الإنسان الإيمان الكامل حتى يقدم محبة الرسول  ﷺ على محبة والده ومحبة ولده وعلى محبة الناس أجمعين، فإن قدَّم محبة أي إنسان على محبة الرسول  ﷺ صار عاصيًا، ونقص بذلك إيمانه، وأصل محبة الله ورسوله لا تنعدم من قلب المؤمن، فمن لم يحب الله ورسوله فهو كافر.

مثال ذلك: لو أن شخصًا أمره والده بالمعصية، وشرب الخمر، فأطاعه، فمعنى هذا أنه قدَّم محبة الوالد على محبة الله، ومحبة رسوله  ﷺ؛ فيكون بذلك عاصيًا، وكذلك إذا تعامل بالربا، فقد قدم محبة المال على محبة الله ومحبة رسوله؛ لأن الله نهى عن التعامل بالربا في كتابه وعلى لسان رسوله، وهذا إذا تعامل بالربا وهو ليس مستحلًّا له لكنه تعامل به طاعة لهواه، وللشيطان، وتقديمًا لمحبة المال، فيكون عاصياً؛ أما إذا استحله فقد كفر لأنه مكذب لله ولرسوله.

كذلك لو قدم شيئًا من المساكن ومتاع الدنيا، كطاعته للزوجة إن أمرته بمعصية، فهو في هذه الحال قد قدَّم محبتها على محبة الله ورسوله؛ فيكون فاسقًا عاصيًا، كما قال الله تعالى في كتابه: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التّوبَة: 24]، ففي هذه الآية بين تعالى أن من قدم شيئاً من الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله، ومحبة الجهاد في سبيله، فعليه الوعيد الشديد؛ والمراد أن من قدَّم محبَّة الأب، أو الابن، أو الأخ، أو الزوجة، أو العشيرة، أو المال، أو التجارة، أو المسكن على محبة الله ورسوله فهو فاسق.

وقوله تعالى: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، أي: انتظروا ماذا يحل بكم من العقوبة.

وقوله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، دل على أن من فعل هذا وقع في الفسق والمعصية، ولم يقع في الكفر؛ لأن الكفر لا يكون إلا بفعل ناقض من نواقض الإسلام، كعبادة غير الله، أو الذبح لغير الله، أو سب الله أو رسوله، أو سب دين الله.

ومن فعل شيئًا من نواقض الإسلام فقد ذهبت محبة الله ورسوله من قلبه، وانتفت عنه بالكلية، فلا يبقى شيء منها، فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله، أو وطئ المصحف بقدميه استهانة به فقد زالت عنه محبة الله ورسوله، وبذلك يصير كافرًا.

وأما من قدَّم محبة المال، فأكل مال اليتيم، أو غش في المعاملات، أو تعامل بالربا، أو أطاع زوجته في المعصية، أو أطاع والده في المعصية، أو قدَّم محبة المسكن وتعامل بكسب المال الحرام حتى يبني له مسكنًا، ولكنه لم يستحل كل هذه الأمور رغم تقديمها على محبة الله ورسوله فهو عاص، يوصف بنقص وضعف الإيمان، فليقف على هذا طالب العلم وليعرفه جيدًا؛ فالرسول  ﷺ يقول: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فالمراد أنه لا يؤمن الإيمان الكامل الواجب، فإذا قدم محبة الولد، أو الوالد أو الناس على محبة الله ورسوله، صار بذلك عاصيًا، ما لم يكفر أو يشرك أو يفعل ناقضًا من نواقض الإسلام، فإذا أشرك أو فعل ناقضًا من نواقض الإسلام فقد انتهت بذلك محبة الله ورسوله، وانتهى الإيمان؛ فصار كافرًا.

فإذا أمر الوالد ولده بفعل شيء ما، وكان هذا الشيء معصية فلا يطيعه الولد؛ لقول النبي  ﷺ: لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ [(106)]. وعليه أن يتحمل الضرر الذي يقع عليه، وعليه أن يتلطف مع والده؛ لأن حق الوالد عظيم، فيخاطبه خطابًا يليق به، كأن يقول: يا والدي هذا لا يجوز شرعًا، ولا يجوز أن أطيعك في هذا؛ ولهذا أورد البخاري في «كتاب الأذان، بَاب وُجُوبِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ مَنَعَتْهُ أُمُّهُ عَنْ الْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ شَفَقَةً لَمْ يُطِعْهَا» ؛ لأن ذلك معصية، إلا إذا كان هذا الخوف منها حقًّا، فيجب عليه أن يطيعها.

أما إذا أمره والده بطاعة، وعصاه، فإنه يصير بذلك عاصيًا لله، وعاصيًا لوالده جميعاً؛ ويدخل في ذلك أيضًا ولي الأمر إذا أمره بطاعة، أو بمباح، فيجب عليه طاعته؛ أما إذا أمره بمعصية فلا يطيعه؛ فلا يطاع أحد في معصية، لا الوالد يطيعه ولده، ولا السيد يطيعه عبده، ولا الزوج تطيعه زوجته؛ يقول النبي  ﷺ: لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ [(107)].

قال ابن رجب: «فإن تعارض داعي النفس ومندوبات الشريعة، فإن بلغت المحبة على تقديم المندوبات على دواعي النفس كان ذلك علامة كمال الإيمان، وبلوغه إلى درجة المقربين، والمحبوبين المتقربين بالنوافل بعد الفرائض».

والمعنى: أنه إذا قدَّم المستحبات على ما تشتهيه النفس، كأن قدم قيام الليل على شهوة النوم، فإن هذا يدل على الكمال، وهذا بخلاف الواجبات؛ إذ لابد من أدائها، فقيام الليل مستحب وليس بواجب، فإذا قدمه على محبة النفس بأن ترك الجلسة بعد العشاء؛ لأجل أن يقوم الليل، أو ترك فضول الجلسات ونام مبكرًا، أو قدمه على شهوة المال، وشهوة الاجتماعات التي تصده وتصرفه عن قيام الليل فهذا من الكمال، وصار صاحبه من السابقين الأولين الذين يتقربون إلى الله بالنوافل بعد أداء الفرائض.

قال ابن رجب: «وإن لم تبلغ هذه المحبة إلى هذه الدرجة فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين، الذين كملت محبتهم الواجبة، ولم يزيدوا عليها».

أي أن المقتصدين اقتصروا على أداء الواجبات وترك المحرمات فقط.

قال العيني: « بيان الأسئلة والأجوبة :

منها: ما قيل: لم ما ذكر نفس الرجل أيضًا؟ وإنما يجب أن يكون الرسول  ﷺ أحب إليه من نفسه، قال تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [الأحزَاب: 6]

وأجيب: بأنه إنما خصص الوالد والولد بالذكر؛ لكونهما أعز خلق الله تعالى على الرجل غالبا، وربما يكونان أعز من نفس الرجل على الرجل، فذكرهما إنما هو على سبيل التمثيل، فكأنه قال: حتى أكون أحب إليه من أعزته، ويعلم منه حكم غير الأعزة؛ لأنه يلزم في غيرهم بالطريق الأولى، أو اكتفى بما ذكر في سائر النصوص الدالة على وجوب كونه أحب من نفسه أيضًا، كالرواية التي بعده.

ومنها: ما قيل: هل يتناول لفظ الوالد الأم كما أن لفظ الولد يتناول الذكر، والأنثى؟

وأجيب: بأن الوالد إما أن يراد به ذات له ولد، وإما أن يكون بمعنى ذو ولد، فيتناولهما، وإما أن يكتفى بأحدهما عن الآخر، كما يكتفى بأحد الضدين عن الآخر، قال تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النّحل: 81]، وإما أن يكون حكمه حكم النفس في كونه معلومًا من النصوص الأخر.

ومنها: ما قيل: المحبة أمر طبيعي غريزي لا يدخل تحت الاختيار، فكيف يكون مكلفًا بما لا يطاق عادة؟

بأنه لم يُرد به حب الطبع، بل حب الاختيار المستند إلى الإيمان، فمعناه: لا يؤمن حتى يؤثر رضاي على هوى الوالدين، وإن كان فيه هلاكهما.

ومنها: ما قيل: ما وجه تقديم الوالد على الولد؟

وأجيب: بأن ذلك للأكثرية؛ لأن كل أحد له والد من غير عكس.

قلت: الأولى أن يقال: إنما قدم ها هنا الوالد نظرًا إلى جانب التعظيم».

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال النووي: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمَّارة والمطمئنة، فإن من رجَّح جانب المطمئنة كان حبه للنبي  ﷺ راجحًا، ومن رجَّح كان حكمه بالعكس، وفي كلام القاضي عياض أن ذلك شرط في صحة الإيمان؛ لأنه حمل المحبة على معنى التعظيم والإجلال؛ وتعقبه صاحب «المفهم» بأن ذلك ليس مرادًا هنا؛ لأن اعتقاد الأعظمية ليس مستلزمًا للمحبة؛ إذ قد يجد الإنسان إعظام شيء مع خلوه من محبته، قال: فعلى هذا من لم يجد من نفسه ذلك الميل لم يكمل إيمانه؛ وإلى هذا يومئ قول عمر الذي رواه المصنف في الأيمان والنذور من حديث عبد الله بن هشام أن عمر بن الخطاب قال للنبي  ﷺ: لأنت يا رسول الله أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لاَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ؛ فقال له عمر: فإنك الآن والله أحب إليَّ من نفسي، فقال: الآنَ يَا عُمَرُ [(108)].

أي: الآن بلَغْتَ المحبة، ولا يقال: إن من قدم المال أو الوالد على حب الله ورسوله أنه أشرك؛ لصرفه شيئًا من أنواع العبادة ـ وهي المحبة ـ لغير الله؛ لأنه لا يكون مشركًا إلا إذا وقع في الشرك، كفعله ناقضًا من نواقض الإسلام، أما إذا قدم محبة المال ـ أو قدم أي شيء مما سبق ـ على محبة الله ورسوله فهذا يكون عاصيًا ولا يكون مشركًا إلا إذا استحل ما هو معلوم من الدين بالضرورة.

فلا يقال: إن هذا من شرك المحبة؛ لأن شرك المحبة المراد به محبة العبادة التي تقتضي كمال الطاعة، وكمال الحب، وإيثار المحبوب على غيره؛ أما المحبة الطبيعية فلا بأس بها.

أما المنتحر ـ يعني: قاتل نفسه ـ إذا قتل نفسه ولم يستحله، ويعلم أنه عاصٍ ويعتقد أن قتل النفس حرام، لكن فعل ذلك بسبب جزعه، وعدم صبره، وتحمله، فهو عاصٍ مرتكب للكبيرة، تحت مشيئة الله كغيره من الذنوب، ولا يكفر إلا إذا استحله.

هذه قاعدة تدخل في جميع المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، إذا استحلها الإنسان كفر، وإلا فهو مؤمن عاص ضعيفُ؛ مثل شخص زنى وهو يعلم أن الزنا حرام فهذا عاص لكنه مؤمن لا يكفر بذلك، ولا يكفر إلا إذا استحل الزنا، واعتقد أن الزنا حلال، ومثله شخص تعامل بالربا وهو ويعلم أن الربا حرام، لكن غلبه حب المال والطمع، فهذا يكون عاصيًا؛ لكن إذا قال: الربا حلال كفر. وكذلك شرب الخمر، وقتل الغير إذا كان يعتقد أنه حلال كفر؛ وإذا كان يعتقد أنه حرام لكن طاعة للهوى والشيطان فلا يكفر.

وإذا كان يدعو إلى فعل الكبيرة يكون إثمه أشد وأعظم إذا لم يستحل ذلك، ولا يكفر إلا إذا استحله، أي: أن العبرة في الاعتقاد، فإذا كان يعتقد في نفسه أن الذنب حلال كفر، وإذا كان لا يعتقد حله يكون عاصيًا.

وكل المؤمنين يُترحم عليهم، حتى العاصي يترحم عليه؛ لأنه ما زال مؤمنًا، يُدعى له ويستغفر له، إلا الكافر فلا يدعى له؛ قال الله تعالى: وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التّوبَة: 84]، فعلل عدم القيام على قبره والدعاء له والاستغفار له بالكفر.

 15 وكذلك حديث أنس فيه أنه ينبغي أن يُعلم أن أصل محبة الله ورسوله فرض، بل هي شرط في صحة الإيمان، فمن لم يحب الله ورسوله فهو كافر، وكل مؤمن ـ ولو كان عاصيًا ـ عنده أصل محبة الله ورسوله، فإذا وقع في شرك أو كفر، كأن سبَّ الله، أو سبَّ الرسول، أو سبَّ الإسلام انتهت بذلك محبة الله ورسوله، أما إذا وجد أصل الإيمان فلابد أن يكون معه أصل محبة الله ورسوله؛ فمن تعامل بالربا ـ مثلاً ـ، أو أكل مال اليتيم، أو تعامل بالرشوة، أو كان مؤذيًا لجيرانه، أو كان قاطعًا لرحمه غير مستحل لذلك، فقد قدَّم محبة المعصية على محبة الله ورسوله، ولكن عنده أصل محبة الله ورسوله؛ فيكون بذلك عاصيًا، ويكون إيمانه ناقصًا ضعيفًا؛ أما إذا استحل الربا، أو استحل الخمر، أو استحل عقوق الوالدين، فهذا كافر بإجماع المسلمين؛ لأنه مكذب لله ورسوله، ومنكر لمعلوم من الدين بالضرورة.

وهذا يدل على أن الناس يتفاوتون في الإيمان، وأن الإيمان يزيد وينقص، ويقوى ويضعف؛ فمن الناس من يحب الله ورسوله محبة كاملة فلا يفعل المعاصي، ولا يترك شيئًا من الواجبات. ومنهم من يحب الله ورسوله محبة ناقصة؛ فيقدم عليها هواه وشهوته؛ ولهذا قال الله تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التّوبَة: 24]، فذكر ثمانية أشياء، إذا قدم الإنسان واحدًا منها، أو أحبها أشد من حبه لله ورسوله، فإنه فاسق متوعد بهذا الوعيد: فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التّوبَة: 24].

المتن:

بَابُ حَلاَوَةِ الإِيمَانِ

16 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ المُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَهَّابِ الثَّقَفِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ.

 الشرح:

16 قوله: ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِْيمَانِ، أي: وجد لذة وراحة وطمأنينة، فإذا كانت الحلوى يجد لها اللسان لذة وطعمًا حلوًا، فإن لذة الإيمان، وراحته، وطمأنينته، توجد عند من توفرت فيه هذه الخصال الثلاث:

الخصلة الأولى: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، بمعنى: أن يقدم محبة الله ومحبة الرسول على ما سواهما من محبة الآباء، ومحبة الأبناء، ومحبة الأزواج، ومحبة الأموال، ومحبة العشيرة، ومحبة التجارات؛ فهو يقدم محبة الله ورسوله على كل محبة، وعلى كل شيء.

والخصلة الثانية: وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وجاء في الحديث الآخر وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ... [(109)] الحديث، أي: أن يحب الشخص لله، لا يحبه لأجل قرابة، أو معاملة أو مشاركة في صناعة، أو تجارة أو عمل وظيفي، أو أي مصلحة دنيوية، إنما يحبه لكونه مستقيمًا على طاعة الله، مؤديًا فرائض الله، منتهيًا عن محارم الله، وإن لم يكن قريبًا، وإن كان أعجميًّا، وإن كان بعيد الدار، فلا يحب إلا لله؛ فهذه هي المحبة الباقية، وهي التي تنفع أصحابها يوم القيامة، بخلاف المحبة لغير الله مما بني على الهوى والمصلحة والمنفعة، وغير ذلك من أمور الدنيا، فإنها تخون الإنسان وهو في أحوج ما يكون إليها يوم القيامة، كما قال تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [البَقَرَة: 166]، قال ابن عباس: انقطعت المحبة وخانتهم أحوج ما كانوا إليها، وقال سبحانه: الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ [الزّخرُف: 67]؛ والأخلاء هم الأصدقاء، والمتحابون، يصيرون أعداء يوم القيامة، إلا صنفًا واحدًا، وهم المتقون، الذين كانت محبتهم في الله.

الخصلة الثالثة: وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ، أي يكره الكفر كراهة شديدة ككراهته أن يلقى في النار.

وفي هذا الحديث: دليل على أن الإيمان يتفاوت، بمعنى أنه يزيد وينقص، وأنه أقوال وأعمال، أعمال قلبية كمحبة الله تعالى، وحب المرء، وكراهية الكفر، وكراهية القذف في النار، فكل هذا من عمل القلوب؛ فالإيمان يشمل أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، وتصديق القلب.

وفيه: دليل على جواز تثنية ضمير الله وضمير رسوله في قوله: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا؛ وأما حديث النبي  ﷺ لما سمع رجلاً يقول: ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال عليه الصلاة والسلام: بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ [(110)]، فهذا إما منسوخ أو أنه محمول على حالة خاصة، وهي حالة الخطب التي تحتاج إلى إيضاح وبيان؛ وإن كان الأولى ألا يُثنى ضمير الله ورسوله كثيرًا.

المتن:

بَابٌ: عَلاَمَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ

17 - حَدَّثَنَا أَبُو الوَلِيدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَبْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ.

الشرح:

 17 قوله: آيَةُ أي: علامة، وهاتان علامتان :

العلامة الأولى: حُبُّ الأَنْصَارِ؛ وهي علامة الإيمان.

العلامة الثانية: بُغْضُ الأَنْصَارِ؛ وهي علامة النفاق.

والحب والبغض عملان قلبيان من أعمال القلوب، فجعل من الإيمان الحب للأنصار، وجعل بغض الأنصار من النفاق، فدل على أن الإيمان يكون قوليًّا، ويكون عمليًّا، فهو قول وعمل.

والمراد بالأنصار الأوس والخزرج ؛ لأنهم نصروا الله ورسوله، وآووا المهاجرين وواسوهم بأموالهم وأنفسهم، وعادوا كل أحد من أجل الله ورسوله، فكانت لهم هذه الميزة، وهي أن حبهم علامة الإيمان، وبغضهم علامة النفاق؛ ويدخل في هذا كل من شاركهم في هذا الوصف، فكل من نصر الله ورسوله فحبه إيمان وبغضه نفاق، كالدعاة إلى الله، وأنصار الحق، والعلماء العاملين، فمن أبغض الدعاة والناصحين، والآمرين بالمعروف، والناهين عن المنكر، والمجاهدين في سبيل الله، فإن هذا علامة على نفاقه؛ ومن أحبهم فإن هذا علامة على إيمانه.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «فصل: خرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، عن النبي  ﷺ قال: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ [(111)]. وخرج البخاري ومسلم أيضًا من حديث أنس قال: قال رسول الله  ﷺ: لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [(112)].

فمحبة النبي  ﷺ من أصول الإيمان، وهي مقرونة بمحبة الله ، فقد قرنها الله بمحبته، وتوعد من قدم عليها شيئًا من الأمور المحبوبة طبعًا، كالأقارب والأموال والأوطان، وغير ذلك، فقال تعالى: قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[التّوبَة: 24].

ولما قال عمر للنبي  ﷺ: أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، فقال: لا يا عمر، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، فقال عمر: والله أنت الآن أحب إلي من نفسي؛ قال: الآنَ يَا عُمَرُ [(113)]، فيجب تقديم محبة الرسول  ﷺ على النفوس، والأولاد، والأقارب، والأهلين، والأموال والمساكن، وغير ذلك مما يحبه الناس غاية المحبة، وإنما تتم المحبة بالطاعة، كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عِمرَان: 31]».

فهذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي، تسمى: آية المحنة، أو آية الامتحان؛ فقد ادعى قوم محبة الله فامتحنهم الله بهذه الآية؛ فمن ادعى محبة الله فعلامتها اتباع الرسول، فإن توفرت فيه فهو صادق، وإن لم تتوفر فيه فهو كاذب في دعواه؛ فالدعوى لا تقبل إلا بدليل؛ ودعوى محبة الله دليلها اتباع الرسول  ﷺ.

قال ابن رجب: «وسئل بعضهم عن المحبة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال».

فمحبة الله ورسوله هي موافقة الله في كل شيء، بمعنى أن يحب ما يحبه الله، ويكره ما يكرهه الله، ويأتمر بما أمر الله به، وينتهي عما نهى الله عنه، ويوالي من يوالي الله، ويعادي من يعادي الله وهكذا؛ فالمحبة هي موافقة المحب الحبيب فيما يحبه ويرضاه، ويسخطه ويكرهه، ويواليه ويعاديه.

قال ابن رجب: «فعلامة تقديم محبة الرسول على محبة كل مخلوق: أنه إذا تعارضت طاعة الرسول  ﷺ في أوامره وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة، فإن قدَّم المرء طاعة الرسول، وامتثال أوامره على ذلك الداعي، كان دليلاً على صحة محبته للرسول، وتقديمها على كل شيء، وإن قدم على طاعته، وامتثال أوامره شيئًا من هذه الأشياء المحبوبة طبعا، دل ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه».

أي إذا قدَّم شيئًا يخالف ما أمر به الله ورسوله كان عاصيًا، وكان إيمانه ناقصًا ضعيفًا؛ لأن محبته ناقصة، ولا يكون كافرًا لأن معه أصل محبة الله ورسوله إلا إذا وقع في كفر، أو شرك أكبر، فعندئذ تنتهي محبة الله ورسوله.

قال ابن رجب: «وكذلك القول في تعارض محبة الله، ومحبة داعي الهوى، والنفس، فإن محبة الرسول تبع لمحبة مرسله ؛ هذا كله في امتثال الواجبات، وترك المحرمات؛ فإن تعارض داعي النفس، ومندوبات الشريعة، فإن بلغت المحبة إلى تقديم المندوبات على دواعي النفس، كان ذلك علامة كمال الإيمان، وبلوغه إلى درجة المقربين المحبوبين المتقربين بالنوافل بعد الفرائض، وإن لم تبلغ هذه المحبة إلى هذه الدرجة فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين، الذين كملت محبتهم الواجبة، ولم يزيدوا عليها».

وقال أيضًا: «خرج البخاري ومسلم من حديث أنس، عن النبي  ﷺ قال: آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ. [(114)].

هذا المعنى يرجع إلى ما تقدم من أن حب المرء لا يحبه إلا لله من علامات وجود حلاوة الإيمان، وأن الحب في الله من أوثق عرى الإيمان، وأنه أفضل الإيمان، فالأنصار نصروا الله ورسوله، فمحبتهم من تمام حب الله ورسوله.

وخرج الإمام أحمد من حديث سعيد بن زيد، عن النبي  ﷺ قال: لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِي، وَلَا يُؤْمِنُ بِي مَنْ لَا يُحِبُّ الْأَنْصَارَ [(115)]، وخرج الطبراني وغيره من حديث أبي هريرة، عن النبي  ﷺ قال: مَنْ أَحَبَّ الأنصار فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ وَمَنْ أَبْغَضَ الأنصار فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ [(116)]، وفي «صحيح مسلم»: عن أبي سعيد وأبي هريرة، عن النبي  ﷺ قال: لَا يُبْغِضُ الْأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [(117)]، وفي المسند عن أبي سعيد عن النبي  ﷺ قال: حُبُّ الْأَنْصَارِ إِيمَانٌ، وَبُغْضُهُمْ نِفَاقٌ [(118)]، وكذلك حب المهاجرين ـ الذين هم أفضل من الأنصار ـ من الإيمان»، وهذا من باب قياس الأولى فإذا كان حب الأنصار إيمان فحب المهاجرين أولى؛ لأنهم أفضل منهم.

قال ابن رجب: «وفي «صحيح مسلم»: عن علي قال: إنه لعهد النبي  ﷺ إلي: «لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق» [(119)]، وفي «المسند»، والترمذي: عن عبدالله بن مغفل، عن النبي  ﷺ قال: اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ [(120)]».

قوله  ﷺ: غَرَضًا أي: هدفًا يرمى، وهذا في الذين يسبون الصحابة.

قال ابن رجب: «وفي بعض نسخ كتاب الترمذي، عن ابن عباس عن النبي  ﷺ قال: أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ وَأَحِبُّونِي لحُبِّ اللَّهِ وَأَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي [(121)]. وفي «المسند»، وكتاب النسائي، وابن ماجه، عن أبي هريرة، عن النبي  ﷺ، أنه قال في الحسن والحسين: مَنْ أَحَبَّهُمَا فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَبْغَضَهُمَا فَقَدْ أَبْغَضَنِي [(122)]؛ فمحبة أولياء الله وأحبابه عمومًا من الإيمان، وهي من أعلى مراتبه، وبغضهم محرم؛ فهو من خصال النفاق؛ لأنه مما لا يتظاهر به غالبًا، ومن تظاهر به فقد تظاهر بنفاقه، فهو شر ممن كتمه وأخفاه.

ومن كان له مزية في الدين لصحبة النبي  ﷺ أو لقرابته أو نصرته، فله مزيد خصوصية في محبته وبغضه، ومن كان من أهل السوابق في الإسلام، كالمهاجرين الأولين، فهو أعظم حقًّا، مثل علي».

ولهذا كل مؤمن، وكل تقي، وكل ولي، تجب محبته؛ فمن علامات الإيمان محبة المؤمنين، والمصلحين، والمرشدين، والوعاظ، وأهل العلم، وأهل الخير عمومًا، وأفضلهم في ذلك وأعظمهم الصحابة؛ لما كانت لهم مزية الصحبة؛ فهم أولى من غيرهم، فالأنصار حبهم من الإيمان، والمهاجرون أفضل منهم؛ لذا فحبهم إيمان، وبغضهم نفاق، والسابقون الأولون ينبغي أن يكون حبهم أعظم وأفضل، وهكذا.

قال ابن رجب: «وقد روي أن المنافقين إنما كانوا يعرفون ببغض علي ، ومن هو أفضل من علي، كأبي بكر وعمر؛ فهو أولى بذلك؛ ولذلك قيل: إن حبهما من فرائض الدين، وقيل: إنه يرجى على حبهما ما يرجى على التوحيد من الأجر» ولا شك في هذا؛ ولذا ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الصارم المسلول» أن سبَّ الشيخين كفر وردة.

وكذلك سب سائر الصحابة كفر وردة، لأن سبهم تكذيب لله ولرسوله؛ والنصوص قد جاءت في فضل الصحابة، وفي فضل الشيخين، والله تعالى قال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التّوبَة: 100]، وقال: وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحَديد: 10]، يعني: الجنة، وكذلك قال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ [الفَتْح: 18].

فمن أبغض الصحابة أو سبهم أو تنقصهم فقد كذَّب الله ورسوله، فكيف يترضى عنهم الرب ويسبهم العبد؟! ثم إن سبهم أيضًا سب للدين الذي حملوه؛ فهم الذين حملوا إلينا الشريعة والقرآن والسنة، فكيف يوثق في دين ينقله كفار، أو فساق؟!

فمن سب الصحابة، أو كفَّرهم، أو فسَّقهم، فهو مرتد، مكذب لله ولرسوله ـ نسأل الله السلامة والعافية ـ.

المتن:

18 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ عَائِذُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ العَقَبَةِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ، وَلاَ تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلاَ تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ. فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ.

الشرح:

 18 أما الحديث الذي رواه عبادة بن الصامت ، ففيه أن النبي  ﷺ بايع الصحابة على هذه الأشياء: على ألا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم، وأرجلهم، ولا يعصونه في معروف؛ فمن وفى منهم فأجره على الله ـ أي: تم أجره وثوابه عند الله ـ.

وهذه البيعة التي بايع بها النبي  ﷺ المؤمنين مثل بيعة النساء التي ذكرها الله تعالى في سورة الممتحنة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المُمتَحنَة: 12]؛ فالنبي  ﷺ بايع الرجال على هذه الأمور، كما بايع عليها النساء؛ والصحابة وفوا بهذه البيعة؛ فوجبت محبتهم؛ فكان حبهم من الإيمان وبغضهم من النفاق؛ وهذه هي مناسبة الحديث للترجمة، فهذا الباب كالفصل من الباب السابق.

لقد بايع النبي  ﷺ الصحابة على هذه الأشياء، وبايع الصحابة بيعات متعددة للتأكيد، والمتابعة، والالتزام بالطاعة؛ ومن ذلك: أن النبي  ﷺ بايع نفرًا من الصحابة على ألاَّ يسألوا الناس شيئًا، فكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ الذين بايعهم النبي  ﷺ على ذلك ـ من التزامهم بهذه البيعة ـ يسقط سوط أحدهم وهو على الدابة، فلا يأمر أحدًا أن يناوله إياه[(123)]، بل ينزل ويأخذ العصا بنفسه؛ لئلا يسأل الناس شيئًا؛ لأنه لو قال: يا فلان ناولني العصا فقد سأل الناس؛ وكلما أمكن أن يستغني المرء عن الناس فهو أولى.

وهناك بعض الناس يُكثر من الطلب، ويحب أن يُخدم؛ وكذلك بعض الشيوخ يكثر من أن يطلب من تلامذته، ويأمرهم بخدمته، وهذا تركه أولى.

فإن قيل: إن بيعة النبي لبعض الصحابة ألا يسألوا الناس شيئًا، خاصة بالمال، فهذا غير صحيح؛ لأن كلمة شَيْئًا في الحديث نكرة، أي: مالاً وغيره، والمال قد وردت فيه نصوص خاصة، كقوله  ﷺ: مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ [(124)]، وقوله: مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ [(125)]، وفي هذا إشارة إلى أن إعطاء المال لمن لا يستحق ظاهره التحريم.

لكن قوله: «لا يسأل الناس شيئًا» شيئًا: عند أهل الأصول نكرة في سياق النفي، فتعم فتشمل المال وغيره؛ ولهذا فهم الصحابة من هذا الحديث العموم، فكان يسقط سوط أحدهم، فلا يأمر أحدًا أن يناوله إياه؛ والصحابة أعلم الناس بالكتاب، والسنة، وبمراد رسول الله  ﷺ.

أما بالنسبة للحاجة للزوج، أو الزوجة، أو الأولاد فالأمر أيسر؛ لأن الإنسان له حق عليهم، فسؤالهم قد يسامح فيه، لكن ما أمكن الاستغناء عن الناس فهو خير.

ومن ذلك أيضًا بيعة جرير بن عبدالله البجلي ـ الصحابي الجليل ـ قال: بايعت رسول الله  ﷺ على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم[(126)]؛ فهذه بيعة خاصة.

قوله: فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ أي: فمن وفى يجد ثوابه موفورًا عند الله، ومن لم يف، وأصاب شيئًا من ذلك وخالف، بأن سرق، أو زنى، أو قتل، فهذا بين أحد أمرين: إن أصيب بذلك بأن أقيم عليه الحد، كان كفارة له، كأن سرق ثم قطعت يده، أو قتل ثم قُتل، أو زنى ثم أقيم عليه الحد كان كفارة له، ومن أصاب من الإثم شيئًا فسلم وستره الله فهذا إلى الله، إن شاء الله غفر له، وأدخله الجنة؛ لتوحيده، وإيمانه، فضلاً من الله، وإن شاء عذبه بقدر جريمته ـ يعني: تحت المشيئة ـ كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النِّسَاء: 48].

وفي الحديث دليل على أن الحدود في الدنيا كفارات؛ ولهذا قال النبي  ﷺ: وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، فالله تعالى أعدل من أن يُثَنِّي على عبده العقوبة في الآخرة، كما جاء في بعض الروايات: إن الله أكرم مِنْ أَنْ يُثَنِّيَ عَلَى العَبْدِ العُقُوبَةَ فِي الآخِرَةِ [(127)].

أما الشرك فهو مستثنى من هذه المغفرة؛ يقول تعالى: عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا [المُمتَحنَة: 12]، قال بعضهم: إن المراد به الشرك الأصغر، وقال آخرون: إنه غير داخل في البيعة؛ لأن النبي  ﷺ بايع الصحابة وهم موحدون.

وهذا الشرك الذي لا يغفر وهو الشرك الأكبر، فصاحبه من أهل النار قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النِّسَاء: 48]، والجنة عليه حرام، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المَائدة: 72]، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي  ﷺ أمر مناديًا ينادي في بعض الغزوات: أن «لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» [(128)].

وثبت أن النبي  ﷺ أمر مؤذنين يؤذنون في الناس ـ في السنة التاسعة في الحجة التي حج فيها أبو بكر بالناس ـ يوم النحر بمنى بأربع كلمات:

الأولى: «ألا يحج بعد العام مشرك».

الثانية: «ألا يطوف بالبيت عريان» .

الثالثة: «ألا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة» .

الرابعة: «من كان له عهد فهو إلى عهده ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر» [(129)].

يعني: الكفار من كان له عهد من الرسول  ﷺ فله مدة العهد، ومن لم يكن له عهد فله مدة أربعة أشهر، ثم بعد ذلك إما أن يسلم وإما يقاتل، كما قال سبحانه في أول سورة براءة: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ۝ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ۝ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التّوبَة: 1-3]، ويوم الحج الأكبر هو: يوم النحر، فكان جماعة يؤذنون بمنى، منهم: علي بن أبي طالب، وأبو هريرة بهذه الكلمات.

وكان الكفار يحجون وهم عراة، فهذا تنبيه وتحذير لهم؛ لأنه بعد هذا العام لن يحج مشرك، ولن يطوف بالبيت عريان، ولن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان له عهد فهو إلى عهده، وإلا فله أربعة أشهر.

وكما أن الحدود كفارات، فالمصائب كذلك، يكفر الله بها من الخطايا، ويرفع بها الدرجات، والصغائر هي التي تكفر بالمصائب، وكذلك بأداء الفرائض، واجتناب المحرمات؛ أما الكبائر فلابد لها من توبة، وإلا كان صاحبها تحت كما قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النِّسَاء: 31]، فقد تكفر بعض الطاعات بعض الذنوب، فالمعاصي قد تكفر بالحسنات العظيمة، وقد تكفر ببعض المصائب، لكن الكبائر في الجملة لابد لها من توبة، كما قال النبي  ﷺ: الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ [(130)].

قوله: ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ يعني: إذا لم يؤخذ ولم يقم عليه الحد، ولم يُعلم عنه، ولم يصل إلى الحاكم الشرعي، فصار الذنب بينه وبين الله فعليه أن يتوب فيما بينه وبين الله.

وبالرغم من أن الحد كفارة لكن لا يستحب لمن ستره الله أن يفضح نفسه عند الحاكم ليقام عليه الحد، بل الأفضل أن يتوب فيما بينه وبين الله ولا يسلم نفسه، فالتوبة كفارة وطهارة، لكن المهم أن تكون توبته نصوحًا، وذلك بأن يندم على ما مضى، ويقلع عن المعصية، ويعزم عزمًا جازمًا على ألا يعود إلى المعصية مرة أخرى، ويرد المظلمة إلى أهلها، سواء كانت تتعلق بالجسد، أو بالمال، أو بالعرض، فلابد من هذا قبل الموت.

وعلى الرغم من أن البيعة كانت للصحابة، إلا أن الحكم عام لهم ولغيرهم، فمن التزم بهذه الأوامر فأجره على الله، ومن فعل شيئًا من هذه المعاصي، أو الكبائر، كالزنا، أو السرقة، أو غيرها ثم عوقب به، وأقيم عليه الحد، فهو كفارة له؛ وإن تاب فهو كفارة له؛ وإن لم يتب، ولم يعاقب، فهو تحت مشيئة الله؛ والشرك الأكبر مستثنى من هذا، إذا مات عليه صاحبه فلا يغفر له؛ فالكافر لا يدخل تحت المشيئة؛ وقد جاءت النصوص تخرجه، قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النِّسَاء: 48]، والله تعالى خص الشرك؛ لأنه غير مغفور، وعلق ما دونه على المشيئة، فدل على أن المشرك إذا لقي ربه على شركه فإنه غير مغفور له مَنْ لَقِيَ اللَّهَ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النَّارَ [(131)]؛ وهذا بالنسبة للشرك الأكبر، أما بالنسبة للشرك الأصغر ففيه خلاف، فبعض العلماء جعل الشرك الأصغر كالكبائر، وبعضهم قال: إن الشرك الأصغر كالأكبر لا يغفر؛ لعموم الآية: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ؛ ولكن صاحب الشرك الأصغر لا يخلد في النار؛ ومعنى كونه غير مغفور: أنه يقابل بالحسنات، فلا يغفره الله إلا بمقابلته؛ فإذا كانت له حسنات كثيرة يُسقط من حسناته؛ وإن كان الشرك يسيرًا محي بكثير الحسنات؛ لأنه توحيد، وإن كان الشرك الأصغر كثيرًا، والسيئات كثيرة، فإنه يعذب به، ثم يخرج من النار لا يخلد.

أما الكبائر غير الشرك الأصغر فقد يغفرها الله بدون مقابل، كما في قوله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النِّسَاء: 48]، فإذا أصاب شخص بذاته شيئًا من الكبائر وظهر أمره بين الناس، ولم يصل إلى الحاكم، فيكفي أن يتوب فيما بينه وبين الله؛ لأن الحد لا يقام إلا إذا وصل إلى الحاكم الشرعي، فإن وصل أقيم عليه الحد؛ أما إذا لم يصل، وكان بين الناس، وستروا عليه ـ ولاسيما إذا كان من ذوي الهيئات، لقوله  ﷺ: أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ [(132)]ـ فالأولى ألا يسلموه للحاكم بل يؤدبوه فيما بينهم، ويستروا عليه إذا كان زل في الكبيرة على غير عادة، ولا يوصلونه إلى الحاكم الشرعي؛ لأنه لو وصل إلى الحاكم الشرعي فلابد أن يقام عليه الحد ما قامت عليه البينة؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: تَعَافُّوا الْحُدُودَ فِيمَا بَيْنَكُمْ [(133)]، وفي حديث آخر: فإذا وصلت الحدود إلى الحاكم فلعن الله الشافع والمشفع [(134)]؛ ولما سرق رداء لصفوان رفع السارق إلى النبي  ﷺ، فلما رآه سيقطع قال: يا رسول الله عفوت عنه، فقال النبي  ﷺ: هلا كان ذلك قبل أن تأتيني؟! [(135)]، أي: يمكن العفو عنه قبل أن يصل إلى الحاكم؛ أما إذا وصل إلى الحاكم فلابد من إقامة الحد؛ فإن كانت سرقة تقطع يده، ولا شفاعة فيه، وإن كان زنا يقام عليه الحد، وإن كانت خمرًا يجلد، وهكذا؛ أما إذا أمكن ستره فيما بينه وبين أهل حيه، أو جيرانه، فيسترونه، ويؤدبونه فيما بينهم، ويكون هذا منهم قبل أن يرفعوه إلى الحاكم الشرعي.

المتن:

بَابٌ: مِنَ الدِّينِ الفِرَارُ مِنَ الفِتَنِ

19 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ.

الشرح:

قوله: «بَاب مِنْ الدِّينِ الْفِرَارُ مِنْ الْفِتَنِ» الدين هو الإيمان، والإيمان يدخل في الإسلام عند الإطلاق، وقد صح أن الدين والإيمان والإسلام شيء واحد، وهذا يدل على أن الإيمان يتفاوت، بمعنى أنه يزيد وينقص، وكذلك الدين.

19 وفي حديث: الباب أن الفرار من الفتن عمل من الدين ومن الإيمان، ولهذا ساق المؤلف هذا الحديث: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفر بدينه من الفتن»، بمعنى: أن يكون خير مال الإنسان أن يتخذ غنمًا، ويذهب إلى البرية، ويتتبع بها شعف الجبال، والأودية، ومواقع السيل، والمطر، يرعاها؛ حتى يسلم بدينه من الفتن في المدن، والقرى.

قال العلماء: وهذا الحديث إنما يعمل به إذا نزع الخير من المدن والقرى، وذلك في آخر الزمان، إذا انعدم من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا أحد يعظ الناس ولا يذكرهم بالله، ولا جمعة ولا جماعة، ويخشى على دينه من الفتن، ففي هذه الحال يعمل بالحديث، فتكون البراري أحسن من المدن والقرى، ويحمل على هذا قول الشاعر:

عَوى الذِئبُ فَاِستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذا عَوى وَصَوَّتَ إِنسانٌ فَكِدتُ أَطيرُ

أي: لما عوى الذئب استأنس به؛ لأنه في البرية فليس عنده أحد يفتنه، ولما صوت إنسان خاف من الفتن.

أما إذا كانت المدن فيها جمعة وجماعة، وفيها من يذكِّر بالخير، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فلا ينبغي للإنسان أن يخرج إلى البرية؛ لأنه في هذه الحال تفوته الجمع، والجماعات؛ ويفوته الخير؛ ولأن الذهاب إلى البراري، والقفار، وترك المدن، والقرى، تعرب بعد الهجرة من غير موجب؛ فيعد من الكبائر؛ لهذا جاء في الحديث الوعيد الشديد على من تعرب بعد الهجرة، وإن كان في الحديث ضعف: اجتنبوا الكبائر السبع... والتعرب بعد الهجرة [(136)]، والأعرابي ـ وهو من كان في البراري ـ لا يؤم المهاجر ـ يعني: من كان في القرى ـ لجهالة الأعرابي، أي: جاهل بأحكام الدين.

والمقصود: أن التعرب منهي عنه؛ وهذا الحديث إنما يَعمل به المرء في آخر الزمان إذا خاف أن يفتن في دينه.

المتن:

باب قَوْلُ النَّبِيِّ  ﷺ: أنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللَّهِ وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ فِعْلُ الْقَلْبِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها دليل على أن المعرفة طاعة، وأن عمل القلب من الإيمان، وأن الإيمان باللسان لا يكفي حتى يصدق القلب.

قوله: أَعْلَمَكُمْ فيه: أن العلم يتفاوت، والعلم هو معرفة القلب، فعمل القلب إذن يتفاوت، ويترتب عليه تفاوت الإيمان؛ ولهذا قال : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ.

وفيه: الرد على الكرَّامية الذين ينتسبون إلى «محمد بن كرام» حيث يقولون: الإيمان هو قول اللسان فقط، فإذا تكلم الإنسان بلسانه فهو مؤمن، وإن كان منافقًا في الباطن، فهو مؤمن كامل الإيمان لإقراره باللسان، وهو مخلد في النار لكونه منافقًا في الباطن، فيكون مؤمنًا كامل الإيمان مخلدًا في النار على قول هؤلاء، وهذا من أفسد ما قيل.

قوله: وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا، يعني: أن الرسول أعلم الناس بالله، وغيره أقل علمًا بالله منه.

وفيه: دليل على أن الإيمان يزيد وينقص.

المتن:

20 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا أَمَرَهُمْ، أَمَرَهُمْ مِنَ الأَعْمَالِ بِمَا يُطِيقُونَ، قَالُوا: إِنَّا لَسْنَا كَهَيْئَتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، فَيَغْضَبُ حَتَّى يُعْرَفَ الغَضَبُ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا.

الشرح:

20 قوله: إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا، وفي لفظ لأنا أعلمهم [(137)] فيه: دليل على أن الإيمان يتفاوت، وأن الرسول أتقى الناس وأعلم الناس، وأعبد الناس وأزهد الناس، وأشجع الناس عليه الصلاة والسلام؛ وهذا ليس من باب التزكية للنفس، بل يخبرنا بذلك النبي  ﷺ من باب التشريع، كقوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ [(138)]، فهذا من باب إخباره بالحكم الشرعي، وإخبار بمنزلته حتى نعلم ذلك، وغضبه عليه الصلاة والسلام ـ لما قيل له: يا رسول الله، غُفر لك ما تقدم من ذنبك ـ دليل على أنه  ﷺ هو وغيره في الأحكام سواء، إلا ما خصه الدليل به.

المتن:

بَابٌ: مَنْ كَرِهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ مِنَ الإِيمَانِ

21 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَمَنْ أَحَبَّ عَبْدًا لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ ، وَمَنْ يَكْرَهُ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ، بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ، مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ.

الشرح:

 21 هذه الخصال في حديث الباب من أعمال القلوب، وهي من الإيمان، فإذا أحب الله ورسوله فهذا من الإيمان، وإذا كره أن يعود في الكفر بعد إذ أخرجه الله منه كما يكره أن يلقى في النار فهذا أيضًا من الإيمان.

فالكراهية والمحبة من أعمال القلوب، وهما من الإيمان.

 المتن:

بَابٌ: تَفَاضُلِ أَهْلِ الإِيمَانِ فِي الأَعْمَالِ

22 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى المَازِنِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ؛ فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا قَدِ اسْوَدُّوا، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الحَيَا، أَوِ الحَيَاةِ - شَكَّ مَالِكٌ - فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي جَانِبِ السَّيْلِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهَا تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً.

قَالَ وُهَيْبٌ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو: الحَيَاةِ، وَقَالَ: خَرْدَلٍ مِنْ خَيْرٍ.

الشرح:

 22 حديث أبي سعيد الأول فيه: دليل على تفاضل الناس في أعمال الإيمان، وأن إيمان المرء قد يضعف حتى لا يبقى منه إلا مثقال حبة خردل زيادة على التوحيد؛ فيدخل النار ويعذب، ثم يخرج منها بهذا الإيمان، ولو كان قليلاً، ولا ينتهي الإيمان إلا بالكفر الأكبر، أو الشرك الأكبر، أو النفاق الأكبر، فيخلد صاحبه في النار؛ أما إذا لم يوجد الكفر، ولكن وجدت المعاصي ـ ولو عظمت أو كثرت ـ فإنها لا تذهب الإيمان، لكنها تنقصه وتضعفه؛ ولهذا قال : أَخْرِجُوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ.

وجاء في الحديث الآخر أن النبي  ﷺ يشفع أربع مرات، كل مرة يحد الله له حدًّا، المرة الأولى يقول الله له: أخرج مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وفي الثانية: أخرج مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أدنى مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وفي الثالثة: أخرج مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أدنى أدنى مِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ وفي الرابعة: أخرج من قال: لا إله إلا الله فيخرجون وقد اسودوا وامتحشوا، وصاروا حممًا فيلقون في نهر الحياة. [(139)]، وفي لفظ: أنهم يخرجون ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ، فَيُلْقَوْنَ في نهر الحياة، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ [(140)].

و الحِبَّة: البذرة، و فِي حمِيلِ السَّيْلِ، يعني: ما يحمله معه السيل إذا جرى من قشاش وأعواد، فتنبت الحبة بما يحمله السيل، ثم تذبل فتكون ملتوية صفراء، فكذلك هؤلاء العصاة يخرجون من النار ويصب عليهم من نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، وإذا أُخرج العصاة الموحدون فلم يبق أحد أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم: كاليهود، والنصارى، والوثنيين، والشيوعيين ـ والمنافقون في الدرك الأسفل من النار ـ لا يخرجون منها أبد الآباد، كما قال الله تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [الهُمَزة: 8]، يعني: مطبقة مغلقة، وقال سبحانه: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المَائدة: 37].

المتن:

23 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، مِنْهَا مَا يَبْلُغُ الثُّدِيَّ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الدِّينَ.

الشرح:

23 أما حديث أبي سعيد الثاني فيدل على تفاوت الناس في الدين، والدين هو الإيمان، والإيمان والإسلام واحد، فالدين يتفاوت، والإيمان يتفاوت، والإسلام يتفاوت، وهذا العرض على النبي  ﷺ في النوم، ورؤيا الأنبياء وحي؛ فما رأوه في النوم فهو حق، فإبراهيم رأى في المنام أنه يذبح ولده، فشرع في تنفيذ ذلك كما في القرآن: قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصَّافات: 102]، فرؤيا الأنبياء وحي.

قوله: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، القمص هي: الثياب التي نلبسها الآن، فالقميص ثوب مفصل، والعرب كانت تلبس القمص، وأحيانًا كانت تلبس الأزر والأردية، والإزار: قطعة ثوب يشد به النصف الأسفل، والرداء: ما يضعه على كتفيه مثل المحرم.

قوله: «قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الدِّينَ، هذا فيه: دليل على أن العري في المنام معناه نقص في الدين، وما كان من إسباغ في الثياب فهو إسباغ في الدين، وما كان من نقص فهو نقص في الدين.

وفيه: أن عمر دينه كامل وإيمانه سابغ؛ فقد عرض الناس على النبي  ﷺ وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي وباقي الجسد عريان، ومنها ما دون ذلك، وعرض عليه عمر بن الخطاب ، فإذا عليه ثوب يجره أي: يسحبه.

المتن:

بَابٌ: الحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ

24 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، وَهُوَ يَعِظُ أَخَاهُ فِي الحَيَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: دَعْهُ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها بيان أن الحياء من الإيمان، والمؤلف رحمه الله يعدد التراجم في كتاب الإيمان؛ ليستدل بها على أن الإيمان أقوال وأعمال، وأنه يشمل قول اللسان، وقول القلب، وعمل القلب، وعمل الجوارح، فقول القلب هو: التصديق والإقرار، وعمل القلب: النية والإخلاص والصدق والمحبة والانقياد، وعمل الجوارح معروف، وقول اللسان كذلك، والحياء عمل من أعمال القلب، وهو خلق داخلي باطني، يبعث صاحبه على فعل المحامد والخير، ويحجزه ويمنعه من فعل القبائح والشر.

 24 وفي حديث الباب أن النبي  ﷺ مر على رجل وهو يعظ أخاه في الحياء، بمعنى أنه يقول له: الحياء يمنعك عن كذا وكذا؛ فلا تستحِ، ويؤيد هذا ما جاء في الرواية الأخرى: «أنه يعاتب أخاه في الحياء» [(141)] كأن الحياء يمنعه من استيفاء بعض حقوقه، فقال النبي  ﷺ: دَعْهُ، أي: لا تمنعه من الحياء؛ فَإِنَّ الحَيَاءَ مِنَ الإِيمَانِ، فالنبي  ﷺ أثبت في هذا الحديث أن الحياء ـ وهو عمل من أعمال القلب ـ من الإيمان، فدل على أن أعمال القلوب داخلة في مسمى الإيمان، وفي هذا رد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو مجرد التصديق، وإن أعمال القلوب وأعمال الجوارح لا تدخل في مسمى الإيمان.

والمراد بالحياء في الحديث: الذي يبعث على فعل الخير، والمحامد، وينهى صاحبه عن فعل الشر، والمذام؛ أما الحياء الذي يمنع صاحبه من السؤال عن دينه، وحضور حلقات العلم، والجلوس مع الطلبة، فهذا جبن، وخور، وضعف؛ وليس حياء؛ ولهذا فإن النساء الصحابيات ـ رضوان الله عليهن ـ لم يمنعهن الحياء عن السؤال في دينهن كما قالت عائشة رضي الله عنها: نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين[(142)]؛ ولهذا جاءت أم سليم رضي الله عنها، وقالت للنبي  ﷺ: يا رسول الله، إن الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت؟ قال: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ المَاءَ، ولما قالت لها أم سلمة: فضحت النساء، وهل تحتلم المرأة؟ قال النبي  ﷺ: نَعَمْ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟! [(143)]، فالمرأة كالرجل، إذا رأت الماء ـ يعني المني ـ فإنها تغتسل، وكذلك الرجل إذا احتلم في النوم، ورأى الماء، فإنه يغتسل، أما إذا احتلم ولم يجد ماء ـ أي: بللاً ـ في ثيابه، ولا في جسده، فليس عليه غسل؛ فالاحتلام في النوم لا يوجب الغسل إلا إذا خرج الماء؛ وهذا بخلاف الجماع؛ فإنه يوجب الغسل بمجرده ولو لم ينزل.

المتن:

بَابٌ: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة: 5]

25 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ المُسْنَدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَوْحٍ الحَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها بيان أن الإيمان يتفاوت، وأن الناس يتفاوتون فيه، على حسب الالتزام بأعمال الإيمان وشرائعه، فمن التزم بجميع أعمال الإيمان فقد كمل إيمانه، ومن نقص التزامه ببعض الأعمال فقد نقص إيمانه، وفي آية الترجمة يقول الله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التّوبَة: 5]، يعني: فلا تقاتلوهم، فبين الله تعالى أنه يجب الكف عن المشرك إذا فعل هذه الأمور الثلاثة:

الأمر الاول: إذا تاب من الشرك.

الأمر الثاني: أقام الصلاة.

الأمر الثالث: آتى الزكاة.

فدل على أن كل واحدة منها لابد منها في الإيمان.

فالتوبة من الشرك والالتزام بالتوحيد، لابد منه في الإيمان.

وإقامة الصلاة كذلك، فإذا لم يُقِم الصلاة فإنه ليس بمسلم.

وإيتاء الزكاة كذلك، ولكن قد جاء ما يخرج إيتاء الزكاة، وأن تركها أو البخل بها، أو عدم إيتائها مع الإقرار بوجوبها لا يكون كفرًا في أصح قولي العلماء؛ لما جاء في الحديث الصحيح أن من منع الزكاة فإنه يعذب بماله، إن كان نقودًا فإنه يصفح له صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، كلما بردت أعيدت عليه، وإن كان إبلاً أو بقرًا أو غنمًا، فإنه يبطح لها بقاع قرقر فتطؤه بأظلافها وخفافها وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أُولاها رد عليه أُخراها، ثم قال في الحديث: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَرَى سَبِيلَهُ، إِمَّا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِمَّا إِلَى النَّارِ [(148)].

فدل على أن تارك الزكاة ليس كافرًا؛ لأنه لو كان كافرًا لما كان له سبيل إلى الجنة، وهذا إن لم يجحد وجوب الزكاة، أما إذا جحد وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين، لكن إذا بخل بها مع الإقرار، وهو يعلم ويعتقد أنها واجبة، لكن غلبته نفسه، وهواه، وشيطانه، وغلبه حب المال فبخل بالزكاة، فهذا هو محل الخلاف؛ فقال بعض العلماء: إنه يكفر، وقال آخرون: إنه لا يكفر، وهو الصواب؛ لهذا الحديث، فيكون خارجًا من هذه الآية: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التّوبَة: 5].

 25 وفي حديث ابن عمر الذي ذكره المؤلف رحمه الله، وهو قول النبي  ﷺ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاَّ بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ. ففيه: أن عصمة المال مترتبة على الالتزام بهذه الأمور الثلاثة، واقتصر على هذه الأمور الثلاثة؛ لأن من التزم بها فإن إيمانه يحمله على الإتيان ببقية شرائع الإسلام؛ لأن بقية شرائع الإسلام مطلوبة، ولهذا قال النبي  ﷺ: إِلاَّ بِحَقِّ الإِْسْلاَمِ، يعني: إلا بحقوق الإسلام، وهي أداء الفرائض والانتهاء عن المحارم.

وفي هذا الحديث: دلالة على أن من التزم بالتوحيد والصلاة والزكاة، فإن دمه معصوم ما لم يترك شيئًا من حقوق الإسلام، ولا من حقوق التوحيد، وهذا الحديث خفي على الصديق أن يستدل به على عمر حينما أراد حروب أهل الردة واعترض عليه عمر ؛ فإن الصديق لما استخلف، وكفر من كفر من العرب وارتد من ارتد أراد قتالهم ـ وهم أصناف:

منهم: من رجع إلى عبادة الأصنام والأوثان.

ومنهم: من أنكر رسالة محمد  ﷺ.

ومنهم: من كان ملتزمًا إلا أنه امتنع عن أداء الزكاة، فقالوا: لا نؤديها إلا إلى رسول الله  ﷺ.

ومنهم: من أنكر موت النبي  ﷺ ـ فاعترض عليه عمر في قتال من امتنع عن أداء الزكاة، فقال: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله  ﷺ: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فقال الصديق : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال[(149)]، ولم يستدل بهذا الحديث؛ لأنه خفي عليه، ولو كان مستحضرًا لهذا الحديث لاستدل به على عمر، ولو كان عمر مستحضرًا لهذا الحديث لما اعترض على الصديق، فإن هذا الحديث فيه: أن العصمة متوقفة على التوحيد، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ. لكن الحديث الآخر الذي استدل به الصديق ليس فيه إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فلم يبلغه، وإن كان ابن عمر هو راوي هذا الحديث، لكن لا يلزم منه أن يكون حاضرًا هذه القصة، وإن كان حاضرًا فيحتمل أنه نسي هذا ثم ذكره بعد ذلك، وهذا يدل على فقه الصديق وغزارة علمه؛ لأنه أراد قتال المرتدين الذين امتنعوا من أداء الزكاة ولم يستدل بهذا الحديث، وإنما استدل بفهمه العظيم للنصوص، وهو أن الزكاة حق المال، فقال الصديق: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال وهي من حقوق لا إله إلا الله، ثم بعد ذلك شرح الله صدر عمر لما شرح له صدر أبي بكر، وأجمع الصحابة على قتال المرتدين، ولم يفرقوا بينهم فقاتلوا من عبد الأصنام، وقاتلوا من أنكر رسالة محمد  ﷺ، وقاتلوا من منع الزكاة وقاتل عليها، فكلهم قوتلوا وكلهم يسمون أهل الردة؛ وذلك أن من امتنع عن الزكاة ثم قاتل عليها فإنه يكون مرتدًّا؛ لأن منعه وقتاله عليها يدل على أنه منكر لوجوبها، أما من امتنع عن أداء الزكاة ولم يقاتل عليها فلا يكفر.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «هذا المعنى مروي عن النبي  ﷺ من وجوه كثيرة، وقد سبق حديث أبي هريرة: الحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ. [(144)].

والحياء نوعان:

أحدهما: غريزي ؛ وهو خُلق يمنحه الله العبد ويجبله عليه، فيكفه عن ارتكاب القبائح والرذائل، ويحثه على فعل الجميل؛ وهو من أعلى مواهب الله للعبد؛ فهذا من الإيمان باعتبار أنه يؤثر ما يؤثره الإيمان من فعل الجميل، والكف عن القبيح؛ وربما ارتقى صاحبه بعده إلى درجة الإيمان؛ فهو وسيلة إليه كما قال عمر: من استحيا اختفى، ومن اختفى اتقى، ومن اتقى وقي.

وقال بعض التابعين: تركت الذنوب حياء أربعين سنة، ثم أدركني الورع.

وقال ابن سمعون: رأيت المعاصي نذالة؛ فتركتها مروءة، فاستحالت ديانة.

النوع الثاني: أن يكون مكتسبًا ، إما من مقام الإيمان، كحياء العبد من مقامه بين يدي الله يوم القيامة؛ فيوجب له ذلك الاستعداد للقائه، أو من مقام الإحسان، كحياء العبد من اطلاع الله عليه وقربه منه، فهذا من أعلى خصال الإيمان.

وفي حديث مرسل: أوصيك بتقوى الله، وأن تستحي من الله كما تستحيي رجلاً صالحًا من قومك [(145)]، وروي موصولاً. وسئل النبي  ﷺ عن كشف العورة خاليًا، فقال: اللَّـهُ أَحَقُّ أَنْ يُستَحيَى مِنْهُ [(146)].

وفي حديث ابن مسعود المرفوع: الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ وَالبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ [(147)]، خرجه الترمذي وغيره.

وخرج البخاري في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: أَلاَ إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ [هُود: 5]، أنها نزلت في قوم كانوا يجامعون نساءهم ويتخلون فيستحيون من الله، فنزلت الآية.

وكان الصدّيق يقول: استحيوا من الله؛ فإني أذهب إلى الغائط فأظل متقنعًا بثوبي حياء من ربي . وكان أبو موسى إذا اغتسل في بيت مظلم لا يقيم صلبه حياء من الله .

قال بعض السلف: خف الله على قدر قدرته عليك، واستحي منه على قدر قربه منك.

وقد يتولد الحياء من الله من مطالعة النعم فيستحيي العبد من الله أن يستعين بنعمته على معاصيه، فهذا كله من أعلى خصال الإيمان» أ.هـ.

لا شك أن الحياء وإن كان غريزيًّا، ولكن جاء الشرع بما يؤيده وينميه، وهو أن يكون عند الإنسان خُلق داخلي يحجزه، ويمنعه عن فعل الأشياء التي تشينه، ويبعثه على فعل المحامد، والشرع جاء بفعل المحامد وترك الأشياء الذميمة.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد