ولهذا جاء في الإنجيل: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر»، وفي شريعتنا ـ وهي الشريعة الكاملة ـ يخير أولياء القتيل بين القتل بالقصاص، وبين العفو إلى الدية، وبين العفو مجانًا.
فالدين واحد والشرائع مختلفة؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: الْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ: دِينُهُمْ وَاحِدٌ، وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى [(192)]؛ وإخوة العلات هم الإخوة من الأب؛ فأبوهم واحد والأمهات متعددة؛ يعني أن الشرائع مختلفة مثل الأمهات؛ وأما الإخوة الأشقاء فهم الإخوة من الأب والأم، والإخوة الأخياف هم الإخوة من الأم.
قوله: أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ؛ والحنيفية السمحة هي ما جاء به النبي محمد ﷺ من الشريعة؛ فإن الله تعالى وضع عن هذه الأمة الآصار والأغلال؛ فهي شريعة سمحة؛ ولهذا قال ﷺ: بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ [(193)]، وقال الله تعالى في وصف نبينا ﷺ: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ [الأعرَاف: 157]
وهذا بخلاف الشرائع السابقة؛ فإن عندهم آصارًا وأغلالاً؛ ومن الآصار التي جعلت على من قبلنا أنهم لا يصلون إلا في مكان واحد؛ أما نحن فكما قال ﷺ: جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ [(194)].
ومنها أنه كان فيمن قبلنا إذا أصابت الثوب النجاسة فلابد أن يقصها، ويقرضها بالمقراض، وأما نحن فتُغسل بالماء، ويبقى الثوب.
المتن:
الشرح:
39 قوله: «حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلاَمِ بْنُ مُطَهَّرٍ» ، قال العيني: «عبدالسلام بن مطهَّر بصيغة المفعول من التطهير بالطاء المهملة».
قوله ﷺ: إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ إِلاَّ غَلَبَهُ، وفي رواية: وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ، [(195)]، يعني: المتنطع والمتشدد يجهد نفسه فلا يستمر.
ولهذا لما أراد بعض الصحابة الانقطاع للعبادة أمرهم النبي ﷺ بالتخفيف على أنفسهم وقال: «إن لربك عليك حقًّا ولنفسك عليك حقًّا ولأهلك عليك حقًّا فأعط كل ذي حق حقه» [(196)].
ولما رأى النبي ﷺ حبلاً ممدودًا بين ساريتين سأل عنه، فقالوا: هذا لزينب، إذا فترت وهي تتعبد تعلقت به، فقال: حُلُّوهُ لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ [(197)]؛ ولهذا قال ﷺ: فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا.
فَسَدِّدُوا أي: افعلوا الصواب، وهو الوسط المعتدل، وَقَارِبُوا أي: إن لم تستطيعوا السداد فقاربوا من السداد، وَأَبْشِرُوا أي: بالخير.
قوله: وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ يعني: أدوا العبادة في وقت النشاط ووقت الراحة، كالمسافر يستعين على قطع المسافة بِالْغَدْوَةِ، وهي أول النهار، وَالرَّوْحَةِ، أي: الرواح في آخر النهار، وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلْجَةِ، أي: وسط الليل وهو ظلمته؛ فالمسافر يستعين على قطع المسافة الطويلة بهذه الأوقات، وهي أوقات النشاط: فكذلك المتعبد يستعين على العبادة بوقت النشاط، أما في وقت الكسل، ووقت التعب، فإنه يستريح؛ حتى لا يكون هناك ملل، ولا سأم، ولا تعب، ولا انقطاع.
ولهذا قال النبي ﷺ: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ؛ فإنه لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ [(198)]، وهذا في صلاة الليل والنافلة؛ أما في صلاة الفريضة فلا يرقد بل يعالج نفسه حتى يؤديَ الفريضة في وقتها.
المتن:
بَابٌ: الصَّلاَةُ مِنَ الإِيمَانِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ [البقرة: 143] يَعْنِي صَلاَتَكُمْ عِنْدَ البَيْتِ
40 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ، أَوْ قَالَ: أَخْوَالِهِ مِنْ الأَْنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلاَةٍ صَلاَّهَا صَلاَةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ، فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ مَكَّةَ فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ؛ وَكَانَتْ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ؛ فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ.
قَالَ: زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ فِي حَدِيثِهِ هَذَا أَنَّهُ مَاتَ عَلَى الْقِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ.
الشرح:
قوله: «وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ، أي: صلاتكم إلى بيت المقدس؛ فدل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وهذا من أقوى الأدلة في الرد على المرجئة.
40 والقصة في حديث الباب فيها فوائد، منها: أن الإنسان لا يؤاخذ إلا بعد العلم، فالذين صلوا إلى جهة بيت المقدس بعد أن حولت القبلة وهم لم يعلموا لم يؤاخذوا.
وفيه: أن الإنسان إذا كان يعمل عملاً ثم نسخ فإنه لا يؤاخذ، وإذا مات على ذلك فإنه يثاب؛ فالصحابة الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة ثوابهم كامل؛ ولهذا لما حولت القبلة قال الصحابة: إنه مات ناس من أصحاب النبي ﷺ ما ندري ما نقول فيهم؛ فأنزل الله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ، يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس.
وفيه: دليل على قبول خبر الواحد، ورد على من لا يقبل خبر الواحد.
وفيه: دليل على أن الإنسان إذا كان يصلي في مكان ما إلى غير القبلة بعد اجتهاد، ثم أخبره أحد وهو في الصلاة باتجاه القبلة، فقال له: القبلة يمينك، أو شمالك، فإنه يستدير إلى القبلة، ويتم صلاته، ولا يعيد أول الصلاة، كما فعل الصحابة؛ فقد صلى أحد الصحابة مع النبي ﷺ بعدما حولت القبلة، ثم جاء إلى أهل قُباء، وهم يصلون إلى الشام، فقال لهم بصوت يسمعونه: أشهد بالله أني صليت مع رسول الله وهو متجه إلى الكعبة فاستداروا وهم في الصلاة، فكانت وجوههم في أول الصلاة إلى الشام، وفي آخر الصلاة إلى القبلة، ولم يعيدوا أول الصلاة.
وإذا صلى رجل إلى غير القبلة اجتهاداً، ولم يعلم حتى انتهت الصلاة، فصلاته صحيحة، ولا يعيدها.
المتن:
بَابُ حُسْنِ إِسْلاَمِ المَرْءِ
41 قَالَ مَالِكٌ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلاَمُهُ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ كُلَّ سَيِّئَةٍ كَانَ زَلَفَهَا، وَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلاَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا.
الشرح:
في هذه الترجمة، وهذا الحديث بيان فضل الله تعالى وإحسانه إلى عبده، وأن المؤمن إذا أسلم وحسن إسلامه فإن الله تعالى يكفر عنه ذنوبه السابقة؛ أما إذا أسلم، ولم يحسن إسلامه، فإن إسلامه يكون كفارة للكفر فقط.
41 وحسن إسلام المرء هو أن يتوب من الكفر والمعاصي، فإذا أسلم وتاب من الكفر والمعاصي جميعًا كفر الله سيئاته السابقة، وغفر الله له كل السيئات التي زَلَفَهَا، أي: قدمها، ثم يكون بعد ذلك القصاص؛ السيئة بمثلها إلا أن يعفو ، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، كما في الأحاديث الأخرى، وكما دلت الآيات الكريمات:مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [البَقَرَة: 245].
فهذا من فضل الله تعالى وإحسانه؛ فإذا كان العبد في حال كفره يفعل الفواحش ثم تاب من الكفر ومن جميع المعاصي فقد حسن إسلامه، وإذا حسن إسلامه كفَّر الله بإسلامه كل سيئة قدمها وأزلفها، فمحى عنه الكفر والمعاصي بتوبته.
أما إذا أسلم ولم يحسن إسلامه ـ أي أسلم من الكفر، ولكنه لم يتب من فعل الفواحش ـ فإنه تصح توبته من الكفر، ويبقى عليه إثم ما أصر عليه من الذنوب والمعاصي؛ فيؤاخذ بالأول والآخر، فيعاقب على شرب الخمر في حال كفره وبعد إسلامه.
وهذا استدل به المؤلف على أن الإيمان يزيد وينقص، وهذا فيه الرد على المرجئة؛ لأن الإسلام يكون حسنًا ويكون غير حسن؛ فالذي حسن إسلامه زاد إيمانه والذي لم يحسن إسلامه معناه أن إيمانه ناقص بسبب عدم توبته من المعاصي.
قوله: وَالسَّيِّئَةُ بِمِثْلِهَا إِلاَّ أَنْ يَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهَا؛ فهذا فيه: الرد على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن السيئة لا يتجاوز الله عنها بل يخلد صاحبها في النار، فالنبي ﷺ أخبر هنا أن الله قد يتجاوز عن السيئة، ويدل على ذلك أيضًا قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النِّسَاء: 48].
فالخوارج يقولون: إن الله لا يتجاوز عن الكبيرة بل يكفر صاحبها ويخلد في النار، هكذا تقوَّلوا على الله فمذهبهم باطل والمعتزلة يقولون: ينتهي إيمانه بالسيئة لكنه لا يدخل في الكفر في الدنيا فيكون في منزلة بين المنزلتين، وفي الآخرة يتفقون مع الخوارج في تخليده في النار، ومذهبهم أيضًا باطل.
فالحديث فيه: رد على المرجئة والخوارج والمعتزلة.
المتن:
الشرح:
42 قوله: وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا، وفي حديث الترجمة: «إلا أن يتجاوز الله عنها» ، فهو تحت المشيئة إن شاء كتبها بمثلها وإن شاء عفا عنها إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النِّسَاء: 48].
فالأحاديث المطلقة تحمل على الأحاديث المقيدة، والنصوص المطلقة تقيدها النصوص الأخرى.
قوله: إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ ليس هذا حدًّا، بل قد تضاعف الحسنة بأكثر من ذلك على حسب ما يكون في القلب من تعظيم الله، والإخلاص له، والصدق مع التوبة، وعلى حسب تأثير هذه الحسنة فهي تضاعف، كما دلت النصوص الأخرى.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «إحسان الإسلام يفسر بمعنيين: أحدهما بإكمال واجباته واجتناب محرماته، ومنه الحديث المشهور المروي في السنن: مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ [(199)]. فكمال حسن إسلامه حينئذ بترك ما لا يعنيه وفعل ما يعنيه، ومنه حديث ابن مسعود الذي ورد في «الصحيحين» أن النبي ﷺ سئل: هل نؤاخذ بأعمالنا في الجاهلية؟ فقال: مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الجَاهِلِيَّةِ، وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلاَمِ أُخِذَ بِالأَوَّلِ وَالآخِرِ [(200)]» .
والمراد بإحسانه في الإسلام: فعل واجباته والانتهاء عن محرماته، وبالإساءة في الإسلام: ارتكاب بعض محظوراته التي كانت ترتكب في الجاهلية، وفي حديث أبي هريرة هذا مع حديث أبي سعيد الذي علقه البخاري هنا في أول الباب دليل على أن الإسلام إنما يُكَفِّرُ ما كان قبله من الكفر، واللواحق التي اجتنبها المسلم بإسلامه، أما الذنوب التي فعلها حال كفره ثم أصر عليها في الإسلام ولم يتب منها فإنها لا تُكَفَّر عنه بدون التوبة منها.
قال العيني: «ذكره البخاري معلقًا ولم يوصله في موضع في الكتاب، والبخاري لم يدرك زمن مالك، فيكون تعليقًا، ولكنه بلفظ جازم، فهو صحيح، ولا قدح فيه؛ وقال ابن حزم: إنه قادح في الصحة، لأنه منقطع. وليس كما قال لأنه موصول من جهات أخر صحيحة، ولم يذكره لشهرته؛ كيف وقد عرف أنه من شرطه وعادته أنه لا يجزم إلا بتثبت وثبوت وليس كل منقطع يقدح فيه؛ فإن كان يطلق عليه أنه منقطع بحسب الاصطلاح إلا أنه في حكم المتصل في كونه صحيحًا، وقد وصله أبو ذر الهروي في بعض النسخ فقال: أخبرنا النَّضْروي، وهو العباس بن الفضل، ثنا الحسين بن إدريس، ثنا هشام بن خالد، ثنا الوليد بن مسلم، عن مالك به، وكذا وصله النسائي عن أحمد بن المعلى، عن صفوان بن صالح، عن الوليد بن مسلم، عن مالك عن زيد بن أسلم به وقد وصله الإسماعيلي بزيادة فيه».
والحاصل أن الحديث ثابت، والبخاري أحيانًا يعلق الحديث؛ لأنه رواه في المذاكرة، أو لأنه اختصره؛ فإذا كان بصيغة الجزم فلا إشكال فيه، لكنه أحيانًا يأتي به بصيغة التمريض فهذ لم يصح عنده.
المتن:
باب أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ
43 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ قَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: فُلاَنَةُ تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا قَالَ: مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا. وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ.
الشرح:
قوله: «بَاب أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى اللَّهِ أَدْوَمُهُ» في هذا: دليل على تفاوت الإيمان؛ لأن الدين إذا أطلق يكون بمعنى الإيمان، وإذا أطلق الدين أو الإيمان أو الإسلام فإنه يشمل الأقوال والأعمال.
فالإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان فهو الدين، وكذلك الإيمان يسمى إسلامًا؛ لأن المسلم يؤديه بذل وخضوع ولما فيه من التصديق، ويسمى دينًا لأنه يدين الله به، ويسمى بِرًّا لما فيه من الطهارة والنزاهة، ويسمى تقوى لأن العبد يتقي به عذاب الله وسخطه.
43 قوله: «أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه» ، وفي لفظ: «أدومه» [(201)]، الدين هو الإيمان وهو الإسلام بما يشمله من الأقوال والأعمال، فهذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص؛ والمعنى: أن ما داوم عليه صاحبه أحب إلى الله، فمثلاً أن يوتر المسلم كل ليلة بثلاث ركعات أفضل من أن يصلي إحدى عشرة ركعة في ليلة واحدة، ولا يُداوم، وإذا زاد عن ورده في بعض الأحيان فهو حسن، فالمهم ألا ينقص.
قوله: لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا هذا وصف يليق بالله ، ولا يشابهه فيه المخلوق؛ قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشّورى: 11]. وهو وصف كمال ليس فيه نقص، لكن من آثاره قطع الثواب عند قطع العمل.
وبعضهم فسر قوله: لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا، أي: لا يقطع الثواب حتى يقطع العبد العمل، وهذا من آثار الصفة، وليس هو الصفة.
والمؤولون يقولون: هذا من باب المشاكلة، ولا إشكال فيه فهذا وصف يليق بالله والله أعلم بكيفيته؛ لكن من آثاره قطع الثواب عند قطع العمل. وهذا من باب قوله تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفَال: 30]، فهو مكر في مقابل مكرهم، وهذا ملل في مقابل ملل العبد، وهو وصف يليق بجلال الله وعظمته، لا يناقض الكمال؛ فالمكر بالنسبة للمخلوق نقص، لكن مكر الله كمال.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقوله: فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا وفي رواية: لَا يَسْأَمُ حَتَّى تَسْأَمُوا [(202)] الملل والسآمة في العمل يوجب تركه وقطعه، فإذا سئم العبد من العمل ومله قطعه وتركه، وقطع الله عنه ثواب ذلك العمل، فإن العبد إنما يجازى بعمله؛ فمن ترك عملاً انقطع عنه ثوابه وأجره، إذا كان قطعه من غير عذر، من مرض، أو سفر أو هرم؛ كما قال الحسن: إن دور الجنة تبنيها الملائكة بالذكر، فإذا فتر العبد انقطع الملك عن البناء، فتقول له الملائكة: ما شأنك يا فلان؟ فيقول: إن صاحبي فتر؛ قال الحسن: أمدوهم رحمكم الله بالنفقة.
وأيضًا فإن دوام العمل ربما حصل للعبد به في عمله الماضي ما لا يحصل له فيه عند قبره، فإن الله يحب مواصلة العمل ومداومته، ويجزي على دوامه ما لا يجزي على المنقطع منه، وقد صح هذا المعنى في الدعاء، وأن العبد يستجاب له ما لم يعجل، يقول: قد دعوت فلم يستجب لي[(203)]، فيدع الدعاء؛ فدل هذا على أن العبد إذا أدام الدعاء، وألح فيه أجيب، وإن قطعه، واستحسر، منع إجابته؛ وسُمِّي هذا المنع من الله مللاً وسآمة مقابلة للعبد على ملله، وسآمته، كما قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التّوبَة: 67]، فسمى تركه لهم نسيانًا مقابلة لنسيانهم له... هذا أظهر ما قيل في هذا؛ ويشهد له أنه قد ورد من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال: اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ. [(204)]، خرجه بقي بن مخلد وفي إسناده موسى بن عبيدة. وفي لفظه هنا: لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا. وقد قيل: إن حَتَّى هنا بمعنى واو العطف، ولكن لا يصح دعوى كون حتى عاطفة؛ لأنها تعطف المفردات لا الجمل، هذا هو المعروف عند النحويين، وخالف فيه بعضهم وقيل: إن حتى فيه بمعنى حين وهذا غير معروف.
وزعم ابن قتيبة أن المعنى لا يمل إذا مللتم، وزعم أن هذا الاستعمال معروف في كلام العرب، وقد يقال: إن حتى بمعنى لام التعليل».
وقد كان ﷺ ينهى عن قطع العمل وتركه، كما قال لعبدالله بن عمرو : لا تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ [(205)].
المتن:
زِيَادَةِ الإِْيمَانِ وَنُقْصَانِهِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف: 13] وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر: 31] وَقَالَ: اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ
الشرح:
هذه الآيات صريحة في زيادة الإيمان ونقصانه وَزِدْنَاهُمْ هُدىً» ؛ لأن الهدى هو الإيمان والتقوى، وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً، الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» ، فكل شيء يكمل فإنه ينقص، وكل شيء يوصف بالكمال يوصف بالنقص.
وفيه: الرد على المرجئة الذين يقولون: الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص؛ وهذا ناشئ عن قولهم: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وإن الإيمان هو مجرد التصديق بالقلب؛ أما هذه النصوص فتدل على أن الإيمان يدخل فيه الأعمال، وأنه يزيد وينقص.
المتن:
44 حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ.
قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ: قَالَ أَبَانُ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ إِيمَانٍ مَكَانَ مِنْ خَيْرٍ.
الشرح:
44 أما حديث أنس فواضح الدلالة على التفاوت في الأعمال، فمن الناس: من يكون في قلبه من الإيمان وزن شعيرة ـ وهي الحبة الكبيرة ـ، ومنهم: من يكون في قلبه من الإيمان وزن برة، ومنهم: من يكون في قلبه من الإيمان وزن ذرة.
فهذا دليل على أن الإيمان يتفاوت والناس يتفاوتون فيه، وتفاوته دليل على أنه يزيد وينقص، فهو واضح في الرد على المرجئة الذين يقولون: الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، والناس متساوون فيه.
والصواب: أن الإيمان ليس واحدًا لا في أصله ولا في فرعه؛ فالإيمان يزيد وينقص، فإيمان الصحابة ليس كإيمان غيرهم، وإيمان الأنبياء ليس كإيمان غيرهم، وإيمان جبريل ليس كإيمان غيره؛ وكذلك التصديق يتفاوت، وأيضًا الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.
وفي الحديث: رَدٌّ على الخوارج والمعتزلة الذين يقولون بتخليد العصاة في النار، فقوله: يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ بُرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ، وَيَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَفِي قَلْبِهِ وَزْنُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فهذا صريح في أن العصاة يخرجون من النار، ولا يخلد في النار إلا الكفرة، وفيهم يقول الله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المَائدة: 37]، ويقول أيضًا: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البَقَرَة: 167] أما العصاة الموحدون فيخرجون ، فلا يخلد مؤمن في النار أبدًا، مهما طال مكثه بسبب عظم ذنبه.
وقد أخبر الله تعالى أن القاتل يخلد في النار فقال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [النِّسَاء: 93]، والمراد هنا المكث الطويل، أي: خلود له أمد وله نهاية وليس خلودًا مؤبدًا؛ أما الكافر فخلوده مؤبد لا نهاية له.
وقد تواترت النصوص عن النبي ﷺ بأن النار يدخلها جملة من العصاة الموحدين، لكنها لا تأكل جباههم؛ لأنها موضع السجود، فهم يصيرون فحمًا يمتحشون ثم يخرجون بشفاعة الشافعين ـ فثبت أن الأنبياء يشفعون، فنبينا محمد ﷺ يشفع أربع مرات في كل مرة يحد الله له حدًّا، وكذلك الأنبياء والملائكة والشهداء والأفراط ـ وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته يقول: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيُخْرِجُ قَوْمًا مِنَ النَّارِ لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ [(206)]، أي: زيادة على التوحيد.
وثبت أنهم: يخرجون ضبائر ضبائر قد امتحشوا، فيلقون في نهر الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل [(207)] ـ يعني البذرة ـ فإذا هذبوا ونُقوا أذن لهم في دخول الجنة، فإذا أخرج عصاة الموحدين ولم يبق منهم أحد أطبقت النار على الكفرة بجميع أصنافهم من اليهود والنصارى والوثنيين والشيوعيين. والمنافقون في الدرك الأسفل، كما قال الله تعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا [النِّسَاء: 145]، وقال تعالى: إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ [الهُمَزة: 8]، يعني مطبقة مغلقة وقال تعالى: عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ [البَلَد: 20].
قوله: مِنْ خَيْرٍ، وفي رواية: مِنْ إِيمَانٍ، والمعنى واحد؛ فالخير هو الإيمان، فلو مات كافر وكان يعمل شيئًا من أعمال الخير كبر الوالدين أو صلة الرحم أو الإحسان إلى الناس فلا تنفعه في الآخرة دون إيمان، ولكن يُجازى بها في الدنيا.
المتن:
45 حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ سَمِعَ جَعْفَرَ بْنَ عَوْنٍ حَدَّثَنَا أَبُو الْعُمَيْسِ أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَجُلاً مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً [المَائدة: 3].
قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ.
الشرح:
45 قوله: «قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ» ، وفي رواية: قال عمر : هو يوم عيد لنا[(208)]؛ فقد نزلت هذه الآية يوم عرفة وهو يوم عيد سنوي، ونزلت في يوم جمعة، وهو عيد أسبوعي.
وهذا الحديث فيه: دليل على خبث اليهود، فهم يعلمون الحق ولا يؤمنون به، فهذا اليهودي جاء إلى عمر بن الخطاب ، فقال: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاَتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً [المَائدة: 3]. . وهي آية عظيمة يخبر الله فيها أنه أكمل لهذه الأمة دينها، وأتم عليهم النعمة ورضي لهم الإسلام دينًا؛ فمع معرفة اليهود ذلك إلا أنهم لم يؤمنوا؛ وهذا يدل على خبثهم، وما منعهم من الإيمان إلا الكبر والحسد.
والشاهد هنا: قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فأخبر أن الدين يكمل، والذي يوصف بالكمال يوصف بالنقص، فكل شيء يكمل فهو قابل لأن ينقص، وهذا دليل على أن الإيمان يتفاوت والدين يتفاوت، والدين هو الإيمان، وهو الإسلام فإذا أطلق أحدها دخل فيه جميع الأعمال والأقوال.
المتن:
باب الزَّكَاةُ مِنْ الإِْسْلاَمِ
وَقَوْلُهُ: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ [البينة: 5]
الشرح:
هكذا يعدد المؤلف رحمه الله خصال الإسلام؛ فالزكاة من خصال الإسلام، وكذلك الحج والصوم، وبر الوالدين من الإسلام ومن الإيمان، والإسلام إذا أطلق دخل فيه الإيمان فيشمل الأقوال والأعمال، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ.
فسمى إخلاص العبادة لله ـ وهو التوحيد ـ وكذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة دينًا، فقال تعالى: وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ.
المتن:
الشرح:
46 وقوله: «جَاءَ رَجُلٌ» هذا الرجل جاء في رواية أخرى أنه ضمام بن ثعلبة[(209)] ـ فسأل النبي ﷺ عن الإسلام فأخبره أن عليه خمس صلوات في اليوم والليلة فقال: هل علي غيرها؟ قال: لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ.
فاستدل به بعض العلماء على أنه لا يجب غير الصلوات الخمس، وأن تحية المسجد ليست واجبة، والوتر ليس بواجب، وصلاة العيد ليست واجبة؛ لأنه قال: هل علي غيرها؟ قال: لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ. فأخبره النبي ﷺ أنه ليس عليه شيء إلا أن يتنفل، فدل على أن ما عداها ليس بواجب.
وذهب الأحناف[(210)] إلى أن الوتر واجب، وكذلك ذهب بعض العلماء كالظاهرية[(211)] إلى أن تحية المسجد واجبة، وأجابوا عن هذا الحديث بأن هذه الخمس الصلوات واجبات في اليوم والليلة، وما عداها فهو واجب بسبب خاص، كتحية المسجد فهي واجبة بدخول المسجد، واستدلوا بقول النبي ﷺ: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ المَسْجِدَ، فَلاَ يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ [(212)].
ثم أخبره النبي ﷺ أن عليه زكاة ماله، وصوم رمضان؛ فقال الرجل: «هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟» فقال: لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَوَّعَ؛ فولى الرجل وهو يقول: «وَاللَّهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ» ، يعني: ما أزيد تطوعًا ولا أنقص من الواجبات.
وقد استدل العلماء بهذا الحديث على أن المقتصد من أهل الجنة، والمقتصد هو الذي يؤدي الواجبات، وينتهي عن المحرمات؛ والمقتصدون هم الأبرار، لكن السابقين المقربين الأولين أفضل منهم؛ لأنهم يؤدون الفرائض، ويفعلون المستحبات، ويتركون المكروهات وفضول المباحات، أما الظالم لنفسه فهو الذي ينقص شيئًا من الواجبات ويفعل بعض المحرمات.
المتن:
اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ مِنْ الإِْيمَانِ
47 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيٍّ الْمَنْجُوفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ الْحَسَنِ وَمُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: مَنْ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَكَانَ مَعَهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا، فَإِنَّه يَرْجِعُ مِنْ الأَْجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ، كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ؛ وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ.
تَابَعَهُ عُثْمَانُ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ نَحْوَهُ
الشرح:
ترجم المؤلف هنا: «اتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ مِنْ الإِْيمَانِ»؛ وقال في الترجمة السابقة: «الزكاة من الإسلام» ؛ لأن المؤلف رحمه الله يرى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، وأنهما مترادفان.
والصواب: أنه إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر، أما إذا اجتمعا فيختلف المعنى؛ فيفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة.
47 وفي حديث الباب يقول ﷺ: مَنْ اتَّبَعَ جَنَازَةَ مُسْلِمٍ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، فدل هذا على أن الإيمان والإخلاص شرطان في العمل.
وفيه: فضل من صلى على جنازة واتبعها، وأنه يكتب له قيراطان من الأجر، أما إذا صلى عليها ولم يتبعها كتب له قيراط واحد؛ ولما ذكر هذا لبعض الصحابة قالوا: لقد فرطنا في قراريط كثيرة. والمقصود هنا أن اتباع الجنازة، والصلاة عليها من الإيمان.
قوله: وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا : أي: حتى يُنتهى من دفنها، وهذا شرط لتحصيل هذا الأجر العظيم.
المتن:
باب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ
وَقَالَ: إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلاَّ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا.
الشرح:
هذه ترجمة عظيمة، ذكر فيها المصنف رحمه الله: «خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ» وهذا من الورع.
قوله: «وَقَالَ: إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ مَا عَرَضْتُ قَوْلِي عَلَى عَمَلِي إِلاَّ خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ مُكَذِّبًا» ؛ لأنه وجد أن هناك فرقًا بين القول والعمل، فالقول غالبًا يكون أكثر من العمل، فقد يتكلم المرء بكلام طيب حسن وعمله فيه نقص وضعف.
وكذلك قال ابن أبي مليكة التابعي الجليل: «أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ» ، أي: يخاف على نفسه نفاق العمل، ثم قال ابن أبي مليكة: «مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ» ، يعني: ما يجرؤ أحد منهم أن يقول هذا؛ وذلك لورعهم وشدة خوفهم وأرضاهم.
فإذا كان هذا حال الصحابة وهم خير القرون، فكيف حال من تأخر عنهم؟!
وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ.
وَيُذْكَرُ عَنْ الْحَسَنِ مَا خَافَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ أَمِنَهُ إِلاَّ مُنَافِقٌ وَمَا يُحْذَرُ مِنْ الإِْصْرَارِ عَلَى النِّفَاقِ وَالْعِصْيَانِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
وقول الحسن: «مَا خَافَهُ إِلاَّ مُؤْمِنٌ وَلاَ أَمِنَهُ إِلاَّ مُنَافِقٌ» أشكل هذا على بعضهم بسبب اختصار البخاري له؛ فقال: المعنى أنه لا يخاف الله إلا مؤمن ولا يأمنه إلا منافق؛ وهذا صحيح، لكنه ليس هذا بمراد الحسن؛ لكن مراده كما هو معروف من الأثر: ما خاف النفاق إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق؛ فالمؤمن يخشى على نفسه أن يقع في صفات المنافقين، وخوفه هذا يدل على إيمانه؛ أما المنافق فيأمن، وأمنه هذا يدل على نفاقه.
الموضع الثاني: ينبغي للإنسان أن يحذر من الإصرار على النفاق والعصيان، قال الله تعالى في وصف المتقين: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عِمرَان: 135]، فالمتقون قد تقع منهم الهفوات، والزلات، وظلم النفس؛ لأنهم بشر، وليسوا معصومين؛ لكنهم لا يصرون عليها؛ فإذا بدرت منهم معصية، أو ظلم نفس، أو فعل فاحشة، بادروا بالتوبة، والاستغفار؛ فالمهم عدم الإصرار، والمبادرة بالتوبة.
وهذا الأثر معلق بصيغة التمريض، ولا يدل على أنه ضعيف، بل إن البخاري إذا اختصر التعليق أتى بصيغة التمريض، فلما اختصر البخاري التعليق أتى بصيغة التمريض قال: ويُذكر، وهذا لا يدل على الضعف، بل قد صح هذا عن الحسن.
المتن:
الشرح:
48 قوله: «عَنْ زُبَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا وَائِلٍ عَنْ الْمُرْجِئَةِ» ، أي: عن معتقده فيهم، وفي هذا دليل على أن المرجئة مذهبهم قديم؛ لأن أبا وائل توفي سنة تسع وتسعين أو وثمانين في القرن الأول.
وقوله: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ يدل على أن الإيمان يزيد وينقص، أي: فإذا سب المسلم أخاه صار فاسقًا، والفاسق ناقص الإيمان، وغير الفاسق كامل الإيمان، ينقص بالفسق ويزيد بالعدالة، إذا سلم من الفسق تم إيمانه وإذا فسق نقص إيمانه.
قوله: وَقِتَالُهُ كُفْرٌ، أي: كفر دون كفر؛ فهو كفر لا يخرج من الملة ولكنه ينقص الإيمان؛ فقتال المسلم لا يكون كفرًا إلا إذا استحله.
وهذا فيه رد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان شيء واحد لا يزيد ولا ينقص؛ ولهذا لما سأل زبيد أبا وائل عن المرجئة كأن أبا وائل قال: مذهبهم باطل، كيف يتعلق الإنسان بقول المرجئة والنبي ﷺ يقول: سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ، يعني أن هذا الحديث فيه رد عليهم.
المتن:
الشرح:
49 قوله: فَتَلاَحَى، يعني: اختصم وتنازع.
وفيه: أن الخصومة والنزاع قد تكون سببًا في الحرمان من الخير؛ إذ إن النبي ﷺ خرج ليخبرهم بليلة القدر ويعينها لهم من العشر، فتلاحى فلان وفلان فرفع عن النبي ﷺ علمها بسبب خصومة هؤلاء وتلاحيهم.
ودل على أن الخصام والنزاع من الأمور المذمومة، ولاسيما بحضرة النبي ﷺ، وفي مسجد النبي ﷺ؛ فإن الله تعالى نهى المؤمنين أن يرفعوا أصواتهم عند النبي ﷺ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ [الحُجرَات: 2] أي يخشى من رفع الصوت حبوط العمل.
وهذا هو الشاهد للترجمة «بَاب خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لاَ يَشْعُرُ» .
قوله: وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا، أي: حتى يجتهد العباد في إحياء هذه الليالي العشر، وهذا خير للأمة، وإن كان فاتهم الخير من جهة تعيينها؛ ولهذا قال النبي ﷺ: التَمِسُوهَا فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ [(214)]، فالخير للأمة أن تجتهد في جميع العشر.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «مراد البخاري بهذا الباب الرد على المرجئة بأن المؤمن يقطع لنفسه بكمال الإيمان وأن إيمانه يقع كإيمان جبريل وميكائيل، وأنه لا يخاف على نفسه النفاق العملي ما دام مؤمنًا»؛ لأن الإيمان عندهم هو التصديق بالقلب فلا يزيد ولا ينقص، ولا يخشى عليه؛ ولهذا إذا قال الإنسان عندهم: أنا مؤمن إن شاء الله قالوا: تشك في إيمانك؟! فينهون عن الاستثناء أشد النهي.
أما جمهور أهل السنة فيرون أنه لا بأس من أن تستثني إذا قصدت عدم الشك في أصل الإيمان؛ لأن أعمال الإيمان متشعبة متعددة وواجباته كثيرة، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه من الواجبات وانتهى عن كل المحرمات، فلا حرج في أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، أما المرجئة فيقولون: ما دمت تعرف من نفسك أنك مصدق، فلا تشك في إيمانك.
قال الحافظ ابن رجب: «ذكر عن إبراهيم التيمي أنه قال: «ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبًا» ، وهذا معروف عنه، وخرجه جعفر الفريابي بسند صحيح عنه، ولفظه: «ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون كذابًا» ، ومعناه أن المؤمن يصف الإيمان بقوله، وعمله يَقْصُر عن وصفه، فيخشى على نفسه أن يكون عمله مكذبًا لقوله.
كما روي عن حذيفة أنه قال: المنافق الذي يصف الإسلام ولا يعمل به، وعن عمر قال: إن أخوف ما أخاف عليكم المنافق العليم قالوا: وكيف يكون المنافق عليما؟ قال: يتكلم بالحكمة ويعمل بالجور، أو قال: بالمنكر، وقال الجعد أبو عثمان: قلت لأبي رجاء العطاردي: هل أدركت ممن أدركت من أصحاب رسول ﷺ أحدًا يخشى النفاق؟ قال: نعم، إني أدركت بحمد الله منهم صدرًا حسنًا، وكان قد أدرك عمر.
وممن كان يتعوذ من النفاق من الصحابة: حذيفة، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري.
وأما التابعون: فكثير، قال ابن سيرين: ما علي شيء أخوف من هذه الآية: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البَقَرَة: 8] وقال أيوب: كل آية في القرآن فيها ذكر النفاق فإني أخافها على نفسي، وقال معاوية بن قرة: كان عمر يخشاه وآمنه أنا؟!. وكلام الحسن في هذا المعنى كثير جدًّا، وكذلك كلام أئمة الإسلام بعدهم، قال زيد بن الزرقاء، عن سفيان الثوري: خلاف ما بيننا وبين المرجئة ثلاث:
نقول: الإيمان قول وعمل، وهم يقولون: الإيمان قول ولا عمل.
ونقول: الإيمان يزيد وينقص، وهم يقولون: لا يزيد ولا ينقص.
ونحن نقول: النفاق، وهم يقولون: لا نفاق.
وقال أبو إسحاق الفزاري، عن الأوزاعي: قد خاف عمر على نفسه النفاق قال: فقلت للأوزاعي: إنهم يقولون: إن عمر لم يخف أن يكون يومئذ منافقا حين سأل حذيفة؛ لكن خاف أن يبتلى بذلك قبل أن يموت، قال: هذا قول أهل البدع.
وقال الإمام أحمد ـ في رواية ابن هانئ ـ وسئل: ما تقول فيمن لا يخاف النفاق على نفسه؟ فقال: ومن يأمن على نفسه النفاق؟!
وأصل هذا يرجع إلى ما سبق ذكره أن النفاق أصغر وأكبر؛ فالنفاق الأصغر: هو نفاق العمل وهو الذي خافه هؤلاء على أنفسهم؛ وهو باب النفاق الأكبر، فيخشى على من غلبت عليه خصال النفاق الأصغر في حياته أن يخرجه ذلك إلى النفاق الأكبر فينسلخ من الإيمان بالكلية، كما قال تعالى: فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصَّف: 5]، وقال: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعَام: 110]».
ثم قال رحمه الله عن الحافظ ابن رجب الأثر الذي ذكره البخاري عن ابن أبي مليكة: «هو معروف عنه من رواية الصلت بن دينار عنه، وفي الصلت ضعف، وفي بعض الروايات: عنه، عن ابن أبي مليكة قال: أدركت زيادة على خمسمائة من أصحاب رسول الله ﷺ ما مات أحد منهم إلا وهو يخاف النفاق على نفسه» . أ.هـ.
ثم قال أيضا الأثر الذي ذكره البخاري عن الحسن: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق أنه: «مشهور عن الحسن، صحيح عنه» .
«والعجب من قوله في هذا: ويذكر، وفي قوله في الذي قبله: وقال ابن أبي مليكة جزمًا.
وقول البخاري بعد ذلك: وما يحذر من الإصرار على التقاتل والعصيان من غير توبة لقول الله : وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عِمرَان: 135]: فمراده أن الإصرار على المعاصي وشعب النفاق من غير توبة يخشى منها أن يعاقب صاحبها بسلب الإيمان بالكلية، وبالوصول إلى النفاق الخالص وإلى سوء الخاتمة، كما يقال: إن المعاصي بريد الكفر، كما قال الحافظ ابن رجب.
وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبدالله بن عمرو، عن النبي ﷺ قال: وَيْلٌ لِأَقْمَاعِ الْقَوْلِ، وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [(213)].
وأقماع القول: الذين آذانهم كالقمع يدخل فيه سماع الحق من جانب، ويخرج من جانب آخر لا يستقر فيه.
وقد وصف الله أهل النار بالإصرار على الكبائر، فقال: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ [الواقِعَة: 46]، والمراد بالحنث: الذنب الموقع في الحنث، وهو الإثم.
قال الحافظ ابن رجب: « تبويب البخاري لهذا الباب يناسب أن يذكر فيه حبوط الأعمال الصالحة ببعض الذنوب، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ [الحُجرَات: 2]. وهذا أشار إليه الحديث في تلاحي الرجلين.
قال الإمام أحمد: حدثنا الحسن بن موسى، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: ما يرى هؤلاء أن أعمالاً تحبط أعمالاً، والله يقول: لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ إلى قوله: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ، ومما يدل على هذا ـ أيضًا ـ قول الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البَقَرَة: 264] الآية، وقال: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ [البَقَرَة: 266] الآية.
وفي «صحيح البخاري» أن عمر سأل الناس عنها فقالوا: الله أعلم. فقال ابن عباس: ضربت مثلاً لعمل، قال عمر: لأي عمل؟ قال ابن عباس: لعمل، قال عمر: لرجل غني يعمل بطاعة الله ثم يبعث الله إليه الشيطان فيعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله.
وقال عطاء الخراساني: هو الرجل يختم له بشرك، أو عمل كبيرة، فيحبط عمله كله.
وصح عن النبي ﷺ أنه قال: مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ حَبِطَ عَمَلُهُ [(215)].
وفي «صحيح مسلم» ـ أيضًا ـ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللهِ لَا يَغْفِرُ اللهُ لِفُلَانٍ، وَإِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ، فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ [(216)].
وقالت عائشة: أبلغي زيدًا أنه أحبط جهاده مع رسول الله ﷺ، إلا أن يتوب.
وهذا يدل على أن بعض السيئات تحبط بعض الحسنات، ثم تعود بالتوبة منها.
وخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره» من رواية أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كان أصحاب رسول الله ﷺ يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل صالح؛ فأنزل الله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ [محَمَّد: 33]، فخافوا الكبائر بعد أن تحبط الأعمال.
وبإسناده، عن الحسن في قوله: وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ، قال: بالمعاصي.
وعن معمر، عن الزهري في قوله تعالى: وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ، قال: بالكبائر.
وبإسناده عن قتادة في هذه الآية قال: من استطاع منكم أن لا يبطل عملاً صالحًا بعمل سيئ فليفعل ولا قوة إلا بالله». ا.هـ.
ومن ذلك قصة ثابت بن قيس لما نزلت هذه الآية جلس في بيته، وسأل عنه النبي ﷺ فقيل: إنه يظن أنه حبط عمله، وأنه من أهل النار؛ لأنه رفع صوته فوق صوت النبي ﷺ. فقال النبي ﷺ: أخبروه أنه مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ [(217)]؛ لأنه مضطر؛ فقد كان خطيب النبي ﷺ، وكان يرفع صوته لأجل الخطبة.
المتن:
باب سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيَّ ﷺ عَنْ الإِْيمَانِ وَالإِْسْلاَمِ وَالإِْحْسَانِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ وَبَيَانِ النَّبِيِّ ﷺ لَهُ ثُمَّ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ له يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا. وَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ الإِْيمَانِ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عِمرَان: 85].
الشرح:
قصد الإمام البخاري رحمه الله بهذه الترجمة بيان أن الدين يشمل الإيمان والإسلام والإحسان؛ وأن الأعمال كلها تسمى دينًا؛ وكذلك الإسلام إذا أطلق يشمل الأقوال والأعمال، والإيمان كذلك، فهذه الأمور الثلاثة إذا أطلقت تشمل الأقوال، والأعمال.
فالنبي ﷺ في هذا الحديث سأله جبريل عن الإسلام، ثم سأله عن الإيمان، ثم سأله عن الإحسان ثم سأله عن الساعة، ثم سأله عن أماراتها ثم قال: هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ، فسمى هذا كله دين الإسلام، وما سماه هو: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، والإيمان، والاعتقادات، وهي: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله واليوم الآخر، والقدر خيره وشره؛ والإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه، سمى ذلك كله دينًا، فدل على أن الدين يشمل الأقوال، والأعمال، والاعتقادات، وكذلك الإسلام، وكذلك الإيمان، كل منها إذا أطلق دخل فيه الأقوال والأعمال والاعتقادات كما في حديث وفد عبد القيس لما سألوا النبي ﷺ عن الإيمان، فقال: آمركم بالإيمان بالله وحده أَتَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا ـ وفي لفظ: وَأَنْ تُؤَدُّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ [(218)]، ففسر الإيمان بالأعمال: الشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصوم، وإعطاء الخمس، أدخلها كلها في مسمى الإيمان، فدل على أن الإيمان يدخل فيه الأعمال والأقوال وكذلك الإسلام.
أما إذا اجتمع الإيمان والإسلام والإحسان ـ كما في حديث جبريل ـ فإن الإسلام يفسر بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة، والإحسان بعبادة الله على المشاهدة، تعبد الله كأنك تراه.
وكذلك استدل المؤلف رحمه الله في الترجمة بقوله تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عِمرَان: 85]؛ فالإسلام أطلق هنا، فيشمل الأقوال، والأعمال، والاعتقادات.
والمرجئة يرون أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وأن الإيمان هو التصديق فقط ـ كما سبق في التراجم الكثيرة التي رد بها المؤلف رحمه الله عليهم، ويقولون: إيمان أفسق الناس، وأتقى الناس واحد، فإيمان جبريل، وميكائيل؛ وإيمان أبي بكر وعمر، كإيمان أفسق الناس، وهذا باطل؛ والمؤلف أراد أن يبين أن الأعمال تدخل في مسمى الإيمان خلافًا للمرجئة.
والمرجئة طائفتان:
الأولى: الغلاة، وهم الذين يقولون: الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، وليست مطلوبة؛ وهم الجهمية، وزعيمهم الجهم بن صفوان يقول: الإيمان معرفة الرب بالقلب، فمعرفة الرب بالقلب تكفي، والكفر هو جهل الرب بالقلب، وعليه فلو عمل المرء جميع الكبائر فلا تضر إيمانه ما دامت هذه المعرفة في قلبه؛ وهذا من أبطل الباطل.
الثانية: مرجئة الفقهاء، وهم طائفة من أهل السنة، ومنهم أبو حنيفة، وجماعة ـ يقولون: الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان، لكنها مطلوبة؛ فما أوجبه الله فواجب، وما حرمه فحرام؛ والإنسان إذا ارتكب كبيرة فعليه الوعيد الشديد، وإذا أخل بالواجب كذلك، لكن لا نسميها إيمانًا بل نسميها واجبًا آخر؛ فالإنسان عليه واجبان: واجب الإيمان، وواجب العمل.
لكن مرجئة الفقهاء فتحوا بابًا للمرجئة المحضة، وفتحوا بابًا للفساق، لما قالوا: الأعمال ليست من الإيمان وإن كانت مطلوبة؛ فجاء المرجئة المحضة، وقالوا: ليست من الإيمان، وليست مطلوبة؛ وكذلك فتحوا باب الفساق؛ فوجدنا من أهل الفسق من يقول: أنا مؤمن كامل الإيمان، إيماني كإيمان جبريل وميكائيل، وإيمان أبي بكر وعمر، وهو سكير عربيد من أفسق الناس، فإذا قلت له: أبو بكر وعمر عملا أعمالاً صالحة، قال: هذا ليس من الإيمان، هذا شيء آخر.
كما أنهم أيضًا خالفوا جمهور أهل السنة في مسألة الاستثناء في الإيمان، وقول المرء: أنا مؤمن إن شاء الله؛ فهم لا يجيزون ذلك، ويقولون: لا تقل إن شاء الله؛ لأنك تعلم من نفسك أنك صدقت، أما جمهور أهل السنة فيقولون: إذا أراد الشك فهذا ممنوع، أما إذا لم يرد الشك وإنما أراد أن أعمال الإيمان متعددة، وواجباته كثيرة، وأن على الإنسان ألا يزكي نفسه؛ لأنه لا أحد يستطيع أن يجزم بأنه أدى جميع ما عليه، فإذا كان كذلك فلا بأس أن يقول: أنا مؤمن إن شاء الله.
المتن:
الشرح:
50 وأما حديث جبريل المشهور، فرواية البخاري له عن أبي هريرة مختصرة؛ ورواه الإمام مسلم مطولاً من حديث عمر بن الخطاب [(219)].
وفي رواية البخاري سأله في أول الأمر عن الإيمان، وفي رواية مسلم ـ التي رواها عمر ـ أنه سأله أولا عن الإسلام.
قوله: الإِْيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَبِلِقَائِهِ، وَرُسُلِهِ، وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ، ولم يذكر القدر.
قوله: الإِْسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وفي رواية عمر في صحيح مسلم: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ [(220)].
والروايات يفسر بعضها بعضًا. وفي رواية عمر في صحيح مسلم: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ ؛ ورواية الإمام البخاري: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكَ بِهِ، فبين أن المراد بالشهادتين المعنى والعمل، وليس المراد النطق بهما.
ثم سأله عن الساعة فقال: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ؛ ثم أخبره عن أشراطها، فقال: وَسَأُخْبِرُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتْ الأَْمَةُ رَبَّهَا، وفي الرواية الأخرى في حديث مسلم: إِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا [(221)]؛ رَبَّهَا يعني: سيدها، و رَبَّتَهَا: سيدتها، فهذا شرط من أشراط الساعة، وأشراطها كثيرة.
وقد ذكر العلماء معنى إِذَا وَلَدَتْ الأَْمَةُ رَبَّهَا فقالوا: إن معنى ذلك أنه تكثر السراري والعبيد والإماء، فيتسرى الملوك بالإماء فتلد لهم الأولاد، فإذا ولدت السرية من الملك يكون ابنها هو ربها يعني سيدها؛ لأن ابنها هو ابن الملك، فيكون سيدًا على أمه.
وهناك أقوال أخرى، منها: أن تكثر السراري، والإماء، ويكثر تداولهن بين الملاك حتى تباع، ثم يشتريها ولدها، فيكون سيدًا عليها، وهو لا يعلم أنها أمه.
وذكر من أشراط الساعة وَإِذَا تَطَاوَلَ رُعَاةُ الإِْبِلِ الْبُهْمُ فِي الْبُنْيَانِ، فِي خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ يعني مفاتيح الغيب، وتلا الآية: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمَان: 34].
قوله: ثُمَّ أَدْبَرَ، أي: الرجل السائل، «فَقَالَ: رُدُّوهُ» ، فلم يروا شيئًا؛ لأنه الملك، وهو جبريل جاء في صورة إنسان؛ والملك يأتي في صور متعددة؛ لأن الله أعطاه قدرة على التشكل والتصور في الصور المختلفة؛ فهو تارة يأتي في صورة رجل، ويراه الصحابة كما في هذه القصة؛ حيث تعجبوا من حاله، لأنه رجل غريب لا يعرفونه، ولا يثرَىُ عليه أثر السفر؛ فقد جاء وعليه ثياب جميلة شديدة البياض، وشعره كذلك شديد السواد ليس فيه غبرة، والعادة أن المسافر ـ لاسيما في ذلك الزمن ـ تظهر عليه آثار السفر، من اتساخ ثوب وانتفاش شعر.
قوله: «قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ:» يعني: الإمام البخاري: «جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنْ الإِْيمَانِ» ، هذا هو وجه الاستشهاد، والإشارة في قوله: «فَجَعَلَ ذَلِكَ» تعود إلى الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة وأماراتها، سماه كله دينًا؛ فدل على أن الدين يشمل الاعتقادات، والأقوال، والأعمال، وكذلك الإسلام والإيمان إذا أطلقا. قال العيني، شارحًا ما جاء في قول أبي عبدالله: «جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنْ الإِْيمَانِ» : « جعل ـ أي النبي ﷺ ـ وأشار بذلك إلى ما ذكر في الحديث، فإن قلت: قال البخاري أولاً: «فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا» ؛ وقال هاهنا: «جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنْ الإِْيمَانِ» ، يعني في أول الترجمة قال: «فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا» ، وهنا قال: «جَعَلَ ذَلِك كُلَّهُ مِنْ الإِْيمَانِ» ؛ ليبين أن الدين، وكذلك الإيمان، والإسلام، إذا أُطلق أحدها شمل الأقوال، والأعمال؛ والبخاري يرى أن الإسلام، والإيمان، شيء واحد، وأنهما مترادفان؛ والصواب أنهما ليسا مترادفين؛ بل إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا؛ فإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى؛ وإذا افترقا، وجاء الإسلام وحده، أو الإيمان وحده، دخل أحدهما في الآخر.
قال العيني: «قلت: أما جعله دينًا فظاهر، حيث قال ﷺ في آخر الحديث: يُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهُمْ، وأما جعله إيمانًا فكلمة «من» ، إما تبعيضية، فيكون المراد بالإيمان هو الإيمان الكامل المعتبر عند الله تعالى، وعند الناس؛ فلا شك أن الإسلام، والإحسان داخلان فيه؛ وإما ابتدائية؛ ولا يخفى أن مبدأ الإحسان، والإسلام، هو الإيمان بالله؛ إذ لولا الإيمان به لم تتصور العبادة له».