واختلفوا أيضًا في موسى هل هو موسى بني إسرائيل أو هو غيره؟ قال الحر: هو غيره، وقال ابن عباس: هو موسى بني إسرائيل، فمر بهما أُبي فسألاه، فقال أُبي: هو موسى بني إسرائيل، وأخبرهما أنه سمع النبي ﷺ يبين ذلك؛ حيث قال ﷺ: بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلَأٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ يعني: في الأرض قَالَ مُوسَى: لاَ، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وفيه: أن النبي ـ وإن كان مقامه عاليًا عند الله ـ قد يعتب الله عليه لأمر ما، فقد يعاتَب النبي لعلو مقامه عند الله ؛ كما عتب الله تعالى على نبينا محمد ﷺ عندما كان النبي ﷺ كان مقبلاً على بعض صناديد قريش يرجو إسلامهم وجاءه عبدالله بن أم مكتوم فقال: يا رسول الله علمني مما علمك الله، فانشغل عنه النبي ﷺ بهؤلاء الكبار، فعتب الله عليه وأنزل: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى [عَبَسَ: 1-10]، والرسول ﷺ اجتهد في هذا، ولكن لعلو مقامه ﷺ عاتبه الله .
وكذلك موسى ﷺ عتب الله تعالى عليه لما سأله رجل فقال: هل هناك أحد أعلم منك؟ قال: لا؛ فعتب الله عليه، وفي اللفظ الآخر: إِذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إِلَيْهِ [(277)] يعني فلم يقل: الله أعلم، فلما لم يرد العلم إليه عاتبه الله وقال: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، أي: أن هناك من هو أعلم منك، فقال: يا رب أين أجده؟ فقال الله: في مَجْمَعِ البَحْرَيْنِ، وجعل الله له آية، وفي لفظ: تَأْخُذُ حُوتًا، فَتَجْعَلُهُ فِي مِكْتَلٍ، حَيْثُمَا فَقَدْتَ الحُوتَ فَهُوَ ثَمَّ [(278)]، فذهب ومعه فتاه يوشع بن نون، وهو الذي أصبح نبيًّا لبني إسرائيل بعد وفاة موسى ﷺ، وهو أيضًا الذي فتح بيت المقدس، والذي حبست له الشمس، ولم تحبس الشمس لأحد إلا ليوشع بن نون؛ وذلك أنه أراد فتح بيت المقدس، فلما كاد أن يتم الفتح قرب غروب الشمس، وكان هذا في يوم جمعة؛ أي في ليلة السبت، وكان القتل قد منع في شريعتهم يوم السبت؛ فقال يوشع يخاطب الشمس: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ [(279)]، وقد وردت آثار ضعيفة أن الشمس حبست لعلي بن أبي طالب، وهذه من أخبار الشيعة التي لا تثبت، وأنها حبست لنبينا محمد ﷺ، والصواب أنها لم تحبس إلا ليوشع بن نون، وهو فتى موسى الذي ذهب معه في البحر للقاء الخضر.
فذهب موسى ومعه فتاه في البحر وأخذا معهما الحوت، ثم ناما تحت صخرة فلما استيقظا وذهبا قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف: 62]، فقال له فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف: 63]، قال موسى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ [الكهف: 64]، أي هذا هو الذي نبغيه؛ لأنه جعل له آية وعلامة أنه حيث يفقد الحوت يجد الخضر.
ثم وجد الخضر وحصل لهما ما قصه الله تعالى في كتابه، وأن موسى سأله أن يتعلم منه، فقال له الخضر: إنك لن تستطيع أن تصبر، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا، قال: كيف تستطيع أن تصبر على شيء لا تحيط به علمًا؟ قال: إني سأصبر، فقال له الخضر: فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف: 70]، فانطلقا يمشيان في سيف البحر، فمرت بهما سفينة، فأشاروا إلى أصحابها فأركبوهم بدون أجرة؛ لأنهم يعرفون الخضَر، فلما ركبا في السفينة نزع الخضر لوحًا من ألواحها، فأنكر موسى عليه فقال: ناس حملونا بدون أجرة تخرب سفينتهم وتفسدها، هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! كيف نسيء إليهم وقد أحسنوا إلينا؟! فقال الخضر: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف: 72] أي: قد قلت لك: إنك لن تصبر، فقال موسى: قد نسيت هذه المرة فلا تؤاخذني بما نسيت، فعذره، ثم لما نزلا كانا يمشيان في الساحل فمرا بغلام يلعب مع الصبيان، فأخذه الخضر، واقتلع رأسه ورمى به، فاشتد إنكار موسى ، وأنكر عليه أشد من الإنكار الأول فقال: سبحان الله أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف: 74]؛ أي: شيئًا منكرًا عظيمًا ولم يصبر على هذا؛ لأن هذه المرة أشد من الأولى، فإنه في الأولى خلع اللوح وسد مكانه بخرقة ومشت السفينة، لكن في هذه المرة قتل غلامًا لا ذنب له؛ ولهذا قال: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ، ثم أكد وقال: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف: 74] أي منكرًا، فأكد الخضر قائلاً: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف: 75] في الأولى قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف: 75]، وفي الثانية أكد فقال: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي [الكهف: 76]، ثم مرا ببلدة فدخلا قرية فاستضافا أهلها فلم يضيفوهما، وفي هذه القرية مرا بجدار يريد أن ينقض فجعل الخضر يبني هذا الجدار؛ حتى لا يسقط، فأنكر عليه موسى وقال: قوم لئام لم يضيفونا ثم تصلح جدارهم بدون مقابل، وهم قصروا في حق الضيافة، لو أردت لأخذت أجرًا على عملك هذا، فقال له الخضر: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78].
ثم أخبره الخضر بحقيقة هذه المسائل فقال: إن جواب المسألة الأولى أن السفينة كانت لقوم مساكين فأردت أن أعيبها؛ لأن وراءهم ملك ظالم يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، فأردت أن أجعل فيها عيبًا حتى لا تؤخذ السفينة، فتبقى لأصحابها.
واستدل العلماء بذلك على أن المساكين قد يكون لهم شيء من المال، فإن هؤلاء لهم سفينة، ومع ذلك هم مساكين، والمسكين هو الذي يجد بعض الكفاية ولا يجد الكفاية الكاملة.
وأما هذا الغلام فقد طبع يوم طبع كافرًا، ولو بلغ لأرهق أبويه طغيانًا وكفرًا، والله تعالى أراد أن يبدلهما خيرًا منه.
وأما الجدار الذي بنيته فهذا تحته كنز لغلامين يتيمين، وكان أبوهما صالحًا، والله تعالى أراد أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما.
وهذه الأمور العظيمة لا يمكن أن يفعلها الإنسان إلا بوحي، وهذا يدل على أن الصواب الذي عليه المحققون أن الخضر نبي يوحى إليه، وقد قال كثير من العلماء: إنه عبد صالح، وهذا قول ضعيف مرجوح، وإن قال به كثير من العلماء، وقد ذكر الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله في «تفسيره» أنه عبد صالح[(280)].
والصواب: أنه نبي؛ ولهذا قال الخضر لموسى في آخر القصة: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي، يعني: ما فعلته إلا بوحي من الله، ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 82].
فالصواب: أنه نبي، إلا أن موسى أفضل منه.
والشاهد: أن موسى رحل في طلب العلم، ففيه: الرحلة وركوب البحر في طلب العلم.
وفيه: تعلم الفاضل من المفضول وممن هو دونه، وتعلم الكبير من الصغير وأخذ العلم منه، وأن العلم مشاع، وأنه قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل.
المتن:
باب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ
75 حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ.
الشرح:
75 قوله: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْكِتَابَ. فيه: منقبة لابن عباس ، وتعليم الكتاب يدخل فيه تعلم السنة، فهو داخل في قوله في الحديث السابق: آتَاهُ اللَّهُ الحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا [(281)]، فمن علمه الله الكتاب يجب أن يعلم السنة؛ لأن الله تعالى قال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [المَائدة: 92]، وقال: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحَشر: 7]، فالكتاب دعا إلى تعلم السنة، ومن علمه الله الكتاب وفقهه فيه فقد آتاه الحكمة، وفي لفظ أن النبي ﷺ قال لابن عباس: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ [(282)]، ولا منافاة؛ فمن علمه الله الكتاب فقد فقهه في الدين، وعلمه التأويل.
وهذا فيه: فضل العلم، وفضل الارتباط بالعلم؛ وقد حصل هذا لابن عباس، فقد استجيبت دعوة النبي ﷺ، وصار ابن عباس من العلماء الراسخين في العلم، وآتاه الله الفقه في الدين، وعلمه التأويل.
وقد توفي النبي ﷺ وابن عباس لا يزال غلامًا صغيرًا مراهقًا قارب البلوغ، وكان له زميل من الأنصار فكانا يطلبان معا العلم، ويأخذان عن الصحابة، فلما توفي النبي ﷺ استمر ابن عباس في طلب العلم والأخذ عن الصحابة وانقطع الأنصاري، فقال الأنصاري لابن عباس: أتظن الناس يحتاجون إليك؟ أي أن الصحابة كثير، فالناس ليسوا محتاجين إليك، فتركه ابن عباس واستمر في طلب العلم والأخذ عن الصحابة، وكان يأتي إلى بيت الواحد من الصحابة فيجلس عند الباب، ثم يتوسد يده وينام عند الباب حتى يخرج، فإذا خرج قال له: يا ابن عم رسول الله ﷺ ألا أخبرتني؟ ألا طرقت علي الباب؟ فيقول: لا، هذا العلم أحق أن يؤتى إليه، ثم يسأله. واستمر في طلب العلم، والأخذ عن الصحابة، والبحث معهم، وسؤالهم عن الأحاديث حتى حصَّل علمًا كثيرًا؛ ثم بعد ذلك توفي كثير من الصحابة فتصدر ابن عباس للفتيا وللعلم، وصار الناس يأتون إليه من كل مكان يطلبون العلم منه، وكان يجلس للناس جلسات متتابعة بعد الفجر إلى طلوع الشمس، فيجلس لأهل التفسير، ثم بعد ذلك يجلس لأهل الفقه، ويجلس لأهل الحديث، ثم يجلس لأهل اللغة، وأهل الشعر، وهكذا؛ ويأتي قوم وينصرف آخرون طوال النهار، ومن كل مكان؛ ولما رآه الأنصاري الذي انقطع عن طلب العلم قال: هذا أعقل مني؛ يعني: ابن عباس؛ فقد استمر في طلب العلم، وانقطعت أنا.
المتن:
باب مَتَى يَصِحُّ سَمَاعُ الصَّغِيرِ
76 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، وَأَرْسَلْتُ الأَْتَانَ تَرْتَعُ، فَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ عَلَيَّ.
الشرح:
76 قوله: «نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ» ، فيه: أن ابن عباس رضي الله عنهما ـ وقد قارب الاحتلام ـ جاء والنبي ﷺ يصلي بالناس بمنًى، في الحج في حجة الوداع.
وفيه: أن النبي ﷺ كان يصلي إلى غير جدار، وظاهره أنه لم يصل إلى سترة، فاستدل به على أن السترة ليست واجبة وإنما هي مستحبة.
وفيه: أن ابن عباس مر بين الصفوف وهو راكبٌ حمارًا، فلم ينكر ذلك عليه؛ فدل على أن مرور الحمار بين يدي المأموم لا يضر؛ لأن سترة الإمام سترة للمأموم؛ فإذا مرت امرأة أو حمار بين بعض المأمومين فلا تأثير على صلاتهم؛ أما إذا مر الحمار، أو الكلب الأسود، أو المرأة البالغ بين يدي الإمام، أو بين يدي المنفرد قريبًا منه إن كان لم يتخذ سترة، أو بينه وبين السترة إن كان قد اتخذها، فإنها تبطل صلاته في أصح قولي العلماء؛ لما ثبت في «صحيح مسلم» عن النبي ﷺ أنه قال: يَقْطَعُ صَلَاةَ المرء إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ مِثْلُ مؤخرة الرَّحْلِ: الْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ [(283)] فيعيدها؛ وذهب جمهور العلماء[(284)] إلى أن هذه الثلاث لا تقطعها، وتأولوا قوله في الحديث: يَقْطَعُ صَلَاةَ المرء بأن المراد به قطع الثواب ونقص الأجر، والصلاة صحيحة، وقال آخرون من أهل العلم: لا يقطع الصلاة إلا الكلب[(285)]، والصواب الأول، فإذا مرت المرأة البالغ أو الحمار أو الكلب الأسود بين يدي الإمام أو المنفرد إذا لم يكن له سترة، أو مروا بينه وبين سترته؛ فإنه يعيد صلاته؛ أما إذا مروا من وراء السترة، أو من مكان بعيد أكثر من ثلاثة أذرع فلا يضره.
وفي الحديث: أن ابن عباس عقل هذه القصة وهو صغير دون البلوغ، ثم حدث بذلك بعد البلوغ.
ففيه: دليل على أن الصغير إذا عقل شيئًا ثم حدث به بعد بلوغه يقبل منه، فإذا سمع الصغير الحديث ولو ابن خمس سنين وهو يعقل ويفهم ويميز ثم أداه بعد البلوغ صح سماعه، يعني: أن الشرط أن يكون مميزًا يفهم ولو كان ابن خمس سنين، فإذا حضر مجلس الحديث وسمع وفهم، ثم لما بلغ روى الحديث وأداه صح ذلك، وكذلك الكافر إذا سمع الحديث ثم أداه بعد إسلامه صح، وكذلك الفاسق إذا سمع الحديث ثم أدى الحديث بعد توبته صح ذلك، هذا هو الصواب، ولو ابن خمس سنين؛ لأن محمود بن الربيع عقل مجة مجها النبي ﷺ في وجهه وهو ابن خمس سنين[(286)].
وهذه المسألة اختلف فيها الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين؛ فقال يحيى بن معين: إنه لا يصح سماعه إلا إذا بلغ، وقال الإمام أحمد: يصح قبل البلوغ، ولا منافاة بينهما؛ فيحمل كلام يحيى بن معين على أنه إذا أراد أن يبتدئ الطلب يبتدئ بعد البلوغ، أما إذا حضر المجلس قبل البلوغ وسمع وميز فلا بأس كما في قصة محمود بن الربيع.
فالشاهد: أن الصغير يصح سماعه إذا كان مميزًا ويفهم العلم، فإذا سمعه ثم أداه بعد البلوغ صح سماعه، وهنا روى ابن عباس قصة حدثت له قبل البلوغ، وهي أنه جاء راكبًا على حمار ومر بين يدي الصف ولم ينكر عليه النبي ﷺ، ثم رواها بعد البلوغ فقبل منه، وكذلك محمود بن الربيع روى قصة وهو ابن خمس سنين، وهي أن النبي ﷺ مج مجة في وجهه من دلو في بئر فعقلها، ثم أداها بعد البلوغ، فدل على أن الصغير المميز إذا أدى بعد البلوغ صح سماعه.
والحمار مهما كان لونه يؤثر على صحة الصلاة إذا مر بين يدي الإمام أو المنفرد، أما الكلب فلا يؤثر منه إلا الأسود البهيم، وقد جاء في صحيح مسلم أن أبا ذر سأل النبي ﷺ: ما بال الكلب الأحمر من الأسود؟ فقال: الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ [(287)].
ومعروف أن الكلب الأسود يجب قتله؛ ولذا فلا ينبغي أن يُقتنى ولا أن يُعلّم للصيد؛ فالأسود يقتل سواء أكان معلمًا أم غير معلم، ولكن لابد أن يكون أسود بهيمًا.
والسترة مثل مؤخرة الرحل، وهو الذي يشد على ظهر البعير، وهو يقارب ذراع، وزاد بعضهم فيه إلى ذراع وشبر، وعند بعض الشافعية ثلثي ذراع، فيما ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله[(288)]: «والمسافة بين المصلي والسترة تقارب ثلاثة أذرع، وهذا هو ظاهر الحديث؛ لأن النبي ﷺ لما دخل الكعبة وصلى كان بينه وبين الجدار الغربي ثلاثة أذرع[(289)]، والسترة مستحبة عند جمهور العلماء، وبعض العلماء يوجبها».
المتن:
الشرح:
77 قوله: «وَأَنَا ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ» فيه: دليل على صحة سماع الصغير إذا كان مميزًا، فإذا ميز وفهم وحضر مجلس العلم وهو ابن خمس سنين ثم أدى هذا بعد البلوغ صح ذلك منه؛ لهذه القصة، فالنبي ﷺ دخل بيتهم وشرب من دلو من بئر في البيت ثم مجها في وجه محمود بن الربيع.
وفيه: التبرك بآثاره ﷺ لما جعل الله فيه من البركة، وهو من خصوصياته ﷺ؛ فهو يمج الماء في وجهه لتحصل له البركة، وكان الصحابة يتبركون بآثار النبي ﷺ، فإذا توضأ يأخذون القطرات ويتبركون بها، وإذا تنخم سقطت في يد أحدهم يدلك بها وجهه ويده؛ لما جعل الله فيه من البركة، وهذا خاص به ﷺ فلا يقاس عليه غيره؛ لأن الصحابة لم يتبركوا بأبي بكر ولا بعمر، وإنما هذا من خصائصه ﷺ، ومن ذلك المجة التي مجها في وجه محمود بن الربيع، وكان فيها خير له؛ ففرح أهله بذلك؛ لأنهم أرادوا أن يتبركوا بآثار النبي ﷺ، فمحمود عقلها ورواها بعد البلوغ فقال: إني أذكر أن النبي ﷺ مج هذه المجة في وجهي وأنا ابن خمس سنين، فدل على أن الصغير يصح سماعه إذا كان مميزًا ولو كان ابن خمس سنين إذا أدى ذلك في الكبر.
فإذا عقل الصغير الحديث عن النبي ﷺ ثم أداه بعد الكبر صح، وكذلك الكافر إذا سمع الحديث ثم أسلم وأداه بعد الإسلام صح، وكذلك الفاسق إذا سمع الحديث ثم تاب وأداه بعد التوبة صح.
المتن:
باب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ
وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ.
الشرح:
قوله: «بَاب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ» فيه: فضل الرحلة في طلب العلم والحرص على تحصيله.
قوله: «وَرَحَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ»، وفي لفظ: أن جابر بن عبدالله اشترى بعيرًا لهذا الغرض، ورحل من المدينة إلى الشام مسيرة شهر في طلب حديث واحد في المظالم.
فانظر إلى المشقة العظيمة التي كانت تحصل للصحابة وللعلماء، فهذا صحابي جليل ـ جابر بن عبدالله ـ اشترى بعيرًا ورحل من المدينة إلى الشام مسافة ثلاثين يومًا في طلب حديث واحد، وجاء إلى عبدالله بن أنيس وطرق عليه الباب فخرج مولاه، فقال: قل له: جابر بالباب. قال: جابر بن عبدالله؟ قال: نعم، فخرج فاعتنقه ـ وهذا فيه: مشروعية المعانقة عند القدوم من السفر ـ فقال جابر بن عبدالله: حديث عن النبي ﷺ بلغني أنه عندك، فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه، فذكر الحديث في المظالم، وأنه يقتص من الظالم للمظلوم، وأن الله تعالى ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب[(290)].
فهذا أصل في الرحلة في طلب العلم؛ حيث ارتحل الصحابي مسيرة شهر من المدينة إلى الشام في طلب حديث واحد، واشترى بعيرًا لهذه المهمة؛ فاحتمل المشقة العظيمة في طلب العلم، ونحن الآن تتوفر لنا حلقات العلم، والأحاديث مدونة، والكتب الستة مدونة وموجودة، ولكنه الانشغال بالدنيا، والانشغال عن طلب العلم بالكماليات، وبما فتح علينا من الدنيا، فصرنا ننشغل عن الطلب مع التيسير، فليس هناك سفر ولا تعب، فطلب العلم يستطيعه الآن كل إنسان، وهو موجود في بلده، وما عليه إلا أن يذهب إلى الحلقات ماشيًا، أو في سيارته، وكل هذا في وقت وجيز، لا يسافر مسافة شهر، ولا مسافة يوم ولا يومين ولا ساعة ولا ساعتين، ولكن الانشغال وضعف الهمة جعلا كثيرًا من الناس يحجم عن طلب العلم.
فقوله: «بَاب الْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ» يعني: الرحلة لطلب العلم في البلد وخارج البلد، لكن قصة جابر فيها الرحلة والسفر خارج البلد، وكذلك قصة موسى فيها السفر؛ حيث سافر إلى مجمع البحرين، والتقى بالخضر، وركب البحر.
المتن:
الشرح:
78 قوله: فَسَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى لُقِيِّهِ فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فيه: الرحلة من بلد إلى بلد في طلب العلم، حيث خرج موسى من بلده وسافر في طلب العلم.
المتن:
فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ
79 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: قَالَ إِسْحَاقُ: وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَيَّلَتْ الْمَاءَ قَاعٌ يَعْلُوهُ الْمَاءُ وَالصَّفْصَفُ الْمُسْتَوِى مِنْ الأَْرْضِ.
الشرح:
79 قوله: فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ لغةً يجوز فقُه وفقِه، لكن فقُه أفصح.
وهذا الحديث فيه: بيان ما ترجم له المؤلف في «فَضْلِ مَنْ عَلِمَ وَعَلَّمَ» .
وفيه: تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام، أو ثلاث طوائف حيال ما بعث الله به نبيه ﷺ من العلم والهدى؛ ولهذا قال النبي ﷺ: مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلَأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ.
فقسم الناس ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: مثل الأرض التي إذا أصابها المطر قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب، فنفعت نفسها بقبول الماء، ونفعت غيرها بإنبات الكلأ والعشب ـ والكلأ أعم من العشب، وعطف العشب على الكلأ من عطف الخاص على العام؛ لأن العشب هو النبت الرطب، والكلأ يشمل الرطب واليابس ـ وهذا مثل العلماء الفقهاء الذين تعلموا وتفقهوا في دين الله، وفجروا ينابيع النصوص، واستنبطوا منها الأحكام للناس، فتعلموا وعلموا غيرهم، فنفعوا أنفسهم ونفعوا الناس.
الطائفة الثانية: مثل الأجادب ـ يعني الأرض الملساء ـ التي لا تنبت الكلأ أو العشب، لكنها تمسك الماء للناس؛ فينتفعون به في سقياهم وزرعهم، فهذا مثل العلماء والمحدثين الذين حفظوا العلم ودونوه، وإن كانوا هم لم يتفقهوا ولم يستنبطوا الأحكام من النصوص، لكنهم حفظوها وضبطوها فأوصلوها إلى غيرهم، فاستفاد منها من بعدهم فهؤلاء ينطبق عليهم قول النبي ﷺ: نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فأَدَّاهَا [(291)].
الطائفة الثالثة: فهي مثل القيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فلا تستفيد في نفسها وتخرج الكلأ والعشب للناس، ولا تمسك الماء حتى يستفيد الناس به في السقي والزرع، فهذا مثل من لم يتفقه في دين الله ولم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أُرسل به محمدٌ ﷺ.
فهذه أقسام الناس الثلاثة، وليحذر الإنسان أن يكون من الطائفة الثالثة الذين لا يتعلمون ولا يعلِّمون.
وهذا مثل عظيم ضربه النبي ﷺ لما بعثه الله به من الهدى والعلم، فأمة النبي ﷺ منهم من تعلم وعلَّم وتفقه واستنبط الأحكام من النصوص، وهم العلماء الربانيون الراسخون.
ومنهم من ضبط النصوص وحفظها وأداها إلى غيره وإن لم يستنبط منها الأحكام؛ لأنه لا يملك من البصيرة ما تملكه الطائفة الأولى.
ومنهم من لم يتعلم ولم يعلِّم، كالقيعان التي إذا جاءها المطر لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فلا تستفيد بنفسها ولا تفيد غيرها.
والشاهد من الحديث: إظهار فضل من عَلِم وعَلَّم، كما بوب الإمام البخاري رحمه الله، فكان كالطائفة الأولى تعلَّموا وعلَّموا.
المتن:
باب رَفْعِ الْعِلْمِ وَظُهُورِ الْجَهْلِ
وَقَالَ: رَبِيعَةُ لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِلْمِ أَنْ يُضَيِّعَ نَفْسَهُ.
80 حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ، وَيَثْبُتَ الْجَهْلُ، وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا.
الشرح:
80 قوله: إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ....
هذا الحديث فيه: أربع علامات من أشراط الساعة، وهي:
العلامة الأولى: أن يرفع العلم.
العلامة الثانية: يثبت الجهل.
العلامة الثالثة: يشرب الخمر.
العلامة الرابعة: يظهر الزنا.
وهذا من أعلام ودلائل نبوته ﷺ؛ فإن هذه الأمور كلها وقعت منذ زمن بعيد، وهي من أشراط الساعة الصغرى.
وهذا الحديث فيه: أن تحديثه ﷺ عن أشراط الساعة هو علم من أعلام نبوته، وأن هذه الأشراط لا بد أن توجد وأن تقع في الأمة، وهي: قبض العلم، وثبوت الجهل، وشرب الخمور، والزنا؛ لأن النبي ﷺ قال ذلك عن وحي من الله ، فلا بد أن تقع.
وفيه: التحذير من الزنا ومن شرب الخمر.
وفيه: الحث على طلب العلم قبل أن يقبض بموت العلماء، وأخذه من أفواه العلماء قبل موتهم، وما دام يوجد متعلم فلا يقبض العلم.
ولهذا قال ربيعة: «لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه» أي: ما دام عنده فهم وقدرة على التعلم فلا ينبغي له أن يضيع بإهمال العلم، بل ينبغي له أن يحرص على طلب العلم، وهذا القول فيه: دليل على أن الإنسان إذا لم يتعلم فقد ضيع نفسه.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر أنه إنما سمي ربيعة الرأي لكثرة اشتغاله بالاجتهاد، وهو شيخ الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومراد ربيعة أن من كان فيه فهم وقابلية للعلم لا ينبغي له أن يهمل نفسه فيترك الاشتغال؛ لئلا يؤدي ذلك إلى رفع العلم».
أي: أن مراد ربيعة أن من كان عنده قابلية وفهم واستعداد لتلقي العلم فينبغي له أن يحرص على طلبه، وألا يضيع نفسه ويهدر هذه الطاقات الموجودة عنده، وهي القابلية والقدرة على التعلم، فإنه إذا أهمل نفسه، وأهمل الآخر نفسه، وتتابع المهملون ممن عندهم استعداد وقابلية للتعلم؛ قُبض العلم بموت العلماء.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أو مراده الحث على نشر العلم في أهله؛ لئلا يموت العالم قبل ذلك فيؤدي إلى رفع العلم، أو مراده أن يشهر العالم نفسه ويتصدى للأخذ عنه لئلا يضيع علمه، وقيل: مراده تعظيم العلم وتوقيره، فلا يهين نفسه بأن يجعله عرضًا للدنيا؛ وهذا معنىً حسن، لكن اللائق بتبويب المصنف ما تقدم».
فاللائق بتبويب المصنف أن من كانت عنده قابلية وفهم ينبغي له أن يحرص على طلب العلم.
وعلى كلٍّ فمقصود المؤلف هنا الحث على طلب العلم، وأخذه من أفواه العلماء قبل موتهم؛ لأن قبض العلم لا يكون إلا بموت العلماء، ويدل على ذلك الحديث الآخر؛ وهو قوله ﷺ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا [(292)]، وفي رواية: حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمًا [(293)]، فالعلم إنما يقبض بموت العلماء.
قوله: وَيَظْهَرَ الزِّنَا، المقصود بظهوره: انتشاره مطلقًا وظهوره في العلن، أما إذا كان في السرِّ؛ فالمعصية إذا خفيت لا تضر إلا صاحبها، فالمراد أن انتشاره وكثرته من أشراط الساعة.
المتن:
الشرح:
81 وأما قول أنس : «لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لاَ يُحَدِّثُكُمْ أَحَدٌ بَعْدِي»؛ قال هذا لأن حياته طالت حتى جاوز المائة، وكان قد مات أكثر الصحابة، وبقي هو متأخرًا ومعه علمه.
قوله: مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَقِلَّ الْعِلْمُ، وقلة العلم إنما هي بقبض العلماء كما سبق، وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وفي الحديث الأول: وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ، وهنا فيه زيادة: وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ أي: الذي يقوم بأمرهن، ويلذن به؛ والسبب في ذلك كثرة الحروب والفتن في آخر الزمان؛ فإن الحروب تقضي على الرجال، فهم وقود الحروب، ويكون ذلك أيضًا بكثرة ولادة الإناث في آخر الزمان، كما هو واقع ومشاهد الآن في غالب البيوت أن الإناث تكثر غالبًا عن الذكور.
المتن:
باب فَضْلِ الْعِلْمِ
82 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍقَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعِلْمَ.
الشرح:
قوله: «بَاب فَضْلِ الْعِلْمِ» يعني: ما له من الفضيلة والأجر والثواب والرفعة.
82 أما حديث الباب ففيه: بيان فضل العلم، وأن اللبن في الرؤيا يفسر بالعلم؛ وذلك لأن اللبن غذاء متكامل يتغذى به المولود؛ فيكفيه عن الطعام والشراب؛ ولذلك يكتفي به أهل البوادي، وكذلك العلم غذاء وحياة للأرواح والقلوب، كما أن اللبن غذاء وحياة للأجساد؛ ولذلك فسر اللبن في الرؤيا بالعلم.
وفيه: فضل عمر ، وأنه أوتي من العلم حظًّا وافرًا، وهذه الرؤيا حق؛ فرؤيا الأنبياء وحي.
قوله: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ فَشَرِبْتُ حَتَّى إِنِّي لَأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ فِي أَظْفَارِي ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ. قَالُوا فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الْعِلْمَ فيه: الحث على طلب العلم وبيان فضله؛ ليحرص المرء على طلبه.
وأما قول النبي ﷺ: ثُمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلِي يعني: ما بقي في الإناء من فضلة زائدة أبقاها النبي ﷺ في القدح.
المتن:
باب الْفُتْيَا وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى الدَّابَّةِ وَغَيْرِهَا
83 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَقَالَ: اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ، فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي؟ قَالَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ.
الشرح:
83 حديث عبدالله بن عمرو هذا كان في حجة الوداع في اليوم العاشر ـ وهو يوم العيد ـ حيث وقف النبي ﷺ للناس يستفتونه ويسألونه لما رمى جمرة العقبة، فجاء رجل فقال: «لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَقَالَ: اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ، فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي؟ قَالَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ؛ وذلك لأن أعمال يوم العيد بالنسبة للحاج أربع وظائف، والسنة ترتيبها، فأول شيء يبدأ به الحاج بعدما يأتي من مزدلفة رمي جمرة العقبة، وهي تحية منًى، وهي بمثابة صلاة العيد لأهل الأمصار، والحجاج ليس عليهم صلاة عيد؛ فرمي جمرة العقبة بالنسبة لهم قائم مقام صلاة العيد، فهذه هي أول وظيفة للحاج يوم العيد.
ثم بعد ذلك يذبح الحاج هديه إن كان متمتعًا أو قارنًا.
ثم بعد ذلك يحلق رأسه، وهذه هي الوظيفة الثالثة.
ثم يفيض ـ أي: ينزل ـ إلى مكة، ويطوف طواف الإفاضة، ويسعى سعي الحج.
وهذه وظائف عظيمة تحتاج إلى وقت، والنبي ﷺ رتبها يوم العيد، وقال للناس: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ [(294)]. فأدى هذه الوظائف الأربع كلها قبل صلاة الظهر؛ ولهذا نام ﷺ ليلة المزدلفة مبكرًا حتى يتقوى على هذه الوظائف.
فرمى أولاً جمرة العقبة ضحىً، وكان بلال وأسامة يظللانه بثوب، ثم ذهب إلى بدنه وهي مائة جمل فنحر بيده الشريفة ثلاثًا وستين هديًا على قدر سنيِّ عمره ﷺ، ثم جعل عليًّا ينحر ما تبقى، وعددها سبع وثلاثون، وكلها أمر بها فوزعت لحومها، وجلالها، وجلودها في الفقراء والمساكين، فلم يُترك منها شيء.
وأمر ﷺ أن يؤخذ له من كل بعير بَضعة ـ أي: قطعة ـ وجُعلت في قدر فطبخت، وشَرب ﷺ من مرقها، وأكل شيئًا من لحمها[(295)]، ثم بعد ذلك حلق رأسه ﷺ، وقال للحلاق: خذ، وبدأ بالشق الأيمن فأعطاه أبا طلحة، ثم حلق الشق الأيسر، ووزع شعره على الناس[(296)] يتبركون به؛ لأنه ﷺ يُتبرك بجسده وآثاره، وهذا خاص به لا يقاس عليه غيره؛ لما جعل الله في جسده وما لامسه من البركة.
ولذلك فإن أم سليم رضي الله عنها وكان بينه وبينها محرمية ـ لما نام عندها وعرق أخذت تسلت العرق وجعلته في قارورة لها وقالت: وهو من أطيب الطيب[(297)].
وكان إذا توضأ ﷺ يأتي الصحابة فيأخذون من قطرات وضوئه، وإذا تفل كذلك تكون في كف أحدهم يدلك بها وجهه ورأسه وجسده[(298)]؛ لما جعل الله فيه من البركة.
أما غيره ﷺ فلا يتبرك به؛ ولهذا لم يتبرك الصحابة بأبي بكر ولا بعمر ولا عثمان؛ لأن هذا وسيلة للشرك.
ثم بعد ذلك نزل ﷺ إلى مكة فطاف طواف الإفاضة، ثم أدركته صلاة الظهر في المسجد الحرام، فصلاها كما ثبت في الصحيح من حديث جابر[(299)].
وفي حديث ابن عمر أنه صلى الظهر في منًى[(300)]، والجمع بينهما أنه ﷺ لما انتهى من الوظائف الأربع أدركته الصلاة فصلى في مكة، ثم لما جاء إلى منًى وجد أصحابه مجتمعين فصلى بهم تلك الصلاة؛ له نافلة ولهم فريضة، وهذا الجمع بين الحديثين هو الصواب.
والشاهد من الحديث: أن النبي ﷺ وقف للناس على دابته يستفتونه ويسألونه؛ ففيه دليل على أنه لا بأس أن يفتي العالم الناس على حسب حاله، سواء أكان واقفًا أم ماشيًا أم راكبًا.
وفيه: دليل على أن الوظائف الأربع يوم العيد لا يجب ترتيبها وإنما يستحب، فيرمي جمرة العقبة، ثم يذبح هديه، ثم يحلق رأسه، ثم يطوف؛ وهذا هو الأفضل، وإن قدم بعضها على بعض فلا حرج؛ فإن قدم الحلق على الذبح، أو قدم الذبح على الرمي فلا حرج؛ لأن النبي ﷺ وقف للناس فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ.
فدل هذا على أنه يجوز التقديم والتأخير بينها حتى ولو كان متعمدًا؛ لأن التحلل يكون بالرمي وبالحلق، فإذا رمى وحلق ولبس ثيابه وذهب يذبح فلا حرج، وهذا هو الصواب، وإن كان بعض الأحناف[(301)] ذهب إلى أنه يجب ترتيبها، وأنه إن لم يرتبها فعليه دم؛ أي شاة يذبحها.
والصواب: أنه لا يجب الترتيب، وأنه يجوز للإنسان أن يقدم أو يؤخر كما في هذا الحديث حتى ولو كان متعمدًا، وأن ترتيبها مستحب وليس بواجب.
ولكن لا ينبغي له أن يقدم السعي على الطواف، رغم أنه قد جاء في حديث أسامة بن شريك قال: سعيت قبل أن أطوف، فقال ﷺ: لاَ حَرَجَ. [(302)]، لكن الأحوط للمسلم ألا يقدم السعي على الطواف، كما هو مذهب جمهور العلماء، فينبغي أن يحتاط الإنسان لدينه، فالأحوط للمسلم أن يقدم الطواف على السعي؛ خروجًا من الخلاف؛ لأن جمهور العلماء يرون أنه لا يجوز تقديم السعي على الطواف.
والشاهد: أن النبي ﷺ أفتى الناس وهو راكب على دابته؛ فالعالم له أن يُفتي الناس على حسب حاله راكبًا أو واقفًا أو ماشيًا، ولا حرج عليه في ذلك.
المتن:
باب مَنْ أَجَابَ الْفُتْيَا بِإِشَارَةِ الْيَدِ وَالرَّأْسِ
84 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ: وَلاَ حَرَجَ، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: وَلاَ حَرَجَ.
الشرح:
84 قوله: «فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ» ، فيه: جواز الإفتاء بإشارة اليد؛ حيث سأله سائل فقال: «ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ قَالَ: وَلاَ حَرَجَ. يعني: أشار، يقال: إنه حركها، وسأله سائل فقال: «حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: وَلاَ حَرَجَ. فدل على أنه يجوز الإجابة بالإشارة إذا كانت مفهومة.
وجاء في الحديث الآخر في قصة ابن أبي حدرد عندما أتاه كعب يتقاضاه دينًا في مسجد النبي ﷺ فارتفعت أصواتهما، فخرج النبي ﷺ ـ وكان في بيته ـ فكشف ستر حجرته، وقال ﷺ: يَا كَعْبُ، قال: لبيك يا رسول الله، قال: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا، وأومأ إليه أي الشطر» يعني: أسقط النصف من دينك، فقال: قد فعلت، قال: قُمْ فَاقْضِهِ [(303)]، فأشار إليه النبي ﷺ أن أسقط النصف من دينك؛ ففعل.
فدل على أن الإشارة إذا كانت مفهومة يعمل بها في الفتوى أو في القضاء، فالنبي ﷺ أشار بيده للسائل، ففهم الإشارة.
والإشارة قد تكون مع الكلام، وقد تكون بدون كلام؛ فإذا كان بعيدًا فقد يُكتفى بالإشارة، وإذا كان قريبًا فالكلام وحده كاف، لكن الكلام مع الإشارة قد يكون أقرب للإفهام.
المتن:
الشرح:
85 قوله: «فَقَالَ؟ هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ» يعني: يشير إلى القتل، فالهرج هو القتل.
والحديث فيه: إشارة إلى أنه في آخر الزمان يُقبض العلم ويكثر الجهل؛ فتكثر الفتن والحروب.
وفيه: دليل على أن الإشارة إذا كانت مفهمة يُعمل بها، وهذا من العلم؛ ولهذا ذكره المؤلف في كتاب العلم.
قوله: وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ الهَرْج هو: القتل بلسان الحبشة؛ فقد جاء في الرواية الأخرى: يَكْثُرَ الهَرْجُ، وَهُوَ القَتْلُ [(304)]؛ ففسر الهرج بالقتل، ومنه في آخر الزمان: يَتَهَارَجُونَ [(305)].
المتن:
الشرح:
86 وأما حديث أسماء رضي الله عنها فقد استدل به المؤلف رحمه الله على الإشارة بالرأس؛ فإن عائشة رضي الله عنها أشارت برأسها وأقرها النبي ﷺ على ذلك، وهذا في صلاة الكسوف عندما كسفت الشمس في عهد النبي ﷺ فصلى بالناس وصلى معه الرجال، وصلت النساء خلف الرجال، فجاءت أسماء بنت أبي بكر ـ وهي الأخت الكبرى لعائشة رضي الله عنها ـ إلى عائشة رضي الله عنها التي كانت تصلي مع الناس، وقبل أن تدخل أسماء في الصف سألت أختها: «مَا شَأْنُ النَّاسِ؟» أي: ما سبب هذه الصلاة؟ «فَأَشَارَتْ» عائشة رضي الله عنها «إِلَى السَّمَاءِ» ، يعني: انظري إلى السماء حيث كسوف الشمس، وإشارتها وهي تصلي فيه: دليل على جواز الإشارة للمصلي إذا كانت خفيفة ومفهمة، ولا يؤثر هذا على الصلاة.
وبعد أن أشارت إلى السماء قالت أسماء: «آيَةٌ» فأشارت عائشة برأسها أن نعم، وهذا هو الشاهد من الحديث، أن عائشة رضي الله عنها أشارت برأسها وبيدها وأقرها النبي ﷺ على ذلك، وما وقع في زمن النبوة وأقره النبي ﷺ فهو حجة، فلو كانت الإشارة غير مشروعة لأنكر النبي ﷺ على عائشة؛ فدل هذا على أن الإشارة باليد أو بالرأس من العالم إذا استفتي، أو المصلي إذا سئل جائزة.
ثم صلى ﷺ بالناس الصلاة المعروفة؛ صلى ركعتين، في كل ركعة ركوعان وسجودان، ثم خطب فحمد الله وأثنى عليه، وقال: مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلاَّ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي حَتَّى الْجَنَّةُ وَالنَّارُ.
وجاء في الحديث الآخر أنه ﷺ رأى الجنة، حتى رأى عنقود تدلى وأراد أن يأخذ منه فتقدم وتقدمت الصفوف، ثم رأى النار فتأخر وتأخرت الصفوف[(306)].
قوله: فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ. يعني: أن الإنسان سوف يُفتن في قبره؛ حيث يأتيه الفتانان: منكر ونكير يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فهذه هي الأصول الثلاثة التي سيُسأل عنها، أما المؤمن فيقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد ﷺ، فيقال له: نم صالحًا قد علمنا إن كنت لمؤمنًا.
وأما الكافر أو المرتاب فيقول: ها ها لا أدري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ، فيُخذل ولو كان أفصح الناس في الدنيا؛ لأن أعماله خبيثة.
قول أسماء: «فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ» يعني: كاد أن يغمى عليها، «فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَى رَأْسِي الْمَاءَ» أي: من شدة الخوف والروع.
وهذا الغشي لم يكن كثيرًا في حياة السلف؛ حيث ذكر شيخ الإسلام[(307)] أن الصحابة كان عندهم ثبات، فتوجل قلوبهم وتدمع أعينهم ولكن لا يغشى عليهم عند تلاوة القرآن، وإنما كثر هذا في التابعين، وفي العباد بالبصرة والكوفة، أما الصحابة فكان هذا قليلاً فيهم؛ لأنهم أقوى وأثبت وأشد تحملاً؛ ولهذا كان لهم الفضل والسبق.
وهذه أسماء صار عندها بعض الغشي، فصبت على نفسها الماء من شدة الخوف، وصلت مع الناس وسمعت كلام الرسول ﷺ ونقلته، فظاهره أنه زال عنها ما وجدت من الغشي.
المتن:
باب تَحْرِيضِ النَّبِيِّ ﷺ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى أَنْ يَحْفَظُوا الإِْيمَانَ وَالْعِلْمَ وَيُخْبِرُوا مَنْ وَرَاءَهُمْ
وَقَالَ: مَالِكُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ قَالَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ فَعَلِّمُوهُمْ.
الشرح:
قوله: ارْجِعُوا إِلَى أَهْلِيكُمْ قاله النبي ﷺ عندما رأى اشتياق مالك بن الحويرث وباقي الوفد إلى أهليهم، فمالك بن الحويرث وأصحابه جاءوا إلى النبي ﷺ شببة متقاربين، ومكثوا عنده قريبًا من عشرين ليلة، فرحمهم النبي ﷺ لما رأى اشتياقهم إلى أهليهم.
وقوله: فَعَلِّمُوهُمْ فيه: التحريض على تبليغ العلم.
المتن:
الشرح:
87 وحديث الباب فيه أيضًا: التحريض والحث على طلب العلم وتبليغه؛ ولهذا حث النبي ﷺ وفد عبد القيس على أن يحفظوا الإيمان والعلم ويبلغوه من وراءهم.
وبنو عبد القيس أسلموا قديمًا، وكان مسكنهم في البحرين بالمنطقة الشرقية في الأحساء، ومسجدهم يقال له: جواثا، ومسجد جواثا ثاني مسجد جمعت فيه الجمعة بعد مسجد النبي ﷺ، فأول جمعة جمعت كانت في مسجد النبي ﷺ، ثم في مسجد بني عبد القيس في جواثا في الأحساء.
قولهم: «وَلاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ» قالوا ذلك؛ لأن العرب كانت تقوم بينهم الحروب في جميع أشهر السنة إلا الأشهر الحرم؛ حيث اصطلحوا على أن يوقفوا فيها القتال، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم؛ ثلاثة متوالية، فجعلوا شهر ذي القعدة للذهاب إلى الحج، وشهر ذي الحجة هو شهر الحج، وشهر محرم للرجوع، وجعلوا شهرًا في وسط السنة وهو رجب الفرد، فاصطلحوا على أن في هذه الأشهر الحرم يأمن كل أحد، فكان الواحد يذهب حتى يجد قاتل أبيه فلا يهيجه، فلما جاء الإسلام أقرهم على ذلك، وما عدا ذلك من الأشهر فإن الحروب تقوم فيها بينهم لأتفه الأسباب؛ ولهذا قالوا: «وَلاَ نَسْتَطِيعُ أَنْ نَأْتِيَكَ إِلاَّ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ» ، أي: إذا وضعت الحرب أوزارها، «فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا نَدْخُلُ بِهِ الْجَنَّةَ، فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ: أَمَرَهُمْ بِالإِْيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ» فهذه واحدة، ثم فسر كيفيته فقال: هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِْيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَتُعْطُوا الْخُمُسَ مِنْ الْمَغْنَمِ، حيث فسر الإيمان بالأعمال، فدل على أن الأعمال داخلة في مسمَّى الإيمان.
وهذا فيه: الرد على المرجئة الذين يقولون: إن الأعمال لا تدخل في مسمى الإيمان، والأدلة في هذا كثيرة؛ فمن أدلة القرآن الكريم قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ [الأنفَال: 2-4] فجعلهم مؤمنين بهذه الأعمال، وفي الحديث الصحيح يقول النبي ﷺ: الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ - أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ - شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ [(308)] أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان.
وفي تسمية النبي ﷺ لأركان الإسلام إيمانا أنه إذا أطلق الإيمان دخل فيه الإسلام، وإذا أطلق الإسلام دخل فيه الإيمان، وإذا اجتمع الإسلام والإيمان فُسِّر الإسلام بالأعمال الظاهرة، وفُسِّر الإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث جبريل عليه السلام[(309)].
فالنبي ﷺ أمرهم بأربع: بالإيمان بالله وحده، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وفي لفظ: اعْبُدُوا اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا [(310)]، ففسر الشهادتين بالعبادة ونفي الشرك، مما يدل على أن المراد من الشهادتين ليس النطق فقط، بل المعنى والالتزام.
قال: «وَنَهَاهُمْ عَنْ: الدُّبَّاءِ، وَالْحَنْتَمِ، وَالْمُزَفَّتِ؛ قَالَ: شُعْبَةُ رُبَّمَا قَالَ: النَّقِيرِ وَرُبَّمَا قَالَ: الْمُقَيَّرِ» ، والمعنى: لا تنبذوا في هذه الأشياء الأربعة.
والدُّبَّاء هو: القرع الذي يؤخذ اللب منه ثم يجعل فيه النبيذ، والنبيذ: عصير التمر، أو العنب، أو الذرة، أو الشعير، أو غيرها، فإذا وضعوا فيه الماء سُمي مريسًا باللهجة العامية، وهو يُشرب اليومين والثلاثة، لكنه في الغالب يتخمر في اليوم الثالث مع شدة الحر.
والحَنْتم: جرار خضر من الطين المطبوخ ـ الفخار ـ مثل طين الأزيار المعروفة.
والمزفَّت هو: المطلي بالزفت وهو القار.
والنَّقير هو: الجذع ينقرونه ويصبون فيه الأشربة.
وهذه الأوعية الصلبة إذا وضعت فيها هذه الأشربة تخمرت دون أن يشعر الإنسان بها، فتكون نجسة مسكرة، فربما شرب منها الإنسان بعد تخمرها فسكر؛ فنهاهم النبي ﷺ عن أن ينتبذوا في هذه الأشياء الصلبة، وأمرهم أن ينتبذوا في الأسقية وفي الجلود؛ لأن الأسقية إذا وضع فيها النبيذ وتخمر تشققت، أما هذه الأشياء الصلبة فتتخمر فيها الأشربة ولا يشعر الإنسان بها، وهذا كان في القديم؛ لأن وفد بني عبد القيس جاءوا إلى النبي ﷺ في أول الهجرة، ثم بعد ذلك رخَّص النبي ﷺ في الانتباذ في كل وعاء، كما في حديث بريدة: كنت نَهَيْتُكُمْ عَنِ النَّبِيذِ إِلَّا فِي سِقَاءٍ، فَاشْرَبُوا فِي الْأَسْقِيَةِ كُلِّهَا، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا [(311)]، فلما استقرت الشريعة وعرف الناس الحكم الشرعي رخص لهم النبي ﷺ أن ينتبذوا في كل شيء مع ملاحظة الإسكار، فيلاحظون الأشربة ويتأملونها حتى لا تتخمر فتسكر من يشربها دون أن يشعر.
والشاهد: أن النبي ﷺ حرَّض وفد بني عبد القيس على حفظ الإيمان والعلم، ثم تبليغه من وراءهم.
المتن:
باب الرِّحْلَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ النَّازِلَةِ وَتَعْلِيمِ أَهْلِهِ
88 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَبُو الْحَسَنِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةً لأَِبِي إِهَابِ بْنِ عَزِيزٍ، فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ، وَالَّتِي تَزَوَّجَ. فَقَالَ لَهَا: عُقْبَةُ مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي، وَلاَ أَخْبَرْتِنِي، فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ فَفَارَقَهَا عُقْبَةُ وَنَكَحَتْ زَوْجًا غَيْرَهُ.
الشرح:
88 حديث الباب فيه: الرحلة في طلب العلم؛ لأن عقبة بن الحارث رحل من مكة إلى النبي ﷺ في المدينة ليسأله في هذه المسألة؛ فدل على استحباب ومشروعية الرحلة في طلب العلم، وكذلك رحل نبي الله موسى ـ وهو كليم الله ـ إلى الخضر، وركب البحر ليتعلم العلم، فالرحلة في طلب العلم سنة مستحبة.
فعقبة بن الحارث تزوج امرأة وهي بنت لأبي إهاب بن عزيز، فجاءت امرأة فقالت: «إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُ عُقْبَةَ، وَالَّتِي تَزَوَّجَ»، وفي لفظ: «جاءت امرأة سوداء فقالت لعقبة: قد أرضعتكما، قد أرضعتك وزوجك من ثديي» [(312)] فقال عقبة: «مَا أَعْلَمُ أَنَّكِ أَرْضَعْتِنِي، وَلاَ أَخْبَرْتِنِي، فَرَكِبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بِالْمَدِينَةِ فَسَأَلَهُ» ، فقال النبي ﷺ: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟، وأمره أن يفارقها.
ومن المعلوم أن الرضاع لا يحرم إلا إذا كان في الحولين، وكان خمس رضعات، كما في حديث عائشة: «كان فيما أنزل عشر رضعات معلومات يحرمن، فنسخن بخمس معلومات يحرمن، فتوفي رسول الله ﷺ والأمر على ذلك» [(313)].
وحديث عقبة حديث مجمل لم يذكر فيه تفاصيل الرضاع؛ ولذا فالعمدة على الأحاديث الأخرى.
قوله: كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ؟ يعني: أن هذا فيه شبهة؛ فـ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ، وهذا على الإجمال، أما الأحاديث الصحيحة فدلت على أن الإنسان لا يجب عليه أن يفارق زوجته حتى يثبت الرضاع بخمس رضعات، فهذا حديث مجمل يفسر بالأحاديث الصحيحة الأخرى.
والرضاع يؤثر في الرضيع نفسه وفي أولاده، ويؤثر في المرضعة نفسها وفي أولادها وآبائها وأجدادها وإخوتها، ويؤثر في الزوج الذي له اللبن، فإذا أرضعت امرأة شخصًا خمس رضعات صارت أُمًّا له من الرضاع، وصار ابنًا لها، وصار جميع أولادها من الذكور والإناث إخوة له، سواء من الزوج الذي له اللبن أو من زوج سابق أو من زوج لاحق، وصار إخوتها أخواله من الرضاع وأبوها جده من الرضاع وأمها جدته من الرضاع، وصار زوجها الذي له اللبن أبوه من الرضاع وأولاده من الأم المرضعة إخوة أشقاء من الرضاع، وإذا كان له أولاد من زوجة أخرى يكونون إخوة من الرضاع من الأب، ويصير أبو الزوج الذي له اللبن جده من الرضاع، وإخوته أعمامه من الرضاع.
أما إخوة الرضيع وأمه وأبوه من النسب فليس لهم علاقة؛ فيجوز لأخيه من النسب أن يتزوج أخته من الرضاع؛ ولهذا من الألغاز الفقهية أن يقال: شخص زوج أخته أخاه كيف ذلك؟
والمعنى أن الشخص زوج أخته من الرضاع أخاه من النسب؛ فزواج أخيه من النسب بأخته من الرضاع لا بأس به.
المتن:
باب التَّنَاوُبِ فِي الْعِلْمِ
89 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ ح قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنْ الأَْنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، فَنَزَلَ صَاحِبِي الأَْنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا فَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟ فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ أَمْرٌ عَظِيمٌ. قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ: طَلَّقَكُنَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَتْ: لاَ أَدْرِي، ثُمَّ دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقُلْتُ: وَأَنَا قَائِمٌ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ قَالَ: لاَ فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ.
الشرح:
89 حديث الباب فيه: التناوب في طلب العلم، فإذا كان طالب العلم لا يتمكَّن من الحضور في كل يوم فليرتب مع زميل له أن يتناوبا في الطلب، فيحضر هو يومًا ويبلغ زميله ما استفاده من العلم، وفي اليوم الثاني يحضر زميله ويبلغه ما استفاد وهكذا؛ حتى لا يضيع عليه الدرس ولا يفوته العلم.
وكان عمر وجاره الأنصاري يسكنان عوالي المدينة، مما يعني أنهما بعيدان عن مسجد النبي ﷺ؛ فكان عمر ينزل يومًا يحضر ويصلي مع النبي ﷺ ويسمع الوحي ويستفيد من النبي ﷺ، فإذا ذهب إلى جاره الأنصاري أبلغه خبر ذلك اليوم من الوحي والعلم، وفي اليوم الثاني ينزل جاره الأنصاري فيسمع الوحي والعلم ثم يبلغ عمر، وبذلك لا يفوتهما العلم.
وهذا الحديث اختصره المؤلف رحمه الله، وقد ساقه مطولاً في موضع آخر، وفيه أن جار عمر الأنصاري كانت النوبة له، فلما جاء طرق باب عمر وضربه ضربًا شديدًا ـ كناية عن شدة الأمر ـ ففزع عمر وخرج فقال: ما لك؟ قال: حدث أمر؛ فقال عمر: أجاء الغساني؟ يقول: وكنا نتخوف غسان، ونتحدث أنها تنعل الخيل حتى يغزوا المسلمين، وكانت الجيوش إذا أرادت الغزو ينعلون الخيل؛ أي: يجعلون لها نعالاً خاصة؛ حتى تكون قوية، وتحميها تلك النعال من حصى الأرض.
فلما ضرب الأنصاري باب عمر قال له: ما لك؟ قال: حدث أمر، قال: أجاء الغساني؟ قال: لا، بل أمر أهم، قال: ما حدث؟ قال: الناس يتحدثون أن رسول الله ﷺ طلق نساءه، وكان عمر قد نصح ابنته حفصة في شأنها مع النبي ﷺ؛ حيث روي أن زوجة عمر راجعته في شيء فأنكر عليها، فقالت: أتنكر أن أراجعك والواحدة من نساء النبي ﷺ تهجره إلى الليل؟! قال: فذهبت وسألت حفصة وقلت: أتهجر الواحدة منكن النبي ﷺ؟ قالت: نعم، قلت: لا تفعلي؛ أفتأمنين أن يغضب الله لغضب رسوله فتهلكين؟! أو كما قال [(314)].