المتن:
الشرح:
لا شك أن الإيمان قول وعمل واعتقاد كما سبق في التراجم، وكما سبق في النصوص الكثيرة كما في حديث: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَعلاهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ [(150)]، فجعل الإيمان شعبًا متعددة، أعلاها كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق.
فكلمة التوحيد كلمة باللسان، لكن لابد لها من الإخلاص والصدق والمحبة، والانقياد وهي من أعمال القلوب.
وإماطة الأذى عن الطريق عمل بدني، والحياء عمل قلبي.
المتن:
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف: 72].
وَقَالَ عِدَّةٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 93] عَنْ قَوْلِ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقَالَ: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ العَامِلُونَ [الصافات: 61]
الشرح:
وقوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 93]، أي: عن قول لا إله إلا الله، أي كلمة التوحيد.
وكلمة التوحيد من المعلوم أنها لا تصح إلا بشروطها، ومن شروطها العلم المنافي للجهل، والإخلاص المنافي للشرك، واليقين المنافي للشك والريب، والصدق المانع من النفاق، والمحبة لهذه الكلمة والسرور بها، والانقياد بحقوقها، والقبول المنافي للترك، فهذه الأمور كلها لابد منها، وإلا فإن المنافقين يقولونها، وهم في الدرك الأسفل من النار؛ لأنهم لما قالوها مجردة عن الصدق ما نفعتهم؛ لأنهم يقولونها بألسنتهم، لكن قلوبهم مكذبة لها، فهم لا يقولونها إلا عن كذب، كما أنهم يشهدون للنبي ﷺ بالرسالة عن كذب، قال الله تعالى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنَافِقون: 1]، فشهادتهم شهادة باللسان، لكن قلوبهم مكذبة؛ ولهذا شهد الله عليهم بأنهم كاذبون وقال سبحانه: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البَقَرَة: 8]، فهم آمنوا بألسنتهم وما هم بمؤمنين بقلوبهم؛ لأن قلوبهم غير مصدقة، فلا تنفعهم كلمة التوحيد، كما أن من قالها وأشرك بالله فإنها لا تنفعه؛ لأنها لابد أن تكون عن إخلاص مناف للشرك، وكذلك من قالها ولم يقم بحقوقها ولم يحققها بالعمل لم تنفعه.
وبهذا يكون الإيمان قول وعمل؛ فكلمة التوحيد قول، وشروطها أعمال والتزام، فما تتحقق إلا بشروطها.
المتن:
الشرح:
26 قوله: أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ فَقَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الشاهد: أنه سمى الإيمان عملاً، ومن ذلك حديث وفد عبدالقيس حيث قال النبي ﷺ للوفد: آمركم بِالإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ،أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ [(151)]، وفي لفظ: وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ [(152)]، ففسر الإيمان بالعمل، أما مجرد النطق باللسان فلا يكفي وحده.
بَابُ إِذَا لَمْ يَكُنِ الإِسْلاَمُ عَلَى الحَقِيقَةِ، وَكَانَ عَلَى الِاسْتِسْلاَمِ أَوِ الخَوْفِ مِنَ القَتْلِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14] فَإِذَا كَانَ عَلَى الحَقِيقَةِ، فَهُوَ عَلَى قَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ [آل عمران: 19] وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.
قوله في ترجمة الباب: «لِقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات: 14]، فسرها البخاري رحمه الله بمعنى استسلمنا وانقدنا للإسلام ظاهرًا نفاقًا فذهب رحمه الله إلى أن المراد بالإسلام هنا الإسلام الظاهر، وهو إسلام المنافقين، وأن هذه الآية في المنافقين؛ لأن هذا ليس الإسلام على الحقيقة الشرعية، وإن كان إسلامًا ظاهريًّا.
وما ذهب إليه الإمام البخاري رحمه الله ـ مع جلالة قدره ـ فيه ضعف، والصواب: الذي عليه جمهور العلماء، والذي قرره المحققون وشيخ الإسلام ابن تيمية: أن هذه الآية ليست في المنافقين، وإنما هي في ضعفاء الإيمان، والإيمان الضعيف المعاصي لا يطلق على صاحبه مؤمن، وإنما يطلق على صاحبه مطلق الإسلام، فالعاصي يسمى مسلمًا ولا يسمى مؤمنًا عند الإطلاق إلا إذا قيد، يقال: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن ضعيف الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فإذا التزم أداء الفرائض، وانتهى عن المحارم سمي مسلمًا، وسمي مؤمنًا.
والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور هو: أن الآية في ضعفاء الإيمان، وليست في المنافقين أن الله تعالى قال: وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا [الحُجرَات: 14]؛ فالمعنى: إن تطيعوا الله ورسوله لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئًا، ولو كانوا منافقين لم يكن لهم ثواب؛ فالمنافق ليس له ثواب، ثم قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحُجرَات: 15]؛ أي فهؤلاء هم المؤمنون الكاملون، وهؤلاء هم الصادقون في إيمانهم، أما أنتم فلستم صادقين في إيمانكم، فالفاسق والعاصي لا يقال له: مؤمن باطلاق، ولا يقال: ليس بمؤمن باطلاق، فلابد أن تقيد في النفي، وتقيد في الإثبات، ففي الإثبات تقول: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بايمانه فاسق بكبيرته، وفي الإثبات لا تقول: ليس بمؤمن فحسب، بل تقول: ليس بمؤمن حقًّا، أو ليس بصادق الإيمان.
ثم قال تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الحُجرَات: 17]، فهذا دليل على أن الصواب أن هذه الآية ليست في المنافقين، كما ذهب إليه الإمام البخاري رحمه الله مع جلالة قدره، وإنما هي في ضعفاء الإيمان؛ ولهذا بوب المؤلف رحمه الله في هذه الترجمة على أن هذه الآية في المنافقين، وأن إسلامهم ليس على الحقيقة.
أما الإسلام على الحقيقة ففي قول الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ [آل عِمرَان: 19].
والبخاري رحمه الله يرى أن الإيمان والإسلام شيء واحد، وأنهما مترادفان، والصواب التفصيل: فعند الإطلاق يدخل أحدهما في الآخر، فإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا أطلق الإيمان دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفسر الإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل عليه الصلاة السلام[(153)] لما سأل النبي ﷺ عن الإسلام، ففسره بالأعمال الظاهرة، وسأله عن الإيمان ففسره بالأعمال الباطنة، فالإسلام والإيمان إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا، فإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى، وإذا افترقا بأن ذكر أحدهما وحده اجتمعا، فيدخل أحدهما في الآخر.
الخلاصة:
أن ما ذهب إليه البخاري من أن هذه الآية في المنافقين، وليست في ضعفاء الإيمان فهذا اجتهاد منه رحمه الله في فهم هذه الآيات، ووافقه عليه بعض العلماء، لكن الصواب الذي عليه جمهور العلماء، وعليه المحققون ـ وهو الذي حققه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب «الإيمان» وغيره من كتبه[(154)] ـ أن الآية ليست في المنافقين، وإنما هي في ضعفاء الإيمان.
المتن:
الشرح:
27 أما حديث الباب فظاهر سياق المؤلف رحمه الله أنه يرى أن هذا الرجل ليس بمؤمن، والصواب أن هذا الرجل مسلم، لكن لا يطلق عليه اسم الإيمان؛ لنقص إيمانه.
وفي هذه القصة أن سعد بن أبي وقاص ـ وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة ـ راجع النبي ﷺ ثلاث مرات في هذا الرجل، وذلك أن النبي ﷺ أعطى رهطًا من المال يتألفهم على الإسلام، والنبي ﷺ كان يعطي الأموال من الغنائم للمؤلفة قلوبهم حتى يتقوى إيمانهم، ويترك أقوياء الإيمان فلا يعطيهم، بل يكلهم إلى إيمانهم؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث: يَا سَعْدُ، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ؛ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ.
وفي الحديث الآخر: فقال عمرو بن تغلب: ما يسرني أن لي بها كذا وكذا[(155)] أي: لما عده منهم في غزوة حنين أعطى النبي ﷺ المؤلفة قلوبهم ـ رؤساء القبائل والعشائر ـ فأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل، وأعطى الأقرع بن حابس كذلك مائة من الإبل، وأعطى صفوان بن أمية وجماعة، ولم يعط الأنصار شيئًا، ولما وجدوا في أنفسهم جمعهم النبي ﷺ في قبة هذه الأعطيات، وقال: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي؟ وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللهُ بِي؟ وَمُتَفَرِّقِينَ، فَجَمَعَكُمُ اللهُ بِي؟ ويقولون: الله ورسوله أمن، فقال: أَلَا تُجِيبُونِي؟، فقالوا: الله ورسوله أمن، فقال: أَمَا إِنَّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَ مِنَ الْأَمْرِ كَذَا وَكَذَا. لِأَشْيَاءَ عَدَّدَهَا ثم قال: أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْإِبِلِ، وَتَذْهَبُونَ بِرَسُولِ اللهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ الْأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ، وَلَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الْأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ، إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ. [(156)].
فالرسول ﷺ يعطي ليتألف على الإيمان؛ ولهذا لما أعطى النبي ﷺ رهطًا يتألفهم على الإسلام حتى يتقوى إيمانهم ترك رجلاً لم يعطه، وكان سعد بن أبي وقاص يرى أنه ينبغي أن يعطى؛ لأنه مؤمن، فقال: يا رسول الله «مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا؟» ـ وقوله: «لَأُرَاهُ» بالضم بمعنى لأظنه، و «لَأَرَاهُ» بالفتح بمعنى لأعلمه ـ فقال النبي ﷺ: أَوْ مُسْلِمًا، أي: لا تطلق عليه وصف الإيمان فجلس سعد، ثم غلبه ما يعلمه من هذا الرجل، فقال: «مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا؟ فَقَالَ: أَوْ مُسْلِمًا، أي: لا تقل مؤمنًا بل هو مسلم ويوصف بالإسلام، لكن لم يبلغ أن يطلق عليه الإيمان، فسكت ثم غلبه ما يجد فقال: ما لك يا رسول الله عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا، فبين النبي ﷺ لسعد وجه الأعطية فقال: إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ فِي النَّارِ، وفي لفظ أنه قال: أقتالاً يا سعد، إِنِّي لَأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مخافةأَنْ يَكُبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجهِهِ فِي النَّارِ [(157)]، أي: أن هؤلاء الذين يعطيهم لو لم يعطهم لخشي عليهم الردة، والشك في الإيمان، فيعطيهم يتألفهم حتى يتقوى إيمانهم.
أما قوي الإيمان فلا حاجة لأن يعطى؛ لأن ما عنده من الإيمان يكفيه، وهذا فيه دليل على أن العاصي أو ضعيف الإيمان يطلق عليه الإسلام، ولا يطلق عليه الإيمان إلا بتقييد؛ ولهذا لما أصر سعد على أن يطلق لفظ الإيمان على الرجل، قال له النبي ﷺ ثلاث مرات: أَوْ مُسْلِمًا.
وأما من التزم، وأدى الفرائض، وانتهى عن المحارم، فهذا يطلق عليه مؤمنًا.
المتن:
بَابٌ: إِفْشَاءُ السَّلاَمِ مِنَ الإِسْلاَمِ
وَقَالَ: عَمَّارٌ ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِْيمَانَ الإِْنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ، وَالإِْنْفَاقُ مِنْ الإِْقْتَارِ.
الشرح:
هذا فيه: بيان أن من خصال الإسلام إفشاء السلام ونشره، وفي اللفظ الآخر: أن تَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ [(158)]، فإفشاء السلام من خصال الإيمان والإسلام، وكون الإنسان يفشي السلام على كل أحد وينشره، فيسلم على كل من يلقاه، فهذا من أسباب المحبة، ومن أسباب الإيمان كما في الحديث الآخر: يقول النبي ﷺ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى أَمْرٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ [(159)].
فإفشاء السلام من أسباب الإيمان، والمحبة من أدلة الإيمان، والإيمان سبب في دخول الجنة.
قوله: «ثَلاَثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الإِْيمَانَ الإِْنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ وَالإِْنْفَاقُ مِنْ الإِْقْتَارِ» هذا الأثر العظيم المروي عن عمار ، قد علقه الإمام البخاري مجزومًا به، وهو أثر عظيم يجمع الإيمان في ثلاث خصال:
الأولى: «الإِْنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ» ؛ فالمنصف من نفسه هو الذي يؤدي الواجبات وينتهي عن المحارم.
الثانية: «وَبَذْلُ السَّلاَمِ لِلْعَالَمِ» ، أي: للناس جميعًا، فتبذل السلام لكل أحد، وبعض الناس لا يسلم إلا على من يعرف، كما جاء في حديث ابن مسعود: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ، لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا لِلْمَعْرِفَةِ [(160)]، يعني: يسلم على من يعرف فقط.
والواجب أن كل من لقيت تبذل له السلام إلا إذا عرفت أنه غير مسلم فلا تبدأه بالسلام.
وهذا يدل على مكارم الأخلاق والتواضع.
الثالثة: «وَالإِْنْفَاقُ مِنْ الإِْقْتَارِ» ؛ أي: مع ضيق ذات اليد، ومع الفقر؛ فمن يكون معسرًا، ومع ذلك ينفق مما عنده ولو كان قليلاً؛ فهذا يدل على عظم الكرم.
وهذا الأثر معلق مجزوم به إلى عمار، والمعلق إذا جزم به البخاري رحمه الله فهو صحيح إلى من علقه عليه.
ويبقى لنا أن نعرف مع صحته إلى عمار هل هو مرفوع إلى النبي ﷺ، أو غير مرفوع؟ والصواب أن مثل هذا لا يقال من جهة الرأي، والحديث روي أيضًا مرفوعًا في غير الصحيح.
المتن:
الشرح:
28 وحديث الباب فيه: أن من خصال الإسلام: إطعام الطعام، والسلام على من عرفت ومن لم تعرف.
وقوله: «أَيُّ الإِْسْلاَمِ خَيْرٌ؟» ، «خَيْرٌ» أصلها أخير أفعل تفضيل، وعليه فالإسلام يتفاضل، والإيمان يتفاضل، وهذا فيه: الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وإن الإيمان هو تصديق بالقلب فقط، ومذهبهم هذا من أبطل الباطل.
المتن:
بَابُ كُفْرَانِ العَشِيرِ، وَكُفْرٍ دُونَ كُفْرٍ
فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ
29 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أُرِيتُ النَّارَ، فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ؛ يَكْفُرْنَ قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ.
الشرح:
قوله: «بَاب كُفْرَانِ الْعَشِيرِ» ، العشير هو الزوج، وسمي العشير؛ لأنه المعاشر، و كفران العشير يعني: من قبل الزوجة، أي: كفران إحسان الزوج.
وقوله: «وَكُفْرٍ بَعْدَ كُفْرٍ» المراد به الكفر الأصغر الذي لا يخرج عن الملة واستدل به المؤلف رحمه الله على أن الكفر يتفاوت، وكذلك الإيمان يتفاوت في المقابل، فإذا كانت المرأة تكفر العشير فهذا معناه نقص إيمانها وضعفه، أما إذا لم تكفر العشير فيكون إيمانها أكمل؛ فدل على أن الإيمان يتفاوت، وفيه الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا يتفاوت.
30 وفي حديث الباب قوله ﷺ: أُرِيتُ النَّارَ، ففيه: أن النبي ﷺ أُري النار ليلة المعراج، فرأى النار ورأى الجنة، وكذلك في صلاة الكسوف لما صلى بالناس عندما كسفت الشمس صورت له الجنة، وصورت له النار في الحائط، وكشفت له حتى إنه تأخر وتأخرت الصفوف، فقال النبي: عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ [(161)]، ورأى الجنة ورأى قطفًا من عنب تدلى[(162)]، فهذه رؤية للجنة والنار في الكسوف.
قوله: أُرِيتُ النَّارَ فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ يَكْفُرْنَ، قِيلَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللَّهِ؟، قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الإِْحْسَانَ. العشير: الزوج.
والمعنى أنك إذا أحسنت إلى إحداهن الدهر، ثم رأت تقصيرًا في شيء من الأشياء أنكرت الإحسان السابق، وقالت: ما رأيت خيرًا قط؛ لأنها تنسى المعروف السابق، فهذا هو كفران العشير.
وفيه: أنه عليه الصلاة والسلام رأى أن أكثر أهل النار النساء؛ وذلك بكفران العشير، وجاء في اللفظ الآخر أن النبي ﷺ أمرهن، فقال: تَصَدَّقْنَ، فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ، فقامت امرأة فقالت: ما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ العَشِيرَ [(163)].
وكذلك النساء أكثر أهل الجنة؛ فقد جاء في الحديث الآخر: لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أهل الجنَّةِ زَوْجَتَانِ [(164)]، وهذا غير زوجاتهم من نساء الدنيا، وغير ما يعطاه أيضًا من الحور العين، وهذا عام لكل أهل الجنة لكن بعضهم يكون له زوجات كثيرة من الحور العين، وزوجات من نساء الدنيا فقد يعطى مئات، لكن أقل واحد من أهل الجنة له زوجتان، وليس في الجنة أعزب، فدل هذا على أن أكثر أهل الجنة النساء كما أن أكثر أهل النار النساء.
المتن:
بَابٌ: المَعَاصِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ، وَلاَ يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا إِلَّا بِالشِّرْكِ
لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48]
الشرح:
قوله: «وَلاَ يُكَفَّرُ صَاحِبُهَا بِارْتِكَابِهَا» ، هذا هو الحق، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، فالمعاصي من أمر الجاهلية لكن لا يكفر صاحبها إلا بالشرك الأكبر إذا فعله، أو النفاق الأكبر، أو الكفر الأكبر، أما المعاصي وشعب الشرك وشعب النفاق وشعب الكفر فهذه لا تُخرج من الإسلام، وهي من أمور الجاهلية، وصاحبها عليه الوعيد الشديد، لكن لا يكفر.
ولا يخلد في النار من دخل النار بالمعاصي، خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين يقولون: ينتهي الإيمان بفعل الكبيرة، ويخلد صاحبها في النار.
قوله: إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ قاله النبي ﷺ لأبي ذر وهو من خيار المؤمنين لما عير رجلاً بأمه فقال له: يا ابن السوداء. فقال له النبي ﷺ: أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، وفي لفظ أنه قال: على حين ساعتي من كبر السن؟ قال: نعم. [(165)]؛ لأن هذا الفعل من خصال الجاهلية.
وأما قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النِّسَاء: 48]، فهذه الآية فيها أن الله تعالى خص الشرك في عدم المغفرة، وعلق ما دونه على المشيئة، فدل على أن الشرك غير مغفور وما دونه تحت المشيئة.
فإذا مات الإنسان على الشرك الأكبر، أو النفاق الأكبر أو الكفر الأكبر، فهو آيس من رحمة الله، وهو من أهل النار والجنة عليه حرام، قال الله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المَائدة: 72].
أما ما دون الشرك، كالموت على الزنا أو السرقة، أو شرب الخمر، أو عقوق الوالدين أو قطيعة الرحم، أو التعامل بالربا أو أكل الرشوة، أو جحد حقوق الناس، وهو غير مستحل ولا يرى أنه حلال، ويرى أنه معصية وأنه حرام لكن غلبته المعصية، فهذا عاص مرتكب لكبيرة، وهو تحت المشيئة فهو على خطر؛ لأنه قد يعذب في النار، وإذا عذب في النار فلا يخلد فيها، بل يبقى فيها مدة يطهر فيها على قدر جرائمه، فإذا طهر أخرج منها بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة.
ولابد أن يدخل النار جملة من مرتكبي الكبائر؛ فالحزم كل الحزم، ولابد أن يبادر الإنسان بالتوبة؛ فقد تواترت الأحاديث عن رسول الله ﷺ أنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر يعذبون فيها، وهم مؤمنون.
كما قد ثبت أيضًا أن النار لا تأكل جباههم، فحرم الله على النار صورهم، أي: وجوههم؛ لأنها محل السجود[(166)]، ومع ذلك يعذبون مدة؛ حتى إن بعض العصاة أخبر الله أنه يخلد فيها ـ كالقاتل ـ أي: يمكث فيها مكثًا طويلاً، لكن لهذا المكث نهاية ولو طال، ثم يخرج منها.
وثبت أن النبي ﷺ يشفع أربع مرات في كل مرة يحد الله له حدًّا[(167)]، والأنبياء يشفعون والملائكة يشفعون، والشهداء يشفعون، والمؤمنون يشفعون، والأفراط يشفعون، ثم تبقى بقية لا تنالهم الشفاعة، فيخرجهم رب العالمين برحمته ، فإذا انتهى إخراج المؤمنين العصاة، ولم يبق في النار أحد، أطبقت النار على الكفار بجميع أصنافهم، كاليهود، والنصارى، والوثنيين، والشيوعيين ـ والمنافقون في الدرك الأسفل من النار ـ كما قال الله تعالى: عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ [البَلَد: 20]، أي: مطبقة مغلقة، قال سبحانه: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المَائدة: 37]، وقال سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البَقَرَة: 167].
أما المعاصي وإن عظمت فإنها لا توجب الخلود، خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إذا زنى أو شرب الخمر، أو سرق، أو تعامل بالربا، أو اغتاب أو نمَّ انتهى إيمانه بالمرة ولا يبقى معه شيء من الإيمان. والخوارج يقولون: انتهى إيمانه ودخل في الكفر؛ فيستحلون دمه وماله. أما المعتزلة فيقولون: خرج من الإيمان ولم يدخل في الكفر، بل صار في منزلة بين الإيمان وبين الكفر، فلا يسمى مؤمنًا، ولا يسمى كافرًا؛ وإنما يسمى فاسقًا، أما في الآخرة فيتفق الخوارج، والمعتزلة، على أنه مخلد في النار؛ وهذا من أبطل الباطل؛ فالأحاديث في إخراج العصاة من النار متواترة وقطعية الثبوت.
فليحذر طالب العلم من مذهب الخوارج والمعتزلة، وليكن على علم وبينة من هذا المذهب الباطل حتى لا يقع فيه وهو لا يشعر.
وموقف المعتزلة والخوارج من هذه الأحاديث المتواترة في خروج أهل المعاصي من النار أنهم يقولون: هذه أحاديث آحاد لا نقبلها، ويحملون النصوص التي جاءت في خلود الكفرة على العصاة، مثل قوله تعالى: مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ [غَافر: 18]، فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدَّثِّر: 48] فضلوا ضلالاً مبينًا.
ومن المعروف عند العلماء أن هذه الفرق عصاة توعدهم الله بالنار؛ ولهذا قال العلماء: إن الجهمية خارجون من الثنتين وسبعين فرقة أي: كفار، فالمشهور عند العلماء أن الفرقة الناجية هي أهل السنة والجماعة، والباقون فرق مبتدعة متوعدون بالنار، أما الكفار فيخلدون في النار.
المتن:
الشرح:
31 في حديث أبي ذر أنه استفاد من نصيحة النبي ﷺ، فعن المعرور بن سويد قال: «لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَعَلَى غُلاَمِهِ» ، «غُلاَمِهِ» أي: عبده، والحلة أي: الثوب المكون من قطعتين ـ كرداء وإزار ـ فكان أبو ذر يُلبس غلامه مثل لباسه ـ وهذا من باب الكمال ـ ولما سأله المعرور عن ذلك قال: «إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، ثم قال لي ـ أي النبي ﷺ ـ: إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ.
إِخْوَانُكُمْ أي: العبيد الذين في أيديكم، خَوَلُكُمْ أي: خدامكم.
والمراد بالعبيد الذين يباعون ويشترون، أما الآن فلا يوجد عبيد.
والرق يدل على قوة الإسلام؛ لأن المسلمين إذا أقيم الجهاد في سبيل الله، وغنم المسلمون المشركين فإنهم يسترقونهم، ولذلك كان الصدر الأول فيه أرقاء عبيد وإماء يتوالدون ويتناسلون.
وكان أبو ذر له عبد، وكان يفعل الأكمل؛ فيلبسه مثل لباسه، ويطعمه مثل ما يطعم، وهذا ليس بواجب وإن كان هذا هو الأفضل؛ فالواجب المواساة بأن تطعمه طعامًا يناسبه وتكسوه كسوة تناسبه؛ لقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: إِذَا أَتَى أَحَدَكُمْ خَادِمُهُ بِطَعَامِهِ فليجلسه، فَإِنْ لَمْ يُجْلِسْهُ مَعَهُ فَليُنَاوِلْهُ لُقْمَةً أَوْ لُقْمَتَيْنِ، فَإِنَّهُ وَلِيَ حَرَّهُ وَعِلاَجَهُ [(169)].
فهذا الحديث يدل على أنه لا يلزمك أن تطعم عبدك مثل طعامك ولا أن تلبسه من لباسك، لكن إذا أطعمته من طعامك أو ألبسته من لباسك فهذا أكمل، فكان أبو ذر يفعل الأكمل.
والشاهد من الحديث: قول أبي ذر : «إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ فَقَالَ لِي النَّبِيُّ ﷺ: يَا أَبَا ذَرٍّ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، فإذا كان في الشخص خصال من خصال الجاهلية فإنها تنقص من إيمانه بقدر هذه الخصال، وإذا لم يكن فيه شيء من خصال الجاهلية زاد إيمانه، فدل على أن الإيمان يزيد وينقص، وأن الناس يتفاوتون في الإيمان، وأن الإيمان أقوال وأعمال.
وفيه: الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، بل هو شيء واحد هو التصديق، وهذا من أبطل الباطل.
وفيه: الرد على الخوارج والمعتزلة ـ كما سبق ـ الذين يكفِّرون بالمعاصي، ويخلِّدون في النار.
المتن:
بَابُ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات: 9] فَسَمَّاهُمْ الْمُؤْمِنِينَ.
31 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ المُبَارَكِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ، وَيُونُسُ، عَنِ الحَسَنِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ، فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ، قَالَ: ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا القَاتِلُ فَمَا بَالُ المَقْتُولِ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ.
الشرح:
فهذه الترجمة قصد بها المؤلف رحمه الله الرد على الطوائف الضالة الذين يكفِّرون بالمعاصي كالخوارج والمعتزلة بإيراده لقوله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحُجرَات: 9-10].
ووجه الدلالة: أنه سماهم مؤمنين وهم يتقاتلون فقال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا، ثم قال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ، مع أن القتال كبيرة، فقتال المسلمين بعضهم بعضًا من كبائر الذنوب، ومع ذلك سماهم الله مؤمنين، وأمر بالإصلاح بينهم، فدل على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر، خلافًا للخوارج والمعتزلة.
والآية فيها دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، فمرتكب الكبيرة ينقص إيمانه لكن لا ينتهي إيمانه؛ فالإيمان لا ينتهي إلا إذا جاء الكفر الأكبر، أو الفسق الأكبر، أو النفاق الأكبر، أما مع المعاصي ـ ولو كثرت وعظمت ـ فإن الإيمان لا ينتهي بها، بل لابد أن يبقى شيء منه، ويدل على ذلك ما جاء في حديث الشفاعة: أخرجوا مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ [(168)]، ففيه دليل على أن الإيمان ينقص حتى لا يبقى منه إلا مثقال ذرة لكنه لا ينتهي إلا بالكفر.
31 حديث الأحنف بن قيس ففيه أنه ذهب لينصر عليًّا في القتال الذي دار بينه وبين معاوية ، فلقيه أبو بكرة ـ الصحابي الجليل ـ فقال له: أين تذهب؟ قال: أريد أن أنصر هذا الرجل ـ علي بن أبي طالب ـ فقال له أبو بكرة: ارجع لا تشترك في القتال؛ فإن الاشتراك في القتال عليه الوعيد الشديد، واستدل بقول النبي ﷺ: إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ، فلما قالوا: يا رسول الله هذا القاتل ـ أي: عرفنا حاله وشأنه، ارتكب جريمة بقتل صاحبه ـ فما بال المقتول؟ قال: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ.
فالقاتل متوعد بالنار؛ لأنه قتل صاحبه، والمقتول متوعد؛ لأنه كان حريصًا على قتل صاحبه، فلو استطاع أن يقتله لقتله، لكن غلبه صاحبه فقتله، وهذا الاستدلال من أبي بكرة مبني على أنه لم يتبين له وجه الحق، وأن عليًّا هو المحق، وجمهور الصحابة انضموا إلى علي ، وتبين لهم أنه المحق، وأن معاوية ومن معه من الشام فئة باغية ـ والدليل على هذا قول النبي ﷺ لعمار: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ [(170)] فقتله جيش معاوية ـ لكنهم لا يعلمون أنهم بغاة فهم مجتهدون لهم أجر الاجتهاد، لكن فاتهم أجر الصواب.
وعلي ومن معه مجتهدون مصيبون لهم أجر الاجتهاد، وأجر الصواب؛ ولهذا انضم جمهور الصحابة مع علي ؛ لأنه هو الخليفة الذي بايعه أكثر أهل الحل والعقد، فيجب طاعته، وأهل الشام بغاة يجب عليهم أن يخضعوا وأن يبايعوا، فامتناعهم معصية وإن كانوا لا يعلمون أنهم بغاة، وأنهم خارجون عن الطاعة؛ لأنهم متأولون يطالبون بدم عثمان ؛ ولهذا قاتلهم جمهور الصحابة واستدلوا بهذه الآية؛ وهي قول الله تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحُجرَات: 9]. ففئة معاوية طائفة من المؤمنين، وفئة علي ومن معه طائفة من المؤمنين تقاتلا، والفئة الباغية هي فئة معاوية وأهل الشام، والدليل على أنها الفئة الباغية قول الرسول ﷺ لعمار: تَقْتُلُكَ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ.
والدليل أيضًا على أنهم بغاة أن عليًّا هو الخليفة الذي بايعه أكثر أهل الحل والعقد، ومعاوية وأهل الشام خرجوا عن طاعة الخليفة، فيجب قتالهم، وهذا هو الصواب، فعلي ومن معه هم المصيبون، فلهم أجر الإصابة ولهم أجر الاجتهاد، ومعاوية ومن معه لهم أجر الاجتهاد وفاتهم أجر الصواب. وأما أبو بكرة فإنه لم يتبين له أن الحق مع علي، وهذا ما ذهب إليه عدد من الصحابة، منهم أسامة بن زيد، فإنه لم ينضم للقتال، وكذلك سلمة بن الأكوع، فإنه خرج إلى البادية وتزوج امرأة وقال: إن رسول الله ﷺ أذن لي في البدو.
وكذلك ابن عمر اعتزل الفريقين؛ لأنه لم يتبين له وجه الحق؛ ولهذا يسميهم بعض العلماء: مرجئة الصحابة، يعني: أرجأوا أمر الفريقين أمر هؤلاء وأمر هؤلاء؛ لكن الصواب الذي عليه جماهير الصحابة، أن الحق مع علي، وأنه يجب على من كان حاضرًا أن ينضم إلى علي ليقاتل معه؛ لأنه هو الخليفة الراشد، ولأنه صاحب الحق، ولأنه هو الذي يجب طاعته، فيقاتل من امتنع عن البيعة، كمعاوية، وأهل الشام.
وأما الحديث الذي استدل به أبو بكرة : إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ فهذا إذا كان القتال من أجل الهوى ولأجل العصبية والبغي، أما إذا كان القتال من أجل اجتهاد أو تأويل سائغ أو شبهة فلا يكون داخلاً في الحديث وإنما يدخل في الآية، وهذا هو الجمع بين الآية والحديث.
المتن:
بَابٌ: ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ
32 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ح قَالَ: وحَدَّثَنِي بِشْرُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعَام: 82] قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟! فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمَان: 13].
الشرح:
قوله: «بَاب ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ» قصد المؤلف بهذه الترجمة بيان أن الظلم أنواع وأقسام، وأنه يتفاوت، وإذا كان الظلم أقسامًا وأنواعًا دل على أن الإيمان يزيد وينقص، فإذا ارتكب الإنسان نوعا من أنواع الظلم نقص إيمانه وضعف، وإذا سلم من أنواع الظلم سلم إيمانه.
والظلم ثلاثة أنواع:
النوع الأول: وهو أعظمها وأغلظها وأشدها: وهو ظلم النفس بالشرك الأكبر، والشرك يسمى ظلمًا كما في الآية:إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمَان: 13].
النوع الثاني: ظلم العباد بعضهم لبعض، بأن يعتدي أحد على أحد في دمه بالقتل، أو في جسده بقطع عضو أو بجرح، أو بالترويع، أو بالحبس بغير حق، أو على ماله عن طريق السرقة أو الغصب أو السلب أو النهب أو الغش أو الخداع أو الرشوة أو التعامل بالربا، أو بإخفاء عيب السلعة أو تنفيقها بالحلف الكاذب، وكذلك الاعتداء على العرض بالغيبة، أو النميمة، أو السب، أو الشتم أو السخرية، أو الاحتقار، والازدراء.
النوع الثالث: ظلم النفس فيما بين العبد وبين الله، كالمعاصي التي يعملها الإنسان، وليس لها تعلق بالخلق، لا في دمائهم، ولا في أموالهم، ولا في أعراضهم.
32 ومعنى الآية التي جاءت في حديث الباب: الَّذِينَ آمَنُوا، يعني: وحدوا الله وَلَمْ يَلْبِسُوا: لم يخلطوا، أَيْمَانِهِمْ، أي: توحيدهم، بِظُلْمٍ، أي: بشرك، أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ، أي: من العذاب، وَهُمْ مُهْتَدُونَ، أي في الدنيا.
فالصحابة رضوان الله عليهم فهموا من الآية أن الظلم يشمل أنواع الظلم الثلاثة: ظلم الشرك، وظلم العباد، وظلم النفس، فقالوا: «أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ؟» ، وفي رواية: أنهم جثوا على الركب، وقالوا: يا رسول الله هذه لا نطيقها[(171)]، أي شق عليهم هذا؛ لأن الله تعالى اشترط في الأمن والهداية ألا يلبس إيمانه بظلم، فظنوا أن الظلم يشمل جميع أنواع المعاصي، فيشمل الشرك ويشمل ظلم العباد ويشمل ظلم النفس، فقالوا: مَن يسلم مِن الظلم؟ مَن يسلم مِن المعاصي: كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ [(172)]، فكيف لنا بذلك؟ فقال النبي ﷺ ـ كما في اللفظ الآخر: إنه ليس كما تقولون. [(173)]، وفي لفظ: «إنه لَيْسَ كَما تَظُنُّون أَلَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قول العبد الصالح: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمَان: 13]. [(174)]، وفي رواية البخاري لهذا الحديث أنه قال: «فَأَنْزَلَ اللَّهُ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ، ولا مانع من أن تكون الآية نزلت أولاً، ثم بين لهم النبي ﷺ أن الظلم فيها المراد به الشرك.
وقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعَام: 82] دليل على أن المؤمن إذا لم يخلط توحيده بظلم ـ أي بشرك ـ فله الأمن من العذاب، وهو مهتد؛ وهذه الآية مطلقة، قيدتها النصوص الأخرى التي دلت على أن الإنسان إذا لم يخلط إيمانه بأي نوع من أنواع الظلم: ظلم الشرك، وظلم العباد، وظلم النفس، فإن له الهداية الكاملة في الدنيا، وله الأمن من العذاب في الآخرة، فيدخل الجنة من أول وهلة.
وأما إذا سلم من الشرك، ولكن لم يسلم من ظلم العباد، أو لم يسلم من ظلم النفس، فله الأمن الناقص، والهداية الناقصة؛ لأن توحيده ناقص، والتوحيد الكامل هو الذي يسلم صاحبه من الشرك، ومن المعاصي؛ أما إذا جاء بتوحيد سلم من الشرك، ولكنه ملطخ بالمعاصي، فهو توحيد ناقص ـ فهو تحت مشيئة الله قد يُعذب وقد يغفر الله له المعاصي التي لقي ربه بها، وله الأمن من الخلود في النار فإذا دخلها يعذب فيها ما شاء الله ثم يخرج منها، لكنه لا يأمن من دخولها، فقد يعفو الله عنه، وقد لا يعفو عنه، فيدخلها ثم يخرج بشفاعة الشافعين أو برحمة أرحم الراحمين.
فالأمن الكامل والهداية الكاملة لمن جاء بالتوحيد الكامل، والأمن الناقص والهداية الناقصة لمن جاء بالتوحيد الناقص، فالكل للكل والحصة للحصة.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «معنى هذا أن الظلم يختلف: فيه ظلم ينقل عن الملة كقوله تعالى: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البَقَرَة: 254]، فإن الظلم وضع الشيء في غير موضعه، وأعظم ذلك أن يوضع المخلوق في مقام الخالق، فهذا معنى الظلم في اللغة، وهو وضع الشيء في غير موضعه».
فالمشرك وضع العبادة في غير مستحقها، فعبد المخلوق الناقص ولم يؤد حق الله وهو التوحيد والإخلاص، وصرفه إلى غير الله، فوضع الشيء في غير موضعه.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «ويجعل شريكًا له في الربوبية وفي الألوهية عما يشركون، وأكثر ما يرد في القرآن وعيد الظالمين يراد به الكفار كقوله تعالى: وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 42] الآيات، وقوله: وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ [الشّورى: 44] الآيات، ومثل هذا كثير.
ويراد بالظلم ما لا ينقل عن الملة، كقوله تعالى: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ [فَاطِر: 32]، وقوله: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البَقَرَة: 229]».
وكذلك قول الأبوين ـ آدم وحواء: قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا [الأعرَاف: 23]، وقول موسى: قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القَصَص: 16]، وكذلك قوله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البَقَرَة: 229]، فسمى متعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة ظالمًا، وهذه من المعاصي، فالظلم قد يراد به المعصية، وقد يراد به الشرك.
وقال ابن رجب: «وحديث ابن مسعود هذا صريح في أن المراد بقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعَام: 82] أن الظلم هو الشرك؛ وجاء في بعض رواياته زيادة: قال: إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ [(175)]، وروى حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، أن عمر بن الخطاب كان إذا دخل بيته نشر المصحف فقرأ، فدخل ذات يوم، فقرأ فأتى على هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ إلى آخر الآية، فانتعل وأخذ رداءه، ثم أتى أبي بن كعب فقال: يا أبا المنذر لله أتيت قبل على هذه الآية: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ، وقد ترى أنا نظلم ونفعل، فقال: يا أمير المؤمنين إن هذا ليس بذلك، يقول الله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمَان: 13]، إنما ذلك الشرك. خرجه محمد بن نصر المروزي، وخرجه ـ أيضًا ـ من طريق حماد بن زيد، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب أن عمر أتى على هذه الآية، فذكره. وحماد بن سلمة مقدم على حماد بن زيد في علي بن زيد خاصة.
وروى ـ أيضًا ـ بإسناده، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: كفر دون كفر وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق».
وهذا معناه أن الكفر يتنوع والظلم يتنوع والفسق يتنوع، يكون أكبر ويكون أصغر، فالظلم قد يراد به الكفر وقد يراد به المعاصي، والمعاصي نوعان: معاصٍ تتعلق بالعباد، ومعاصٍ تتعلق بالنفس.
وقال ابن رجب رحمه الله: «يعني أن الفسق قد يكون ناقلا عن الملة كما قال في حق إبليس: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمْ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السَّجدَة: 20]».
ومثل قوله تعالى: وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الْفَاسِقُونَ [البَقَرَة: 99]، أي الفسق الأكبر الذي يخرج من الملة.
والفسق يراد به الكفر، ويراد به المعصية، مثل الظلم.
قال ابن رجب رحمه الله: «وقد لا يكون الفسق ناقلاً عن الملة كقوله تعالى: وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ [البَقَرَة: 282]، وقوله في الذين يرمون المحصنات: وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النُّور: 4]». فالفسق هنا يراد به المعصية.
قال ابن رجب رحمه الله: «وقوله: فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ [البَقَرَة: 197]، وفسر الصحابة الفسوق في الحج بالمعاصي كلها، ومنهم من خصها بما ينهى عنه في الإحرام خاصة، وكذلك الشرك: منه ما ينقل عن الملة، واستعماله في ذلك كثير في الكتاب والسنة، ومنه: ما لا ينقل، كما جاء في الحديث: مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ [(176)]، وفي الحديث: الشِّرْكَ في هذه الأمة أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ. [(177)]، وسمي الرياء: شركًا، وتأول ابن عباس على ذلك قوله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يُوسُف: 106]، قال: إن أحدهم يشرك حتى يشرك بكلبه: لولا الكلب لسرقنا الليلة».
فقد ثبت عن ابن عباس أنه فسر قول الله تعالى: فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البَقَرَة: 22]، قال: الأنداد أخفى من الشرك وهو أن تقول: والله وحياتك يا فلان، وتقول: لولا كلبنا هذا لأتى اللصوص، ولولا البط في الدار لأتى اللصوص، ولولا الله وفلان، فهذا كله من الشرك الأصغر وكذلك: لولا فلان لحصل كذا، لولا فلان لما حصل كذا.
قال ابن رجب: «قال تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف: 110].
وقد روي أنها نزلت في الرياء في العمل، وقيل للحسن: يشرك بالله؟ قال: لا؛ ولكن أشرك بذلك العمل عملاً يريد به الله والناس، فذلك يرد عليه».
والرياء في العمل شرك أصغر، وهو يبطل العمل إذا خالطه؛ لأنه لغير الله.
المتن:
بَابُ عَلاَمَةِ المُنَافِقِ
33 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ أَبُو سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ.
34 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.
تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنْ الأَْعْمَشِ.
الشرح:
أراد المؤلف رحمه الله بهذه الترجمة بيان علامات النفاق، والمراد بالنفاق هنا النفاق الأصغر الذي لا يخرج من الملة، وهذا يدل على أن الإيمان يتفاوت بالزيادة والنقصان؛ فالمسلم إذا كان فيه شيء من علامات النفاق نقص إيمانه وضعف، وإذا سلم من علامات النفاق كمل إيمانه، فدل على أن الإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف.
وفيه: رد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص.
33 أصل المنافق هو من يظهر الشيء ويبطن خلافه، وهو مأخوذ من النافقاء وهو جحر اليربوع؛ وذلك أن اليربوع له جحران:
أحدهما: جحر واضح للجميع يسمى القاصعاء.
والآخر: جحر خفي يسمى النافقاء؛ وذلك أنه يحفر الأرض حتى إذا قرب من ظاهر الأرض، ورقَّ التراب، ترك الحفر؛ ويترك شيئًا من التراب على رأس جحر النافقاء؛ فيدخل من القاصعاء وهو الجحر المعروف، فإذا رابه ريب دفع التراب برأسه من الجحر الآخر، وهو النافقاء فيخرج.
وكذلك المنافق سمي منافقًا؛ لأن له باطنًا وظاهرًا، فكما صنع اليربوع في جحره؛ حيث جعل ظاهره ترابًا وباطنه حفرًا، فكذلك المنافق ظاهره إيمان وباطنه كفر، وهذا هو النفاق الأكبر.
والنفاق الأصغر سببه المعاصي، وله علامات، منها ما جاء في حديث أبي هريرة : آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ؛ والمراد بآية المنافق: علامته.
وليست علامات النفاق محصورة فيما ذكر فقط؛ لأن المعنى: من آية المنافق، فمفهوم العدد لا يفيد الحصر، وجاء في الحديث الثاني، حديث عبدالله ابن عمرو: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ.
فمجموع خصال النفاق في الحديثين خمسٌ: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر، وبعض الصفات تكررت في الحديثين.
وللنفاق علامات أخرى: منها الكسل عند الصلاة، ومنها الرياء، ومنها أنهم لا يذكرون الله إلا قليلا كما قال الله تعالى: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً [النِّسَاء: 142].
ومنها عدم الطمأنينة في الصلاة وإخراجها عن وقتها كما في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذْكُرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا [(178)].
وهذه المعاصي لا تخرج من الملة، وإنما الذي يخرج من الملة هو الكفر الأكبر، وهو أن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فالنفاق الأصغر قد يجر إلى الكفر، ولكنه ليس كفرًا، وهذه الخصال تنقص الإيمان وتضعفه.
34 قوله: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا قال بعض العلماء في معنى هذا الحديث: إن هذه الخصال إذا استحكمت وكملت في شخص جرت الإنسان إلى النفاق الأكبر، وإلا فهي معاص لا تخرج من الإيمان .
والمؤلف أتى بهذه الترجمة في كتاب الإيمان ليبين أن الإيمان يزيد وينقص ويقوى ويضعف، وأن من كان فيه شيء من خصال المنافقين نقص إيمانه وإذا سلم منها قوي إيمانه، وأن الإيمان قول وعمل خلافًا للمرجئة القائلين بأن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص ولا تدخل فيه الأعمال، وهذا مذهب باطل، ففي هذه التراجم وما بها من نصوص رد عليهم.
المتن:
بَابٌ: قِيَامُ لَيْلَةِ القَدْرِ مِنَ الإِيمَانِ
35 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ القَدْرِ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
الشرح:
ذكر البخاري رحمه الله العديد من خصال الإيمان، وهي خصال كثيرة وشعب عديدة كلها داخل في مسمى الإيمان كما جاء في الحديث السابق: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَعلاهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ [(179)]؛ فشعب الإيمان أعلاها كلمة التوحيد، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وبين أعلاها وأدناها شعب كثيرة؛ فالصلاة شعبة من شعب الإيمان، وكذلك الزكاة، والصوم، والحج، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله، وبر الوالدين، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وقيام ليلة القدر؛ فكل هذه من شعب الإيمان، ومن خصاله.
35 وفي حديث الباب: فضل قيام ليلة القدر، وأن قيام ليلة القدر من أسباب المغفرة إن قامها إيمانًا واحتسابًا.
قوله: إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا أي: أن يكون قيامه ليلة القدر عن إيمان بالله ورسوله، وإيمان بالثواب المترتب على هذا العمل يحتسب الأجر، والثواب، عند الله .
وشرط الإيمان والاحتساب ليس خاصًّا بقيام ليلة القدر بل كل عمل لابد فيه من أن يكون عن إيمان بالله واحتساب للثواب والأجر عنده تعالى، فإذا وجد ذلك الشرط مع قيام ليلة القدر حصلت مغفرة الذنوب.
وهذا عند أهل العلم لمن اجتنب الكبائر؛ لأن الله تعالى اشترط اجتناب الكبائر فقال: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النِّسَاء: 31]، فيشترط لتكفير السيئات ـ وهي الصغائر ـ اجتناب الكبائر، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة الذي رواه الإمام مسلم: الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ [(180)].
فالصلوات الخمس سبب في تكفير الصغائر، فكل صلاة تكفر الصغائر إلى الصلاة التي بعدها، بشرط: أن تُجتنب الكبائر؛ وكذلك الجمعة إلى الجمعة، يكفر الله بها الخطايا، بشرط: أن تجتنب الكبائر؛ وكذلك رمضان إلى رمضان، يكفر الله به الخطايا بهذا الشرط أيضا؛ فأما إذا لم يسلم الإنسان من الكبائر فتبقى الصغائر والكبائر، فيؤاخذ بالجميع.
وأصح ما قيل في الكبيرة أنها ما توعد الله من يفعلها بالنار، أو اللعن، أو الغضب في الآخرة، أو أوجب عليه حدًّا في الدنيا، أو نُفي عن صاحبها الإيمان.
ومثال ما تُوعد عليه بالنار: أكل مال اليتيم، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النِّسَاء: 10].
ومثال ما تُوعد عليه باللعن: شرب الخمر، كما جاء في الحديث: لَعَنَ اللَّهُ الْخَمْرَ، وَشَارِبَهَا... [(181)]، وكذلك قاتل المؤمن، كما في قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النِّسَاء: 93].
ومثال ما وجب فيه حد في الدنيا: السرقة فتقطع يد السارق، وشارب الخمر يجلد، والقاذف يجلد أيضًا، وهكذا.
ومثال ما يُنفى عن صاحبه الإيمان: ما ورد في الحديث: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ [(182)]، وحديث: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا [(183)]، وهكذا.
فشروط المغفرة وتكفير الصغائر: الإيمان، والاحتساب؛ وكذلك اجتناب الكبائر، وأداء الفرائض.
المتن:
بَابٌ: الجِهَادُ مِنَ الإِيمَانِ
36 - حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ حَفْصٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُمَارَةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُرْعَةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا إِيمَانٌ بِي وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، أَنْ أُرْجِعَهُ بِمَا نَالَ مِنْ أَجْرٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، وَلَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ، وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ.
الشرح:
في هذه الترجمة بيان لفضل الجهاد، وأنه خصلة من خصال الإيمان.
36 وحديث الباب فيه: فضل الجهاد في سبيل الله، وأنه من أسباب المغفرة إن تحقق الشرط الذي أخبر عنه النبي ﷺ، وهو قوله ﷺ: لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ إِيمَانٌ بِي، وَتَصْدِيقٌ بِرُسُلِي، أي: يكون عن إيمان بالله ورسوله، أما من ليس مؤمنًا فلا يكون الجهاد مكفرًا لسيئاته، وقد ثبت أن النبي ﷺ أمر مناديًا ينادي في بعض الغزوات: لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ [(184)]؛ وكذلك ثبت أن النبي ﷺ أرسل مؤذنين يؤذنون في الحج يوم النحر بمنى في السنة التاسعة ـ وكان أبو بكر أمير الناس على الحج في هذه السنة ـ بهذه الكلمات الأربع: لَا يَطُوفُ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ، ولاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ، وَلَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، ومن كان له عهد فهو إلى عهده، ومن لم يكن له عهد فمدته إلى أربعة أشهر. [(185)].
وهذا معنى قول الله تعالى: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التّوبَة: 1-3].
فهؤلاء المؤذنون الذين أرسلهم النبي ﷺ يُؤْذِنُون الناس أي: يُعْلمون الناس، والأذان معناه: الإعلام، ومنه الأذان بالصلاة، أي: الإعلام بدخول وقت الصلاة، وأبو بكر كان أمير الناس على الحج في السنة التاسعة قبل حج النبي ﷺ بسنة هم: أبو هريرة وعلي وجماعة رضوان الله عليهم.
فشرط الإيمان لابد منه في تكفير السيئات، في الجهاد وغيره.
وقوله: انْتَدَبَ اللَّهُ لِمَنْ خَرَجَ فِي سَبِيلِهِ، وفي اللفظ الآخر: تَكَفَّلَ اللَّهُ [(186)]، أي: أن هذا مضمون له؛ فقد تكفل الله لمن خرج للجهاد في سبيله وهو مؤمن، أن يُرجعه إلى أهله وقد ظفر بالأجر والغنيمة، أو يدخله الجنة إن قُتل.
ثم بين النبي ﷺ فضل الجهاد ـ وقد خرج عليه الصلاة السلام في غزوات متعددة، وأحيانًا يُخرج السرايا، فالتي يخرج فيها النبي ﷺ تسمى غزوة، والتي يعقد الإمرة فيها لبعض الصحابة ولا يخرج معها تسمى سرية ـ فقال النبي ﷺ: وَلَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي مَا قَعَدْتُ خَلْفَ سَرِيَّةٍ وفي رواية: لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَحْبَبْتُ أَنْ لَا أَتَخَلَّفَ خَلْفَ سَرِيَّةٍ [(187)]، فبين هنا أن الذي منعه أن ذلك يشق على أصحابه؛ لأن بعض الصحابة ـ أو كثيرًا منهم ـ ليس عنده ما يلزم للغزو من زاد ومتاع، فإذا خرج ﷺ وخرج معه أصحابه، شق ذلك على من ليس عنده زاد، والنبي ﷺ يشق عليه ما يشق على أمته.
ثم بين النبي ﷺ فضل الشهادة في سبيل الله فقال: وَلَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ؛ وتمني النبي ﷺ أن يقتل ثلاث مرات دليل على فضل الشهادة، وجاء في الحديث الآخر أنه: ما من مؤمن يموت فيرى ما له من الخير والثواب عند الله فيود أن يرجع إلى الدنيا [(188)]؛ وجاء أيضًا في الحديث أن النبي ﷺ رأى جنازة فقال: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ؛ فقالوا: يا رسول الله ما معنى مستريح ومستراح منه؟ فقال: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ [(189)]؛ فالمؤمن يستريح من نصب الدنيا، وأذاها؛ لأنها دار كبد، ونكد؛ فإذا مات المؤمن ورأى ما أعد الله له من الخير وَدَّ ألا يرجع إلى الدنيا، إلا الشهيد؛ لِما يرى من الكرامة، ومن فضل الشهادة؛ لكن الله كتب أنهم إليها لا يرجعون.
وقوله: وَلَوَدِدْتُ فيه: تمني الخير، وهذا لا بأس به، ومثله قول النبي ﷺ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الهَدْيَ [(190)]؛ ومثله أيضًا: أن تقول: لو علمت بكذا لعملت كذا، لو علمت أن حلقة في المسجد لحضرت فهذا لا بأس به.
أما إذا كانت «لو» في سياق الاعتراض على القدر، والتحسر فهذا ممنوع؛ كما أخبر الله تعالى عن المنافقين أنهم قالوا: لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا [آل عِمرَان: 154] وورد عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله ﷺ: وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ، فَلَا تَقُلْ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ قَدَرُ اللهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ [(191)].
المتن:
بَابٌ: تَطَوُّعُ قِيَامِ رَمَضَانَ مِنَ الإِيمَانِ
37 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
الشرح:
يبين المؤلف أن تطوع قيام رمضان خصلة من خصال الإيمان.
فالمؤلف يعدد خصال الإيمان؛ ليرد على المرجئة الذين يقولون: إن الإيمان هو تصديق القلب فقط، فرد عليهم في تراجمه مثل: «تطوع قيام رمضان من الإيمان»، «قيام ليلة القدر من الإيمان»، «الجهاد من الإيمان»؛ وكلمة التوحيد أعلى خصال الإيمان، وإماطة الأذى من الإيمان، وهكذا جميع أعمال القلوب، وأعمال الجوارح، وأقوال اللسان، كلها من خصال الإيمان؛ خلافًا للمرجئة.
37 حديث الباب فيه: بيان أن قيام رمضان من أسباب المغفرة، لكن بشرط أن يكون عن إيمان بالله ورسوله، واحتساب للأجر والثواب عند الله ؛ ولابد من شرط آخر، وهو اجتناب الكبائر؛ كما دلت عليه النصوص الأخرى، مثل قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النِّسَاء: 31].
وبعض العلماء يرى أن إصرار الإنسان على الصغيرة يوصلها إلى الكبيرة، فإذا اقترن بالصغيرة إصرار عليها وتبجح بها واستهانة فإن هذا يلحقها بالكبيرة، كما أن الكبيرة قد يقترن بها ما يلحقها بالصغيرة، وهو الحياء، والخجل، واستعظامها؛ لأن هذا من مقدمات أو من علامات التوبة.
فالله تعالى ذكر في صفات المتقين، فقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عِمرَان: 135].
المتن:
بَابٌ: صَوْمُ رَمَضَانَ احْتِسَابًا مِنَ الإِيمَانِ
38 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
الشرح:
38 قوله: مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، أي: بشرط الإيمان والاحتساب.
وفيه: أن قيام رمضان خصلة من خصال الإيمان، كما تقدم، مثل: قيام ليلة القدر، والجهاد، فكل ذلك من خصال الإيمان.
المتن:
بَابٌ: الدِّينُ يُسْرٌ
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ.
الشرح:
قوله: «بَاب الدِّينُ يُسْرٌ» «الدِّين» : اسم جنس، فهو يعني أن جنس الدين يسر، والمراد به دين الإسلام، وهو دين الأنبياء جميعًا؛ لأن الأنبياء كلهم اتفقوا في الأصول والتوحيد والاعتقاد، فكل الأنبياء جاءوا بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، وأن من أصول الاعتقاد: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ ولهذا قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ [آل عِمرَان: 19]، فالإسلام هو دين آدم، ونوح، وهود، وصالح، وشعيب، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وجميع الأنبياء، وهو دين نبينا محمد ﷺ.
فدين الأنبياء كله يسر وهو واحد؛ فلهم يدعو إلى التوحيد وينهى عن الشرك، لكن الشرائع والمناهج هي التي يحدث فيها الاختلاف، كما قال الله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المَائدة: 48]، فكل نبي له شريعة خاصة، والأوامر والنواهي تختلف من شريعة لشريعة، فعلى سبيل المثال: الجمع بين الأختين جائز في بعض الشرائع، كما في شريعة يعقوب ، بينما في شريعتنا لا يجوز الجمع بين الأختين، وفي شريعة الإنجيل الأمر بالتسامح.