المتن:
(4) كِتَاب الْوُضُوء
مَا جَاءَ فِي الْوُضُوءِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ وَثَلاَثًا وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاَثٍ وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الإِْسْرَافَ فِيهِ وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
صنَّف البخاري رحمه الله صحيحه مرتبًا على الكتب والأبواب الفقهية، وقد سلك في ذلك طريقاً، فبدأ رحمه الله بكتاب «بدء الوحي» ؛ لأن الخير الذي حصل لهذه الأمة ولغيرها من الأمم إنما هو بالوحي، ثم ثنى بـ «كتاب الإيمان» ؛ لأن الإيمان هو أصل الدين وأساس الملة، ولا يصح العمل إلا بالإيمان، ثم ثلث بـ «كتاب العلم» ؛ لأن العلم مقدم على القول ومقدم على العمل، وليس هناك عمل ولا قول إلا بعلم؛ ولهذا قال الله تعالى في كتابه العزيز: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محَمَّد: 19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.
وبعد ذكره كتاب «بدء الوحي» ثم «الإيمان» ثم «العلم» أراد المؤلف رحمه الله أن يجمع الأحاديث الصحيحة في العبادات كالصلاة والصوم والحج، ثم المعاملات من بيع وشراء ومضاربة ونحوها، ثم الحدود والقصاص، وقدم الصلاة لأنها أفرض الفرائض وأوجب الواجبات بعد التوحيد، ولأنها أعظم أعمال البدن، ولأنها أول ما يحاسب الإنسان عليه إذا وضع في قبره.
وللصلاة شروط أهمها وأعظمها الوضوء وهو مفتاح الصلاة؛ لذلك بدأ بالوضوء لأنه لا صلاة إلا بوضوء، ولا تصح الصلاة إلا بالطهارة؛ فقال: «كتاب الوضوء» .
والوُضوء بالضم يطلق على الفعل، والوَضوء بالفتح على الماء الذي يُتوضأ به، هذا هو الأشهر، وقد يطلق أحدهما على الآخر.
أورد المصنف رحمه الله هذه الآية الكريمة؛ آية الوضوء، وهي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المَائدة: 6]. فالله تعالى نادى المؤمنين باسم الإيمان؛ لأنهم هم الذين ينتفعون بإيمانهم، وهم الذين يقبلون الأوامر والنواهي.
قوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ؛ قال العلماء: معناها إذا قمتم إلى الصلاة محدثين فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ؛ بين الله تعالى في هذه الآية الكريمة أن الوضوء استعمال الماء في الأعضاء الأربعة: الوجه، واليدين، والرأس، والرجلين؛ فهذه هي أعضاء الوضوء.
ولا بد من النية، ولهذا افتتح المؤلف رحمه الله كتابه بهذا الحديث: إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى [(419)]، فلا بد للوضوء من أن تسبقه النية، وتكون النية مقارنة للعبادات أو تتقدمها بيسير؛ فالصلاة لا بد لها من نية، فالنية هي التي يُميز بها بين العبادات والعادات وبين الفرض والنفل؛ فلو غسل الإنسان أعضاءه الأربعة ونوى التبرد فلا يرتفع الحدث، ولا يكون متوضئًا إلا بالنية، فينوي الوضوء، أو ينوي رفع الحدث، أو ينوي أن يتوضأ للصلاة، أو مس المصحف، أو للطواف بالبيت، أو للصلاة على الجنازة، أو ما أشبه ذلك.
ثم التسمية قد جاءت فيها أحاديث كثيرة، لكنْ فيها ضعف، ولهذا ذهب جمهور العلماء إلى أنها مستحبة، وليست واجبة[(420)]؛ وذهب الحنابلة ـ في إحدى الروايتين ـ إلى أنها واجبة مع التذكر[(421)]؛ لأن الأحاديث يشد بعضها بعضًا، ويقوي بعضها بعضًا، فإن نسي سقطت، وإن ذكر في أثناء الوضوء يسمي، وليس هناك للوضوء ذكر إلا التسمية قبله، والتشهد بعده.
فقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المَائدة: 6] يدل على أن الاستنجاء ـ وهو غسل الفرجين القبل والدبر ـ ليس من الوضوء، وإنما هو إزالة خبث، فمتى خرج من الإنسان شيء يطهِّر المحل في أي وقت كان، ولا علاقة له بالوضوء، وأما ما يفعله بعض العامة من غسل فرجيه كلما أراد أن يتوضأ فهو خطأ؛ فإذا خرج من الإنسان بول أو غائط مثلاً في الضحى ثم طهر المحل ثم جاء الظهر وأراد أن يصلي فلا يحتاج أن يعيد الاستنجاء مرة ثانية، وكذلك إذا خرج منه ريح أو أكل لحم جزور أو نام ولم يخرج منه بول أو غائط فلا يحتاج لغسل الفرجين.
والوضوء إنما هو استعمال الماء في الأعضاء الأربعة؛ فيغسل الوجه ويعممه بالغسل مرة واحدة وهذا هو الواجب والثانية والثالثة مستحبتان.
وحد الوجه طولاً من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحية والذقن، وعرضًا من الأذن إلى الأذن.
وكذلك المضمضة والاستنشاق داخلتان في غسل الوجه.
والسنة أن يقدمهما ويبدأ بهما قبل غسل الوجه، فيأخذ غرفة ثم يتمضمض منها ويستنشق فكلاهما بغرفة واحدة، هذا هو الأفضل يتمضمض منها ويستنشق منها، ثم يغسل وجهه، ثم يغسل يده اليمنى يعممها بالغسل مرة واحدة.
والعبرة بالتعميم سواء بغرفة أو بغرفتين، واليد اليسرى كذلك.
ثم يأخذ ماء ويمسح من مقدم رأسه إلى قفاه ولا يغسله، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، هذا هو الذي جاء في السنة؛ وإذا عممه بالمسح على أي كيفية أجزأه، ثم يمسح الأذنين ببقية الماء الذي علق بيديه: يدخل السبابتين في صماخي الأذنين، ويمسح بالإبهامين ظاهر الأذنين، ولا يأخذ ماءً جديدًا هذا هو الأفضل، وهذا هو الذي جاءت به الأحاديث، وقال بعض العلماء: يأخذ ماءً جديدًا، ولكن هذا قول ضعيف، بل الصواب أنه لا يأخذ ماءً جديدًا؛ لأن الرأس، والأذنين عضو واحد، ثم يغسل الرجل اليمنى حتى يشرع في الساق، يعممها بالماء مرة واحدة بغرفة أو بغرفتين، ثم اليسرى كذلك.
قال المصنف رحمه الله: «وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً» ، فالثانية والثالثة مستحبتان، قال: «وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الإِْسْرَافَ فِيهِ وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ ﷺ» ؛ لأن النبي ﷺ لم يزد على ثلاثة، فتوضأ مرة مرة، وتوضأ مرتين مرتين، وتوضأ ثلاثًا ثلاثًا، وتوضأ مخالفًا بين عدد الغسلات.
والزيادة على ثلاثة مكروهة كراهة تنزيه كما قال جمهور العلماء[(422)]، وجاء في بعض الروايات: مَنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ [(423)]، وقال بعضهم: إنه للتحريم[(424)].
وإن كان هناك إنسان أصابه شيء من رعاف أو نحوه فينبغي له ألا يتوضأ حتى ينتهي الرعاف أو الخارج، ويغسل موضعه أولاً ثم يتوضأ، وكذلك في الصلاة لو كان في جماعة ينفصل ويعالجه، لكن إذا سده فلا بأس.
المتن:
باب لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ
135 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ، قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ.
الشرح:
135 هذا الحديث فيه: بيان أن الطهارة شرط لصحة الصلاة، وأن الصلاة لا تصح ولا تقبل بغير وضوء، وفي حديث آخر: لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلَا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ رواه مسلم[(425)]، فدل هذا على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة، فالصلاة لا تصح ولا تقبل إلا بالطهارة، أو ما يقوم مقامها عند العدم، أو العجز، وهو التيمم.
ولما سأل رجل من حضرموت أبا هريرة قال: «مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ» ؛ يعني: الريح التي تخرج من الدبر، فإن كان لها صوت فهي ضراط، وإن لم يكن لها صوت فهي فساء، وبين هذا أبو هريرة لأن بعض الناس قد يشكل عليه فلا يعرف الحدث، وليس المقصود حصر الحدث في الفساء والضراط، بل المراد أن هذا مثال، ونوع من أنواع الحدث؛ كما لو سأل رجل أعجمي عن الخبز، فأتيت بخبزة فقلت: هذا الخبز، يعني هذا نوع من أنواعه، وليس المراد أن هذا هو الخبز كله، بل هذا مثال للخبز، وكذلك قول أبي هريرة: «فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ» ؛ يعني: هذا نوع من أنواع الحدث، والبول والغائط أشد، ومعروف أنهما من باب أولى، فإنه إذا خرجت ريح من الدبر ينتقض بها الوضوء فخروج البول والغائط أولى في انتقاض الوضوء.
والوضوء الشرعي إذا أطلق فهو استعمال الماء في الأعضاء الأربعة: الوجه واليدين والرأس والرجلين؛ هذا هو الوضوء؛ أما غسل الفرجين فهذا يسمى استنجاء، فإن المتوضئ يجب عليه أولاً أن يطهر المحل بالاستنجاء، أو الاستجمار بالحجارة، أو بالورق، أو بالخشب، فهذا تطهير للمحل، كما لو وقع على الثوب نجاسة، أو وقع على البدن نجاسة، فإنه يجب تطهير هذه النجاسة؛ وليس هذا التطهير من الوضوء، لكن الوضوء لا يصح حتى يطهر الإنسان المحل، فمن المعلوم أنه لا يصح الوضوء قبل الاستنجاء؛ لأنه إذا مس فرجه باليد انتقض وضوءه، وبعضهم قال: إنه لو توضأ ثم جعل على يده قفازًا واستنجى صح؛ لأنه لم يمس فرجه، لكن هذا بعيد، فينبغي للإنسان أن يستنجي، أو يستجمر أولاً، ثم يتوضأ بعد ذلك.
والحاصل: أن الاستنجاء والاستجمار ليسا من الوضوء، إنما هو تطهير للمحل، ولهذا لا يحتاج إلى النية في ذلك مثل غسل النجاسة، فإذا وقعت نجاسة في ثوب أو في الأرض ثم نزل عليها المطر طهرت، أما العبادات فلا بد لها من نية، فالزكاة لا بد لها من نية، فلو أعطيت فقيرًا مالاً، ولم تنو الزكاة لم تصح زكاتك؛ لأن الزكاة عبادة ولا عبادة إلا بنية.
المتن:
باب فَضْلِ الْوُضُوءِ وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ
136 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ: رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ؛ فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ.
الشرح:
136 قوله: «رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ» ؛ يعني: صعدت على ظهر المسجد، و «رَقِيتُ» بفتح الراء وكسر القاف، أما رقَيت فمن الرقية، وهي القراءة على المريض، تقول: رقيت فلانًا؛ أي: قرأت عليه، من رقى يرقي.
وفي الحديث: أن أبا هريرة توضأ على ظهر المسجد، ففيه: دليل على أنه لا بأس بالوضوء فوق المسجد إذا كان فيه مكان يصلح للوضوء وكان لا يلوث المسجد؛ لأن الوضوء عادة يكون خفيفًا، فلا يضر غسل الأطراف والأعضاء الأربعة، وإلا فالأولى أن يتوضأ الإنسان في المكان المعد للوضوء.
وفي قول النبي ﷺ: إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ فيه: فضل الوضوء، وأن هذه الأمة تتميز عن غيرها من الأمم بالغرة والتحجيل، وأصل الغرة بياض في جبهة الفرس، والتحجيل كذلك بياض في قوائم الفرس، والمراد في الحديث النور الذي يكون في الوجه، وفي أعضاء الوضوء؛ وهذا فيه فضل الوضوء، وفضل هذه الأمة.
وقال بعضهم: إن الوضوء من خصائص هذه الأمة[(426)]، والصواب: أنه ليس من خصائص هذه الأمة، فالوضوء موجود في الأمم السابقة كما في الحديث وإن كان فيه ضعف: وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي [(427)]، وجاء في الحديث الصحيح في قصة إبراهيم ﷺ وزوجه سارة أنهما لما مرا بمصر بالملك الظالم قال: فتوضأت سارة ثم صلت [(428)].
فالوضوء معروف عند الأنبياء، لكن الذي خصت به هذه الأمة الغرة والتحجيل، وجاء في الحديث الآخر أنه قيل له: كيف تعرف أمتك من غيرهم؟ قال: أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ، قالوا: بلى، قال: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ [(429)]؛ فهذه فضيلة لهذه الأمة، وهي الغرة والتحجيل.
قال أبو هريرة: «فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» ؛ وفي اللفظ الآخر: «فمن استطاع منكم أن يطيل غرته، وتحجيله فليفعل» [(430)]، فكان أبو هريرة يجتهد، فإذا غسل يده اجتهد حتى يصل إلى الإبط أو قريب من الإبط، وإذا غسل رجله يزيد حتى يصل إلى قريب من الركبة، وكان يتوضأ هذا الوضوء فرآه شخص فقال: ما هذا يا أبا هريرة؟ فقال: أنتم هنا يا بني فروخ، لو علمتُ ما فعلتُ[(431)]؛ فهذا اجتهاد منه ، فإنه اجتهد حتى يطيل الغرة والتحجيل، حتى يزيد النور في يديه وفي رجليه، وأنه يسن للإنسان أن يشرع في العضد فقط حتى يتجاوز المرفق، وفي الرِّجل حتى يتجاوز الكعب.
لكن الأفضل ترك الزيادة، وهذا هو السنة التي جاءت عن النبي ﷺ، وما فعله أبو هريرة اجتهاد منه، وأما الوجه فليس فيه إطالة؛ لأن الوجه محدد من منابت الشعر إلى ما انحدر من اللحية والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، لكن قال بعضهم: يمكن أن يتجاوز الأذن إلى صفحة العنق.
والمقصود أن قوله: «فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ» ، مدرج من كلام أبي هريرة، وفي لفظ آخر: «غرته وتحجيله فليفعل» [(432)]؛ فالسنة الوضوء كما فعل النبي ﷺ، ففي الوجه يقتصر على الوجه، ولا يتجاوز إلى صفحة العنق، وفي اليدين يتجاوز المرفق؛ فقد جاء أن النبي ﷺ كان يدير الماء على مرفقيه[(433)]؛ وجاء أنه يغسل يده حتى يشرع في العضد[(434)]؛ وذلك ليتحقق من دخول المرفق، وفي الرِّجل يغسل الكعبين حتى يشرع في الساق، فيتحقق من غسل الكعبين ولا يزيد إلى الركبة أو قريب من الركبة أو إلى منتصف الساق، وكذلك في اليد لا يزيد إلى منتصف العضد أو الإبط.
المتن:
باب لاَ يَتَوَضَّأُ مِنْ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ
137 حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ عَبَّادٍ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ فَقَالَ: لا يَنْفَتِلْ أَوْ لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا.
الشرح:
137 هذه الترجمة بعنوان «بَاب لاَ يَتَوَضَّأُ مِنْ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ» ، والحديث دليل عليها، والمراد منها أنه يجب على المسلم أن يطرح الشك ويعمل باليقين، فالحديث دليل قاعدة من قواعد الشرع، وهي أن اليقين لا يزول بالشك، وإنما يزول بيقين مثله؛ فإذا توضأ ثم شك في الحدث فإنه يعمل باليقين، والأصل أنه متوضئ؛ فلا يعيد وضوءه.
وفي هذا الحديث: أن الإنسان إذا وجد في بطنه قرقرة وهو في الصلاة فإنه لا يخرج حتى يتيقن الحدث، ولهذا قال: لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا؛ أي: حتى يسمع صوت الحدث، وهو الضراط، أو يشم رائحة، وهو الفساء؛ والمعنى: حتى يتيقن، ومثل ذلك أن يتيقن أنه خرج من ذكره بلل من بول، أو مني، أو مذي؛ فإذا تحقق يتوضأ، أما إذا كان الأمر على الشك فلا؛ لأن الطهارة متيقنة والحدث مشكوك فيه، فلا ينتقل من اليقين إلا بيقين، ولا ينتقل من اليقين بالشك.
وفي هذا الحديث: طرح الوساوس والشكوك التي تستولي على كثير من الشباب والشيب في وضوئهم وصلاتهم وعباداتهم، والتي تجعلهم شبه مجانين وتضيع عليهم الأوقات بسبب الوساوس، فالإنسان يطرح الوساوس والشكوك ولا يخرج من الصلاة حتى يتيقن الحدث، فاليقين لا يزول إلا باليقين.
المتن:
باب التَّخْفِيفِ فِي الْوُضُوءِ
138حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ نَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ صَلَّى وَرُبَّمَا قَالَ: اضْطَجَعَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى.
ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً فَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ اللَّيْلِ فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ ﷺ فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ وَقَامَ يُصَلِّي فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: عَنْ شِمَالِهِ فَحَوَّلَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِي فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
قُلْنَا لِعَمْرٍو إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ تَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: رُؤْيَا الأَْنْبِيَاءِ وَحْيٌ ثُمَّ قَرَأَ: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ [الصَّافات: 102].
الشرح:
138 هذه الترجمة فيها أنه لا بأس بتخفيف الوضوء، ودليله من الحديث أنه ﷺ توضأ وضوءًا خفيفًا من غير إسباغ فصلى به.
وفي هذا الحديث أن نوم النبي ﷺ لا ينقض الوضوء؛ فقد أخبر ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ نام حتى نفخ ثم صلى ولم يتوضأ؛ وذلك لأن النبي ﷺ تنام عيناه ولا ينام قلبه، بخلاف غيره فإنه تنام عينه وقلبه.
وفيه: دليل على أن النوم ليس حدثًا وإنما هو مظنة الحدث، ولو كان نفس النوم ناقضًا لوجب على النبي ﷺ أن يتوضأ إذا نام، لكن لما كان النوم مظنة الحدث وكان النبي ﷺ تنام عيناه ولا ينام قلبه لم يتوضأ ﷺ، ويدل على هذا قوله ﷺ في الحديث: إِنَّ الْعَيْنَيْنِ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتُطْلِقَ الْوِكَاءُ [(435)]، أما غير النبي ﷺ فتنام عيناه وينام قلبه؛ فلذلك يجب عليه أن يتوضأ كما في حديث صفوان بن عسال: «ولكن من غائط وبول ونوم» [(436)]؛ فالإنسان إذا نام واستغرق في نومه فإنه يجب عليه الوضوء.
والمراد بالنوم هنا النوم المستغرق الذي يزول معه الإحساس والشعور؛ سواء كان من قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد، وقال بعض العلماء: إن النوم إذا كان من راكع أو ساجد ليس مظنة للحدث فلا ينقض، والصواب أنه لو استغرق وزال معه الإحساس فإنه ينقض الوضوء، ويدل على ذلك أن الصحابة كانوا ينتظرون العشاء فيصلون ولا يتوضئون، وفي رواية: تخفق رءوسهم[(437)]، وفي لفظ: أنهم ينامون[(438)]، يعني ينعسون، فالنائم إذا لم يستغرق وكان يسمع من حوله ويشعر بالحدث لو خرج فلا يجب عليه الوضوء.
والحكمة في كون النبي ﷺ تنام عيناه ولا ينام قلبه أن قلبه يظل مستيقظًا حتى يعي الوحي الذي يأتيه، ورؤيا الأنبياء وحي؛ ولهذا ذكر الله تعالى في قصة إبراهيم أنه قال: إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى [الصَّافات: 102]؛ فإبراهيم رأى في النوم أنه يذبح ابنه إسماعيل، وشرع في تنفيذ هذه الرؤيا؛ لأنها وحي.
وفي الحديث: دليل على أن الوضوء لا بأس بتخفيفه، وفيه دليل على عناية ابن عباس منذ صغره بالعلم؛ فإنه بات عند خالته ميمونه زوج النبي ﷺ، وصنع مثل ما صنع النبي ﷺ، فقد قام ﷺ وتوضأ من شن؛ يعني قربة قديمة، فقام ابن عباس وتوضأ مثله، ثم جاء يصلي بجواره وصف عن يساره فأداره عن يمينه، وفي لفظ آخر أنه فتل أذنه[(439)].
وفيه: دليل على أن المأموم الواحد موقفه يكون عن يمين الإمام ولا يكون عن يساره، وأنه إذا صلى عن يساره يديره عن يمينه ولا تبطل صلاته؛ ولهذا أداره عن يمينه ـ من خلفه ـ واستمر في صلاته.
المتن:
باب إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ الإِْنْقَاءُ.
139 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغْ الْوُضُوءَ فَقُلْتُ:الصَّلاَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ؛ فَرَكِبَ فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الْعِشَاءُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا.
الشرح:
139 قوله: «إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ» ، الإسباغ فسره ابن عمر بالإنقاء، والإنقاء لازم للإسباغ؛ فالإسباغ هو الإتمام، ومنه وضوء سابغ، ودرع سابغ، ويلزم من الإتمام الإنقاء، ولهذا فسره بالإنقاء.
وهذه القصة في حجة الوداع، وفيها: أن النبي ﷺ دفع من عرفة وقد أردف أسامة بن زيد، ولما دفع من مزدلفة أردف الفضل بن عباس، فدفع ﷺ من عرفة حتى وصل إلى الشعب ـ وهو الممر بين الجبلين ـ نزل فبال فتوضأ وضوءًا خفيفًا لم يسبغه، فقال أسامة وكان رديفًا للنبي ﷺ: يا رسول الله؛ الصلاة.
قال: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ، وفيه: تنبيه من الصغير للكبير والعالم.
وفي الحديث: دليل على أنه يشرع للإنسان أن يتوضأ ولو لم يصل، فتوضأ النبي ﷺ وهو لا يريد الصلاة ليكون على طهارة، لكن الأفضل أن يصلي بهذا الوضوء، ثم لما وصل المزدلفة توضأ وأسبغ الوضوء، ثم جمع بين المغرب والعشاء.
وفيه: دليل على مشروعية الجمع بين المغرب والعشاء للحاج بمزدلفة، وأن السنة أن يصلي المغرب والعشاء بمزدلفة.
وفيه: أنه يجمع بينهما بأذان واحد وإقامتين؛ فيصلي المغرب ثلاثًا، والعشاء ركعتين.
وفيه: أنه فصل بين المغرب والعشاء، فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره حتى يستريح بدون حط الرحال، ثم صلوا العشاء ثم حُطت الرحل عن الإبل؛ فدل على أنه إذا فصل بين الصلاتين بفاصل يسير فإنه لا يضر، لكن لا يفصل بينهما بصلاة.
المتن:
باب غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ
140 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ بِلاَلٍ يَعْنِي سُلَيْمَانَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأُْخْرَى فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ يَعْنِي الْيُسْرَى، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَتَوَضَّأُ.
الشرح:
140 في الحديث: دليل على أن الواجب هو الوضوء مرة واحدة، والمراد بالمرة تعميم العضو، فإذا عمم وجهه بالماء مرة واحدة كفى؛ سواء بغرفة أو بغرفتين.
وفي الحديث: أنه ﷺ أخذ الماء بيده اليمنى، ثم أضافها إلى اليسرى؛ لأنه أمكن في غسل الوجه، ثم غسل يده اليمنى بغرفة، ثم غسل يده اليسرى بغرفة، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى بغرفة، ثم رجله اليسرى بغرفة.
وقد ورد أن النبي ﷺ توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا[(440)]، ومخالفًا بين عدد الغسلات، فهي أربعة أنواع؛ فقد جاء أنه غسل كل عضو مرة، وجاء أنه غسل كل عضو مرتين، وجاء أنه غسل كل عضو ثلاثًا ما عدا الرأس، وجاء أنه غسل مخالفًا؛ فغسل الوجه مرة، واليدين مرتين، والرجلين ثلاثًا ـ على سبيل المثال ـ في وضوء واحد؛ فكل هذا جائز.
المتن:
باب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الْوِقَاعِ
141 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْلُغُ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرُّهُ.
الشرح:
141 هذا الحديث: دليل على مشروعية التسمية قبل أن يجامع الرجل زوجته.
وفيه: أن التسمية فيها فائدة عظيمة، وهي أنه لو قدر بينهما ولد يكون محفوظًا من الشيطان فلا يضره، وإنما يفعل المسلم هذا اتباعًا للسنة، ويحسن ظنه بالله .
وتبويب البخاري رحمه الله بـ «التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الْوِقَاعِ» ـ يعني: عند الجماع ـ يريد به أن التسمية في الوضوء: هل هي مشروعة أم لا؟ وقد أتى بهذا الحديث دليلاً على هذه المسألة، لأنه لم يجد حديثًا على شرطه فيها؛ فالأحاديث في التسمية عند الوضوء كلها ضعيفة، لكنه لدقة فقهه استنبط من هذا الحديث مشروعية التسمية عند الوضوء؛ فإن المسلم إذا شرع له أن يسمي عند الجماع ـ وهي حالة قد ينسى فيها الإنسان ويذهل ـ فمشروعية التسمية عند غيره من باب أولى؛ ولهذا قال في الترجمة: «بَاب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الْوِقَاعِ» .
فالتسمية مشروعة على كل حال، وهذا عام، والوضوء حال من الأحوال، بل هي حال شرعية؛ فهذا من دقائق فقه البخاري رحمه الله ومن استنباطاته العظيمة.
ومعنى قوله: إِذَا أَتَى أَهْلَهُ: إذا أراد أن يأتيها؛ أي: قبل الجماع.
المتن:
باب مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلاَءِ
142 حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ.
تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ عَنْ شُعْبَةَ.
وَقَالَ غُنْدَرٌ: عَنْ شُعْبَةَ إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ.
وَقَالَ مُوسَى: عَنْ حَمَّادٍ إِذَا دَخَلَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ.
الشرح:
142 قوله: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ؛ الخلاء بالمد الصحراء، ثم أطلق على المكان المعد لقضاء الحاجة، والخبث جمع خبيث، وهي ذكران الشياطين، والخبائث جمع خبيثة، وهي إناثهم؛ فاستعاذ ﷺ من ذكران الشياطين وإناثهم.
ويشرع للإنسان إذا أتى الخلاء أن يقدم البسملة قبل هذا الدعاء، فيقول: بِسمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ كما جاء في بعض الروايات[(441)].
والخلاف في قوله: «إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ» ، هل معناه: إذا دخل الخلاء، أم إذا أراد دخول الخلاء؟ كالخلاف في قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النّحل: 98]، هل المراد الاستعاذة بعد القراءة أم قبل القراءة؟
وصوابه أن المعنى: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ بالله، فكذلك «إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ» معناه: إذا أراد دخول الخلاء.
والتسمية عند الخلاء ليست على شرط المصنف؛ ولذا قال رحمه الله: «بَاب مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلاَءِ»
المتن:
باب وَضْعِ الْمَاءِ عِنْدَ الْخَلاَءِ
143 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ الْخَلاَءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا؛ قَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ.
الشرح:
قوله: «وَضْعِ الْمَاءِ عِنْدَ الْخَلاَءِ» ، المراد إعداد الماء لمن أراد قضاء الحاجة.
143 في الحديث: دليل على أن من فعل لأحد معروفًا فليكافئه، فإن لم يجد ما يكافئه فليدع له، قال ﷺ: مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ [(442)]، وإذا دعا له بهذا الدعاء الذي دعا به النبي ﷺ كان حسنًا، فابن عباس فعل معروفًا للنبي ﷺ، فقد وضع له الماء عند الخلاء، فدعا له النبي ﷺ فقال: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ؛ قال بعض العلماء: إن النبي ﷺ دعا له بأن يفقهه الله في الدين، لأن ابن عباس نظر في أمور ثلاثة، هل يدخل بالماء الخلاء فيضعه للنبي ﷺ، أو يضعه عند الباب، أو لا يضع شيئًا؟ فرأى أنه إذا أدخل الماء قد يطلع على شيء من العورة، وإذا لم يضع شيئًا لطلبه النبي ﷺ ليضعه وفيه مشقة على النبي ﷺ؛ فرأى أن يضعه عند الخلاء، فصار هذا من فقهه؛ فلذلك دعا له بأن يفقهه الله في الدين فقال: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ فكان كما دعا له النبي ﷺ، فقهه الله في الدين، فنفعه الله به.
المتن:
باب لاَ تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إِلاَّ عِنْدَ الْبِنَاءِ جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ
144 حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ ابْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا.
الشرح:
144 هذا الحديث فيه: دليل على تحريم استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة عند البول والغائط لقول النبي ﷺ: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِل الْقِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ؛ يعني: لا تستدبروها، ولكن شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا، وهذا خطاب لأهل المدينة؛ لأن تشريقهم أو تغريبهم بُعد عنها، وأما غير أهل المدينة مثل أهل نجد فقبلتهم الغرب فيجنبون أو يشملون عند قضاء الحاجة؛ فمراد النبي ﷺ بقوله: شَرِّقُوا، أَوْ غَرِّبُوا : الانحراف عن القبلة يمينًا أو شمالاً.
والنهي في الحديث للتحريم، ولكن الإمام البخاري رحمه الله قيد بقوله: «لاَ تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إِلاَّ عِنْدَ الْبِنَاءِ جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ» ، وهذا استنباط من المصنف رحمه الله أخذه من الحديث الثاني الذي قيد هذا، وهو حديث ابن عمر الآتي، أنه رأى النبي ﷺ يقضي حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة[(443)]، فهذا في البنيان؛ فدل على أن هذا النهي مخصوص بما إذا لم يكن في البنيان، والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم كما سيأتي.