ومن حدث عن النبي ﷺ وهو يرى أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبَين، كما في الحديث الآخر: مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بِحَدِيثٍ وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ، فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذِبَيْنِ [(354)]، فلا يجوز للمسلم أن يحدث بالحديث الذي يغلب على ظنه أنه كذب، إلا على وجه البيان، أما إذا حدث به وهو يعلم أو يغلب على ظنه أنه كذب؛ فهو أحد الكاذبين؛ نسأل الله العافية.
المتن:
الشرح:
108 هذا فيه أيضًا: التوقي والحذر؛ فالصحابة يتوقون ويحذرون من الإكثار من الحديث عن رسول الله ﷺ؛ خشية الوقوع في الكذب على النبي ﷺ، فلا ينبغي للمؤمن أن يحدث بالأحاديث الضعيفة إلا على وجه البيان؛ وإذا رواها يرويها بصيغة التمريض؛ فيقول: يُروى أو يُذكر عن النبي ﷺ، ولا يجزم فيقول: قال رسول الله ﷺ.
والأحاديث الضعيفة لا يثبت بها حكم شرعي، لكن إذا كثرت طرقها قد يقوي بعضها بعضًا، فتدل على أن للحديث أصلاً، وتكون من باب الحسن لغيره؛ فأحاديث التسمية في الوضوء كثيرة، لكن كلها فيها ضعف؛ ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أن التسمية عند الوضوء مستحبة، فقد قالوا: ليس فيها حديث صحيح، فكلها أحاديث ضعيفة، لكنها كثيرة يشد بعضها بعضًا؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد رحمه الله[(355)] إلى أنها واجبة مع التذكر.
المتن:
الشرح:
109 هذا الحديث هو أول ثلاثيات البخاري رحمه الله؛ وهي الأحاديث التي يرويها البخاري، ويكون بينه وبين النبي ﷺ ثلاثة رواة؛ شيخ البخاري ثم التابعي ثم الصحابي؛ فشيخ البخاري هنا مكي بن إبراهيم، والتابعي يزيد بن أبي عبيد، والصحابي سلمة بن الأكوع، والثلاثيات في صحيح البخاري تقرب من أربعة وعشرين، أو ستة وعشرين حديثًا.
قوله: فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، يفيد الوعيد الشديد عند أهل العلم، ولفظ: مَقْعَدَهُ هنا على الحقيقة؛ وهو المنزل الكامل من النار؛ وهذا من جنس الوعيد على الزاني، والسارق، وشارب الخمر، فكلهم متوعدون بالنار؛ وصاحب الكبيرة تحت مشيئة الله؛ إن شاء الله غفر له، وإن شاء عذبه.
المتن:
الشرح:
110 هذا آخر أحاديث الباب.
وقد اشتمل على ثلاثة أحكام:
الحكم الأول: قوله ﷺ: تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي؛ اسمه ﷺ محمد، وكنيته أبو القاسم؛ والصحيح أنه لا ينبغي أن يتكنى أحد بكنيته في حياته ﷺ؛ وذلك أنه لما نادى أعرابي فقال: يا أبا القاسم، التفت إليه النبي ﷺ، فقال: إني لم أعنك، فقال النبي ﷺ: تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي؛ أما بعد وفاته ﷺ فإنه يزول المحذور؛ ولهذا فهناك الكثير ممن تكنى بأبي القاسم.
والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم؛ فمن العلماء من يرى أن هذا ممنوع دائمًا، ولكن الصواب أن هذه كنية خاصة به ﷺ لا يتكنى بها أحد في حياته ﷺ؛ لئلا يشتبه بالنبي ﷺ؛ أما بعد وفاته فلا بأس؛ لأن أصحابه ومن بعدهم من التابعين كان فيهم من تكنى بأبي القاسم.
الحكم الثاني: قوله ﷺ: وَمَنْ رَآنِي فِي الْمَنَامِ فَقَدْ رَآنِي، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَتَمَثَّلُ فِي صُورَتِي، وفيه: أن الشيطان لا يتمثل بالنبي ﷺ؛ وأن من رأى النبي ﷺ في المنام فإن رؤيته حق، ولكن هذا عند أهل العلم لمن رآه على صورته الحقيقية التي جاءت في الأحاديث، والتي منها أنه ربعة من الرجال، ليس بالطويل ولا بالقصير، وأنه أبيض مشرب بحمرة، وأنه كث اللحية؛ فهذه صورته ﷺ، ومن رآه على صورته الحقيقية فقد رآه؛ فإن الشيطان لا يتمثل به؛ أما من رأى النبي ﷺ على غير صورته التي جاءت في الأحاديث؛ فرآه مثلاً قصيرًا، أو رآه أسود، أو رآه ليس له لحية؛ فهذا ليس الرسول ﷺ، وقد يتمثل الشيطان بهذه الصورة، لأنه ليس هو.
ورؤية النبي ﷺ في المنام قد تفيد الإنسان وقد لا تفيده؛ فإن استقام على طاعة الله فإنها تفيده، وإن لم يستقم على طاعة الله فإنها لا تفيده؛ فإن اليهود والنصارى في حياتهم رأوا النبي ﷺ، ولم تفدهم هذه الرؤية، وكذلك المنافقون، والمشركون، وغيرهم، رأوا النبي ﷺ ولم ينتفعوا بها؛ لأن الله لم يرد هدايتهم، فما ازدادوا بها إلا بعداً من الله؛ لأنهم لم يؤمنوا به ﷺ، فكذلك من رأى النبي ﷺ في المنام ولم يستقم على طاعته لا تفيده هذه الرؤية.
الحكم الثالث: قوله ﷺ: وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ، وهذا فيه: الوعيد الشديد لمن كذب على النبي ﷺ.
المتن:
باب كِتَابَةِ الْعِلْمِ
111 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ:أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مُطَرِّفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ، قَالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: الْعَقْلُ، وَفَكَاكُ الأَْسِيرِ، وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ.
الشرح:
111 في الحديث: الرد على الشيعة الذين يقولون: إن أهل البيت اختصوا بشيء دون الناس؛ ولهذا لما سئل علي: «هَلْ عِنْدَكُمْ كِتَابٌ؟» يعني: أهل البيت، قال: «لاَ» ، ليس عندنا شيء خاص بنا، «إِلاَّ كِتَابُ اللَّهِ أَوْ فَهْمٌ أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ أَوْ مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ» ، فنظروا في الصحيفة فإذا فيها «الْعَقْلُ» يعني: الدية التي تتحملها العاقلة؛ فحينما يقتل الإنسان خطأ تكون الدية على العاقلة؛ وهم أقاربه: آباؤه وأبناؤه وإخوته وأعمامه؛ «وَفَكَاكُ الأَْسِيرِ» ، يعني: أن الأسير يُفَك أسره، «وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» ، أي: أن عليًّا يقول: ما عندنا شيء غير هذا، وما عندنا شيء يخصنا دون غيرنا.
وفي اللفظ الآخر أنه لما سئل عليٌّ حلف فقال: «لا والذي فلق الحبة وبرأ النسَمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة» [(356)]، لكن الشيعة والرافضة بالخصوص قوم لا يعقلون، فقد أبوا إلا أن يتقولوا على أهل البيت، ويقولون: إن النبي ﷺ خصهم بأشياء، وإن عندهم علومًا ومعارف خاصة بهم، فهذا أفضل أهل البيت علي يقول هذا الكلام: والذي فلق الحبة وبرأ النسَمة، ليس عندنا شيء إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، يعني كأن يفتح الله على إنسان فهمًا في كتاب الله فيستنبط الأحكام والمعاني، ثم يقول: وما في هذه الصحيفة، وهي التي وجد فيها العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر.
والشاهد من الحديث: أنه يدل على كتابة العلم؛ فهذه الصحيفة فيها كتابة، وأما ما جاء عن النبي ﷺ في أول الأمر أنه قال: لَا تَكْتُبُوا عَنِّي شَيْئًا إِلَّا الْقُرْآنَ، مَنْ كَتَبَ عَنِّي شَيْئًا سِوَى الْقُرْآنِ فَلْيَمْحُهُ [(357)]. فهذا في أول الأمر خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، ثم بعد ذلك أذن ﷺ في الكتابة.
وكان الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ عندهم قوة في الحفظ، وحضور في الأذهان، ولكن لما ضعف الحفظ بعد ذلك احتاج الناس إلى الكتابة، فأمر عمر بن عبد العزيز رحمه الله على رأس المائة محمد بن شهاب الزهري أن يكتب الحديث؛ ثم تتابع العلماء في كتابة الحديث، ولو لم يكتب لضاع العلم، وهذا من فضل الله تعالى وإحسانه إلى عباده؛ فهذا فيه دليل على مشروعية كتابة العلم؛ ولهذا كتب عليٌّ هذه الصحيفة.
وكذلك أذن النبي ﷺ للرجل لما قال: اكتبوا لي هذه الخطبة، كما سيأتي، فكتبوا له؛ كما أذن أيضًا لعبدالله بن عمرو بن العاص في كتابته[(358)]؛ وكان يكتب الحديث عن رسول الله ﷺ؛ فهذا كله يدل على جواز كتابة الحديث.
وما جاء من النهي فهو محمول على أن هذا كان في أول الأمر؛ خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه، أو محمول على الكتابة مع القرآن في صحيفة واحدة؛ فلا يكتب مع القرآن شيء، بينما يكتب في غير الصحيفة التي فيها القرآن.
قوله: «وَلاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» أي: لا يقتص من المسلم إذا قتل كافرًا، وأما قتل المؤمن بالذمي ففيه خلاف، فالأحناف[(359)] يرون أنه يقتل به، والصواب أنه لا يقتل بالكافر ولا بالذمي[(360)]، لكن لا يجوز قتل الذمي تعمدًا؛ لأن عليه الوعيد: مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ [(361)]، والخطأ فيه: الدية والكفارة؛ لأن الله تعالى قال: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [النِّسَاء: 92]، فإذا قتل ذميًّا أو معاهدًا، أعطى الدية إلى أهله؛ وعليه الكفارة.
وإذا قتل رجلاً مسلمًا ليس بين قومه وبين المسلمين عهد، فليس عليه إلا الرقبة بغير دية؛ لأن قومه محاربون ليس بيننا وبينهم إلا الحرب؛ أما إذا كان بيننا وبينهم عهد فهذا فيه الدية والكفارة.
المتن:
112 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا رَجُلاً مِنْ بَنِي لَيْثٍ عَامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ مِنْهُمْ قَتَلُوهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ أَوْ الْفِيلَ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: كَذَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: وَاجْعَلُوهُ عَلَى الشَّكِّ الْفِيلَ أَوْ الْقَتْلَ وَغَيْرُهُ يَقُولُ: الْفِيلَ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ، أَلاَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لأَِحَدٍ قَبْلِي وَلَمْ تَحِلَّ لأَِحَدٍ بَعْدِي أَلاَ وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أَلاَ وَإِنَّهَا سَاعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا وَلاَ تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اكْتُبُوا لأَِبِي فُلاَنٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا، وَقُبُورِنَا؛ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ إِلاَّ الإِْذْخِرَ.
قَالَ أَبُو عَبْداللَّهِ: يُقَالُ يُقَادُ بِالْقَافِ فَقِيلَ لأَِبِي عَبْدِ اللَّهِ: أَيُّ شَيْءٍ كَتَبَ لَهُ؟ قَالَ: كَتَبَ لَهُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ.
الشرح:
112 الشاهد من هذا الحديث قوله: «فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: اكْتُبُوا لأَِبِي فُلاَنٍ؛ ففي كتابة هذه الخطبة له، دليل على جواز كتابة العلم؛ ولهذا لما جاء هذا الرجل، وهو: أبو شاه، فأعجبته هذه الخطبة قال: «اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّه» ، يعني: اكتب لي هذه الخطبة؛ فقال النبي ﷺ: اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ [(362)]؛ فدل على جواز الكتابة، وأن النهي عن الكتابة أولاً منسوخ .
وهذا الحديث سببه أن خزاعة قتلوا رجلاً بقتيل لهم في الجاهلية، فخطب النبي ﷺ الناسَ يبين لهم حرمة مكة، وأنه لا يجوز فيها القتل؛ فقال: إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْقَتْلَ أَوْ الْفِيلَ، يعني: لما جاء أبرهة لهدم الكعبة حبسه الله، ولما وجه الفيل إلى مكة امتنع، وإذا وجهه إلى الجهة الأخرى مشى، ثم بعد ذلك جاءتهم العقوبة، فقد أرسل الله عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل؛ وكان هذا في العام الذي ولد فيه النبي ﷺ، وهو عام الفيل.
وقوله: وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَالْمُؤْمِنِينَ؛ يعني: في فتح مكة، فأباحها الله لهم، وَإِنَّهَا حَلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ أي: جزءًا من النهار، من طلوع الشمس أو ارتفاعها إلى ما بعد العصر؛ وهذه تسمى ساعة في اللغة العربية؛ وهي الجزء من الزمن يطول أو يقصر؛ فأحلت مكة للنبي ﷺ يوم الفتح، وسلط الله عليها رسوله والمؤمنين، وأباح لهم فيها القتال حتى تفتح؛ لأن المشركين كانوا يستولون على مكة، ولما وبشت قريش بعض الأوباش قال النبي ﷺ لأبي هريرة: من وجدتموه فاحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تُوَافُونِي بِالصَّفَا [(363)]؛ فأحلت للنبي ﷺ ساعة يوم الفتح، ثم عادت حرمتها كما كانت، كما قال النبي ﷺ: ثُمَّ عَادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأَمْسِ [(364)]؛ وقال: فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ﷺ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ [(365)]؛ أي: أن هذا خاص بالنبي ﷺ لأجل فتح مكة، فلا يجوز لأحد أن يقتل فيها؛ وكانوا في الجاهلية يأمنون فيها؛ حتى إن الرجل ليجد قاتل أبيه فلا يهيجه في الحرم، فمكة لا يقتل فيها قتيل.
لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، أي: لا يقطع، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلاَّ لِمُنْشِدٍ، وفي لفظ: وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا [(366)]؛ فهذه ثلاثة أحكام: لا يعضد الشجر الأخضر، والشوك الأخضر كذلك لا يقطع، ولا تلتقط اللقطة إلا لمعرف مدى الدهر، بخلاف غيرها من البقاع؛ فاللقطة في غير مكة تلتقط وتعرف سنة، ثم تدخل في ملك المعرف إذا لم يأت صاحبها، أما مكة فلا يلتقطها أحد إلا أن يعرفها مدى الدهر؛ فهذه من خصائص مكة.
وفي الحديث الآخر: وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا [(367)]، قال العلماء: معنى ذلك أنه ليس لك أن تنفر الصيد عن الظل ثم تجلس مكانه، فإذا كان الشجر لا يعضد، والشوك لا يقطع، والصيد لا ينفر؛ فالمسلم أعظم وأعظم، فالشجر والصيد والوحوش تأمن في مكة، وكذلك المسلم من باب أولى.
ولهذا لا يجوز القتل ولا القتال فيها، ولا تهييج المسلم، ولا ترويعه، كما في قصة عبدالله بن عمر لما جاء بعض جنود الحجاج، فصلى بجواره وحكه بالسلاح حتى أصيب؛ فجاء الحجاج يعوده، فقال: لو نعلم يا أبا عبدالرحمن من فعل هذا لأدبناه، قال: أنت الذي فعلت، وأنت الذي حملت السلاح في مكان لا يحمل فيه السلاح إلا للحاجة والضرورة. فالأصل المنع إلا إذا كان هناك أشرار وأعداء يُخشى على الحُجاج منهم، أو أشباه ذلك؛ فهذه ضرورة؛ ولهذا قال النبي ﷺ: فَمَنْ قُتِلَ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ؛ إِمَّا أَنْ يُعْقَلَ، وَإِمَّا أَنْ يُقَادَ.
قوله: «فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّا نَجْعَلُهُ فِي بُيُوتِنَا، وَقُبُورِنَا» ؛ جاء في رواية أخرى أن هذا الرجل هو العباس بن عبد المطلب، فقال: «إلا الإذخر يا رسول الله؛ فإنه لقبورنا وبيوتنا» [(368)]؛ وفي لفظ: «فإنه لقينهم وبيوتهم» [(369)]، والقين: أي الصائغ، والحداد؛ فإنه يشعل عليه النار، فقال النبي ﷺ: إِلاَّ الإِْذْخِرَ، وهذا وحي من الله في الحال استثنى به الإذخر للحاجة، والإذخر: نبت طيب دقيق يشبه السمر، يوضع في سقوف الأسطح في الخلل الذي بين الخشب، ثم يكون فوقه الطين، وهنا بدل الإذخر يضعون خوص النخل بين الخشب، وكذلك في القبور إذا وضعت اللبنات على الميت يبقى هناك خلل، فيوضع الإذخر في هذا الخلل.
قوله: «فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لِي يَا رَسُولَ اللَّه» ، واسمه: أبو شاه؛ كما جاء صريحًا في رواية أخرى، فقال النبي ﷺ: اكْتُبُوا لِأَبِي شَاهٍ [(370)]، وهذا هو الشاهد من الحديث، أن يكتبوا له هذه الخطبة.
وقوله: لاَ يُخْتَلَى شَوْكُهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا؛ يستثنى منه الشجر المؤذي، فإنه يزال، وكذلك الشجر الذي ينبته الإنسان، فإن له أن يأخذه، وكذلك الفواسق تقتل كما في الحديث: خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ:الْحِدَأَةُ، وَالْعَقْرَبُ، وَالْفَأْرَةُ، الْغُرَابُ، والْحَيَّةُ [(371)]، وفي لفظ آخر: وَالسَّبُعُ الْعَادِي [(372)]؛ فهذه تقتل لما فيها من الأذى؛ وكذلك الشجر، أو الشوك الذي يؤذي يزال.
المتن:
113 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: أَخْبَرَنِي وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ عَنْ أَخِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ.
تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
الشرح:
113 في حديث عبدالله بن عمرو وأبا هريرة رضي الله عنهما كانا من المكثرين من الحديث عن النبي ﷺ، وفيه: أن عبدالله بن عمرو كان يكتب، وأن أبا هريرة لم يكن يكتب، فيقول أبو هريرة: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ أَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو» ، وميزته عليَّ أنه «كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ» .
لكن مع ذلك فحديث أبي هريرة أكثر؛ فهو أكثر الصحابة حديثا عن النبي ﷺ؛ لأنه حفظ ما لم يحفظه غيره؛ وكما سيأتي أن النبي ﷺ قال في بعض المرات: من يبسط شيئا ثم يضمه فإنه لا ينسى، فبسط أبو هريرة ثوبًا معه ثم ضمه فما نسي شيئا بعدها» [(373)]؛ فأبو هريرة أكثر الصحابة حديثًا، وكان يدرس الحديث في الليل؛ ولذلك لا يتمكن من القيام في آخر الليل؛ ولهذا أوصاه النبي ﷺ أن يوتر قبل أن ينام وأرضاه.
والشاهد من هذا الحديث: أن عبدالله بن عمرو كان يكتب الحديث.
وفيه: دليل على جواز كتابة العلم.
المتن
114 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا اشْتَدَّ بِالنَّبِيِّ ﷺ وَجَعُهُ قَالَ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ. قَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ غَلَبَهُ الْوَجَعُ وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا فَاخْتَلَفُوا، وَكَثُرَ اللَّغَطُ، قَالَ: قُومُوا عَنِّي وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ فَخَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ كِتَابِهِ.
الشرح:
114 هذا آخر أحاديث الباب، ويرويه ابن عباس، ولم يكن حضر هذه القصة ـ وإن كان ظاهر الحديث أنه حضرها ـ لكنه لما حدث بهذا الحديث قال هذا الكلام، وفيه: أن النبي ﷺ لما كان في مرض موته قال: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لاَ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، فاختلف الصحابة؛ فقال بعضهم: نأتي بكتاب، وقال عمر: إن رسول الله غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله، فلما كثر اللغط قال النبي ﷺ: قُومُوا عَنِّي وَلاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُعُ؛ فقول النبي ﷺ: ائْتُونِي بِكِتَابٍ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا، فيه: دليل على جواز كتابة العلم؛ فالنبي ﷺ أمر بإحضار الكتاب حتى يكتب لهم؛ وما جاء من النهي عن الكتابة إنما كان في أول الأمر.
وقول ابن عباس: «إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ كِتَابِهِ» ، أي: المصيبة كل المصيبة؛ هكذا يرى ابن عباس أن هذه مصيبة، ولكن الدين قد كمل والحمد لله، ولو أراد الله أن يكتب نبيه ﷺ كتابًا لكتب، لكن الله تعالى أكمل له الدين كما قال الله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً [المَائدة: 3].
قال ابن مسعود : من أراد أن ينظر إلى وصية محمد ﷺ التي عليها خاتمه فلم تغير ولم تبدل؛ فليقرأ قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أْحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعَام: 151-153] والمعنى: أن النبي ﷺ لو أوصى لأوصى بما أوصى الله به، والله تعالى أوصى بهذه الوصايا العشر؛ فالنبي ﷺ لو كتب لكتب هذه الوصايا، والدين مكتمل والحمد لله.
أما قول ابن عباس: «إِنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ» ، فهذا من اجتهاده؛ حيث يقول: إن المصيبة كل المصيبة ما حال بين رسول الله وبين كتابه؛ فاعتبر ابن عباس هذا مصيبة، ولكن عمر كان أفقه منه، فقال: «وَعِنْدَنَا كِتَابُ اللَّهِ حَسْبُنَا» ، فالرسول ﷺ غلبه الوجع فلا نشق عليه ﷺ، فحسبنا كتاب الله يكفينا.
المتن:
باب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ
115 حَدَّثَنَا صَدَقَةُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ وَعَمْرٍو وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ هِنْدٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: اسْتَيْقَظَ النَّبِيُّ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتَنِ؟! وَمَاذَا فُتِحَ مِنْ الْخَزَائِنِ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآْخِرَةِ.
الشرح:
115 استدل المؤلف رحمه الله بهذا الحديث على جواز السمر في العلم والعظة بالليل؛ لأن النبي ﷺ استيقظ من الليل وقال هذا الكلام الذي هو علم؛ فدل على أنه لا بأس بالعلم والعظة في الليل إذا لم يؤد هذا إلى تأخر عن صلاة الفجر، أو التقصير في ورده من قيام الليل؛ ولهذا بوب الإمام البخاري فقال: «بَاب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ» ، فالنبي ﷺ استيقظ من نومه ووعظ الناس بهذا العلم في الليل، فقال: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتَنِ؟! وَمَاذَا فُتِحَ مِنْ الْخَزَائِنِ؟ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ، فَرُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآْخِرَةِ.
قوله: سُبْحَانَ اللَّه فيه: تنزيه لله تعالى عما لا يليق به، وفي لفظ آخر أن النبي ﷺ استيقظ مرة فزعًا فقال: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ، وَمأْجُوجَ مِثْلُ هَذَا وحلق بين أصبعه الوسطى والسبابة» [(374)] وهنا يقول: سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنْ الْفِتَنِ؟!، يعني: فتن الشبهات والشهوات وفتن الدنيا، وما أنزل من خزائن الدنيا والأموال التي جاءت من فارس والروم.
قوله: أَيْقِظُوا صَوَاحِبَاتِ الْحُجَرِ، يعني: زوجاته ﷺ؛ لأنهن أقرب الناس إليه، وهن أولى بالموعظة.
قوله: كَاسِيَةٍ أي: مترفة منعّمة.
قوله: عَارِيَةٍ فِي الآْخِرَةِ، يعني: أنها وإن نُعِّمت في الدنيا وأترفت، إلا أنها سوف تُعرَّى في الآخرة بما أصابها من الخسران؛ بسبب ترفها الذي حملها على معصية الله والتقصير في طاعته، والرجال أيضا كذلك، لكنه خص النساء؛ لأن النساء أسرع إلى المعاصي من غيرهن، وهن أكثر أهل النار [(375)] كما في الحديث الآخر.
وقد استدل المؤلف رحمه الله بهذا الحديث على العلم والعظة بالليل؛ لأن النبي ﷺ قال هذا بعدما استيقظ، وهو علم وعظة؛ فلا بأس بأن يعقد المسلم الجلسة بعد العشاء الآخرة إذا لم يؤد هذا إلى التأخير عن صلاة الفجر، وهذا مستثنًى من كراهيته ﷺ النوم قبلها والحديث بعدها[(376)]، أي: العشاء، فإنه يستثنى من ذلك السمر في العلم، وفي مصالح المسلمين، والسمر مع الضيف، ومع الأهل.
المتن:
باب السَّمَرِ فِي الْعِلْمِ
116 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ خَالِدِ بْنِ مُسَافِرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ ﷺ الْعِشَاءَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَلَمَّا سَلَّمَ قَامَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ.
الشرح:
هذه الترجمة أخص من الترجمة السابقة؛ لأن السمر بالعلم هو كون الإنسان يسمر بعد العشاء بالعلم قبل أن ينام، أما الترجمة السابقة فهي أعم منها؛ حيث قال: «بَاب الْعِلْمِ وَالْعِظَةِ بِاللَّيْلِ» ، وهذا عام يشمل ما يكون قبل النوم وبعد النوم؛ لأن النبي ﷺ ـ كما في الحديث السابق ـ استيقظ من نومه وتكلم بالعلم والعظة بالليل، وأما السمر فهو خاص بما يكون قبل النوم، سواء كان مع أهله أو مع الضيف، أو في العلم، أو في أمور المسلمين.
116 في الحديث: أن النبي ﷺ لما صلى العشاء خطب الناس، وأخبرهم بما جاء في هذا الحديث، فهو من السمر في العلم؛ حيث إن النبي ﷺ حدثهم بعد صلاة العشاء.
قال النبي ﷺ لأصحابه وكان ذلك في نهاية حياته: أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ، والمعنى: أن مائة سنة تخرم ذلك القرن فلا يبقى منه أحد، أي أن هذا الجيل الموجود في ذلك الوقت سيزول ويأتي جيل آخر، فكل من كان موجودًا في ذلك الوقت عند مقالة النبي ﷺ سيموت، ويبقى غيرهم في الأرض من أولادهم وغيرهم.
وقد استدل بهذا الحديث على موت الخضر، فلو كان حيًّا في أيام النبي ﷺ لمات؛ لأن النبي ﷺ قال: لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ؛ ففيه: الرد على من قال: إن الخضر حي؛ لأن النبي ﷺ قال: إن مائة سنة تخرم ذلك القرن، فتشمل الخضر لو كان حيا، فلا يتجاوز بعمره رأس مائة سنة منذ تلك الليلة التي أخبر فيها النبي ﷺ بذلك.
وأيضا لو كان حيًّا لجاء إلى النبي ﷺ وآمن به؛ لأنه نبي أو رجل صالح، ولا يمكن أن يكون رجلاً صالحاً أو نبيًا ولا يأتي فيؤمن بالنبي ﷺ؛ فالصواب أنه مات قبل ذلك بأزمان.
ويجري هذا أيضًا على حديث الجساسة المعروف، وهو حديث تميم الداري لما جاء إلى النبي ﷺ وأخبره أنه ركب سفينة، وأن الموج لعب بهم شهراً، ثم أوصلهم إلى جزيرة من جزر البحر التي وجدوا فيها الجساسة؛ وهي دابة أهلب ـ يعني كثيرة الشعر غليظته ـ لا يدرى ما قبله من دبره؛ فخافوا منها، وقالت: ائتوا إلى ذلك الرجل في الدير، فجاءوا فوجدوا رجلاً عظيماً قد شدت يداه إلى عنقه ـ كما في الحديث ـ فسألهم عن النبي ﷺ أسئلة كثيرة، وقال: إنه هو الدجال، وإنه سيخرج[(377)]، وهذا ثابت في «صحيح مسلم» برواية الشعبي، عن فاطمة بنت قيس.
وبعض الناس يقول: إنه من أفراد مسلم، والصواب أنه حديث صحيح ولا مطعن فيه، ولم ينفرد به مسلم، بل رواه أبو داود وغيره، والطعن في الأحاديث الصحيحة بغير دليل لا وجه له، فلا بد من الجمع بينه وبين هذا الحديث الصحيح الذي فيه أن مائة سنة تخرم ذلك القرن، وحديث الدجال فيه أن الدجال مقيد وأنه لا يموت؛ لأنه يخرج في آخر الزمان.
والجمع بينهما أن يقال: إن حديث الدجال خاص، وحديث المائة سنة عام، والقاعدة عند أهل العلم أن العام يخصص بالخاص؛ فيكون مستثنًى، أي أن مائة سنة تخرم ذلك القرن إلا الدجال؛ لأن الدجال ينتظر خروجه كما في حديث الجساسة، فيكون مستثنًى من هذا الحديث، وقد توقفت في الجمع بينهما مدة، ثم تبين لي أن هذا هو الصواب، وهذا الجمع فيه العمل بالحديثين جميعًا.
والقاعدة عند أهل العلم أن ترتيب العمل عند التعارض كالآتي:
أولاً: الجمع، ولا يعدل عنه إذا أمكن؛ لأن فيه عملاً بالأحاديث.
ثانيًا: إن لم يمكن ينظر في التاريخ فينسخ المتأخر المتقدم.
ثالثًا: إن لم يعرف التاريخ يسلك طريق الترجيح فيعمل بالراجح ويترك المرجوح.
رابعًا: إن لم يمكن توقف المجتهد حتى يتبين له شيء بعد ذلك، وهنا أمكن الجمع والحمد لله.
ولا يقال: إن هذا الخبر خاص بالمؤمنين؛ لأن الرسول ﷺ لم يخص بقوله المؤمنين دون الكافرين؛ فإنه قال: لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَْرْضِ أَحَدٌ؛ أي: لا مؤمن ولا كافر.
المتن:
الشرح:
117 وحديث ابن عباس رضي الله عنهما فيه عدة فوائد:
ففيه: أن النبي ﷺ صلى بعد العشاء أربع ركعات، والغالب أنه ﷺ كان يصلي السنة الراتبة ركعتين؛ فيحتمل أن الركعات الأربعة زيادة على السنة الراتبة، أو أن السنة الراتبة منها.
وفيه: أنه أوتر بخمس، وهذا قليل، والغالب أنه ﷺ كان يوتر بإحدى عشرة ركعة كما في حديث عائشة[(378)]، أو بثلاث عشرة[(379)]، وربما أوتر بخمس[(380)] كما في هذا الحديث، وربما أوتر بسبع[(381)]، وربما أوتر بتسع[(382)].
وفيه: أن عبدالله بن عباس نام عند النبي ﷺ وكانت ميمونة أم المؤمنين خالته، وفي الحديث الآخر أن رسول الله ﷺ نام هو وأهله في طول الوسادة، ونام ابن عباس بعرضها[(383)]، وهو غلام دون الاحتلام.
وفيه: أنه لا بأس أن ينام الغلام الذي هو محرم مع الرجل وأهله في عرض الوسادة؛ فقد نام ابن عباس في عرض الوسادة، ونام رسول الله ﷺ وأهله في طولها، وكان ابن عباس غلامًا ذكيًّا على صغر سنه؛ فقد أراد أن يرى فعل النبي ﷺ فجعل ينظر، فقد جاء في الحديث الآخر أنه قال: «فلما انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل، قام رسول الله ﷺ وصب الماء من شن معلق»، أي قربة، فتوضأ ثم قام يصلي، قال ابن عباس: «فقمت ففعلت مثل فعله» ، أي صب ماءً وتوضأ، وقال: «ثم صففت عن يساره، فأدارني عن يمينه» [(384)] وفي رواية أخرى: «ثم أخذ بأذني يفتلها، وجعلني عن يمينه» [(385)].
وفيه: دليل على أنه لا بأس بصلاة النافلة جماعة أحيانا؛ فابن عباس صلى مع النبي ﷺ ولم ينكر عليه.
وفيه: أن المأموم الواحد يقف عن يمين الإمام ولا يقف عن يساره، وأنه إذا وقف عن يساره لا تبطل الصلاة؛ ولهذا لما وقف عن يساره أداره عن يمينه ولم يعد تكبيرة الإحرام، واستمر في صلاته.
وقد كان النبي ﷺ يصلي ثلاث عشرة ركعة؛ ركعتين ركعتين ركعتين، ثم ركعتين ركعتين، ثم ركعتين، اثنتي عشرة ركعة، ثم يوتر بواحدة، كما في حديث عائشة أنه ﷺ أوتر بثلاث عشرة ركعة[(386)]، وفي هذا الحديث أنه أوتر بخمس ركعات.
وفيه: أنه صلى بعد ذلك ركعتين؛ فهاتان الركعتان يحتمل أنهما ركعتا الفجر، ويحتمل أنهما ركعتان بعد الوتر؛ لأنه ثبت أن النبي ﷺ صلى ركعتين بعد الوتر، فلا بأس أن يصلي المسلم ركعتين بعد الوتر.
وفيه: أنه ﷺ نام بعدما صلى حتى سُمع خطيطه أو غطيطه، فقام ولم يتوضأ.
وفيه: دليل على أن نوم النبي ﷺ لا ينقض الوضوء؛ لأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، وهذا من خصائصه ﷺ.
وظاهر الأمر أن النبي ﷺ سمر مع أهله ومع ابن عباس.
وجاء في رواية أن أبا موسى أتى عمر بن الخطاب بعد العشاء، فقال له عمر بن الخطاب: ما جاء بك، قال: جئت أتحدث إليك هذه الساعة؛ فهذا هو السمر.
المتن:
باب حِفْظِ الْعِلْمِ
118 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَوْلاَ آيَتَانِ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا ثُمَّ يَتْلُو إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البَقَرَة: 159- 160] إِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الصَّفْقُ بِالأَْسْوَاقِ، وَإِنَّ إِخْوَانَنَا مِنْ الأَْنْصَارِ كَانَ يَشْغَلُهُمْ الْعَمَلُ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَلْزَمُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بِشِبَعِ بَطْنِهِ، وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ، وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ.
الشرح:
118 في الحديث: حفظ العلم وكتابته.
وفيه: ملازمة أبي هريرة للنبي ﷺ، وأن أبا هريرة كان يحضر حين يتخلف الناس ولا يحضرون؛ وكان يلزم رسول الله ﷺ؛ فلذلك حفظ ما لم يحفظ غيره؛ وقال لبعض الناس الذين اتهموه: «يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ» ، وفي لفظ آخر أنه قال: «يقولون: أكثر أبو هريرة والله الموعد، وإن إخواني من المهاجرين يشغلهم الصفق في الأسواق ـ أي في التجارة ـ وإن إخواني من الأنصار يشغلهم العمل في أموالهم» [(387)] يعني: أن المهاجرين يشتغلون بالتجارة، والأنصار يشتغلون بمزارعهم؛ لأنهم أصحاب حرث مشتغلون بالكسب وطلب الرزق، وأما أنا فكنت ألزم رسول الله ﷺ على شبع بطني، فأنا امرؤ ليس عندي ما يشغلني؛ لذا ألزم رسول الله ﷺ، فإذا حصل لي غداء وعشاء كفاني، وهذا قد لا يحصل لي في بعض الأحيان، فكنت أحضر حين يغيبون؛ فلذلك حفظت من العلم الشيء الكثير.
المتن:
119 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَبُو مُصْعَبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ دِينَارٍ عَنْ ابْنِ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَسْمَعُ مِنْكَ حَدِيثًا كَثِيرًا أَنْسَاهُ قَالَ: ابْسُطْ رِدَاءَكَ فَبَسَطْتُهُ قَالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: ضُمَّهُ فَضَمَمْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئًا بَعْدَهُ.
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ بِهَذَا أَوْ قَالَ: غَرَفَ بِيَدِهِ فِيهِ.
الشرح:
119 في الحديث: سبب من أسباب حفظ أبي هريرة ، وهو أنه قال للرسول ﷺ: إني أنسى، قال: ابْسُطْ رِدَاءَكَ، فبسط أبو هريرة رداءه أو شيئًا معه؛ فلم ينس شيئًا، وهذا من آيات الله الدالة على قدرته، ومن علامات ودلائل نبوة نبينا ﷺ، فمن أسباب حفظ العلم عند أبي هريرة أنه بسط رداءه فلم ينس شيئًا، وواظب على الحضور.
المتن:
الشرح:
120 في الحديث: دليل على أن أبا هريرة ما حدث بكل شيء؛ فقد حفظ وعاءين: وعاء حدث به، وهو الأحكام الشرعية التي أخبر بها خروجا من الكتمان، وأما الوعاء الثاني فكتمه وقال: «فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ» . قال العلماء: هذا الوعاء الثاني هو الذي يتعلق بالأمراء الظلمة وزمانهم ومكانهم، وألحق به بعضهم تغير الأحوال، وما يكون من الفتن ومن أشراط الساعة؛ فهذا الذي لم يبثه لا يتعلق بالأحكام الشرعية، أما الوعاء الأول فهو الذي يتعلق بها؛ لذا أفشاه.
وقد قارب أبو هريرة من رأس الستين، وقال: إن فيها إمارة الصبيان، وقال: أعوذ بالله من رأس الستين؛ فقبض وتوفي قبل الستين، وهي السنة التي تولى فيها يزيد بن معاوية.
المتن:
باب الإِْنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ
121 حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَلِيُّ بْنُ مُدْرِكٍ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: اسْتَنْصِتْ النَّاسَ فَقَالَ: لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.
الشرح:
121 هذا الحديث فيه: أنه ينبغي الإنصات والاستماع للعالم؛ حتى يحفظ الإنسان العلم، ويدل على ذلك قوله: اسْتَنْصِتْ النَّاسَ، وذلك في حجة الوداع، ثم قال ﷺ: لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ.
وفيه: دليل على تحريم القتال بين المسلمين، وأنه من الأعمال الكفرية.
المتن:
باب مَا يُسْتَحَبُّ لِلْعَالِمِ إِذَا سُئِلَ
أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ فَيَكِلُ الْعِلْمَ إِلَى اللَّهِ
122 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَوْفًا الْبَِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ حَدَّثَنَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: قَامَ مُوسَى النَّبِيُّ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَسُئِلَ أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ؛ فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إليْهِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ قَالَ يَا رَبِّ: وَكَيْفَ بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ فَإِذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ وَحَمَلاَ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا رُءُوسَهُمَا وَنَامَا فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنْ الْمِكْتَلِ: فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف: 61] وَكَانَ لِمُوسَى وَفَتَاهُ عَجَبًا فَانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف: 62] وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى مَسًّا مِنْ النَّصَبِ حَتَّى جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أُمِرَ بِهِ فَقَالَ لَهُ فَتَاهُ: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ [الكهف: 63] قَالَ مُوسَى: قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف: 64] فَلَمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى بِثَوْبٍ أَوْ قَالَ: تَسَجَّى بِثَوْبِهِ فَسَلَّمَ مُوسَى فَقَالَ الْخَضِرُ: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66] قَالَ: قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف: 67] يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف: 69] فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا سَفِينَةٌ فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ فَكَلَّمُوهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا فَعُرِفَ الْخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ: الْخَضِرُ يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف: 72-73] فَكَانَتْ الأُْولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا، فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلاَهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف: 74]؟ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف: 75] قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: وَهَذَا أَوْكَدُ: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ [الكهف: 77] قَالَ الْخَضِرُ: بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا قَالَ هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف: 77-78] قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا.
الشرح:
122 هذه قصة عظيمة قصها الله تعالى علينا في القرآن الكريم، وهذا الحديث فيه: بيان سبب هذه القصة.
وفيه: الحث على طلب العلم، ولا يزال العلماء والمحدثون والمفسرون يستنبطون الأحكام والفوائد والعبر من هذه القصة.
وسبب هذه القصة أن موسى عليه الصلاة والسلام قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسأله سائل: من أعلم الناس؟ فقال موسى: أنا، فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إليْهِ؛ فقال: بلى عبدي الخضر أعلم منك.
قوله: «إِنَّ نَوْفًا الْبَِكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ» ؛ ونوف البكالي قد قال لسعيد بن جبير: إن موسى الذي وقعت له القصة مع الخضر، والذي رحل في طلب العلم ليس هو موسى النبي، وإنما موسى آخر، فذهب سعيد وسأل ابن عباس عن ذلك؛ وهذا فيه الرجوع إلى العلماء عند الاختلاف.
ونوف البكالي يقال: هو ابن امرأة كعب الأحبار، وكان عالمًا في أخبار بني إسرائيل، وكان كعب الأحبار من أهل الكتاب فأسلم ونقل عن بني إسرائيل الكثير، فاختلف نوف البكالي وسعيد بن جبير في موسى الذي لقي الخضر، فسعيد بن جبير يقول: موسى الذي رحل إلى الخضر هو موسى النبي، وهو موسى بن عمران رسول الله؛ فقال نوف البكالي: لا،هذا موسى آخر، وليس هو موسى النبي؛ فرُجع إلى العلماء؛ فلما سأل سعيدٌ ابنَ عباس قال: «كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ» ؛ وهذا من باب الزجر ولا يقصد به معناه؛ فليس المقصود أنه عدو لله وأنه كافر، ولكنه من باب الغضب، ومن باب الزجر عن القول الذي لا يستند إلى دليل.
وفي القصة: ما يدل على أنه موسى النبي؛ ففي أول القصة أنه خطب في بني إسرائيل، ثم عتب الله عليه، ثم رحل، وفيها أن الخضر قال له: من أنت؟ فَقَالَ: أَنَا مُوسَى فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ فهذا صريح في أنه موسى النبي.
وفي القصة: الرجوع إلى العلماء عند الاختلاف، فينبغي للناس إذا اختلفوا أن يرجعوا إلى العلماء؛ لأن العلماء علمهم الله ما في كتابه وما في سنة رسوله ﷺ، وهم مرجع الناس عند الاختلاف؛ فقد كان التابعون إذا اختلفوا يرجعون إلى الصحابة، والصحابة كانوا يرجعون إلى النبي ﷺ، والنبي ﷺ في حياته كان إذا سئل عن شيء لا يعلمه سكت حتى ينزل عليه الوحي، فالعلم يأتي للنبي ﷺ من الله، والصحابة يعلمهم النبي ﷺ، والتابعون يرجعون إلى الصحابة، وتابعو التابعين يرجعون إلى التابعين، وهكذا من بعدهم، وكذلك الناس يجب أن يرجعوا إلى العلماء عند الاختلاف؛ فالله تعالى يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ [النِّسَاء: 59]، فعند الاختلاف يُرجع إلى الكتاب والسنة؛ ولهذا لما اختلف نوف البكالي وسعيد بن جبير رُجع إلى العالم ابن عباس الذي هو حبر هذه الأمة، فبين لهم الحق في هذه المسألة، وأن موسى المذكور في القصة هو موسى بن عمران نبي بني إسرائيل، وأحد أولي العزم من الرسل.
والشاهد من الترجمة أن من سئل عن شيء لا يعلمه فإنه يكل العلم إلى الله، فيقول: الله أعلم، أو يقول: لا أدري، ويكل العلم إلى عالم.
وفي الحديث: دليل على أن موسى وإن كان نبيًّا إلا أن الله عتب عليه؛ لأنه زعم بأنه لا يعلم أحداً أعلم منه، وهذا العتب كما يليق بجلاله وعظمته، فعتب الله عليه حيث لم يرد العلم إليه؛ فقال له: بلى، عبدي الخضر أعلم منك.
والله تعالى قد عتب على أنبيائه ورسله، ومن ذلك عتاب ربنا لنبينا محمد ﷺ في قصة عبدالله بن أم مكتوم لما جاء إليه وسأله أن يعلمه مما علمه الله، وكان النبي ﷺ مشغولا بصناديد قريش يرجو إسلامهم، ومن حرصه ﷺ على إسلامهم كأنه لم يجب عبد الله بن أم مكتوم[(388)]؛ فنزل العتاب من الله: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ [عَبَسَ: 1-11] فهذا عتاب من الله تعالى لأشرف خلقه ﷺ، وهذا عتاب الله لموسى بن عمران كليم الله، وهو الثالث؛ فنبينا محمد ﷺ هو أفضل أولي العزم، ثم يليه جده إبراهيم، ثم يليه موسى بن عمران.
قوله: احْمِلْ حُوتًا فِي مِكْتَلٍ، هذه هي العلامة، أن يأخذ حوتًا في مكتل ـ يعني: في زنبيل ـ يحمله، فإذا فقده فَهُوَ ثَمَّ، وثَمَّ ظرف مكان، يعني ستجد هناك الخضر، هذا العبد الذي هو أعلم منك، فجعل الله له علامة أنه إذا فقد الحوت فإنه يجد هذا الذي هو أعلم منه.
وفيه: أنه ينبغي للمسافر أن يأخذ ما يكفيه من الزاد، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يتكل مثل ما يفعله بعض الحجاج الذين يحجون ولا يأخذون زادًا، والله تعالى يقول: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البَقَرَة: 197]، قيل: نزلت هذه الآية في أهل اليمن؛ لأنهم كانوا يحجون ولا يأخذون شيئًا، وكانوا يسألون الناس.
قوله: فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشَعَ بْنِ نُونٍ، فيه: أنه لم يسافر وحده، بل سافر معه فتاه، وكان هذا في شرع من قبلنا، وفي شرعنا أن النبي ﷺ نهى عن سفر الواحد، وقال: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي الوَحْدَةِ، مَا سَارَ رَاكِبٌ بِلَيْلٍ وَحْدَهُ [(389)].
ويوشع كان نبيًا بعد وفاة موسى، وفتح بيت المقدس لبني إسرائيل، وهو الذي حبست له الشمس لما أراد أن يفتح بيت المقدس، وكادت الشمس أن تغرب، فقال لها: إِنَّكِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ اللَّهُمَّ احْبِسْهَا عَلَيْنَا، فَحُبِسَتْ حَتَّى فَتَحَ بيت المقدس نهارًا ثم غربت. [(390)] والشمس لم تحبس لأحد إلا ليوشع بن نون؛ وأما ما ورد في بعض الآثار أنها حبست لعلي بن أبي طالب فهي آثار لا تثبت، والأقرب أنها من وضع الرافضة؛ فالشمس لم تحبس لأحد إلا ليوشع بن نون، وكان ذلك يوم جمعة ليلة السبت، وكان في شرعهم ما يدل على أنه ينبغي أن يكون الفتح نهارًا، فحبست له الشمس حتى دخلها نهارًا ثم غربت.
وفي هذا الحديث: مشروعية الرحلة في طلب العلم وأنها سنة؛ فموسى عليه الصلاة والسلام مع جلالة قدره وعلمه العظيم رحل في طلب العلم، وسافر وحمل معه الزاد، وسار يوما وليلة حتى وجد مس الجوع، ثم طلب الزاد فإذا هو قد فقد الحوت.
وفيه: أخذ العلم عمن هو دونه؛ فالخضر دون موسى ولا شك، ومع ذلك أخذ منه العلم، وقد قال العلماء: لا ينبُغ الإنسان حتى يأخذ العلم ممن هو دونه، وممن هو فوقه، وممن هو مماثل له؛ فقد يجد الطالب فائدة علمية عند من هو أصغر منه، وقد يجد العالم الكبير فائدة علمية عند أحد الطلاب الصغار فيأخذها ولا يستنكف، وموسى قد أخذ العلم ممن هو دونه؛ لأن الخضر إما نبي، وإما عبد صالح، والصواب أنه نبي، كما سيأتي، لكن موسى أفضل منه؛ لأنه من أولي العزم من الرسل، ومع ذلك فقد أخذ منه العلم ولم يستنكف، بل رحل وسافر.
قوله: فَانْسَلَّ الْحُوتُ مِنْ الْمِكْتَلِ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف: 61] هذا من عجائب قدرة الله تعالى، فالحوت المشوي الذي أرادا أن يأكلاه عادت إليه الحياة، وجاء في بعض الروايات في الصحيح أنه سقط عليه نقط من ماء البحر فعادت إليه الحياة فاهتز، وكان بالمكتل خروق فخرج من الخرق ونزل في البحر، وحبس الله جريته فصارت كالطاق[(391)]، بحيث يراها الإنسان، وموسى وفتاه نائمان ما علما، فاستيقظا وحملا المكتل على أنه فيه، وما انتبها حتى وجد موسى مس الجوع بعد ذلك، فتبين لهما أنهما ليس معهما الحوت، وهذا من آيات الله ؛ حيث أحياه بعد الموت، وقد ورد ذلك في سورة الكهف، وجاء في سورة البقرة أيضًا ما يقرب من خمسة مواضع ما بين إنسان وطير وحيوان أحياهم الله بعد موتهم: قتيل بني إسرائيل لما جاءوا بالبقرة أحياه الله وتكلم بمن قتله، والرجل الذي مر بالقرية قيل: عزير، وقيل: غيره، أحياه الله بعدما أماته مائة عام، والذين خرجوا من ديارهم وهم يحذرون الموت قال لهم الله: موتوا، ثم أحياهم، وبنو إسرائيل أيضًا صُعقوا لما قالوا لموسى : أرنا الله جهرة، ثم أحياهم الله، وطيور إبراهيم أحياها الله، فهؤلاء كلهم أحياهم الله كما في سورة البقرة، وهذا الحوت في سورة الكهف أحياه الله بعد موته، والله على كل شيء قدير، وهو يقول سبحانه: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82].
ذلك كله من الآيات، ولكن هؤلاء ما عادوا إلى الدنيا إعادة كاملة، بل أعيدوا ولم يستمروا؛ فقتيل بني إسرائيل أخبر بمن قتله ثم رجع ميتا صريعًا مرة أخرى وهكذا، وفي قصة والد جابر عبدالله بن حرام ـ لما قتل شهيدًا ـ قال النبي ﷺ لولده جابر: إنَّ اللَّهَ أحيا أباكَ فَكلَّمَه كفاحًا وقالَ: تمنَّ، قال: أن أرد إلى الحياة الدنيا فأقتل مرة ثانية، قال: إني كتبت أنَّهم إليها لا يُرجَعونَ [(392)]، أي: لا يرجعون إلى الدنيا مستقرين أحياء مرة أخرى، إنما أحياهم الله آية ثم رجعوا كما كانوا.
ولما فقدا الحوت ذهبا على آثارهما فوجدا الخضر وهو مسجًى ـ يعني مغطًى بثوب ـ، فلما وصل إليه موسى قال: السلام عليك، فرفع رأسه وقال: وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ؟ أي: استنكر الخضر؛ فكأن هذه الأرض كانت أرض سوء ليس فيها سلام، أو لأن تحيتهم غير السلام، ثم قال له الخضر: من أنت؟ قال: أَنَا مُوسَى فَقَالَ: مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ، وهذا صريح في الرد على نوف البكالي الذي يقول: إنه موسى آخر غير موسى بني إسرائيل، وفيه دليل على أن الأنبياء لا يعلمون إلا ما أعلمهم الله به؛ ولهذا لم يعرفه الخضر حتى أخبره موسى.
وفيه: التواضع العظيم من موسى مع الخضر لما قال له: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66]؟» ؛ وهل من باب العرض والتأدب؛ فلم يقل: علمني، أو: جئت أتعلم منك، بل قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مع كونه من أنبياء الله، ومن رسل الله، ومن أولي العزم من الرسل؛ ثم قال: مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ، أي: من العلم الذي يرشد، أو الذي فيه رشد؛ وهذا فيه: دليل على أن العلم النافع هو العلم الشرعي، وهو الذي يهدي إلى الخير؛ أما العلوم الدنيوية فهي على حسب فائدتها ونفعها؛ وإذا أطلق العلم فهو العلم الشرعي الذي يهدي إلى الرشد.
وفيه: أيضًا أن علم الأنبياء إلى جنب علم الله قليل؛ ولهذا قال: إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَأَنْتَ عَلَى عِلْمٍ عَلَّمَكَهُ لاَ أَعْلَمُهُ، وقال: يا موسى، لن تستطيع أن تصبر، وكيف تصبر على شيء لم تحط به خبرا؟! فوعده موسى بأنه سيصبر.
قوله: فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ، أي: الخضر وموسى، ولم يُذكر يوشع؛ لأنه ليس مقصودًا، فمرت بهما سفينة وهما يمشيان على الساحل، فأشارا لأهلها فعرفوا الخضر، ولم يعرفوا موسى؛ لأنه من مكان بعيد، فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، أي بغير أجرة؛ من أجل الخضر، فركبا في السفينة.
قوله: فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ فَنَقَرَ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ: الْخَضِرُ يَا مُوسَى مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ كَنَقْرَةِ هَذَا الْعُصْفُورِ فِي الْبَحْرِ؛ وهذا فيه: سعة علم الله وإحاطته بكل شيء، وأن علم المخلوقين ـ ولو كانوا أنبياء ـ ما يساوي شيئًا بالنسبة إلى علم الله، فكم تساوي نقرة العصفور في البحر؟! وهل تنقص نقرة أو نقرتين من البحر؟! فكأن البحار العظيمة المتلاطمة الأمواج تمثل علم الله سبحانه، والنقرة أو النقرتين تمثل علم الأنبياء، فيقول الخضر: وما مثل علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما ينقص هذا العصفور من هذا البحر حينما ينقر نقرة أو نقرتين.
قوله: فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَى لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السَّفِينَةِ فَنَزَعَهُ فَقَالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا [الكهف: 72-73]، فَكَانَتْ الأُْولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا هذه هي القصة الأولى، وظاهرها أن الخضر ارتكب مفسدة بخرق السفينة، ولكنه ارتكبها لدفع مفسدة أكبر، وفي هذا شاهد للقاعدة المعروفة: ارتكاب أدنى المفسدتين؛ لدفع أعلاهما، وقد خفي ذلك على موسى؛ ولهذا لم يصبر عليه، فالخضر له مقصود ظاهر، وهو أن يجعل في السفينة عيبًا بنزع لوح منها؛ لأجل دفع مفسدة كبرى؛ وهي أن هذه السفينة لمساكين يعملون في البحر، وهناك ملك ظالم وراءهم يأخذ كل سفينة غصبًا إلا إذا كان فيها عيب؛ فأراد الخضر أن يجعل فيها عيبًا حتى تبقى السفينة للمساكين فارتكب الخضر أدنى المفسدتين وهي خرق السفينة؛ لدفع أعلاهما وهي أخذ هذا الظالم هذه السفينة من أيدي المساكين.
وفي هذا: دليل على أن المساكين قد يكون عندهم شيء من المال؛ فالمسكين أقل حاجة من الفقير، والفقير هو الذي لا يجد شيئًا من المال أو يجد أقل من نصف ما يكفيه مدة سنة نفقة وكسوة وسكنى، فيُعطى من الزكاة ما يكفيه، والمسكين هو الذي يجد نصف الكفاية إلا أنه لا يجد الكفاية؛ ولهذا بدأ الله تعالى بالفقراء فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التّوبَة: 60].
قوله: فَانْطَلَقَا فَإِذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ مِنْ أَعْلاَهُ فَاقْتَلَعَ رَأْسَهُ بِيَدِهِ فَقَالَ مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف: 74]؟ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف: 75].
هذه هي القصة الثانية، وهي حادثة أشد من الأولى؛ فقد جاء الخضر إلى صبي يلعب مع الغلمان فاقتلع رأسه وأخذه ورماه كالكرة، فانزعج من ذلك موسى جدًّا فقال: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف: 74]؟ أي: شيئًا منكرًا؛ لذلك لم يستطع موسى أن يصبر؛ فالأمر أعظم.
وهذه القصة فيها: ارتكاب أدنى المفسدتين؛ دفعًا لأعلاهما، وهذا من العلم الذي علمه الله للخضر، وفيه دليل على أنه نبي يوحى إليه على الصحيح؛ فالخضر لم يكن ليقتل الغلام إلا بوحي من الله ، وقد قال بعض العلماء: إنه ولي من الأولياء وليس نبياً، وأن هذا بالإلهام، وهذا قول مرجوح وإن قال به كثيرون، والصواب أن هذا بوحي من الله، ويدل على ذلك أنه قال في آخر القصة: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف: 82] إنما هو عن أمر الله، فالله تعالى اطلع على أن هذا الغلام لو عاش لصار كافرًا، وأنه يرهق والديه طغيانا وكفرًا، فأمر الخضرَ فقتله؛ إراحةً لوالديه حتى لا يرهقهما طغيانًا وكفرًا، وإن كان فيه إيلام لهما، وأنهما سيبكيان عليه، لكن هذه مفسدة صغيرة أخف كثيراً من المفسدة الكبرى فيما لو كبر وصار كافرًا وأرهقهما طغياناً وكفراً؛ لأن هذا فيه ما يتعلق بدينهما وآخرتهما، أما قتله فهو أمر دنيوي، يبكيان عليه أول الأمر، ثم ينسيان، وعسى الله أن يعوضهما خيرًا منه، فهذه مصيبة صغرى ارتكبها الخضر لدفع المصيبة الكبرى، لكن موسى لا يدري؛ لأن هذا من الغيب الذي لا يعلمه، فاستنكر في ظاهر الأمر على الخضر فقال: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا [الكهف: 74]، فأكد له الخضر قائلاً: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف: 75]، فتذكر موسى الوصية وقول الخضر له، فقال: إن سألتك غير هذه المرة فلا تصاحبني؛ فأنت قد بلغت من لدني عذرًا.
قوله: فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ، قَالَ الْخَضِرُ: بِيَدِهِ فَأَقَامَهُ فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا [الكهف: 77].
هذه هي القصة الثالثة، وفيها: أنهما طلبا طعامًا من أهل قرية فلم يضيفوهما، فوجدا فيها جدارًا يكاد أن يقع فأقامه؛ فأنكر عليه موسى وقال: كيف وهؤلاء أناس لؤماء ما أضافونا ولا أعطونا حق الضيافة، ثم تصلح الجدار لهم؟! فذكّره الخضر بأن هذه هي الثالثة، فقال: هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78]، ثم أخبره بأن هذا الجدار كان تحته كنز ليتيمين في المدينة، وكان أبوهما رجلاً صالحًا، وقدر الله تعالى أنهما يعيشان ويأخذان هذا الكنز، فلو سقط هذا الجدار لضاع مال يتيمي الرجل الصالح، ويأبى الله ذلك.
قوله: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى لَوَدِدْنَا لَوْ صَبَرَ حَتَّى يُقَصَّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا.
هذا فيه: دعاء النبي ﷺ لموسى بالرحمة، فقال: يرحم الله موسى! لو صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما؛ فيأتينا علم جديد نستفيد به، لكن موسى لم يصبر.
المتن:
باب مَنْ سَأَلَ وَهُوَ قَائِمٌ عَالِمًا جَالِسًا
123 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَإِنَّ أَحَدَنَا يُقَاتِلُ غَضَبًا وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً؟ فَرَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ قَالَ: وَمَا رَفَعَ إِلَيْهِ رَأْسَهُ إِلاَّ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا فَقَالَ: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .
الشرح:
123 هذا الحديث فيه: دليل على جواز أن يسأل الإنسان وهو قائم عالماً جالساً؛ لأنه قد تدعوه الحاجة إلى هذا، فقد تكون الحلقة واسعة، وقد يكون بعيدًا بحيث لا يسمعه؛ فيضطر إلى أن يسأل وهو واقف، فلا حرج في ذلك.
وأراد المصنف رحمه الله أن يبين أن هذا الفعل إذا سلم من العجب؛ فلا يكون داخلاً في حديث: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ [(395)].
وفيه: دليل على أن القتال في سبيل الله هو مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وأن من قاتل لأجل الغضب أو الحمية فإنه لا يكون في سبيل الله.
وفيه: دليل على أن الأعمال بالنيات، فهو شاهد لقوله ﷺ: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى [(396)].
وهذا الرجل سأل النبي ﷺ عن الرجل يقاتل حمية، ويقاتل غضباً لقومه، وفي اللفظ الآخر: «الرجل يقاتل ليُرى مكانه» [(397)] يعني: لأجل الرياء، أي: ذلك في سبيل الله؟ فأجابه النبي ﷺ بكلام عام فقال: مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فالذي يكون في سبيل الله هو من قاتل بهذه النية؛ أي: لأجل إعلاء كلمة الله، ودفاعًا عن الدين الحق، ولأجل نشر الإسلام، أما أن يقاتل لأجل الحمية، أو الغضب، أو لأجل تحرير الأرض، أو لأجل الدم، أو لأجل العروبة، أو القومية، أو العصبية، أو الرياء، أو لأجل إظهار الشجاعة، فكل هذا ليس في سبيل الله؛ والمقصد الصحيح هو أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا.