المتن:
بَابُ مَا جَاءَ فِي العِلْمِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114] الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ.
وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً.
الشرح:
قوله: «بَاب مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ» ، هذه الترجمة معقودة لبيان نوعين من صيغ تحمل الحديث، وهما القراءة والعرض.
والقراءة أخص، وهي أن تقرأ على الشيخ وهو يسمع، فتقرأ عليه مروياته ويصحح لك، والعرض أعم وأوسع منها، فقد يكون العرض على الشيخ، وقد يكون على غيره، فتقابل مروياته وهو يسمع ويقرها.
المتن:
الشرح:
قوله: «أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ» ، يعني: أقروه، فقد ذهب ضمام بن ثعلبة إلى النبي ﷺ مندوبًا عنهم، ثم عاد إلى قومه فأجازوه، وأقروه.
المتن:
الشرح:
قوله: «وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُونَ: أَشْهَدَنَا فُلاَنٌ» ، والصك: الكتاب يقرأ على الناس وهم يسمعون، «فَيَقُولُونَ: أَشْهَدَنَا فُلاَنٌ» ، وهذا نوع من القراءة.
قوله: «وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ الْقَارِئُ: أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ» أي: يقرأ القارئ على المقرئ فيقول: «أَقْرَأَنِي فُلاَنٌ» ، وهو يقرأ عليه؛ لأنه يسمع قراءته.
المتن:
الشرح:
قوله: «عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: لاَ بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ» ، فإذا قرأ العالم يقول الراوي: حدثنا أو أخبرنا، على الخلاف السابق.
المتن:
الشرح:
قوله: «عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: إِذَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَلاَ بَأْسَ أَنْ يَقُولَ: حَدَّثَنِي» ، أي: على المذهب المختار الذي اختاره البخاري، وهو المذهب الأول.
المتن:
الشرح:
قوله: «وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ: عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ» ، أي: لك أن تروي بكل الصيغ، سواء أكنت القارئ على الشيخ أم السامع منه، فلك أن تقول: حدثني، وأخبرني، وغير ذلك من الصيغ، وهذا على المذهب المختار.
المتن:
63 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدٍ هُوَ الْمَقْبُرِيُّ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى جَمَلٍ فَأَنَاخَهُ فِي الْمَسْجِدِ ثُمَّ عَقَلَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ ﷺ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَقُلْنَا: هَذَا الرَّجُلُ الأَْبْيَضُ الْمُتَّكِئُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: قَدْ أَجَبْتُكَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: لِلنَّبِيِّ ﷺ إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ، فَقَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ بِرَبِّكَ وَرَبِّ مَنْ قَبْلَكَ آللَّهُ أَرْسَلَكَ إِلَى النَّاسِ كُلِّهِمْ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نَصُومَ هَذَا الشَّهْرَ مِنْ السَّنَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. قَالَ: أَنْشُدُكَ بِاللَّهِ آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْخُذَ هَذِهِ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِنَا فَتَقْسِمَهَا عَلَى فُقَرَائِنَا؟ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اللَّهُمَّ نَعَمْ. فَقَالَ: الرَّجُلُ آمَنْتُ بِمَا جِئْتَ بِهِ وَأَنَا رَسُولُ مَنْ وَرَائِي مِنْ قَوْمِي وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ.
رَوَاهُ مُوسَى وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ بِهَذَا.
الشرح:
63 قوله: «أَيُّكُمْ مُحَمَّدٌ؟ وَالنَّبِيُّ ﷺ مُتَّكِئٌ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ» ، فيه: أن النبي ﷺ لم يميز نفسه عن أصحابه، لا في لباسه، ولا في مكانه؛ ولهذا لم يستطع الغريب أن يميز النبي ﷺ من بين أصحابه، فلم يجد بدًّا من أن يسأل: أيكم محمد؟ ولو كان متميزًا لعرفه، وهذا من تواضعه وورعه ﷺ.
قوله: «فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: ابْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: قَدْ أَجَبْتُكَ، هذا اسمه استفهام التقرير، يعني: هل أنت ابن عبدالمطلب؟
وفيه: أنه نسب النبي ﷺ إلى جده، والجد أب؛ فلا بأس بالنسبة إلى الجد ما لم يترتب على هذا مفسدة؛ كأن ينتسب المرء إلى جده ليأخذ من الدولة وغيرها ما لا يستحقه من المال والمنافع، أما النبي ﷺ فقد مات أبوه عبدالله شابًّا صغيرًا، فرعاه جده عبدالمطلب، وكان شريفًا في مكة، فنُسب إليه ﷺ، واشتهر بذلك، ولم يترتب على هذا مفسدة، فلا بأس أن ينتسب الإنسان إلى جده؛ لأن الجد أب.
قوله: «فَقَالَ الرَّجُلُ: لِلنَّبِيِّ ﷺ إِنِّي سَائِلُكَ فَمُشَدِّدٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ فَلاَ تَجِدْ عَلَيَّ فِي نَفْسِكَ، فَقَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ، إلى أن قال له: «آللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فكأن ضمامًا يقرأ والنبي ﷺ يسمع؛ أي أنه ﷺ يستمع له ويقره، كلما سأل ضمام قال النبي ﷺ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، فهذا هو الشاهد؛ السائل يسأل والنبي ﷺ يجيبه، وهذا يعتبره العلماء قراءة على الشيخ، ثم عاد ضمام إلى قومه، وأخبرهم، فأجازوه، وصدقوه؛ فدل على أن قراءة التلميذ على الشيخ، وقراءة الشيخ على التلميذ، لا فرق بينهما في التحديث، والإخبار.
المتن:
الشرح:
قوله: «بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ» ، هذه الترجمة فيها أيضًا نوعان من أنواع التحمل: الكتابة، والمناولة.
والكتابة: هي أن يكتب المحدث إلى شخص ويقول له: ارو عني مروياتي.
والمناولة: أن يناوله كتابًا ويقول: ارو عني هذا، أو يناوله مروياته ويقول: اروها عني.
وصيغ تحمل الحديث أنواع منها: سمعت وحدثنا، لما سمعته من الشيخ، وهذه أرفع شيء عند بعضهم، ومنها: أنبأنا وأخبرنا، لما قرأته على الشيخ، أي: القراءة، ثم المناولة والكتابة.
المتن:
وَقَالَ أَنَسُ: نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآْفَاقِ.
وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكُ ذَلِكَ جَائِزًا.
الشرح:
قوله: «وَقَالَ أَنَسُ: نَسَخَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الآْفَاقِ» ، أي: بعث إلى كل مصر من الأمصار بمصحف، فأرسل إلى البصرة، وإلى مصر، وباقي البلاد، فاعتبره العلماء من الكتابة، فكونه نسخ المصاحف، وأرسل بها إلى الأمصار يعتبر من الكتابة، ومثاله في الحديث أن يكتب المحدث لشخص، ويقول: ارو عني مروياتي، فهذا كتابة، وهي نوع من أنواع صيغ تحمل الحديث.
المتن:
الشرح:
قوله: «وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ ﷺ حَيْثُ كَتَبَ لأَِمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ لاَ تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ ﷺ» ، فهذا فيه: دليل على المناولة، فإذا ناول الشيخ الطالب مروياته وقال: اروها عني، فهذا يعتبر صيغة من صيغ تحمل الحديث، فيقول: حدثني فلان مناولة.
المتن:
الشرح:
64 قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً» ، هذا فيه: المناولة؛ لأن النبي ﷺ أمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين.
وفيه: أن كسرى مزق كتاب النبي ﷺ فدعا عليهم أن يمزقوا، فمُزق مُلْك الأكاسرة ـ وهم ملوك الفرس ـ ولم يبق له أثر، وفُتحت بلادهم في عهد عمر ؛ أما الروم فإن مَلِكهم عظم كتاب النبي ﷺ وجمع القساوسة، وغيرهم، وكاد أن يسلم، لكنه شح بمُلكه، فبقي لهم الملك بعض الشيء؛ حيث بقيت لهم القسطنطينية إلى أن فتحها المسلمون.
والشاهد هنا مناولة النبي ﷺ؛ حيث «بَعَثَ بِكِتَابِهِ رَجُلاً، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ» ، أي يناوله.
المتن:
الشرح:
65 قوله: «كَتَبَ النَّبِيُّ ﷺ كِتَابًا» ، في هذا دليل على الكتابة.
وفيه: أنه ينبغي اتخاذ الأختام في الكتابة حتى تعرف كتابة الكاتب فيؤمن اللبس، وقد لا يحتاج إلى الخاتم إذا كان الكاتب ثقة معروفًا، لكن الختم فيه دفع للبس والوهم.
وهذه التراجم ذكر فيها المؤلف رحمه الله صيغ تحمل الحديث، واختار أنها سواء لا فرق بينها؛ وذهب بعضهم إلى أن الأولى أن يقال: سمعت، وحدثنا، لما سُمع من لفظ الشيخ، وأنبأنا، وأخبرنا، لما قرئ عليه.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله العرض، وهو أن يعرض مروياته عليه، ويقره، ثم يروي عنه، ثم المناولة أن يناوله مروياته فيحدث عنه، ثم الكتابة.
وهناك أنواع من صيغ التحمل لم يذكرها المؤلف؛ منها:
1- الإجازة: كأن يقول أو يكتب له: أجزت لك مروياتي؛ أي أن تروي عني من دون كتابة ومن دون مناولة.
2- الوجادة: أن يجد كتابةً للشيخ فيعرف خطه، ويحدث عنه بها.
3- الوصية: بأن يجد وصية الشيخ له بذلك.
4- الإعلام العام: أن يُعْلِم الشيخُ الناس بمروياته بدون إجازة، فيقول: هذه مروياتي، حتى يعلم الناس أن هذه مروياته.
وأهل العلم قد تكلموا في هذه الصيغ الأربع؛ تنويهًا عما فيها من ضعف، أما الصيغ الأولى فهي المعروفة المعتبرة.
المتن:
باب مَنْ قَعَدَ حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمَجْلِسُ وَمَنْ رَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا
66 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآْخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآْخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآْخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ.
الشرح:
هذه الترجمة تحتوي على عدةٍ من آداب المجلس يجب على طالب العلم أن يتأدب بها، منها:
1- أنه إذا جاء إلى مجلس العلم، أو حلقة العلم، فينبغي له أن يجلس حيث ينتهي به المجلس.
2- أنه إذا وجد فرجة جلس فيها.
والحلقة المراد بها هنا حلقة العلم، والمجلس هو مجلس العلم؛ وهذه هي مناسبة الترجمة لكتاب العلم.
66 قوله في حديث الباب: «بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَالنَّاسُ مَعَهُ» ، أي: جالس يعلم أصحابه.
قوله: «إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ» أي: جاء ثلاثة والنبي ﷺ يحدث أصحابه في حلقة العلم، فأما أحد الثلاثة فوجد فرجة فدخل فيها، وأما الثاني فجلس خلف الحلقة، «وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا» ، واستمر النبي ﷺ في حديثه، فلما انتهى قال: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآْخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآْخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ.
فيه: أنه ينبغي للعالم أن يجتهد في النصيحة للمسلمين، والتحذير من العمل السيئ، وألا يمر على الأحداث مرور الكرام، بل يقف عند كل حدث فيبين ما فيه من خير فيحث أصحابه عليه، وما فيه من شر فيحذر أصحابه منه، وليس هذا من الغيبة المحرمة؛ فإدبار الثالث عن العلم محمول على أنه كان بغير عذر، وقال بعضهم: لعله كان من المنافقين؛ فدل على أنه لا غيبة له، فينبغي للمرء ألا يدبر عن حلقات العلم، ومجالس العلم، إلا لعذر.
وقوله: «فَرَأَى فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ» ، فيه: دليل على أن النبي ﷺ كان يعلم أصحابه؛ ويعقد لهم مجالس العلم، وأنهم كانوا يتحلقون حوله كالدائرة، فينبغي للعالم أن يعقد الجلسات والحلقات في المسجد لطلبة العلم، ويعلم الناس مما علمه الله.
والحَلْقة ـ بإسكان اللام، وحكى بعضهم فتحها ـ هي دائرة مستديرة ووسطها فارغ.
وفي الحديث إثبات هذه الصفات الفعلية لله: «آوى» و «استحيا» و «أعرض» ، فهذه من الصفات الفعلية التي تثبت لله كما يليق بجلاله وعظمته كسائر صفاته لا يشابهه فيها أحد من خلقه.
الصفة الأولى: الإيواء، فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، فنثبت لله الإيواء، ومن ثمرات الإيواء أن الله رحمه وأدخله في رضوانه، فهذا من ثمرات الصفة ومن آثارها، وليس هو الصفة.
وهذا غير ما ذهب إليه الشارح من أن هذا من المجازاة، وأن الله رضي عنه!
فهذا الإيواء صفة فعلية لله، لكن من ثمراتها: أنه جوزي بالرحمة، ومن ثمراتها الرضا، وإلا فهي صفة تليق بجلال الله وعظمته.
الصفة الثانية: الحياء، فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، فوصف الله بالحياء؛ وجاء في القرآن العزيز: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البَقَرَة: 26]، وفي سورة الأحزاب: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ [الأحزَاب: 53].
وهنا قال: فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، فهذا وصف لله بالحياء كما يليق بجلاله وعظمته، لا يشابهه أحد من المخلوقين، ومن ثمرات الصفة: أن الله رحمه، ولم يعاقبه، فتفسير الحياء بأن الله رحمه ولم يعاقبه ليس هو الصفة، إنما هو من ثمرات الصفة وآثارها.
و الصفة الثالثة: الإعراض، فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ، ومن آثار هذه الصفة أن الله سخط عليه وغضب.
فالله سبحانه آوى، واستحيا، وأعرض، كما يليق بجلاله وعظمته، لا يشابهه أحد من خلقه في ذلك؛ لأن البارئ له صفات تليق به، والمخلوق له صفات تليق به.
المتن:
باب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ
67 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ ذَكَرَ النَّبِيَّ ﷺ قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَمْسَكَ إِنْسَانٌ بِخِطَامِهِ، أَوْ بِزِمَامِهِ؛ قَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ سِوَى اسْمِهِ. قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا بَلَى. قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ فَسَكَتْنَا حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ. فَقَالَ: أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ؟ قُلْنَا بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، بَيْنَكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ؛ فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ.
الشرح:
قوله في ترجمة الباب: رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فيه: الحث على تبليغ العلم؛ ولهذا بوب به على لفظ الحديث.
وقد حث النبي ﷺ على تبليغ العلم فقال: بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً [(253)]، والحديث المذكور في الترجمة معلق، لكن ساقه المؤلف رحمه الله موصولاً في كتاب الحج.
67 وفي حديث الباب الحث على تعظيم الحرمات الثلاث: الدماء، والأموال، والأعراض؛ وأن حرمتها أشد من حرمة اليوم الحرام، والشهر الحرام، والبلد الحرام؛ وإنما قال ﷺ: كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا؛ لأن هذه الحرمات الثلاث مستقرة عندهم.
وسكوتهم لما سألهم: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ لأنه معروف أنه يوم النحر، فعرف الصحابة أن هذا ليس مقصوده، وأن مقصوده أنه ﷺ أراد تنبيههم إلى شيء أهم، فقال: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قالوا: بلى. قال: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ فسكت الصحابة لعلمهم أنه يريد شيئًا آخر، قال: أَلَيْسَ بِذِي الْحِجَّةِ؟ قالوا: بلى. وفي رواية أنه قال: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ فسكت الصحابة حيث ظنوا أنه سيسميه بغير اسمه، قال: أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الحَرَامِ؟ قالوا: بلى [(254)]، فالمحرمات ثلاث هي: يوم حرام في شهر حرام في بلد حرام، يوم حرام وهو يوم النحر، في شهر حرام وهو ذو الحجة، في بلد حرام وهو مكة، والمعنى: أن هذه الحرمات الثلاث المتقررة عندكم مثلها في الحرمة أو أشد: الدماء، والأموال، والأعراض؛ فلا يجوز للإنسان أن يعتدي على أخيه بسفك دمه بغير حق، ولا بأخذ ماله بغير وجه شرعي، ولا أن يعتدي على عرضه؛ فهذه الحرمات الثلاث: الدماء، والأموال، والأعراض، أمرها عظيم؛ ولهذا جاء في الحديث الآخر: لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ [(255)] فسمى سفك الدماء كفرًا، أي من الأعمال الكفرية.
ثم قال: لِيُبَلِّغ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ؛ وهذا هو الشاهد، وفيه :الحث على تبليغ العلم، والشَّاهِدُ: الحاضر، والْغَائِبَ: الذي لم يحضر؛ فَإِنَّ الشَّاهِدَ عَسَى أَنْ يُبَلِّغَ مَنْ هُوَ أَوْعَى لَهُ مِنْهُ، فلا يُشترط الفهم للتبليغ، ولا أن يكون فاهمًا للحجة وقت التحمل، وهذا مأخوذ من قوله ﷺ: رُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ [(256)].
وفيه أنه قد يكون الغائب أفقه من الحاضر، وأكثر قدرة على استنباط الأحكام؛ ولهذا قال في اللفظ الآخر: رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ [(257)]. وهذا من فوائد نشر العلم؛ فقد يبلِّغ المرء من هو أفهم منه، وأكثر قدرة على استنباط الأحكام.
المتن:
باب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ.
وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَْنْبِيَاءِ؛ وَرَّثُوا الْعِلْمَ، مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فَاطِر: 28].
الشرح:
قوله: «بَاب الْعِلْمُ قَبْلَ الْقَوْلِ وَالْعَمَلِ» هذه ترجمة عظيمة لم يزل العلماء يستنبطون منها الفوائد، فالقول والعمل لا يكونان إلا بالعلم؛ فالعلم هو الذي يصححهما؛ لأن المسلم إذا تكلم فلا بد أن يكون على بصيرة ليتكلم بالحق، وكذلك إذا عمل لا بد أن يكون على بصيرة، وإلا فلا يقبل عمله، فإذا تكلم بجهل أو عمل بجهل رد قوله وعمله؛ ولهذا بين الله تعالى في صفات الرابحين أنهم المؤمنون، الذين آمنوا عن علم وبصيرة، فقال سبحانه: وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العَصر: 1-3]، فقوله: الَّذِينَ آمَنُوا، يعني عن علم وبصيرة، فلا إيمان إلا بعلم؛ فالعلم هو الذي يصحح القول، ويصحح العمل؛ كما أن العلم لا بد له من نية؛ فالنية تصحح العلم، والعلم يصحح القول، والعمل.
واستشهد الإمام البخاري رحمه الله على أن العلم مقدم على القول والعمل، بقول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محَمَّد: 19]، فبدأ الله بالعلم: فَاعْلَمْ، ثم جاء الأمر بعد ذلك بالعمل: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ، فلا يصح العمل إلا بعلم، ولو تعبد الإنسان لله على غير علم فعبادته مردودة عليه، ويصير بذلك من الضالين، وقد أمرنا الله تعالى في كل ركعة من ركعات الصلاة أن نسأله أن يهدينا الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم، وطريق الضالين؛ فالمنعم عليهم هم الذين يعلمون ثم يعملون، فهؤلاء هم أهل الصراط المستقيم، من النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين؛ أما المغضوب عليهم فهم: الذين يعلمون، ولا يعملون، قد تخلف عملهم عن علمهم فصاروا من الغاوين المستحقين لغضب الله، كاليهود وأشباههم، وأما الضالون فهم الذين يتعبدون على جهل، وعلى غير بصيرة، فوصفوا بالضلال، كالنصارى وأشباههم؛ ومن ذلك أيضًا الصوفية، وبعض الزهاد، الذين يتعبدون بعبادات، وأذكار، لم يشرعها الله سبحانه.
فلا بد من العلم الذي يسبق العمل حتى يكون الإنسان على الصراط المستقيم؛ أما إذا وجد العلم ولم يوجد العمل؛ فهذا هو سبيل المغضوب عليهم، كاليهود، وأشباهم؛ وإذا وجد العمل وتخلف العلم، فهذا هو طريق الضُّلاَّل؛ فهما داءان: داء الغواية، وهو تخلف العمل، وداء الجهل، والضلال، وهو تخلف العلم؛ وقد برأ الله نبيه منهما في قوله: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النّجْم: 1-2]؛ فالضال هو الذي يتعبد على غير بصيرة، والغاوي هو الذي يعلم، ولا يعمل، والرسول ﷺ ليس ضالًّا، ولا غاويًا، بل هو راشد ﷺ؛ والراشد هو العالم العامل، الذي يعمل بعلم وبصيرة؛ ولهذا بدأ الله تعالى بالعلم قبل القول والعمل، فقال: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محَمَّد: 19]، فأمر أولاً بالعلم، ثم بعد ذلك يتبعه القول والعمل.
قوله: وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَْنْبِيَاءِ، هو نص حديث النبي ﷺ: الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ [(259)]، والوارث يقوم مقام المورِّث، والمورِّث هنا هم الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، والوارثون هم العلماء، فالعلماء يقومون مقام الأنبياء ويسلكون سبيلهم في إرشاد الناس وتعليمهم، والعلماء الربانيون من هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل؛ فأنبياء بني إسرائيل الذين جاءوا بعد موسى كلهم كلفوا بالعمل بالتوراة؛ ليجددوا للناس دينهم، كما قال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا [المَائدة: 44]، ولما كان النبي ﷺ هو خاتم الأنبياء والمرسلين، ولن يكون بعده نبي، فلم يرثه إلا العلماء؛ والوارث يقوم مقام المورِّث، والأنبياء لم يورثوا إلا العلم.
قوله: مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، أي: من أخذ العلم أخذ بحظ وافر من الفضل والأجر، ووراثة النبوة؛ والناس يتفاوتون في هذا؛ فبحسب ما يعطيهم الله من العلم يحصل لهم من ميراث النبوة.
قوله: وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ؛ هذه بشارة للمتعلم بأن الله تعالى سيسهل له ـ بما يطلب من علم ـ طريقًا إلى الجنة، يعني سيوفقه للعمل الصالح الذي يوصله إلى الجنة.
قوله: «وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فَاطِر: 28].» هذه منقبة للعلماء الذين هم أخشى الناس لله؛ لأنهم أعرف الناس بالله، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف، وإلا فكل مؤمن يخشى الله، وكل مؤمن له نصيب من الخشية؛ لأن عنده أصل الخشية وأصل الخوف، فمن لم يخش الله فهو كافر، وإذا فُقدت الخشية فُقد الإيمان، فكل مؤمن له نصيب من الخشية، لكن الناس يتفاوتون فيها، وأخشى الناس هم العلماء.
والمراد بالعلم الذي يترتب على طلبه وتعلمه الثواب والجزاء: العلم الشرعي المأخوذ من كتاب الله وسنة نبيه ﷺ.
والعلم ثلاثة أقسام:
أشرفها العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله.
ثم العلم بدينه؛ وهو العلم بالأوامر والنواهي.
ثم العلم بالجزاء وما يكون في الآخرة.
فإذا أطلق العلم في النصوص، أو جاءت النصوص بفضل العلم، فالمراد به العلم الشرعي؛ أما العلوم الأخرى فتذكر مقيدة؛ فتقول: علم الهندسة، وعلم الصيدلة، وهكذا.
والثواب المترتب على تعلم هذه العلوم يكون على حسب نية المرء؛ وما يعود على إخوانه من النفع والفائدة.
والمراد بالخشية في قوله تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فَاطِر: 28] الخشية الكاملة، وأخشى الناس لله هم الأنبياء والرسل؛ لأنهم هم أعلم الناس بالله ، وأولو العزم الخمسة هم أخشاهم، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، عليهم الصلاة والسلام؛ وأخشاهم وأعلمهم الخليلان محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وأخشى الخليلين وأتقاهما نبينا محمد ﷺ، ثم يليه جده إبراهيم الخليل، ثم يليه موسى، ثم عيسى، ونوح، ثم بقية الرسل، ثم بقية الأنبياء.
ثم يليهم الصديقون؛ وأتقاهم وأخشاهم الصديق الأكبر وهو أبو بكر ؛ وصدِّيق صيغة مبالغة، وقد سمي صديقًا لكمال صدقه وعلمه بالله ؛ ولهذا قال الله تعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [المَائدة: 119]، وقال : وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزُّمَر: 33].
ثم يليهم الشهداء، ثم الصالحون، ثم بقية المؤمنين على التفاوت الذي يكون بينهم.
فأخشى الناس بالله هم العلماء؛ لأنهم أعرف الناس بالله، ومن كان بالله أعرف كان منه أخوف.
المتن:
الشرح:
قوله: «وَقَالَ:وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العَنكبوت: 43]، هذه أيضا منقبة للعلماء؛ فإنهم يعقلون الأمثال التي ضربها الله تعالى في القرآن، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا [البَقَرَة: 26]، فالعالم هو الذي يفهم المثل الذي يضربه الله في القرآن فينتقل من المثل المحسوس إلى المعنوي؛ وكان بعض السلف إذا لم يفهم مثلاً من الأمثال القرآنية بكى، وتلا هذه الآية: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ [العَنكبوت: 43]
المتن:
الشرح:
قوله: « وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك: 10].، هذا حال أهل النار يقولون: لو كنا نفهم، ونعلم، ونميز، ما كنا من أهل الجحيم؛ فلو كان عندنا علم صحيح نعقل ونميز به لآثرنا الحق على الباطل، لكن ليس عندهم سمع ولا عقل ينفعهم؛ فلهذا اختاروا طريق الضلال فصاروا من أهل النار، قال تعالى: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لأَِصْحَابِ السَّعِيرِ [المُلك: 11].
المتن:
الشرح:
قوله: «وَقَالَ: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ [الزُّمَر: 9].» فيه شرف العلم وفضله، فلا يستوي العالم والجاهل، حتى في البهائم لا يستوي العالم والجاهل، فالكلب المعلم له شرف وفضل على سائر الكلاب؛ فالكلب المعلم صيده حلال يؤكل، والكلب غير المعلم لا يؤكل صيده .
ثم قال سبحانه: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ [الزُّمَر: 9]، فأصحاب العقول هم الذين يتذكرون ويتعظون وينتفعون، ويعلمون أنه لا يستوي العالم والجاهل.
المتن:
الشرح:
قوله: «وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَهِّمْهُ، جاء هذا في حديث سيأتي به المصنف رحمه الله ـ وهو عند مسلم أيضا ـ من حديث معاوية: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُّ فِي الدِّينِ [(260)]، وهذا فيه فضل العلم وشرفه، وأن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيرًا، هذا هو منطوق الحديث، ومفهومه أن من لم يفقه الله في الدين لم يرد به خيرًا، وهذا تحذير شديد من البقاء على الجهالة، فإنه يجب على الإنسان أن يتبصر ويتفقَّه في دينه حتى يعبد ربه على بصيرة.
والدين يشمل العقائد، والحلال والحرام، وأمور الآخرة؛ فيجب على المسلم أن يتفقَّه في أسماء الله وصفاته وأفعاله، وفي أسرار الشريعة وحِكَمِها، كالحكمة من الصلاة والزكاة والصوم والحج، فبعض الناس لا يعرف من الصوم إلا أن يترك الطعام والشراب فيجوع ويظمأ، لكن من أسرار الصوم أن يترك الإنسان ما يحب ويألف لما هو أحب، وهو أن يتركها لله، فأنت تترك المحبوبات؛ طاعة لله، وتقديمًا لمحبة الله، فتترك المحبوب لمحبوب أعظم، وكذلك إخراج المال المحبب إلى النفس في الزكاة، إنما تخرجه لما هو أحب؛ فتخرجه طاعة لله، فهذا من أسرار الشريعة، ومن الفقه في الدين، وليس المراد أن تُخرج المال وتظن أن هذا غرامة، أو أنه تطهير للمال فقط، لكنك تخرج المحبوب لمن هو أحب؛ وكذلك المشاق التي يتحمَّلها المرء في الجهاد في سبيل الله، فهو إنما يبذل نفسه رخيصة لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه؛ وهذا من الفقه في الدين.
المتن:
الشرح:
قوله: وَإِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، فالعلم يكون بالتعلم، والفقه يكون بالتفقه، فيتعلم الإنسان من العلماء؛ فيأخذ من حيث أخذوا، ويتأدب على ما عليه تأدبوا.
المتن:
الشرح:
قوله: «وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ عَلَى هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ لَأَنْفَذْتُهَا»، فيه: فضل الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري ، وحرصه على تبليغ العلم؛ فقوله: «لَوْ وَضَعْتُمْ الصَّمْصَامَةَ» ، يعني: السيف الصارم، «ثُمَّ ظَنَنْتُ أَنِّي أُنْفِذُ كَلِمَةً سَمِعْتُهَا مِنْ النَّبِيِّ ﷺ قَبْلَ أَنْ تُجِيزُوا عَلَيَّ» أي: قبل أن تقتلوني، فكأنه يقول: سأبلغ العلم حتى لو وُضع السيف على رقبتي، ولو كانت كلمة سمعتها من النبي ﷺ، وهذا فيه الحرص الشديد على تبليغ العلم.
المتن:
الشرح:
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُونُوا رَبَّانِّيِّينَ [آل عِمرَان: 79] حُلَمَاءَ فُقَهَاءَ» ، فسر ابن عباس رضي الله عنهما الربانيَّ بـ: الحليم الفقيه الذي عنده بصيرة؛ لأنه تفقه في دين الله وعلم أسرار الشريعة؛ فكان حليمًا.
قوله: «وَيُقَالُ: الرَّبَّانِيُّ الَّذِي يُرَبِّي النَّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ» أي: الرباني هو العالم الذي يعلم الناس صغار العلم قبل كباره؛ فيعلمهم الشيء الواضح قبل الخفي، ولا يسمَّى العالم ربانيًّا حتى يكون عالمًا عاملاً معلمًا، كما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله[(261)]، فلابد من هذه الأوصاف الثلاثة؛ فالرباني هو العالم الذي عنده علم وبصيرة، فيعمل بعلمه، ويعلم الناس ويرشدهم إلى الخير، فهو قد ربى نفسه على طاعة الله ، وتعلم، وتفقه، ثم جاهد نفسه حتى عمل بهذا العلم؛ ثم بعد ذلك خرج يعلم الناس ويربيهم بصغار العلم قبل كباره؛ أي: بالواضح من العلم قبل الخفي؛ فيعلمهم الفروع قبل الأصول، ويأخذهم شيئًا فشيئًا، ويبدأ معهم بالذي يعرفونه ويستطيعونه ويفهمونه، ثم ينتقل بهم إلى ما يحتاج إلى قوة وانتباه.
المتن:
باب مَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالْعِلْمِ كَيْ لاَ يَنْفِرُوا
68 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَْيَّامِ كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
الشرح:
68 قوله: «كان النبي ﷺ يتخولنا بالموعظة» فيه: أنه ينبغي للعالم أن يتخول الناس ـ يعني: يتعهدهم ـ بالعلم في أوقات معلومة حتى لا يسأموا ويملوا، وكان ابن مسعود يحدث الناس في الأسبوع يومًا واحدًا، وهو يوم الخميس، فقالوا له: لوددنا أنك تحدثنا كل يوم، قال: إني أخشى أن أملكم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان رسول الله ﷺ يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا.
والتخول بمعنى التعاهد؛ فينبغي للعالم أن يتعاهد الناس بالموعظة للتعليم والإرشاد في أيام معلومة، ويجعل وقتًا للراحة في بعض الأيام؛ حتى يستعيد المتعلمون والسامعون نشاطهم؛ لأنه إذا حدثهم كل يوم سأموا وملوا فانقطعوا؛ أما إذا تخير أيامًا معلومة تجدد نشاطهم، واستعادوا همتهم، فاستمروا في طلب العلم.
المتن:
الشرح:
69 قوله: يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا فيه: أنه ينبغي للواعظ والمرشد والمعلم أن يسلك سبيل التيسير والتبشير حتى لا ينفر الناس، فييسر للناس الأمور ويوضح لهم، ويعطيهم من الأحكام ما يناسبهم، وما فيه يسر عليهم، وما يستنكرونه أو يخفى عليهم يؤجله لوقته وحينه؛ ولهذا قال علي : حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟!
وقد جاء أن النبي ﷺ لما بعث معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن قال لهما: يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا [(262)]، فالتيسير مطلوب ما دام في حدود الشريعة وفي حدود الإمكان؛ ولهذا قال النبي ﷺ: بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ [(263)]؛ ومن ذلك أن يجعل الواعظ والمعلم أيامًا معلومة للنصيحة والموعظة والدرس؛ لأنه إن جعل الدرس والوعظ كل يوم شق هذا على الناس، وصار فيه سآمة وتنفير لهم، أما إذا تخولهم بالموعظة، أو جعل أيامًا معلومة للدرس، صار في هذا ترغيب وتيسير لهم؛ وكذا بعد عن السآمة، والملل، والانقطاع؛ وكذلك التبشير والبعد عن التنفير يكون في حدود الشريعة.
المتن:
باب مَنْ جَعَلَ لأَِهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً
70 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ، فَقَالَ لَهُ: رَجُلٌ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
الشرح:
70 قوله: «عَبْدُ اللَّهِ» هو ابن مسعود ، وكان يذكر الناس كل يوم خميس، فقال له قائل: «يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ» ، هي: كنيته، «لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ» ، فقال ابن مسعود: «أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا» .
والتخول هو التعهد؛ فكان يتعهدهم في أوقات محددة؛ حتى لا يملوا؛ ولهذا ترجم الإمام البخاري فقال: «بَاب مَنْ جَعَلَ لأَِهْلِ الْعِلْمِ أَيَّامًا مَعْلُومَةً» يعني: اختار أن تكون الدروس في بعض الأيام دون البعض؛ حتى لا يكون هناك سآمة وملل؛ أخذًا من هذا الحديث؛ لأنه إذا كان الدرس أو الموعظة كل يوم حصل للناس سآمة وملل، فربما حصل انقطاع من بعضهم، أما إذا كان في أيام معلومات أتيحت الفرصة للاستجمام والراحة، فتكون الأوقات التي ليس فيها درس لقضاء الحوائج والاستجمام، وأوقات الدروس تكون معلومة محددة؛ فيأتيها الطالب باستعداد ونشاط.
المتن:
باب مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ
71 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ خَطِيبًا يَقُولُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي ،وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُْمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ.
الشرح:
71 هذا حديث عظيم رواه مسلم أيضًا[(264)]، عن معاوية بن أبي سفيان أنه خطب الناس فقال: قال رسول الله ﷺ: مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وهذا الحديث له منطوق، وله مفهوم.
أما منطوقه: فإنه من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيرًا.
وأما مفهومه: فإنه من لم يفقهه الله في الدين لم يرد به خيرًا.
والفقه في الدين مفهوم شامل؛ فالدين يشمل: الإيمان والإسلام والإحسان، كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة وأماراتها، ثم قال النبي ﷺ: أتدرون مِنَ السَّائِلِ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ [(265)]، فسماه النبي ﷺ دينًا، فالعلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، والعلم بالشريعة وأحكامها من الأوامر والنواهي، والعلم بالجزاء وأحوال الآخرة، كل هذا هو الدين؛ وأيضًا العلم بأسرار الشريعة وحِكَمِها، وهذا فيه الحث على التفقه؛ وذلك لأن مَن عنده تفقه في الدين عبد الله على بصيرة، وأنقذ نفسه وغيره من الجهل؛ بخلاف الجاهل فإنه يتخبط في الجهالة، ويتعبد على غير هدى.
قوله: وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي، يعني: أنه ﷺ يقسم الصدقات والغنائم أما المعطي على الحقيقة فهو الله، والرسول ﷺ هو الذي يقسم بأمر الله لا من عند نفسه، والله تعالى هو الآمر سبحانه، فهو الذي يأمر نبيه ﷺ بتقسيم الصدقات والغنائم؛ ولهذا قال النبي ﷺ: وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ، وَاللَّهُ يُعْطِي، وَلَنْ تَزَالَ هَذِهِ الأُْمَّةُ قَائِمَةً عَلَى أَمْرِ اللَّهِ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، يعني: لن تزال طائفة من هذه الأمة مستمسكة بالحق، وهذا فيه بشارة لهذه الأمة أن الحق لن يضيع منها، وأنه لا بد أن تبقى طائفة على الحق إلى قيام الساعة، كما في الحديث الآخر: ولا تَزَالُ طائِفةٌ مِن أُمَّتي عَلَى الحَقِّ ظاهِرِين لا يَضُرُّهم مَن خذلهم ولا مَن خالفهم حتى يأتىَ أمرُ اللهِ. [(266)].
وهذه الطائفة هم أهل السنة والجماعة، وهم أهل الحديث كما قال الإمامان أحمد والشافعي. فمن استقام على دين الله فهو من هذه الطائفة.
وهذه الطائفة تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ فقد تكثر في بعض الأزمنة، وقد تقل في أخرى، وقد تكون في مكان واحد، وقد تكون في أمكنة متعددة، فلا يشترط أن تكون تحت إمام واحد، ولا في مكان واحد؛ فقد قال العلماء: إن هذه الطائفة منها الفقيه، ومنها المحدث، وقد يكون منها المزارع أو التاجر المستقيم على طاعة الله في مزرعته أو تجارته، ومنها الزاهد وغيره؛ وفي مقدمة هؤلاء جميعا العالم البصير العامل.
والخلاصة أن كل من التزم مذهب أهل السنة والجماعة من التجار والزراع والزهاد وغيرهم فهم من أهل الحق؛ وعليه فلا بد أن توجد هذه الطائفة قلت أو كثرت حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وفي لفظ: حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ [(267)] يعني: حتى يقرب قيام الساعة حينما تأتي ريح طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات في آخر الزمان، كما جاء في الحديث أنه في آخر الزمان بعد أشراط الساعة الكبار تأتي ريح طيبة تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ، حَتَّى تَقْبِضَهُ [(268)]، فإذا قبضت أرواح المؤمنين والمؤمنات لا يبقى إلا الكفرة، فيخلو هذا العالم من الإيمان والتوحيد، فإذا خلا من الإيمان والتوحيد خرب وقامت القيامة، ولا تقوم القيامة ولا يخرب نظام هذا الكون إلا إذا خلا من التوحيد والإيمان، ولا يخلو من التوحيد والإيمان إلا إذا قبضت أرواح المؤمنين والمؤمنات في آخر الزمان فلا يبقى إلا الكفرة، وهم في ذلك لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا؛ فيتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستجيبون لي؟ فيقولون: ما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأصنام والأوثان، فيعبدونها، وعليهم تقوم الساعة، نعوذ بالله من ذلك، وفي الحديث الآخر: لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ اللهُ [(269)] فهؤلاء الكفرة في آخر الزمان ليس عندهم توحيد ولا إيمان، يتقاتلون ويتناكحون في الأسواق كالحمر، فعليهم تقوم الساعة وهم مشغولون بدنياهم؛ هذا يصلح الحوض لإبله، وهذان يتبايعان، وهذا يرفع اللقمة إلى فمه فتقوم عليهم الساعة، فيأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور نفخة طويلة فلا يسمعها أحد إلا أصغى لِيتًا ورفع لِيتًا يتسمع ـ واللِّيت هو صفحة العنق ـ فإذا نفخ إسرافيل في الصور قوي الصوت شيئًا فشيئًا حتى يموت الناس، فتقوم على الكفرة وشرار الخلق.
المتن:
باب الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ
72 حَدَّثَنَا عَلِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ: عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلَمْ أَسْمَعْهُ يُحَدِّثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ إِلاَّ حَدِيثًا وَاحِدًا قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ فَأُتِيَ بِجُمَّارٍ فَقَالَ: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ. فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: هِيَ النَّخْلَةُ.
الشرح:
قوله: «بَاب الْفَهْمِ فِي الْعِلْمِ» قصد المؤلف رحمه الله بهذه الترجمة أن يبين أن الناس يتفاوتون في فهم العلم، وأن الله تعالى يؤتي الفهم والحكمة من يشاء، كما قال سبحانه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [البَقَرَة: 269].
والحكمة هي العلم النافع والفهم فيه، ومن أوتي ذلك فقد أوتي خيرًا كثيرًا.
72 وفي حديث الباب أن النبي ﷺ اختبر الصحابة وسألهم؛ ليتبين فهمهم في العلم عندما أتي ﷺ بجمار، والجمار هو شحم النخل المعروف، فقال: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ، وفي لفظ أنه قال: إِنَّ مِنَ الشَّجَرِ شَجَرَةً لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا، وَإِنَّهَا مَثَلُ المُسْلِمِ، حَدِّثُونِي مَا هِيَ؟ قال ابن عمر: فوقع في نفسي أنها النخلة[(270)]، وفهم ابن عمر ذلك من كون النبي ﷺ أتي بجمار، ومن قوله: لاَ يَسْقُطُ وَرَقُهَا [(271)]، أما الناس فوقعوا في شجر البوادي ولم يفهموا ما فهمه ابن عمر، قال ابن عمر: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَقُولَ: هِيَ النَّخْلَةُ فَإِذَا أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ فَسَكَتُّ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: هِيَ النَّخْلَةُ، وفي بعض روايات الحديث أنهم لما خرجوا من مجلس العلم، قال ابن عمر لأبيه: إنه وقع في نفسي أنها النخلة، لكني استحييت؛ لأني أصغر القوم، فقال له عمر: لو قلتها لكان أحب إلي من كذا وكذا[(272)].
وفي الحديث: أن الناس يتفاوتون في الفهم، وأنه ينبغي للصغير ألا يحقر نفسه وأن يتكلم بالعلم؛ فكم من صغير بزَّ شيوخًا كبارًا.
وفيه: أنه قد يكون عند الصغير من العلم ما ليس عند الكبير، ولا ينبغي للإنسان أن يحقر نفسه، ولا أن يستهين بعلمه؛ وينبغي له أن يتكلم، ولا يمنعه الحياء من قول الحق.
وفيه: استحباب أن يسأل العالم أصحابه ليختبرهم؛ فالنبي ﷺ أخرج هذا مخرج السؤال فقال: إِنَّ مِنْ الشَّجَرِ شَجَرَةً مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُسْلِمِ، أي: حدثوني ما هي؟ فأتى به على صيغة السؤال؛ ليختبر ما عندهم من العلم.
وقد بوب الإمام البخاري بابًا آخر ووضع فيه هذا الحديث أيضا، وهو: «بَاب طَرْحِ الإِْمَامِ الْمَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ لِيَخْتَبِرَ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ» .
وفيه: فضل النخلة وأن مثلها كمثل المؤمن، ووجه الشبه واضح؛ فهذه الشجرة خير كلها، ولا يضيع منها شيء؛ فهي لا يسقط ورقها كما يسقط ورق سائر الأشجار، بل يبقى ورقها أخضر على مدار العام صيفًا وشتاءً، ربيعًا وخريفًا، وينتفع بها كلها؛ فإنه ينتفع برطبها وبسرها، وتمرها، ويستفاد فيها من السعف، ومن العسب، ومن الليف، ومن الكَرَب، ومن الشوك، فكل شيء فيها نافع؛ فالكرب يوقد به النار، والعسب ـ وهو الجريد ـ يوضع في السقوف، والليف يصنع منه الحبال، وكذلك الشوك والجمار والبسر والتمر والرطب كل شيء يستفاد منه، وكذلك المؤمن تجده نافعًا مباركًا كله خير، أينما كان ينفع الناس.
وفيه: أن ابن عمر فهم ما لم يفهمه الكبار؛ فقد فهم من كون النبي ﷺ أتي بجمار، وكذلك قوله: «لا يسقط ورقها» ، أن هذه علامة على المراد، لكن الكبار وقعوا في شجر البوادي، وبعدوا عن النخلة؛ فهذا يدل على أن الصغير قد يفهم ما لا يفهمه الكبير، فإذا حضر مجلس العلم ينبغي له أن يشارك، وأن يتكلم بما عنده من العلم، ولا يورثه صغره خجلاً يحرمه ما عند الآخرين من الخير ويحرمهم ما عنده منه.
المتن:
باب الاِغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ
وَقَالَ عُمَرُ: تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا.
الشرح:
قوله: «بَاب الاِغْتِبَاطِ فِي الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ» يعني: السرور بما يعطاه الإنسان وبما يهبه الله له من العلم والحكمة، فينبغي له أن يغتبط ويفرح ويسر بذلك؛ لأن هذا من الفرح بفضل الله ورحمته، وهو داخل في قول الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يُونس: 58]؛ «وَالْحِكْمَةِ» هي: العلم النافع المأخوذ من الكتاب والسنة، فإذا أوتي الإنسان حكمة وعلمًا؛ فعليه أن يغتبط ويفرح ويسر بذلك، وعليه أيضا أن يعمل بعلمه، وأن يسأل ربه أن يزيده منه؛ عملاً بقوله تعالى: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]، وليس هذا من الفرح المذموم؛ فإن الفرح فرحان:
فرح محمود: وهو الفرح بفضل الله وبرحمته؛ كالفرح بالإسلام والهداية، والعلم والحكمة، وكالفرح بتعلم القرآن.
وفرح مذموم: وهو فرح أهل الأشر والبطر والكبر، وهم أهل النار، وهو الفرح الذي وصف الله به قارون: إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [القَصَص: 76]، كما قال الله تعالى عن أهل النار: ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [غَافر: 75-76]؛ فهذا الفرح مذموم؛ لأن عاقبته وخيمة.
إذن فالاغتباط بالعلم والحكمة داخل في قوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا.
ثم ذكر أثر عمر : «تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا» يعني: قبل أن تتولوا المناصب فتنشغلوا بها عن العلم، فيجب على المسلم أن يتفقه وهو صغير قبل أن يتولى الولايات والمناصب؛ لأنه إذا سود، وولي المناصب، كوزارة، أو إدارة، أو رئاسة، أو قضاء، وغيرها، سينشغل غالبًا، فلا يستطيع أن يواصل في طلب العلم، أو سيأنف من أن يجلس مع من هو دونه في المكانة.
وفي رواية: «قال أبو عبدالله» أي: البخاري: «وبعد أن تسودوا» ، يعني: وعليكم أن تتفقهوا بعد أن تسودوا وتتولوا المناصب؛ ليبين رحمه الله أن المنصب ليس مانعًا من طلب العلم، لكن قد يمنع بعض الناس الانشغال أو الأنفة، ولكن عليه أن يواصل، فالإمام عمر الخليفة الراشد قال: «تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا» ، فقال أبو عبدالله البخاري: «وبعد أن تسودوا» ، يعني: وتفقهوا بعد أن تسودوا، فالإنسان لا يزال يطلب العلم حتى يتوفاه الله؛ أي مع المحبرة إلى المقبر؛ هكذا العلماء دومًا لا يزالون يزدادون من العلم إلى آخر حياتهم؛ حتى إن بعض المحدثين أمر أن يُكتب له حديث ليس عنده وهو في مرض الموت.
فالحاصل أن العلم ليس له حد، ولا نهاية، فإذا أتى على الإنسان سن كبير فلا يترك العلم، بل يستمر في طلب العلم؛ ولهذا قال الإمام أبو عبدالله البخاري: «وبعد أن تسودوا» ، فهو يبين أن قول عمر: «تَفَقَّهُوا قَبْلَ أَنْ تُسَوَّدُوا» ، ليس معناه أن المانع من التفقه والتعلم هو السيادة، بل معناه الحث على طلب العلم في وقت الصغر؛ حتى لا ينشغل أو يأنف بعد تولية المناصب، ولكن إذا ولي المنصب فعليه أن يواصل في طلب العلم ولا يمنعه شيء.
وقال المصنف في رواية لصحيحه: «وقد تعلم أصحاب النبي ﷺ في كبر سنهم» ، فأصحاب الرسول ﷺ تعلموا وهم كبار في سن الأربعين والخمسين والستين وفوق الستين، ومع ذلك صاروا فقهاء وعلماء، وسادوا الناس بعلمهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
المتن:
الشرح:
73 قوله: لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ، أصل الحسد تمني زوال النعمة عن الغير، وهذا هو الحسد المذموم، وهو حرام ويأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب، وهو داخل في قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفَلَق: 5]، فإذا رأى الحاسد غنيًّا ـ مثلا ـ تمنى أن يكون هذا الغني فقيرًا معدمًا، وإذا رأى مَن أعطاه الله الكرم أو الجود أو العلم تمنى أن يكون جاهلاً أو بخيلاً، سواء انتقلت تلك النعمة إلى الحاسد أو لم تنتقل إليه، وهذا الحسد إذا وُجد في قلب إنسان فإنه يأثم إذا أقر نفسه عليه، أو دفعه إلى قول أو فعل، أما إذا كره ذلك ولم يظهر عليه قول ولا فعل ولا تصميم ولا أذًى للمحسود؛ فإنه لا يضره.
أما المراد بالحسد في الحديث فهو: الغبطة، وليس الحسد المذموم، والغبطة مستثناة من الحسد، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل ما لأخيه من الخير، من غير أن يتمنى انتقاله أو زواله؛ فهو يتمنى أن يكون له مثل ما لأخيه من هذه النعمة مع بقاء النعمة لأخيه، والغبطة لا بأس بها، وهي مشروعة في هاتين الخصلتين؛ حيث قال النبي ﷺ: لا حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْنِ، يعني: لا غبطة إلا في هاتين الخصلتين:
الخصلة الأولى: رَجُلٌٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، وفي لفظ: فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ [(273)].
وقوله: رَجُلٌٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، يعني: كسبه من وجوه مشروعة.
وقوله: فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ، يعني: أنفقه في وجوه مشروعة، فأدى زكاته، ووصل رحمه، وبر والديه، وأنفق في مشاريع الخير، وقرى الضيف، وأنفق على الأهل، والأقارب، والأرحام، والأيتام، وغيرهم، فهذا معنى إنفاقه في الحق، وفي لفظ: وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ. [(274)]، فإذا رأيت شخصًا آتاه الله مالاً، وكسبه من وجوه مشروعة، وأنفقه في وجوه مشروعة، فلا بأس أن تغبطه؛ فتتمنى أن يكون لك مثله من غير أن تتمنى زوال النعمة عنه، فإن تمنيت زوالها عنه صار حسدًا مذمومًا، وهذا هو المحرم.
الخصلة الثانية : وَرَجُلٌٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ، والحكمة هي: العلم النافع المأخوذ من الكتاب والسنة، وَرَجُلٌٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَافَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا، يعني: يعمل بها ويعلمها للناس.
والمقصود أنه رجل آتاه الله العلم فهو يعمل به ويعلمه للناس، فهذا لا بأس أن تغبطه، وأن تتمنى أن تكون مثله، فإن تمنيت زوال العلم عنه بأن يصير جاهلاً، فهذا هو المذموم، وهو الحسد المحرم، وفي لفظ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ [(275)] والمعنى واحد؛ فالقرآن فيه أمر بالعمل بالسنة، يعني آتاه الله العلم بالكتاب والسنة، فهو يعمل به آناء الليل، وآناء النهار؛ فهذا داخل في الاغتباط بالعلم والحكمة.
والشاهد من الحديث قوله: وَرَجُلٌٍ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا، فمن آتاه الله الحكمة فعليه أن يغتبط بذلك ويفرح ويسر؛ لأن هذا من الفرح بفضل الله وبرحمته.
وأما من اكتسب المال من وجوه محرمة، وأنفقه فيما حرم الله، فلا يُغبط؛ ومن آتاه الله علمًا فلم يعمل به فلا يغبط.
والغبطة تسمى حسدًا؛ لقوله ﷺ: لاَ حَسَدَ، يعني: لا غبطة؛ وهي نوع مستثنىً من الحسد المذموم كما تقدم.
المتن:
مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى ﷺ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف: 66]
الشرح:
قوله: «بَاب مَا ذُكِرَ فِي ذَهَابِ مُوسَى ﷺ فِي الْبَحْرِ إِلَى الْخَضِرِ» ، فيه: فضل الرحلة في طلب العلم؛ فقد قال موسى للخضر كما سيأتي مما حكاه القرآن: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ، مع أن موسى أفضل منه؛ لأن موسى من أولي العزم الخمسة، والخضر مختلف في نبوته، هل هو نبي، أو عبد صالح؟
والصواب: أنه نبي، لكنه أقل من موسى، ومع ذلك تبعه موسى وتعلم منه، وهذا فيه دليل على أن العلم مشاع، وأنه قد يكون عند المفضول من العلم ما ليس عند الفاضل؛ فالخضر كان عنده علم لم يكن عند موسى، مع أن موسى أفضل منه، فلا بأس أن يتعلم الكبير من الصغير، والعلماء ما صاروا علماء حتى أخذوا ممن هو فوقهم وممن هو دونهم وممن هو مساو لهم، فلا ينبُغ الإنسان ولا يبلغ العلم حتى يأخذ ممن فوقه وممن دونه وممن هو مثله، وموسى عليه الصلاة والسلام أخذ العلم عمن هو دونه، وتواضع له، فقال: « هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66].
وسيأتي أنه لما جاء إليه وسأله قال: من أنت؟ قال: أنا موسى، قال: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، فقال: ما الذي جاء بك؟ قال: جئت لأتعلم منك، قال: ما يكفيك التوراة التي أنزلها الله عليك؟[(276)]
والله تعالى أمر نبيه أن يسأله زيادة العلم، فقال: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه: 114]، وهذا فيه: الشرف العظيم للعلم؛ لأن الله لم يأمر نبيه بطلب الزيادة من غير العلم؛ فلم يقل: زدني مالاً، أو جاهًا، أو منصبًا، بل قال: زِدْنِي عِلْمًا.
المتن:
الشرح:
74 أما حديث الباب ففيه: جواز المجادلة في العلم إذا لم تفض إلى النزاع الذي يؤدي إلى اختلاف القلوب؛ فهذا ابن عباس تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري، فقال ابن عباس: إن الرجل الذي سأل موسى لقياه هو الخضر، وقال الحر بن قيس: لا، ليس هو الخضر،