شعار الموقع

شرح كتاب الوضوء من صحيح البخاري (4-2) من باب مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ - إلى باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ

00:00
00:00
تحميل
175

المتن:

باب مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ

 145 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَال: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلاَ تَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلاَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ؛ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَقَدْ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ، وَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ؟ فَقُلْتُ: لاَ أَدْرِي وَاللَّهِ.

قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي الَّذِي يُصَلِّي وَلاَ يَرْتَفِعُ عَنْ الأَْرْضِ؛ يَسْجُدُ وَهُوَ لاَصِقٌ بِالأَْرْضِ.

الشرح:

 145 هذا الحديث هو الذي خصص عموم الحديث السابق، ففيه أن النبي ﷺ قضى حاجته في البيت مستدبرًا الكعبة مستقبلاً الشام، والمصنف رحمه الله قيد بهذا الحديث الحديث السابق: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الغَائِطَ، فَلاَ يَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا [(444)].

وفي الحديث: أن ابن عمر يرى أنه يجوز الاستقبال في البنيان، ولهذا أنكر فقال: «إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: إِذَا قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلاَ تَسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَلاَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ» .

وقوله: «لَقَدْ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا» ففي لفظ: «ارتقيت بيت حفصة» [(445)] أي: أخته حفصة زوج النبي ﷺ، «فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ» ؛ وهو إذا استقبل الشام استدبر الكعبة، وإذا استدبر الكعبة استقبل الشام لأنه في المدينة، وجاء في لفظ: «مستقبل الشام مستدبر الكعبة» [(446)].

وجاء الاستقبال أيضًا في حديث أخرجه الإمام أحمد، وابن خزيمة، وأبو داود، عن جابر قال: إن النبي ﷺ نهانا أن نستقبل بفروجنا الكعبة ثم رأيته قبل أن يموت بعام مستقبل الكعبة[(447)]، يعني: في البنيان.

ففي حديث جابر: أنه استقبل الكعبة في البنيان.

وفي حديث ابن عمر: أنه استدبرها؛ فدل على جواز الاستقبال والاستدبار في البنيان.

وهذا هو الجمع بين النصوص.

والقاعدة عند أهل العلم أنه إذا تعارضت النصوص في الظاهر فإن المجتهد يسلك طريق الجمع أولاً، فإذا أمكن الجمع فلا يعدل عنه؛ لأن فيه عملاً بالأحاديث من الجانبين، فإن لم يمكن الجمع فإنه ينظر المتقدم من المتأخر، فإذا عرف المتأخر يكون ناسخًا للمتقدم، ويكون العمل على المتأخر، فإن لم يعرف التاريخ فإنه يعمل بالترجيح، فيرجح أحد الحديثين على الآخر إذا كان أحدهما أقوى من الآخر؛ كأن كان أحدهما صحيحًا، والآخر حسنًا، أو كان أحدهما في «الصحيحين»، والآخر في غير «الصحيحين»، فإن لم يظهر له ترجيح أحد النصين أو الدليلين فإنه يتوقف؛ وعلى هذا العمل عند تعارض الأحاديث.

وهنا تعارض الحديث الأول مع الحديث الثاني، ففي حديث أبي أيوب الأول النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة، وفي حديث ابن عمر جواز استدبار الكعبة عند قضاء الحاجة، وكذلك حديث جابر فيه جواز استقبالها عند قضاء الحاجة، وأمكن الجمع بينهما كما ذكر المصنف رحمه الله، فقد استنبط أن حديث أبي أيوب محمول على ما إذا كان في الصحراء.

وعلى ذلك لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها في الصحراء أو في الفضاء، أما في البنيان فيجوز استدبارها واستقبالها لحديث ابن عمر وحديث جابر، هذا هو الذي سلكه البخاري رحمه الله في الترجمة فقال: «بَاب لاَ تُسْتَقْبَلُ الْقِبْلَةُ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ إِلاَّ عِنْدَ الْبِنَاءِ جِدَارٍ أَوْ نَحْوِهِ» ، والذي سلكه المؤلف رحمه الله هو الصواب، وهو مذهب الحنابلة[(448)].

وذهب آخرون من أهل العلم إلى أن النهي عام في البنيان وفي غيره[(449)]، وتأولوا حديث ابن عمر وغيره بأن هذه قضية عين قد يكون فعلها النبي ﷺ لسبب من الأسباب، وذهب آخرون من أهل العلم إلى جواز الاستدبار فقط في البنيان أخذًا بحديث ابن عمر دون الاستقبال، وذهب آخرون إلى جواز الاستدبار في البنيان وفي غيره دون الاستقبال[(450)]، وذهب آخرون إلى جواز الاستقبال في البنيان وفي غيره[(451)]، وحجتهم في هذا أن الأحاديث تعارضت من الجانبين فنرجع إلى الأصل وهو الجواز، فعلى هذا يجوز الاستقبال في البنيان وفي غيره.

وذهب آخرون إلى أنه لا يجوز استقبال الكعبة ولا استقبال بيت المقدس أيضًا، واستدلوا بحديث: لاَ تسْتَقْبِلوا القِبْلَتَينِ بغائط أو ببول [(452)]، ولكنه حديث ضعيف عند أهل العلم.

وذهب آخرون إلى أن النهي خاص بأهل المدينة؛ لقول النبي ﷺ: ولكن شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا [(453)]؛ فأهل المدينة ومن شاكلهم يجب عليهم أن يشرقوا أو يغربوا؛ فدل على الجواز في حق غيرهم.

فالأقوال في المسألة سبعة:

القول الأول: الجواز مطلقًا في البنيان وفي غيره.

القول الثاني: المنع مطلقًا في البنيان وفي غيره.

القول الثالث: أن النهي خاص بالصحراء استقبالاً واستدبارًا، وأما في البنيان فيجوز استقبال القبلة واستدبارها، وهذا هو الصواب الذي سلكه البخاري.

القول الرابع: أنه يجوز الاستدبار مطلقًا في البنيان وفي غيره دون الاستقبال.

القول الخامس: أنه يجوز الاستدبار في البنيان فقط، ولا يجوز في الفضاء.

القول السادس: أنه لا يجوز استقبال القبلة، ولا استقبال بيت المقدس أيضًا، واستدلوا بحديث لاَ يَسْتَقْبِلوا القِبْلَتَينِ [(454)]، ولكنه حديث ضعيف.

القول السابع: أن النهي خاص بأهل المدينة ومن شاكلهم، وأما غير أهل المدينة فإنه يجوز لهم.

هذه سبعة أقوال في المسألة أرجحها ما سلكه الإمام البخاري رحمه الله، وهو مذهب الحنابلة[(455)] وجماعة، وهو أن النهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة حرام في الفضاء والصحراء جائز في البنيان؛ عملاً بالنصوص من الجانبين؛ فلا يجوز الاستقبال ولا الاستدبار في الفضاء والصحراء عملاً بحديث أبي أيوب، ويجوز الاستدبار في البنيان عملاً بحديث ابن عمر، والاستقبال عملاً بحديث جابر عند أحمد وابن خزيمة وأبي داود[(456)]، وهذا هو الصواب.

وإذا كان بينه وبين القبلة حائل من جدار أو نحوه فحكمه كالدار، لكن الأحوط في مثل هذه المسألة أنه إذا كان الحائل ليس من جميع الجهات فلا يستقبلها، لكن ظاهر كلام المؤلف أنه إذا كان بينه وبينها جدار أو نحوه يكفي ولو دابة أو سيارة، وكذا الشجر، والأحوط ـ كما ذكر ـ أنه إذا لم يكن ساترًا كاملاً فلا يستقبل أو يستدبر؛ فإنه ينبغي للمسلم أن يبتعد عن الشبهة.

أما حديث أبي أيوب: «ثم أتينا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله» [(457)]، فهذا مذهب أبي أيوب وأبي هريرة، وهو المنع مطلقًا في الصحراء وفي غير الصحراء، ومذهب ابن عمر وجماعة من الصحابة ما سلكه المصنف؛ فمن الصحابة من ذهب إلى العموم وتبعهم جماعة من أهل العلم، ومنهم من ذهب إلى التفصيل كابن عمر وجماعة.

وقوله: «لَعَلَّكَ مِنْ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ؟» ؛ هذا قاله ابن عمر لواسع بن حبان؛ يعني: أنه لا يجافي بطنه عن فخذه في السجود؛ فقد كان النبي ﷺ إذا سجد جنح [(458)]؛ أي: كان مجنحًا يجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه؛ فهذا مستحب، ولو قيل بالوجوب لكان له وجه.

قيل: إن ابن عمر قال ذلك لأنه رآه يفعل ذلك.

وقال بعضهم: إنه ظن أنه تخفى عليه هذه المسألة ما دام خفي عليه استقبال القبلة واستدبارها، ويستفاد من قول ابن عمر لواسع بن حبان أنه يشرع للمصلي أن يجافي عضديه عن جنبيه وبطنه عن فخذيه وفخذيه عن ساقيه ولا يكون لاصقًا بالأرض.

المتن:

باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْبَرَازِ

 146 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ ﷺ كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ -وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ- فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ ﷺ: احْجُبْ نِسَاءَكَ؛ فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ ﷺ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي عِشَاءً، وَكَانَتْ امْرَأَةً طَوِيلَةً فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلاَ قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها خروج النساء إلى البراز، والبَراز ـ بفتح الباء الموحدة ـ هي الصحراء والفضاء، أما البِراز ـ بالكسر ـ فهي المبارزة في الحرب.

 146 في الحديث الأول: أن النساء كن يخرجن إلى البراز يقضين حاجتهن، وكان هذا في أول الأمر لما قدم النبي ﷺ المدينة؛ قالت عائشة رضي الله عنها: كان أمر العرب الأول أنهم كانوا يكرهون أن تقضى الحاجة في البيوت، ولم يكن هناك في البيوت كنف، فكانت النساء يخرجن في الليل لقضاء الحاجة في الصحراء، وقالت في حديث الإفك: «وكنا ما نخرج إلا من ليل إلى ليل» [(459)]، وكانت النساء إنما يأكلن العلقة من الطعام؛ أي الأكل القليل، ولا يحتجن إلى قضاء الحاجة إلا من الليل إلى الليل، ويخرجن في ظلمة الليل من أجل التستر وليس هناك مصابيح.

قوله: «كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ» ، المناصع هي الصحراء والفضاء.

وكان عمر حريصًا على أن تحجب نساء النبي ﷺ، فقال للنبي ﷺ: «احْجُبْ نِسَاءَكَ» ، ثم خرجت سودة وكانت امرأة طويلة؛ فقال عمر: «أَلاَ قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ» أي: والله ما تخفين علينا؛ «حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ» ؛ فأنزل الله آية الحجاب، وهي قول الله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزَاب: 53]، وآية الحجاب هذه نزلت في زواج النبي ﷺ بزينب.

وقول عمر هذا يحتمل أن يكون قبل نزول الحجاب ويحتمل أن يكون بعد نزوله، وأنه لما نزل الحجاب كان النساء يغطين وجوههن فأراد عمر أن يحجب أشخاصهن، وفي رواية أنه لما قال عمر ذلك انكفأت سودة وذهبت إلى النبي ﷺ، وأخبرته، وكان يتعرق عرقًا؛ فنزل الوحي فقال ﷺ: قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِي حَاجَتِكُنَّ [(460)].

وفي هذا دليل: على أنه لا بأس أن تخرج المرأة لحاجتها إذا كانت متسترة في غير ريبة، وفيه أنه يجوز للمرأة أن تكلم الرجل عند الحاجة إذا لم يكن هناك ريبة في: البيع والشراء والسؤال والاستفتاء، وأن صوت المرأة ليس بعورة، لكن قد يفتتن بعض الناس به؛ ولهذا نهيت عن الخضوع بالقول؛ قال الله تعالى: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [الأحزَاب: 32]، والمرض هنا مرض الشهوة؛ فالمرأة إذا تكلمت بكلام ليس فيه خضوع ولا ترخيم فلا بأس؛ أما إن كانت تخضع بالقول بكلام فيه تغنج فهذا يُطْمِع من في قلبه مرض الشهوة.

وفيه: أن المرأة لا بأس بخروجها لتستفتي أو تشتري أوتبيع أو تقضي حاجتها في حشمة وتحجب.

ثم بعد ذلك اتخذت الكنف في البيوت، وصرن يقضين الحاجة في البيوت، ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى النبي ﷺ يقضي حاجته في بيت حفصة بعد ذلك[(461)].

المتن:

147 حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِي حَاجَتِكُنَّ.

قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِي الْبَرَازَ.

الشرح:

 147 وفي الحديث الثاني: أن النساء كن يخرجن لقضاء حاجتهن، وكذلك سائر الحوائج التي تلزم المرأة إذا احتاجت إلى الخروج، فلو احتاجت أن تخرج لتشتري شيئًا لا بد منه فلا بأس إذا لم يكن عندها أحد، حتى لو كانت محدة، فإن كان عندها ما يكفي حاجتها فلا تخرج.

والحديث السابق قد يفهم منه أنه خاص بنساء الرسول ﷺ، وليس كذلك؛ لأن العلة عامة وهي قوله تعالى: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ [الأحزَاب: 53]، فلا يقال: إن نساء النبي ﷺ يحتجن إلى طهارة القلوب، ونساء غيره لا يحتجن إلى ذلك، فغير نساء النبي ﷺ أولى وأحوج إلى الطهارة؛ فالحجاب أطهر لقلوب الرجال وقلوب النساء.

والمرأة بصفة عامة إذا خرجت لقضاء حوائجها يجب أن تكون متحجبة محتشمة، وإلا فلا تخرج.

وإن كان عند المرأة زوج يقضي حوائجها فلا تخرج إلا بإذنه، فإن لم يكن لها زوج قضى حوائجها أخوها أو أبوها.

ومن صفة الحجاب الشرعي أن تغطي المرأة كفيها؛ فالكفان والرجلان والقدمان كلها عورة، وما يفعله بعض النساء من التساهل في ذلك أمر خطير.

فمن النساء من تخرج اليدين وبعض الساعدين، وتخرج القدمين وبعض الساقين وتحجب الوجه، وقد اختلف العلماء في كشف الوجه، والصواب أنه يستر أيضًا.

أما بالنسبة لقول عمر للنبي ﷺ فكان حرصًا منه على نزول الحجاب، أو يكون كلامه سببًا لنزوله.

المتن:

باب التَّبَرُّزِ فِي الْبُيُوتِ

 148 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ:حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ.

الشرح:

 148 حديث ابن عمر هو الحديث الذي خصص عموم حديث أبي أيوب: إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الغَائِطَ، فَلاَ يَسْتَقْبِلِ القِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ [(462)].

وأما حديث جابر: «رأيته قبل أن يموت بعام يقضي حاجته مستقبل القبلة» [(463)] ـ يعني في البنيان ـ فدل على جواز الاستقبال والاستدبار في البنيان، وهذا هو الصواب.

أما أبو أيوب وجماعة فإنهم ذهبوا إلى العمل بالعموم في النهي، وأنه لا يجوز استقبال القبلة ولا استدبارها مطلقًا؛ ولهذا قال أبو أيوب: «قدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها ونستغفر الله » [(464)]، فحديث ابن عمر إما أنه لم يبلغهم أو بلغهم وتأولوه على أنه قضية عين لا عموم لها، لكن الصواب الجمع بين النصوص.

والمؤلف استشهد بهذا الحديث على جواز التبرز في البيوت، وأنه لا حرج في أن يكون في البيت حمام "بيت خلاء".

فالنساء في أول الأمر كن يخرجن إلى الصحراء، ويخترن ظلمة الليل، ثم جاء الحجاب فتسترن وحجبن الوجوه فهذا ستر ثانٍ، ثم اتخذت الكنف في البيوت وهذا ستر ثالث.

المتن:

 149 حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ أَنَّ عَمَّهُ وَاسِعَ بْنَ حَبَّانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ قَالَ: لَقَدْ ظَهَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

الشرح:

 149 قوله: «فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» يعني: مستدبر الكعبة؛ لأنه إذا استقبل بيت المقدس استدبر الكعبة.

وقد ذهب مالك وبعض العلماء إلى أنه لا يجوز استقبال بيت المقدس[(465)]، وهذا قول ضعيف، وأضعف منه قول من قال: إنه لا يجوز استقبال النيرين كما في «الزاد» و«الروض المربع»[(466)].

فاستقبال الشمس والقمر والنجوم لا حرج فيه، واستقبال القبلة المنسوخة ـ أي بيت المقدس ـ لا حرج فيه كذلك، إلا إذا كان في المدينة أو كان في الفضاء فلا يستقبل بيت المقدس؛ لأنه إذا استقبل بيت المقدس استدبر الكعبة، فإن كان في غير المدينة فلا بأس أن يستقبل بيت المقدس إذا كان لا يستقبل الكعبة ولا يستدبرها.

المتن:

الاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ

 150 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ وَاسْمُهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَجِيءُ أَنَا وَغُلاَمٌ مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ يَعْنِي يَسْتَنْجِي بِهِ.

الشرح:

 150 في الحديث: دليل على جواز الاستنجاء بالماء، وأنه لا كراهة في ذلك؛ بل فيه الرد على من كره ذلك، فقد ذهب بعضهم إلى كراهة الاستنجاء بالماء، وقالوا: إن العرب كانوا يستجمرون بالأحجار، وكانوا لا يرون الاستنجاء بالماء؛ حتى إن بعضهم أنكره فقالوا: إنه لا يعرف الاستنجاء بالماء، وروي هذا عن بعض الصحابة، وروي عن حذيفة أنه قال: إذا استنجيت بالماء لا يزال النتن في يدي.

وكذلك روي عن مالك كراهته[(467)] وروي عن ابن حبيب من المالكية وقال: إنه لا يُستنجى بالماء لأنه مطعوم[(468)]، وهذه الأقوال كلها ضعيفة لا يعول عليها، والصواب جواز الاستنجاء بالماء، وأن الاستنجاء به أفضل من الحجارة، ولهذا استنجى النبي ﷺ بالماء، وبعضهم تأوَّل وقال: إن هذا ليس من كلام أنس، أي قوله: «يَعْنِي يَسْتَنْجِي بِهِ» ، وإنما هو من كلام عطاء، لكن جاء في الحديث الآخر: فخرج النبي ﷺ وقد استنجى بالماء[(469)]؛ فالاستنجاء بالماء أفضل من الاستنجاء بالحجارة، ولا كراهة فيه، وإذا جمع بين الحجارة والماء فهو أفضل.

فتكون الأحوال ثلاثة:

الحال الأولى ـ وهي أكمل ـ: أن يستجمر بالحجارة، ثم يتبعها بالماء؛ وهذا هو الأفضل.

الحال الثانية: أن يستنجي بالماء وحده.

الحال الثالثة: أن يستجمر بالأحجار وحدها فهذا مجزئ بالشروط ـ كما سيأتي ـ فإذا استُكملت الشروط فلا بأس أن يُكتفى بالأحجار عن الماء.

وفي هذا الحديث: أن أنسًا كان هو وغلام معه ـ قيل: ابن مسعود، وقيل: غيره ـ يحملون الماء إلى النبي ﷺ في الصحراء فكانوا يحملون إداوة، والإداوة: إناء صغير من جلد يحمل فيه الماء، وفي لفظ آخر: أنهم كانوا يحملون العنزة أيضًا[(470)] وهي: العصا في طرفها حديدة، فإذا قضى النبي ﷺ حاجته استنجى بالماء.

وفي الحديث: دليل على أنه لا بأس بحمل الماء، وأن الإنسان إذا كان يحمل ماء، أو يحمله له شخص حتى يستنجي أو يتوضأ به فلا بأس بذلك، ولا كراهة فيه، وأن من ذهب إلى كراهة الاستنجاء بالماء فقوله ضعيف مردود.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «أراد بهذه الترجمة الرد على من كرهه وعلى من نفى وقوعه من النبي ﷺ»؛ فقد قال بعضهم: إن الاستنجاء بالماء لم يقع من النبي ﷺ.

فهذا الحديث: دليل ظاهر على أنه وقع من النبي ﷺ؛ بل الاستنجاء بالماء أفضل من الحجارة؛ لأن الإنقاء به أكمل.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقد روى ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء، فقال: إذن لا يزال في يدي نتن. وعن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يستنجي بالماء، وعن ابن الزبير قال: ما كنا نفعله، ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي ﷺ استنجى بالماء»، وهذا إن صح؛ فإما أنه لم يبلغه الحديث أو أنه تأوله.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع الاستنجاء بالماء؛ لأنه مطعوم»؛ وهذا رأي في مقابلة النص فلا يعول عليه.

المتن:

 مَنْ حُمِلَ مَعَهُ الْمَاءُ لِطُهُورِهِ

وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالطَّهُورِ وَالْوِسَادِ؟

 151 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ هُوَ عَطَاءُ ابْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ تَبِعْتُهُ أَنَا وَغُلاَمٌ مِنَّا مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ.

الشرح:

قوله: «وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالطَّهُورِ وَالْوِسَادِ؟» هو ابن مسعود كان يحمل نعلي النبي ﷺ، فصاحب النعلين هو النبي ﷺ لكن ابن مسعود هو الذي كان يحملهما، والطهور يعني: الماء الذي يتطهر به.

وفيه: دليل على أنه لا بأس بخدمة الأحرار؛ فالكبير أو الوالد أو العالم إذا خدمه بعض الشباب فهو شرف لهم، كما استنبط هذا الحافظ وغيره.

 151 في الحديث: دليل على أنه لا بأس بحمل الماء ليتطهر به في الوضوء والاستنجاء.

وفيه: أنه لا بأس بالإعانة على الاستنجاء والوضوء بحمل الماء، كما أنه لا بأس بأن يصب الماء عليه وهو يتوضأ؛ كل هذا لا بأس به.

المتن:

باب حَمْلِ الْعَنَزَةِ مَعَ الْمَاءِ فِي الاِسْتِنْجَاءِ

 152 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْخُلُ الْخَلاَءَ فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ.

تَابَعَهُ النَّضْرُ وَشَاذَانُ عَنْ شُعْبَةَ.

الْعَنَزَةُ عَصًا عَلَيْهِ زُجٌّ.

الشرح:

 152 هذا الحديث فيه: دليل على حمل العنزة والماء ليُستنجى به، والعنزة هي عصا في طرفها حديدة تركز في الأرض حتى تكون سترة للمصلي، فهذا دليل على مشروعية السترة، فيشرع للمصلي أن يصلي إلى سترة، ولهذا كان النبي ﷺ يُحمل له الماء والعنزة، فكان يستنجي ويتوضأ ثم تركز العنزة؛ فدل ذلك على مشروعية السترة واستحبابها، والسترة تكون شيئًا قائمًا: جدارًا أو عمودًا أو عصا تركز بطول يقارب ثلثي ذراع مثل مُؤْخِرة الرحل كما في الحديث الآخر: يَقْطَعُ صَلَاةَ الرَّجُلِ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ يَدَيْهِ قَيْدُ آخِرَةِ الرَّحْلِ: الْحِمَارُ وَالْكَلْبُ الْأَسْوَدُ وَالْمَرْأَةُ [(471)]. ومُؤْخِرة الرحل تقارب ثلثي ذراع؛ هذا هو السترة؛ أما ما يظنه بعض الناس من أن طرف السجادة يكفي، أو طرف الحصير، فهذا ليس بسترة؛ فالسترة لا بد أن تكون شيئًا قائمًا؛ أما إذا لم يجد شيئًا فإنه يضع خطًّا يشبه الهلال أمامه في الأرض، وهذا فيه خلاف، وحديث الخط رواه الإمام أحمد[(472)]، وفيه: كلام لأهل العلم، منهم من رآه سترة، ومنهم من لم يره سترة.

والسترة مستحبة عند جمهور العلماء، وبعض العلماء ذهب إلى الوجوب، لكن الجمهور على أنها مستحبة؛ ومن النكت في هذا أن بعض الناس حرف معنى هذا الحديث فقال بعضهم: نحن من قبيلة عنزة، كان النبي ﷺ يصلي إلينا.

ودليل استحباب السترة ما جاء في الحديث: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ [(473)]؛ فقوله: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ دل على الاختيار، وأنه ليس بواجب.

والسترة تكون أمام المرء تتوسطه فلا يميل عنها يمينًا أو شمالاً، والحديث الذي فيه أنه يميل عنها يمينًا أو شمالاً ضعيف.

ويتخذ الإمام والمنفرد السترة، أما المأموم فلا سترة له؛ لأن سترة الإمام سترة له، لأنه تابع للإمام، ويدل على هذا حديث ابن عباس رضي الله عنهما ـ وكان مراهقًا ـ أنه جاء والنبي ﷺ يصلي بالناس بمنى، وهو راكب على حمار أتان، فمر بين يدي الصفوف، ولم ينكر عليه؛ لأن الصفوف تابعة لإمامٍ؛ فالنبي ﷺ يصلي بهم، فسترة المأموم سترة الإمام، وإذا صلى الإمام، أو المنفرد، وأمامه شخص جالس، كان ذلك سترة له.

المتن:

النَّهْيِ عَنْ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ

 153 حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِْنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلاَءَ فَلاَ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ.

الشرح:

 153 هذا الحديث اشتمل على ثلاثة آداب:

الأدب الأول: إذا شرب الإنسان من الماء فلا يتنفس في الإناء؛ لأنه إذا تنفس في الإناء قد يخرج منه شيء في الماء، أو قد يخرج منه رائحة تبقى في الإناء؛ فيقذِّره على غيره.

الأدب الثاني: ألا يستنجي بيده اليمنى، بل باليد اليسرى.

الأدب الثالث: ألا يمس ذكره بيمينه، وقد جاء في الحديث التالي تقييده بما إذا كان يبول، فمن العلماء من قال: إن هذا قيد لا بد منه، ومنهم من منع منه في غير حالة البول، لكن الأقرب أنه قيد معتبر، وأن هذا في حالة البول؛ لأنه قد يصيب اليمين شيء من البول.

والنهي ـ في هذا الحديث ـ عند الجمهور لكراهة التنزيه، وذهب بعض العلماء كالظاهرية إلى أن النهي للتحريم، والصواب أنه للتحريم؛ لأن الأصل في النواهي التحريم إلا بصارف، وليس هناك صارف.

ثم إن الأذى في هذه الأشياء واضح، فكونه يتنفس في الإناء فهذا يقذره على غيره، كما أنه قد يكون مصابًا بمرض فينتقل إلى غيره، فإذا أراد أن يتنفس فعليه أن يزيل الكأس عن فمه ثم يتنفس.

وكذلك النهي عن الاستنجاء باليد اليمنى؛ لأن اليمين مكرمة، واليسار تكون لما يستقذر، وكذلك لا يمس ذكره بيمينه.

المتن:

باب لاَ يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ إِذَا بَالَ

 154 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَْوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِْنَاءِ.

الشرح:

قوله: لاَ يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ إِذَا بَالَ: هذا قيد قيّد به المؤلف الحديث السابق، فيكون قوله: فَلاَ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ [(474)] مقيدًا بما إذا بال.

وإن كان بعض العلماء يرى المنع مطلقًا حتى في غير حال البول، لكن الأظهر أنه مقيد بحال البول؛ لأن اليمين تكون عرضة للإصابة بشيء من البول، وكذلك الاستنجاء لا يكون إلا باليسار.

 154 قوله: إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ؛ فاليمين دائمًا تكون للمكارم؛ ولهذا نعقد التسبيح باليمين، كما جاء في حديث أبي داود: كان النبي ﷺ يعقد التسبيح بيمينه[(475)]. وإن سبح باليمين واليسار فلا حرج، لكن السنة أن يكون باليمين.

ولا ينبغي النفخ في الإناء؛ لأنه جاء في الحديث الآخر النهي عن النفخ في الشراب[(476)]، ولا ينطبق هذا على النفث، فالنفث يكون في الرقية، وهذا شيء آخر غير النفخ في الشراب.

وبعض الناس ينفخ في الشراب إذا كان حارًّا وشهيًّا، وهذا منهي عنه، بل يتركه حتى يبرد، حتى لو كان له وحده.

المتن:

باب الاِسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ

 155 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ ابْنِ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَخَرَجَ لِحاجَتِهِ فَكَانَ لاَ يَلْتَفِتُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ: ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا أَوْ نَحْوَهُ وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ رَوْثٍ، فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِي، فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ، وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ.

 الشرح:

155 قوله: ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا: أَسْتَنْفِضْ جواب الأمر في قوله: «ابْغِنِي» .

وفي الحديث: دليل على أن الاستجمار بالحجارة يكفي عن الاستنجاء بالماء؛ ولهذا قال النبي ﷺ لأ بي هريرة: ابْغِنِي أَحْجَارًا أي: اطلب لي أحجارًا، أَسْتَنْفِضْ بِهَا يعني: أستجمر بها، والاستجمار والاستنفاض بمعنى واحد، فأتاه في طرف ثوبه بشيء من الأحجار ووضعها عنده، ثم أعرض عنه فاستجمر بها.

فدل الحديث: على أنه لا بأس بالاستجمار بالحجارة وما يقوم مقامها من الأشياء اليابسة الطاهرة المنقية للنجاسة، كالطين المتحجر، والورق، والخشب، ومناديل الورق، ونحوها، باستثناء الروث والعظم؛ لأنهما منهي عنهما كما في الحديث الآخر، وكذلك لا يستجمر بالشيء الأملس؛ لأنه لا ينقي، أما بالنسبة للتراب فقد يقال: إنه لا يكفي، وقد يقال: إنه يكفي، لكن الأحوط أن يستعمل المرء شيئًا يابسًا صلبًا.

وما عدا ذلك من الأشياء لا بأس بها، ولكن بشروط:

الشرط الأول: أن تكون ثلاثة أحجار فأكثر، فلا يجزئ حجر ولا حجران.

الشرط الثاني: أن تكون هذه الأحجار منقية، فلا يبقى بعد استعمالها إلا أثر يسير لا يزيله إلا الماء، وهذا مما يعفى عنه.

الشرط الثالث: ألا يتجاوز الخارج موضع العادة، فإن تجاوز موضع العادة فلا يجزئه إلا الماء.

ويتجاوز الخارج موضع العادة إذا كان الخارج من الدبر يتجاوز الصفحتين، وإذا كان الخارج من القبل يتجاوز الذكر وينتشر إلى الحشفة فلا يزيله إلا الماء.

الشرط الرابع: ألا يكون بعظم ولا روث؛ فإن العظم والروث لا يجزئ، كما سيأتي في الحديث الذي بعده.

المتن:

156 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَْسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: أَتَى النَّبِيُّ ﷺ الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌِ.

 الشرح:

162 هذا الحديث فيه: أن النبي ﷺ طلب أحجارًا من عبدالله بن مسعود، فأتاه بحجرين والثالث روثة ـ والروثة: رجيع الدابة كالإبل أو البقر أو الغنم ـ فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال: هَذَا رِكْسٌِ، زاد الإمام أحمد رحمه الله بسند لا بأس به عن علقمة، عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال: ائتني بغيرها [(477)]، وهذه الزيادة لا بأس بها، فدل على أنه لا بد من ثلاثة أحجار في الاستجمار، وأن الروثة لا تجزئ وكذلك العظم.

وجاء في الحديث الآخر بيان الحكمة في منع الاستنجاء بالروث، فقال: إِنَّهُ زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ [(478)]؛ وفي رواية: أن الجن جاءوا إلى النبي ﷺ واستمعوا القرآن وسألوه عن الأحكام، وسألوه عن الطعام، فقال: لَكُمْ كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي أَيْدِيكُمْ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا وَكُلُّ بَعْرَةٍ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ، فَلَا تَسْتَنْجُوا بِهِمَا فَإِنَّهُمَا طَعَامُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ [(479)]، ومعنى ذلك أن الشاة المذبوحة التي ذكر اسم الله عليها يعود لحمها الذي أُكل فيأكله إ خواننا من الجن، فإذا استجمر به أحد قذره عليهم، وكذلك بعرة البعير، أو البقرة، أو بعرة الغنم، يعود حبها الذي أكل فيكون علفًا لدواب الجن، فإذا استجمر بها قذرها عليهم، فلا يجوز للإنسان أن يستنجي بالعظم ولا بالروث.

وكون الاستجمار وترًا فهذا محمول على الاستحباب عند أهل العلم، فإذا أنقى بأربعة أحجار يستحب أن يزيد خامسًا، وإذا أنقى بستة يستحب أن يزيد سابعًا، لكن لا يجب عليه ذلك؛ فالمهم أن تكون ثلاثة أحجار فأكثر، فلا يجزئ حجر ولا حجران، وعند العلماء أنه إذا كان حجر له ثلاثة رءوس كان بمثابة الثلاثة أحجار.

وشروط الاستجمار بالحجارة هي :

الشرط الأول: أن يكون بثلاثة أحجار فأكثر.

الشرط الثاني: أن تكون منقية فلا يبقى إلا أثر يسير لا يزيله إلا الماء.

الشرط الثالث: ألا يتجاوز الخارج موضع العادة.

أما إذا تجاوز الخارج موضع العادة فلا بد من الماء؛ لأن النجاسة صارت خارجة عن القبل والدبر فلا بد من غسلها بالماء؛ لأن الصواب أن النجاسة لا يطهرها إلا الماء، خلافًا لبعضهم ممن ذهب إلى أنه يجوز تطهيرها بالدلك، أو أنها تطهر بالاستحالة، أو بالشمس، أو بالريح؛ والصواب: أنها لا تطهر بذلك إلا الخفين والنعلين، فإنه يكفي دلكهما.

الشرط الرابع: ألا يستجمر بروث، ولا عظم.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ» ، فيه: العمل بما دل عليه النهي في حديث سلمان عن النبي ﷺ، قال: وَلَا يَسْتَنْجِ أَحَدُكُمْ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ [(480)] رواه مسلم، وأخذ بهذا الشافعي[(481)] وأحمد[(482)] وأصحاب الحديث، فاشترطوا ألا ينقص من الثلاث، مع مراعاة الإنقاء؛ إذا لم يحصل بها فيزيد حتى يُنقي، ويستحب حينئذ الإيتار».

يعني: إذا لم ينق بالثلاثة زاد رابعًا، فإذا لم ينق الرابع يزيد خامسًا، فلا بد من الإنقاء، والإنقاء معناه ألا يبقى إلا أثر يسير لا يزيله إلا الماء.

وعلى هذا فتحصل الطهارة من البول والغائط بأحوال ثلاثة كلها جائزة:

الحالة الأولى: أن يستجمر بالحجارة ثم يتبعها بالماء، وهذا هو الأكمل والأفضل.

الحالة الثانية: أن يستنجي بالماء وحده فقط، وهذا يلي الحالة الأولى في الأفضلية.

الحالة الثالثة: أن يستجمر بالحجارة فقط ولكن بشروطها، فإذا توفرت الشروط كفى عن الماء ولو كان على نهر جار.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ويستحب حينئذ الإيتار لقوله: وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ [(483)] وليس بواجب؛ لزيادة في أبي داود حسنة الإسناد، قال: وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ [(484)]».

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ» ، استدل به الطحاوي على عدم اشتراط الثلاثة، قال: لأنه لو كان مشترطًا لطلب ثالثًا. كذا قال، وغفل رحمه الله عما أخرجه أحمد في «مسنده» من طريق معمر، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن ابن مسعود في هذا الحديث، فإن فيه فألقى الروثة وقال: إِنَّهَا رِكْسٌ، ائْتِنِي بِحَجَرٍ [(485)]. ورجاله ثقات أثبات».

أما بالنسبة لفتر الذكر فهذا مكروه، خلافا لما ذكره الحنابلة[(486)] وغيرهم، فتر الذكر ليس بمشروع ويجلب الوسواس ويتسبب في استمرار الخارج.

المتن:

باب الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً

 157 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَوَضَّأَ النَّبِيُّ ﷺ مَرَّةً مَرَّةً.

الشرح:

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً» أي: لكل عضو، والحديث المذكور في الباب مجمل».

وكذا يقال في المراد بقوله: «بَاب الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ» ، وقوله: «بَاب الْوُضُوءِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا» إنه لكل عضو.

وأما المسح على الخفين فإنه يمسح من أصول الأصابع إلى الساق مرة واحدة.

 157 هذا الحديث فيه: بيان أن المسلم يتوضأ مرة مرة، ويكفيه ذلك في الطهارة، بمعنى أن يعمم كل عضو من الأعضاء الأربعة مرة واحدة بالماء؛ فيعمم الوجه بالغسل، ويعمم اليدين كل واحدة منهما من رءوس الأصابع حتى يشرع في العضد، ويعمم الرأس بالمسح، ويعمم الرجلين حتى يتجاوز الكعبين ويشرع في الساق، كل هذا مرة واحدة.

وليس المراد: الغرفة، بل العبرة بالتعميم، فإذا عمم بغرفة كفى وإلا يأخذ غرفة ثانية، فالتعميم بالماء مرة ـ سواء بغرفة أو بغرفتين أو بثلاث ـ يكفي للطهارة ويجزئ في الوضوء.

المتن:

باب الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ

 158 حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.

الشرح:

 158 هذا الحديث فيه أيضًا: مشروعية الوضوء مرتين مرتين وجوازه، وهو أن يعمم كل عضو من أعضاء الوضوء بالماء مرتين، فيغسل الوجه ويعممه مرتين، ويعمم اليد اليمنى مرتين، ويعمم اليد اليسرى مرتين، ويعمم الرأس بالمسح مرة واحدة، فالرأس لا يكرر مسحه، ويعمم رجله اليمنى حتى يتجاوز الكعبين مرتين، ويعمم رجله اليسرى كذلك مرتين، وتكون المرة الأولى مجزئة، والثانية مستحبة.

المتن:

باب الْوُضُوءِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا

 159 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُْوَيْسِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ؛ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِْنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.

الشرح:

 159 الحديث الأول في هذا الباب فيه: أن النبي ﷺ توضأ ثلاثًا ثلاثًا، والمعنى: أنه يعمم كل عضو من أعضاء الوضوء ثلاث مرات، فيغسل وجهه ثلاث مرات، واليد اليمنى ثلاث مرات، واليد اليسرى ثلاث مرات، والرأس لا يكرر مسحها، بل يمسح مرة واحدة، ثم يغسل رجله اليمنى ثلاث مرات، ثم رجله اليسرى ثلاث مرات.

وفي هذا الحديث أن عثمان بن عفان غسل يديه ثلاث مرار قبل الوضوء؛ وهذا مستحب، والمراد باليدين الكفان، إلا إذا قام من نوم ليل فإنه يتأكد الاستحباب، وأوجبه بعض العلماء مثل أحمد[(487)] وجماعة لقول النبي ﷺ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ [(488)]، قالوا: هذا الأمر يفيد الوجوب، وهو عند الجمهور متأكد الاستحباب. وإذا استيقظ من نوم الليل وغمس يده، فإنه خالف الأمر، ولكن الماء طهور؛ وقال بعضهم: يكون الماء نجسًا، ولكنه قول ضعيف، وعلى القول بأنه للوجوب يكون تاركه آثما، وعلى القول بأنه للاستحباب لا يأثم، والصواب أنه لا يأثم، والماء طهور.

وفي هذا الحديث: أن عثمان تمضمض، واستنشق، ولم يذكر العدد؛ لكن جاء في أحاديثَ أخر أنها كانت ثلاثًا، والسنة أن تكون من غرفة واحدة، يتمضمض بها، ويستنشق ببقيتها، ويستنثر؛ يفعل ذلك ثلاث مرات، الأولى مجزئة، والثانية، والثالثة مستحبتان.

وكذلك يغسل وجهه بالماء طولاً من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحية، وعرضًا من الأذن إلى الأذن، يعممه بالماء مرة واحدة، هذا هو الواجب، والثانية والثالثة مستحبتان، وأفضل الوضوء ثلاث مرات.

وتخليل اللحية مستحب وليس بواجب إذا كانت كثيفة ـ وهي التي تغطي البشرة ـ أما اللحية الخفيفة فلا بد من غسلها وإيصال الماء لما تحتها.

ثم يغسل يده اليمنى من رءوس الأصابع حتى يتجاوز المرفق، ويشرع في العضد يعممه بالماء مرة واحدة؛ هذا هو الواجب، والثانية والثالثة مستحبتان، واليد اليسرى كذلك، ثم يمسح رأسه مرة واحدة يعممه بالمسح ولا يكرر، والأفضل أن يقبل بيديه ويدبر بهما جميعًا، يبدأ من مقدم رأسه إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم يمسح الأذنين ببقية الماء الذي علق بيديه، يدخل أصبعيه السبابتين في صماخي الأذنين ويمسح بإبهاميه ظاهرهما، ثم يغسل رجله اليمنى ثلاثًا؛ مرة يعممها بالماء حتى يتجاوز الكعبين ويشرع في الساق، والثانية والثالثة مستحبتان، ثم اليسرى كذلك.

ويدل هذا الحديث على مشروعية التثليث، وأن التثليث هو النهاية، فلا يجوز للإنسان أن يزيد على ثلاث في غسل العضو، وقد جاء في حديث آخر: فَمَنْ زَادَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ [(489)].

والمؤلف رحمه الله ذكر في هذه التراجم الثلاث الوضوء مرة مرة، وهذا هو المجزئ، والذي لا بد منه، ثم الوضوء مرتين مرتين، المرة الأولى هي الواجبة، والثانية مستحبة، ثم الوضوء ثلاثًا ثلاثًا، فهذه ثلاث سنن في الوضوء، وجاءت سنة رابعة، وهي أن يتوضأ مخالفًا، فيغسل بعض الأعضاء مرة، وبعضها مرتين، وبعضها ثلاثًا[(490)]؛ كأن يغسل وجهه مرة ويديه مرتين ورجليه ثلاثًا، أو يغسل وجهه ثلاثًا ويديه مرة ورجليه مرتين، وكل هذا ثابت عن النبي ﷺ، فتكون السنن أربعًا: يتوضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، ومخالفًا.

وفي هذا الحديث: أن النبي ﷺ قال: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ يعني: بشيء غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وهذا فيه فضل عظيم لمن توضأ وصلى ركعتين؛ لأن هذا من أسباب المغفرة، لكن بهذا الشرط: لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، فلا يكون عنده وساوس، ولا أفكار؛ وجاء في صحيح مسلم: فيصلي رَكْعَتَيْنِ، يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ [(491)]، والمعنى: أنه إذا توضأ وصلى ركعتين متذكراً، يقبل فيهما على الله ، لا ينصرف عنه بشيء من حديث النفس، فهذا من أسباب المغفرة، وهذا عند أهل العلم لمن اجتنب الكبائر، أما من فعل الكبائر، فإن الوضوء لا يكفرها، بل تبقى عليه؛ لقول الله : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ يعني: الصغائر، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النِّسَاء: 31].

وثبت في صحيح مسلم: عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، وَالْجُمْعَةُ إِلَى الْجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ [(492)]، فهذا قيد باجتناب الكبائر، وأصح ما قيل في الكبيرة: أنها ما توعد عليه بالنار أو اللعن أو الغضب في الآخرة، مثل القتل، والتولي يوم الزحف، وأكل مال اليتيم، أو وجب فيه حد في الدنيا، مثل السرقة، والزنا، والقذف، وشرب الخمر، أو نُفي عن صاحبه الإيمان، مثل لطم الخدود، وشق الجيوب، لقول النبي ﷺ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ [(493)].

فإذا اجتنب الإنسان الكبائر، وأدى الفرائض، كفر الله عنه الصغائر بالأعمال الصالحة، كالوضوء، والصلوات الخمس، والجمعة، ورمضان والحج، وغيرها من العبادات، والأعمال؛ أما إذا لم يجتنب الكبائر، فيكون له ثواب هذه الأعمال، ولا تسقط الكبائر إلا بالتوبة؛ هذا هو الصحيح المعتمد الذي دلت عليه النصوص، وعليه الجمهور؛ وقال بعض العلماء: تكفر الصغائر والكبائر، لكنه قول ضعيف.

المتن:

160 وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عَنْ حُمْرَانَ فَلَمَّا تَوَضَّأَ عُثْمَانُ قَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا، لَوْلاَ آيَةٌ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: لاَ يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ يُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّي الصَّلاَةَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا.

قَالَ عُرْوَةُ: الآْيَةَ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ.

الشرح:

 160 قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاََّّعِنُونَ ۝ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البَقَرَة: 159-160]؛ وهذه الآية فيها وعيد شديد لمن كتم الحق عند سؤاله أو عند الحاجة إليه، إلا من تاب، وأصلح، وبين ما كتمه؛ ولهذا قال: وَبَيَّنُوا، فهذه الآية وإن كانت نزلت في أهل الكتاب إلا أنها عامة، فعثمان خاف من الكتمان، ولذلك حدث بهذا الحديث، فذكر أنه لولا الوعيد في هذه الآية ما حدث بالحديث؛ مخافة أن يغتروا، أو أن يتكلوا، فيفعلوا المعاصي اعتمادًا على أنها تكفر بالصلاة.

قوله: لاَ يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ يُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّي الصَّلاَةَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا فيه: فضل عظيم للمسلم، وهو أنه يُغفر له ما بين الصلاة والتي تليها إذا أحسن الوضوء، وهذا لمن اجتنب الكبائر، وهو قيد لا بد منه، فقد دلت عليه النصوص الأخرى؛ فالمسلم إذا صلى الفجر غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، وإذا صلى الظهر غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، وإذا صلى العصر غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، وإذا صلى المغرب غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وإذ صلى العشاء غفر له ما بينها وبين صلاة الفجر في اليوم التالي، وهذا بشرط اجتناب الكبائر.

وأما الذي يفعل الكبائر، فهذا لا تكفر عنه الصغائر، ولا الكبائر؛ كالذي يسرق، أو يزني، أو يشرب الخمر، أو يغتاب، أو ينم. ويتهاون بالغيبة والنميمة كثير من الناس في المجالس؛ والغيبة: ذكرك أخاك بما يكره وهو غائب، والنميمة: نقل الكلام من شخص إلى شخص على وجه الإفساد، ولا يسلم منهما إلا من سلمه الله.

160 قوله: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاََّّعِنُونَ ۝ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البَقَرَة: 159-160]؛ وهذه الآية فيها وعيد شديد لمن كتم الحق عند سؤاله أو عند الحاجة إليه، إلا من تاب، وأصلح، وبين ما كتمه؛ ولهذا قال: وَبَيَّنُوا، فهذه الآية وإن كانت نزلت في أهل الكتاب إلا أنها عامة، فعثمان خاف من الكتمان، ولذلك حدث بهذا الحديث، فذكر أنه لولا الوعيد في هذه الآية ما حدث بالحديث؛ مخافة أن يغتروا، أو أن يتكلوا، فيفعلوا المعاصي اعتمادًا على أنها تكفر بالصلاة.

والحمد لله فإن فضل الله واسع عظيم، لكن لا بد من اجتناب الكبائر، وأداء الفرائض، فإذا أدى الإنسان الفرائض، واجتنب الكبائر، كفرت عنه الصغائر ولو تكررت، وبعض العلماء يقول: المداومة والإصرار على الصغيرة تلحق حكمها بالكبيرة.

المتن:

باب الاِسْتِنْثَارِ فِي الْوُضُوءِ

ذَكَرَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.

الشرح:

الاستنثار: هو إخراج الماء وطرحه من الأنف بعد الاستنشاق، والاستنشاق: جذب الماء بالنفس في الأنف، والمضمضة والاستنشاق فيهما خلاف بين أهل العلم؛ وجمهور العلماء على أنهما مستحبتان في الوضوء، وفي الغسل؛ والقول الآخر أنهما واجبتان، وهو الصواب؛ لأن النبي ﷺ، توضأ وأمر الناس أن يصلوا كما يصلي ﷺ، والوضوء شرط لصحة الصلاة.

وقال آخرون من أهل العلم: المضمضة مستحبة، والاستنشاق والاستنثار واجبان، وعلى كل حال ينبغي للمسلم ألا يترك المضمضة والاستنشاق.

المتن:

161 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ.

الشرح:

 161 قوله: مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ هذا أمر، والأصل في الأوامر أنها للوجوب، وقد حمله بعضهم على الاستحباب، لكن القول بوجوبه قول قوي.

قوله: وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ هذا للاستحباب، والذي صرفه عن الوجوب قوله في الحديث الآخر: مَنْ فَعَلَ فَقْدَ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ عليه [(494)]، والاستجمار: هو الاستنجاء بالحجارة، والوتر فيه مستحب إذا أراد أن يكتفي بالاستجمار عن الماء، وفي هذه الحالة لا تقل الأحجار عن ثلاثة، حتى لو أنقى بحجر أو بحجرين، ولا بد أن تكون طاهرة، وليست بعظم، ولا روث، ولا بد أن تكون منقية بحيث لا يبقى إلا أثر لا يزيله إلا الماء فيعفى عنه، ولا بد ألا يتجاوز الخارج موضع العادة، ولا يستجمر بشيء محترم ككتب العلم أو الطعام، ولا بشيء أملس، بل يستعمل أحجارًا، أو طينًا متحجرًا، أو خشبًا أو مناديل ورق، ويكون الاستجمار باليسار.

وإذا استنجى بالماء بعد الحجارة فلا يضره عدم الإيتار، والأفضل أن يجمع بين الحجارة والماء.

المتن:

باب الاِسْتِجْمَارِ وِتْرًا

 162 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ ابْنُ يُوسُفَ قَالَ:أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ.

الشرح:

 162 قوله: إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ هذا أمر، والأصل في الأمر أنه للوجوب، والسنة تثبت بقول الرسول ﷺ وبفعله، ولو لم يواظب عليه، وبتقريره، والقول مقدم على الفعل عندنا، فالأوامر كافية في ثبوت السنية، وقوله: فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ، هذا أمر بالاستنشاق، وقوله: ثُمَّ لِيَنْثُرْ، هذا أمر آخر بالاستنثار، وهو دليل لمن قال: إن الاستنشاق والاستنثار واجبان؛ لأنه أمر، والأصل في الأمر الوجوب.

قوله: وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، هذا أمر، والأصل أنه للوجوب، لكن جاء ما يصرفه، وهو قوله في الحديث الآخر: مَنْ فَعَلَ فَقْدَ أَحْسَنَ، وَمَنْ لَا فَلَا حَرَجَ عليه  [(495)]، فالوتر في الاستجمار مستحب وليس بواجب، ومعنى الإيتار: أنه إذا أنقى بأربعة أحجار يزيد خامسًا حتى يقطع على الوتر، وهكذا، أما الأحجار الثلاثة فلا بد منها إذا اكتفى بالاستجمار عن الماء، وإذا كان الحجر له ثلاث شعب فإنه ينوب عن الأحجار الثلاثة ـ عند أهل العلم ـ إذا أنقى.

قوله: وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ، هذا فيه: الأمر بغسل اليدين ثلاثًا إذا استيقظ من نومه، وهذا خاص بنوم الليل لقوله: فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ، يعني: في الليل، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب غسل اليدين ثلاثًا إذا استيقظ من نوم الليل، لقوله: أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ؛ لأن البيتوتة تكون بالليل، وألحق بعضهم النوم في النهار بذلك، ولكن النوم في الليل آكد، والجمهور على أنه مستحب.

وإذا غمس يده قبل أن يغسلها ثلاثًا فقد خالف الأمر، والماء طهور؛ وقال بعض أهل العلم: يكون نجسًا. لكنه قول ضعيف، والصواب: أنه طهور.

وإذا قيل: إن الأمر للوجوب يكون تاركه آثمًا؛ لأنه خالف الأمر، وعلى قول الجمهور أنه مستحب لا يأثم، ولكنه خالف الأولى والأفضل؛ والصواب أنه يجب عليه غسلهما مطلقًا حتى لو علم حالهما، وقال بعضهم: لو جعل يديه في كيس بالليل ووجدهما على حالهما فإنه لا بد من غسلهما لهذا الأمر، والعلة فيه التعبدية التي فيها معنى الطهارة والنظافة.

والقول بالوجوب هو قول الإمام أحمد[(496)] وجماعة، وهو قول له وجاهته؛ لأن الأصل في الأوامر الوجوب، لكن الجمهور حملوه على الاستحباب، وقالوا: إن هذا من باب الآداب.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: مِنْ نَوْمِهِ، أخذ بعمومه الشافعي والجمهور فاستحبوه عقب كل نوم، وخصه أحمد بنوم الليل، لقوله: بَاتَتْ يَدُهُ؛ لأن حقيقة المبيت أن يكون في الليل. وفي رواية لأبي داود ساق مسلم إسنادها: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ مِنَ اللَّيْلِ [(497)]، وكذا للترمذي من وجه آخر صحيح، ولأبي عوانة في رواية ساق مسلم إسنادها أيضًا: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْوُضُوءِ حِينَ يُصْبِحُ [(498)]، لكن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خص نوم الليل بالذكر للغلبة. قال الرافعي في «شرح المسند»: يمكن أن يقال: الكراهة في الغمس لمن نام ليلاً أشد منها لمن نام نهارا؛ لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة، ثم الأمر عند الجمهور على الندب، وحمله أحمد على الوجوب في نوم الليل دون النهار، وعنه في رواية استحبابه في نوم النهار، واتفقوا على أنه لو غمس يده لم يضر الماء، وقال إسحاق وداود والطبري: ينجس».

وهذا ضعيف، والصواب: أنه لا ينجس إلا إذا تغير.

المتن:

باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ

 163 حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِيُّ ﷺ عَنَّا فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلأَْعْقَابِ مِنْ النَّارِ، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا.

الشرح:

 163 هذا الحديث فيه: دليل على أنه يجب غسل الرجلين وتعميمهما بالماء، وفيه الرد على الرافضة الذين يكتفون بمسح الرجلين، ولهذا قال البخاري في الترجمة: «وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ» ، وأراد بذلك الرد على الرافضة.

وفيه: أن النبي ﷺ تخلف، وأدرك الصحابة وقد تأخروا عن صلاة العصر، فأسرعوا في الوضوء، فصاروا يمسحون، ولا يبلغون الماء إلى أعقابهم، وفي اللفظ الآخر: جاءنا وأعقابنا تلوح[(499)]، قال: «فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: وَيْلٌ لِلأَْعْقَابِ مِنْ النَّارِ ، ففيه: تبليغ العلم ورفع الصوت به كما سبق، وفيه: النصح، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر؛ وفيه: تكرار المسألة ثلاثًا لتفهم.

وفيه: دليل على أنه يجب غسل الرجلين؛ ولهذا قال: وَيْلٌ لِلأَْعْقَابِ مِنْ النَّارِ، ولو كان المسح مجزئًا لما توعد الأعقاب التي تلوح بالنار، والرافضة يخالفون هذه النصوص، ويرون أنه يجب مسح ظهور القدمين، ويرون كذلك أنه لا يجوز المسح على الخفين، وقالوا: إذا كان عليهما خفان وجب خلعهما، ومسح ظهور القدمين؛ فعندهم الرجلان لا تغسلان، والخفان لا يمسحان؛ واستدلوا بقراءة الجر في آية المائدة، في قوله : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المَائدة: 6]، فقالوا: وَأَرْجُلِكُمْ معطوفة على الرؤوس والرؤوس ممسوحة، والمعطوف على الممسوح ممسوح، فدل على أن الرجلين تمسحان، هكذا استدل الرافضة.

وأهل السنة استدلوا عليهم بقراءة النصب، وهي قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فأرجلَكم بالنصب معطوفة على الأيدي، والأيدي مغسولة، والمعطوف على المغسول مغسول، ثم استدلوا أيضًا بالسنة المشهورة المتواترة في هذا، فإن الذين نقلوا كيفية وضوء النبي ﷺ غسلاً للرجلين ومسحًا على الخفين أكثر عددًا من الذين نقلوا لفظ الآية.          

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد