وإذا جاز الطعن فيهم جاز الطعن فيمن نقل الآية من باب أولى، ولا يجوز الطعن في نقلة الآية؛ لأن الآية متواترة، فكذلك لا يجوز الطعن في الذين نقلوا كيفية وضوء النبي ﷺ.
وأجاب أهل السنة أيضًا عن قراءة الجر التي استدل بها الرافضة بجوابين:
الجواب الأول: أن قراءة النصب محمولة على غسل الرجلين المكشوفتين، وقراءة الجر محمولة على المسح على الخفين إذا كان فيهما خفان، وعلى هذا إذا كانت الرجلان مكشوفتين تغسلان، بدليل قراءة النصب، وإذا كانتا مستورتين بالخفين تمسحان، بدليل قراءة الجر.
الجواب الثاني: أن المسح معناه واسع، يطلق على الغسل بالماء، ويطلق على المسح بدون ماء، فالوضوء يسمى مسحًا في اللغة العربية، تقول العرب: تمسحت للصلاة، بمعنى: توضأت، فالمسح يطلق على الإسالة، وهي صب الماء، ويطلق على الإصابة، وهي إمرار اليد على العضو بدون ماء، أو مبلولة بالماء، فيكون معنى المسح في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ إمرار اليد على العضو مبلولة بالماء بالنسبة للرأس، والغسل بالنسبة للرجلين.
والخلاصة: أن الرافضة ليس لهم متمسك، وليس لهم حجة، لا في الآية، ولا في السنة؛ والرافضة ليسوا أهلاً لأن يؤخذ بقولهم وخلافهم.
المتن:
باب الْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
164 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ:أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ، فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ.
الشرح:
164 هذا الحديث فيه: بيان كيفية الوضوء الكامل كما فعل عثمان ، وهي أنه غسل يديه ثلاث مرات قبل وضعهما في الإناء، قال: «فَأَفْرَغَ» يعني: من الإناء، وصب «عَلَى يَدَيْهِ» ثلاث مرات، وهذا مستحب، إلا من نوم الليل فإنه واجب عند أحمد[(500)] وجماعة، ومتأكد الاستحباب عند الجمهور.
قوله: «ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ» ، الوَضوء بالفتح، هو الماء الذي يتوضأ به، أما الوُضوء بالضم فهو الفعل، هذا هو المشهور، وقيل: يطلق أحدهما على الآخر.
قوله: «ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ» ، هذا فيه: أن المضمضة والاستنشاق والاستنثار من فعله ﷺ، والحديث السابق فيه قوله ﷺ: فَلِيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ [(501)]، فالاستنثار والاستنشاق والمضمضة أمور ثابتة من قول النبي ﷺ ومن فعله.
قوله: «ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ» يعني: أخذ ماء بيده ثم مسح رأسه؛ لأن الباء للإلصاق، ولو لم تأت الباء لفهم منه إمرار اليد بدون ماء.
قوله: «ثُمَّ غَسَلَ» يعني: رجليه، «كُلَّ رِجْلٍ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَوَضَّأُ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، وَقَالَ: مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ يعني: لا يحدث فيهما نفسه بشيء من الوساوس، وفي رواية: يُقْبِلُ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ [(502)]، وهذا من أسباب المغفرة لمن اجتنب الكبائر، وأدى الفرائض، كما في النصوص الأخرى.
المتن:
باب غَسْلِ الأَْعْقَابِ
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ إِذَا تَوَضَّأَ.
قوله: «وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ إِذَا تَوَضَّأَ»
الشرح:
ذلك لأنه لا بد من تعميم العضو بالماء، فإذا كان في اليد خاتم، أو ساعة على الساعد، أو شيء من ذلك، وكان ضيقًا، فلا بد من تحريكه وغسل مكانه، أما إذا كان واسعًا، ويتحرك فلا يحتاج إلى ذلك.
المتن:
الشرح:
قوله: «فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ ﷺ قَالَ: وَيْلٌ لِلأَْعْقَابِ مِنْ النَّارِ؛ أبو القاسم هي كنيته ﷺ، ولا يجوز لأحد أن يتكنى بها في حياته؛ لقوله ﷺ: وَلاَ تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي [(503)]، وهذا في حياته ﷺ.
165 قوله: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» ، هذا من نصح أبي هريرة وأمره بالمعروف، فأبو هريرة أتى إلى الناس وهم «يَتَوَضَّئُونَ مِنْ الْمِطْهَرَةِ» ، يعني: الماء الذي يتوضأ به. فقال: «أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» ، يعني: أحسنوا الوضوء حتى لا ينبو الماء عن شيء من أعضاء الوضوء.
والأعقاب: جمع عقب، وهو مؤخر القدم، يعني: التي لا يصيبها الماء، وفي لفظ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ، وَبُطُونِ الْأَقْدَامِ مِنَ النَّارِ [(504)]، يعني: وباطن القدم الذي ينبو عنه الماء؛ لذا فينبغي على الإنسان أن يعمم أعضاءه بالماء في الوضوء، ويتفقد ما بين الأصابع، وباطن القدم، والعقب؛ حتى يسبغ.
وإذا وجد الإنسان بعد الفراغ من الوضوء في مرفقه أو قدمه لمعة، فعليه أن يغسل هذه اللمعة، ويغسل ما بعدها إذا كان الوقت قريبًا، فإذا كانت في اليد يغسل اللمعة ويمسح رأسه ويغسل رجليه، وإذا طال الوقت بحيث تفقد الموالاة، أو يخل بها، يعيد الوضوء من جديد؛ لأن النبي ﷺ رأى رجلاً في قدمه لمعة بعد الصلاة، فقال: ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ [(505)]، أمره أن يتوضأ ويعيد الصلاة؛ لأن الفاصل طويل، فالموالاة لا بد منها، وهي أن يوالي بين أعضاء الوضوء: الوجه، واليدين، والرأس والرجلين، بحيث لا يؤخر غسل عضو حتى يجف الذي قبله في الوقت المعتاد الذي ليس فيه شدة ريح، ولا بد أيضًا من الترتيب، إلا إذا كانت بالرجل؛ لأن الرجل هي الأخيرة.
المتن:
غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي النَّعْلَيْنِ وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ
166 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا قَالَ: وَمَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنْ الأَْرْكَانِ إِلاَّ الْيَمَانِيَّيْنِ وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا الْهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا الأَْرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَمَسُّ إِلاَّ الْيَمَانِيَّيْنِ، وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ: فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا؛ وَأَمَّا الصُّفْرَةُ: فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا، وَأَمَّا الإِْهْلاَلُ: فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ.
الشرح:
166 قوله: «رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنْ الأَْرْكَانِ إِلاَّ الْيَمَانِيَّيْنِ»، يعني: إذا طفت بالبيت، والركنان اليمانيان هما الركن اليماني والركن الذي فيه الحجر، ويقال لهما: الركنان اليمانيان تغليبًا، وكذلك الشاميان، ومثله القمران والعمران.
وسمي الركن اليماني لأنه جهة اليمن، والمراد باليمن تهامة، فتهامة كلها تسمى يمنًا، وكذلك كل ما كان عن يمين الكعبة يسمى يمانيًا، فسمي الركن اليماني لأنه مقابل لها، وركن الحجر يسمى الركن اليماني تغليبًا، فابن جريج يقول لابن عمر: رأيتك إذا طفت بالبيت لا تمسح من الأركان إلا الركنين اليمانيين، ولا تمسح الركنين الشامي والعراقي. فقال: أما هذا فلأني رأيت الرسول ﷺ إذا طاف بالبيت لا يمس يعني: لا يمسح إلا الركنين اليمانيين، فركن الحجر يُمسح ويُقبَّل عند الاستطاعة، فإن عجز الإنسان عن التقبيل والاستلام أشار إليه وكبر، أما الركن اليماني فلا يُقبّل، بل يمسحه الإنسان ويكبر، فإن عجز فبعض العلماء قال: يُكبِّر، والصواب أنه لا يكبر.
وأما الركنان الشامي والعراقي فلا يستلمان، والسبب في هذا أنهما ليسا على قواعد إبراهيم، فإن قريشًا أخرجت من الكعبة الحِجْر، وهو يقارب سبعة أذرع إلا قليلاً، أو ستة أذرع ونصف؛ لأنهم أرادوا أن يبنوا الكعبة بمال حلال، فجمعوا من المال الحلال في الجاهلية فلم يجدوا ما يكفي؛ لأن كل الأموال التي كانت عندهم ربوية، فلذلك كان النبي ﷺ يمسح الركنين اليمانيين، لأنهما على قواعد إبراهيم، ولا يمسح الركنين الآخرين لأنهما ليسا على قواعد إبراهيم.
قوله: «وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ»، بكسر المهملة، هو من السِّبت، وهو القطع، أي قطع وأزيل الشعر عنها، قال: «فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا» وهذا هو الشاهد للترجمة، أنه إذا كان عليه نعلان يتوضأ فيهما ويغسل رجلين ولا يمسح عليهما، ولا يمسح على القدمين كما تفعل الرافضة، إنما المسح على الخف، أو الجورب، إذا كان ساترًا، فيمسح عليهما إذا لبسهما على طهارة.
قوله: «وَأَمَّا الصُّفْرَةُ» ، فرد عليه، فقال: «فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَصْبُغُ بِهَا» ، يعني: شعر اللحية يصبغ بالصفرة؛ وجاء في الحديث الآخر بمعنى الحمرة، وهي الحناء، والكتم؛ فقد قال ﷺ: إنَّ أحسنَ ما غيَّرتُم به الشيبَ الحناءُ والكتمُ [(506)]، فلون الحناء أحمر، والكتم أسود، فإذا خُلِطا صار اللون يضرب إلى الحمرة، وهذا هو الأفضل، وقد جاء أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يصبغان بالحناء والكتم، فإن صبغ بالصفرة وحدها أو بالحمرة وحدها فلا بأس، أما السواد الخالص فهذا فيه خلاف بين أهل العلم، وظاهر الأحاديث المنع، ومن العلماء من أباحه، والصواب المنع؛ لأن النبي ﷺ لما أتي بأبي قحافة ـ والد أبي بكر ـ ولحيته ورأسه كالثغامة بياضًا، قال: غَيِّرُوا هَذَا بِشَيْءٍ، وَاجْتَنِبُوا السَّوَادَ [(507)].
والمراد بهذا الحديث صبغ اللحية، أما صبغ الثوب فلا يدخل في هذا، فيصبغ بالحناء، أو بالصفرة، أو بالحناء والكتم، كل هذا جائز.
قوله: «وَأَمَّا الإِْهْلاَلُ» فرد عليه معللاً، فقال: «فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ» ، «وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ» ويوم التروية هو اليوم الثامن من ذي الحجة.
المتن:
باب التَّيَمُّنِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغَسْلِ
167 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ لَهُنَّ فِي غَسْلِ ابْنَتِهِ: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا.
168 حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَت: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ.
الشرح:
167 الحديث الأول فيه: مشروعية التيمن في الوضوء، والغسل، بمعنى: أن يبدأ باليمين في الوضوء، فيغسل يده اليمنى قبل اليسرى، ورجله اليمنى قبل اليسرى، وفي الغسل يبدأ بشقه الأيمن قبل شقه الأيسر، فهذه هي السنة، والمشهور عند أهل العلم أن ذلك مستحب، فلو بدأ باليسار قبل اليمين صح وضوءه عند جماهير العلماء، وإن كان ينبغي للإنسان أن يعتني بالسنة؛ لأن النبي ﷺ بدأ بيمينه.
168 قولها: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ» يعني: في لبس النعل.
قولها: «وَتَرَجُّلِهِ» يعني: تسريح الشعر، فحينما يسرح شعره يبدأ بالشق الأيمن، وكان النبي ﷺ لا يحلق رأسه إلا في حج أو عمرة، فكان شعره يطول حتى يصل إلى شحمة الأذن، وأحيانًا تكون له لمه إلى المنكبين أو جمة، وهي ما زاد على المنكبين.
وقولها: «وَطُهُورِهِ» يعني: وفي الوضوء كذلك يغسل اليمنى قبل اليسرى.
فكان في طهوره يبدأ باليمين قبل اليسار[(508)]، وفي تنعله يلبس اليمين قبل اليسار[(509)]، والخلع بالعكس، وعند دخول المسجد يقدم رجله اليمنى، وعند الخروج يقدم رجله اليسرى.
المتن:
باب الْتِمَاسِ الْوَضُوءِ إِذَا حَانَتْ الصَّلاَةُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَضَرَتْ الصُّبْحُ فَالْتُمِسَ الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ.
169 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَحَانَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي ذَلِكَ الإِْنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، قَالَ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ؛ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.
الشرح:
169 هذا الحديث فيه: مشروعية التماس الوضوء إذا حان الوقت، والمعنى: طلب الماء، فإذا جاء وقت الصلاة وكان الإنسان في سفر فعليه أن يطلب الماء عن يمينه، وعن شماله؛ قال العلماء أخذًا من هذا الحديث، وغيره: إنه ينبغي على المسلم أن يلتمس الماء وأن يعتني بطلبه ولا يتساهل بهذا؛ فإن الإنسان لو كانت له حاجة يسيرة لذهب وجدَّ في الإتيان بها، وكذلك لو حمل الماء معه ـ إن أمكنه ذلك ولم يشق عليه ـ لكان هذا حسنًا طيبًا.
وفي هذا الحديث: أن النبي ﷺ لما حانت الصلاة، وطلبوا الماء فلم يجدوه، أُتي بماء قليل، وفي لفظ: «بمخضب، فوضع أصابعه، أو يده فيه، فصغر المخضب عن يده» [(510)]، والمعنى: أن الماء قليل في إناء صغير، ثم وضع النبي ﷺ يده فيه، وفرّج أصابعه، فنبع من بين أصابعه ﷺ ماء كثير حتى توضأ كل الجيش عن آخرهم؛ وهذا من آيات الله العظيمة، ودليل على أن الله على كل شيء قدير، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، وهذا من علامات ودلائل نبوته ﷺ.
وهذا من المعجزات التي لا يستطيع البشر أن يصلوا إلى شيء منها، بخلاف ما يفعله السحرة والمشعوذون، فإن جنس ما يفعلونه مقدور لغيرهم، فالساحر مثلاً قد يطير في الهواء، وهذا الفعل تشاركه فيه الطيور، وغيرها، أو قد يمشي على الماء وتشاركه الحيتان في هذا؛ لكن نبع الماء، من بين الأصابع ليس له شبيه، ولا مثيل؛ لأن هذه معجزة من الله ، ومعجزات الأنبياء لا يصل إليها أحد من البشر، ومنها المعراج إلى السماء.
ومن معجزاته ﷺ أيضًا تكثير الطعام، كما جاء في الحديث أن الطعام القليل كفى مئات من الناس[(511)]، كل هذا من معجزاته ﷺ؛ وهذا من خصائص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ والله تعالى له الحكمة البالغة.
المتن:
باب الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الإِْنْسَانِ
وَكَانَ عَطَاءٌ لاَ يَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ وَسُؤْرِ الْكِلاَبِ وَمَمَرِّهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِذَا وَلَغَ فِي إِنَاءٍ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا وَهَذَا مَاءٌ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ.
الشرح:
هذه الترجمة ذكر فيها الإمام البخاري رحمه الله حكمين:
الحكم الأول: ما حكم الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، هل هو طاهر أم نجس؟
الحكم الثاني: ما حكم سؤر الكلاب هل هو طاهر أم نجس؟
أما عن الحكم الأول: وهو الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، فحكمه الطهارة.
قوله: «وَكَانَ عَطَاءٌ لاَ يَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ» بمعنى: أنه إذا حُلق شعر رأس الإنسان ثم ألقي في الأرض فتجمع منه شيء ـ كما يتجمع من الشعور حينما يحلق الحجاج في منى ـ فيجوز للإنسان أخذها وجعل الحبال والخيوط منها؛ لأنها لما ألقيت هذه الشعور صارت مباحة، ولأنها طاهرة، لكن الأولى أن يدفنها.
فشعر الإنسان حكمه الطهارة، ويدل على ذلك أن النبي ﷺ كان يغترف الماء من الإناء وهو يغتسل، ويخلل شعر رأسه ولحيته ولا بد أن يتساقط شيء من الشعر في الإناء، فلو كان شعر الإنسان نجسًا ما فعله ﷺ.
أما عن الحكم الثاني في الترجمة: وهو سؤر الكلاب هل هو طاهر أم نجس؟
فالسؤر: هو بقيَّة الطعام أو الماء الذي يتبقى من الكلب بعد أكله، وشربه، ومعلوم أن الكلب إذا شرب يدخل لسانه في الماء ويحركه، وقد ذكر البخاري رحمه الله في هذه المسألة عن الزهري أنه قال: «يَتَوَضَّأُ بِهِ» ، إذا لم يجد ماء غيره؛ لأن هذا واجد للماء، وأيده سفيان الثوري وقال: «لْفِقْهُ بِعَيْنِهِ» ؛ لأن الله تعالى يقول: «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النِّسَاء: 43]، وَهَذَا مَاءٌ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ» ، لأنه شرب منه الكلب فيتوضأ منه ويتيمم.
وهذا الذي ذهب إليه الإمام البخاري واستدل بقول الزهري وقول سفيان، وهذا ضعيف مرجوح عند أهل العلم، والصواب الذي عليه جمهور العلماء أن سؤر الكلب نجس؛ لأن هذا الماء ليس ماء مطلقًا كما في الآية: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً وإنما هو ماء شرب منه الكلب، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ قال: إِذَا شَرِبَ الكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا، وجاء في بعض الروايات في مسلم في بعض ألفاظه: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ [(512)]، والصواب: في هذه المسألة أنه إذا شرب الكلب من الإناء الذي فيه ماء فلا يتوضأ به؛ لأنه نجس، وهذا الذي عليه جمهور العلماء، وإنما يريقه ويصبه في الأرض، ويتيمم إذا لم يجد غيره، وأما ما ذهب إليه البخاري من أن الكلب طاهر، وأن الغسل ليس للوجوب، بل للاستحباب فهذا قول مرجوح ضعيف.
وهذا من الآراء الفقهية الضعيفة للإمام البخاري رحمه الله؛ لأن سؤر الكلب من أنجس ما يكون، ولأن النبي ﷺ أمر بغسله سبع مرات كاملة وفي رواية: إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ [(513)]، فكيف يأمر النبي ﷺ بغسله سبع مرات إحداهن بالتراب ثم يقال: إنه يُتوضأ به.
والزهري ـ وإن كان إمامًا في الحديث أيضًا ـ فقوله: «يَتَوَضَّأُ بِهِ» يرد عليه بأن الماء إن كان طهورًا فيجوز أن يتوضأ به سواء وجد غيره أم لم يجد غيره، وإن كان نجسًا فلا يجوز أن يتوضأ به سواء وجد غيره أم لم يجد غيره، وكذلك قول سفيان الثوري: «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النِّسَاء: 43] وَهَذَا مَاءٌ وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ» ، يعني: النفس غير مطمئنة إلى هذا الماء الذي شرب منه الكلب، فيزيل عدم الطمأنينة بالتيمم، والتيمم إنما هو عند عدم الماء، أو عدم القدرة على استعماله، فكيف يجمع بين الوضوء والتيمم؟! وكيف يلطخ بدنه بالماء النجس ثم يتيمم؟! وكيف يجمع بين البدل والمبدل منه؟!
والخنزير وباقي السباع كذلك؛ فالسباع كلها نجسة، لكن غير الكلب غير منصوص عليه، ولكن يجب التفريق بين الماء القليل والماء الكثير فالماء الكثير، لا يتأثر، كما قال العلماء، والأصل في هذا حديث أبي سعيد قال النبي ﷺ: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ [(514)] إلا إذا تغير أحد أوصافه، هذا هو الأصل، والجمهور يفرقون بين القليل والكثير، فالقليل هو ما دون القلتين، لحديث القلتين: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ. [(515)] والقلتان: ما يقارب خمس قِرَب، فجمهور الفقهاء يرون أنه إذا كان قلتين فأقل فإنه ينجس بمجرد الملاقاة، تغير أو لم يتغير، وما زاد على القلتين فلا ينجس، إلا إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: اللون، أو الطعم، أو الرائحة.
والصواب: أنه لا فرق لأن هذا مفهوم حديث: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ. [(516)]، وهو أنه إذا لم يبلغ قلتين يحمل الخبث، لكن هذا المفهوم قضى عليه حديث أبي سعيد مرفوعًا: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ [(517)]، لأن حديث أبي سعيد منطوق، فالأصل أن الماء طهور قليلاً أو كثيرًا، لا ينجسه شيء إلا ما غلب على طعمه، أو لونه، أو ريحه؛ لكن الكلب فيه نص؛ فإذا شرب من الإناء يراق لقول النبي ﷺ: فَلْيُرِقْهُ [(518)].
وبالنسبة إلى بقية أجزاء جسده، فبعض العلماء قاس بقية الأجزاء وقال: إذا كان الفم هو أشرف الأعضاء فغيره من باب أولى.
وقال آخرون: إنما خص الفم لأنه يباشر به النجاسة، لكن بكل حال فالنص في الولوغ.
ويستفاد من أقوال العلماء هذه: أن العالم وإن كان كبيرًا فقد يكون له بعض الآراء المرجوحة، فهؤلاء الأئمة الثلاثة، الزهري والبخاري وسفيان الثوري من أئمة الحديث وأئمة أهل السنة، ومع ذلك رأوا هذا الرأي المرجوح الضعيف؛ فالعالم ليس معصومًا، وإنما المعصوم هو نبي الله ﷺ، كما قال الإمام مالك رحمه الله: كل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا صاحب هذا القبر، يعني رسول الله ﷺ، والمرجع كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، قال الله تعالى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَومِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً [النِّسَاء: 59] وقال سبحانه: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشّورى: 10].
المتن:
الشرح:
170 الحديث فيه: دليل المسألة الأولى وهي شعر الإنسان، فشعر النبي ﷺ طاهر، وكونه يُحتفظ به فلِما يتعلق به من البركة، وهذه من خصوصيات النبي ﷺ، وهي التبرك بشعره وفضلاته ﷺ، ولا يقاس عليه غيره، كما جاء أن أم سلمة احتفظت بجبة للنبي ﷺ، وكانت تُغسل للمرضى، وشعر النبي ﷺ ـ كما في الحديث الذي بعده ـ قُسم على الصحابة.
المتن:
الشرح:
171 قوله في الحديث: «لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ» يعني: في حجة الوداع، وفي اللفظ الآخر: أنه حلق الشق الأيمن وأعطاه لأبي طلحة، وحلق الشق الأيسر وقسمه على الناس الشعرة والشعرتين[(520)] فكل واحد يأخذ شعرة يتبرك بها؛ لما جعله الله فيه ﷺ وفي فضلاته من البركة، فكان إذا توضأ ﷺ يزدحم الصحابة رضوان الله عليهم على قطراته ليأخذوها فيتبركوا بها، وإذا تفل أو تنخم كانت تنزل في كف الواحد منهم يدلك بها وجهه وجلده، ولما قال عند أم سليم ـ وكان بينهما محرمية ـ فجعلت أم سليم تسلت العرق وتجمعه في قارورة قال: مَا هَذَا يَا أُمَّ سُلَيْمٍ؟ قالت: يا رسول الله إني أضعه في قارورة مع بعض أطياب لنا، وإنه لأطيب الطيب[(521)].
وأما ما ذكره الحافظ ابن حجر والنووي قالوا: «فيه التبرك بالصالحين» [(522)] فهذا غلط، والصواب أنه لا يتبرك إلا بالنبي ﷺ؛ لأن الصحابة لم يفعلوا هذا مع غير النبي ﷺ، فما تبرك أحد بأبي بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي، وهم أفضل الناس بعد الأنبياء، ولأن هذا من وسائل الشرك، إنما هذا خاص به ﷺ.
والشاهد من الحديث للترجمة، أن الشعر طاهر، فشعر النبي ﷺ يحتفظ به لأنه طاهر، ولا يقال: إن شعر النبي ﷺ طاهر وشعر غيره ليس بطاهر؛ لأن الأصل أن الرسول ﷺ يستوي مع غيره في الأحكام، ودعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل، فالنبي ﷺ وغيره سواء في هذا، فهذا الحديث دليل للمسألة الأولى وهي أن شعر الإنسان طاهر، فلو كان نجسًا ما قسمه النبي ﷺ على الصحابة الشعرة والشعرتين، وشعر غيره كذلك.
وقول عَبِيدة: «لَأَنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» ليس فيه مبالغة؛ لأنه من آثاره ﷺ، ولأنه يتبرك به، وتحصل به البركة التي جعلها الله في فضلاته ﷺ، وفيما لمس جسده.
ومن ذلك أن النبي ﷺ لما خاطت له امرأة حلة، ولبسها وكان محتاجًا إليها، خرج على الناس، فقال رجل: يا رسول الله ما أحسنها! اكسنيها، فقال له النبي ﷺ: نعم وكان لا يرد سائلاً، فلما ذهب النبي ﷺ قال له الصحابة: ما أحسنت، لبسها النبي ﷺ محتاجًا لها، وقد عرفت أنه لا يرد سائلاً فتقول: أعطنيها. فقال: إنما سألتها لتكون كفني؛ فكانت كفنه[(519)]، يعني أنه أراد أن يلامس جسده ما لامس جسد النبي ﷺ، فيحصِّل البركة.
المتن:
الشرح:
172 الحديث فيه: دليل المسألة الثانية، وهي حكم سؤر الكلب.
فقوله: إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا هذا دليل: على نجاسة سؤر الكلب، وهو حجة على البخاري رحمه الله، وجاء في لفظ آخر: إِحْدَاهُنَّ بِالتُّرَابِ [(523)]، وفي بعض الألفاظ: أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ [(524)]، وفي بعض الألفاظ: وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ [(525)]، وهذا خاص بطهارة الإناء الذي ولغ فيه الكلب، أنه لا بد من غسله سبع مرات ولا بد أن تكون واحدة بالتراب.
قال العلماء: الحكمة في ذلك أن الكلب فيه جراثيم لا يزيلها إلا التراب، وقد ظهر ذلك للأطباء لما تقدم الطب وعرفوا ذلك، فإنهم لما أجروا التحاليل والأبحاث وجدوا أن لعاب الكلب فيه جراثيم لا يزيلها إلا التراب، والإسلام سبقهم إلى هذا قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان، فكان سببًا في إسلام بعض غير المسلمين؛ ولهذا قال: وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ فِي التُّرَابِ.
والأرجح أن يكون التراب في الأولى، حتى يكون ما بعدها يغسلها، وهذا فيه دليل على أن الكلب نجس، وأن نجاسته مغلظة.
وقاس عليه بعض الفقهاء الخنزير، قالوا: نجاسة الكلب والخنزير كل منهما تغسل سبع مرات إحداهن بالتراب؛ لكن الصواب أن هذا خاص بالكلب؛ لأن النبي ﷺ أفصح الناس، لو أراد ذلك لقال: الكلب والخنزير.
أما النجاسات الأخرى غير نجاسة الكلب فليس لها حد محدد، إنما تغسل حتى يغلب على الظن أنها زالت، بغسلة أو بغسلتين أو ثلاث.
أما حديث «أمرنا بغسل الأنجاس سبعًا» فهو حديث ضعيف عند أهل العلم[(526)]، وليس هناك شيء محدد إلا في الكلب، أما غيره فيغسل الموضع حتى تزول عين النجاسة، وإذا كانت في الأرض فإنها تكاثر بالماء، كما في بول الأعرابي الذي بال في المسجد، فأمر النبي ﷺ بأن يصب على بوله ذنوبٌ من ماء[(527)].
والبخاري رحمه الله يرى غسلها مستحبًّا وليس واجبًا؛ لأنه لا يرى أن الكلب نجس، والصواب أنه واجب فأصل الأمر للوجوب إلا بصارف، ولا صارف.
ومالك رحمه الله يرى الوجوب فقال: تغسل سبعًا من باب التعبد، لا لأنه نجس[(528)].
والصواب: الذي عليه جمهور العلماء، وهو الذي تدل عليه النصوص، أن سؤر الكلب نجس، وأنه يجب غسله سبع مرات للوجوب لا للاستحباب، والعلة معقولة معروفة واضحة.
المتن:
الشرح:
173 هذا الحديث فيه: فضل الإحسان إلى البهائم، وأنه من أسباب دخول الجنة، فهذا الرجل الذي رأى كلبًا يأكل الثرى من العطش، فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف في خفه ويسقيه حتى أرواه، فشكر الله له وأدخله الجنة، فإذا كان سقي الكلب من أسباب دخول الجنة، فسقي الآدمي وإطعام الجائع أجره أعظم وأعظم.
وفي الحديث: أنه يُحسن إلى الكلب ولو كان سؤره نجسًا، ولا يدل هذا على طهارته، لكن البخاري رحمه الله استدل بهذا على طهارة سؤر الكلب، وقال: إذا شرب الكلب من الخف ولم يتنجس الخف فهذا دليل على طهارة سؤره، وإلا فكيف يسقيه من خفه ويلبس الخف؟!
والجواب: أن هذا لا يلزم منه الطهارة؛ لأن هذا كان في شرع من قبلنا، وقد جاء شرعنا بأن سؤر الكلب نجس، والقاعدة الأصولية: أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يأت شرعنا بخلافه، وهنا جاء شرعنا بخلافه، للحديث: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ [(529)]؛ فهذا الحديث يدل على أنه ليس شرعًا لنا.
ولو سلمنا أنه لم يأت بخلافه، فلا يلزم من ذلك أن يكون الخف إذا شرب منه طاهرًا؛ لأن هذا مسكوت عنه يعرف من الأدلة الأخرى، فيحتمل أنه غسله بعد ذلك، أو أنه لم يلبسه بعد ذلك، أو احتمالات أخرى، أو تركه حتى يجف ثم لبسه وهو يابس، فإذا كان يابسًا لا يؤثر، لكن لا يدل هذا على طهارة الكلب، وليس فيه حجة للبخاري رحمه الله.
المتن:
الشرح:
هذا الحديث: استدل به البخاري رحمه الله على طهارة الكلب، فالبخاري رحمه الله يرى طهارة الكلب يقول: الدليل أن الكلاب كانت تقبل وتدبر في مسجد الرسول ﷺ، وقد تبول ولا يُغسل، فدل على أن الكلب طاهر.
وهذا الاستدلال أيضًا ليس بوجيه، وأجابوا عنه بأجوبة:
الجواب الأول: أن هذا كان في أول الإسلام، حيث كانت المساجد ليس لها أبواب، ثم بعد ذلك كرمت المساجد، وجعلت عليها الأبواب، وكانت الكلاب متروكة أيضًا، ثم استقرت الشريعة على أن الكلب نجس.
الجواب الثاني: أن المراد من الحديث أنها تبول خارج المسجد، ثم تدخل، وهذا تفسير قوله: «وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ» .
الجواب الثالث: أنهم كانوا لا يرون شيئًا حتى يرشونه، والأصل الطهارة حتى يُرى النجس، وهم لم يروا شيئًا حتى يرشوه ويغسلوه، وإذا لم ير الإنسان شيئًا فالأصل الطهارة، ولا يحكم بأن هذا الشيء نجس إلا بدليل، وكذلك أرض المسجد طاهرة، إلا إذا علمت النجاسة بها.
فاستدلال البخاري بهذا الحديث على طهارة الكلب ليس بوجيه؛ لهذه الاحتمالات.
وبول الكلاب في المسجد هو مما تعم به البلوى، ولكن مع كونها كذلك فإن الصحابة لو رأوا شيئًا لغسلوه، كما أن الأعرابي لما بال في المسجد، أمر النبي ﷺ بصب الماء عليه[(530)].
174 قوله: «وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ» هذا معلق.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «زاد أبو نعيم والبيهقي في روايتهما لهذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب المذكور موصولاً بصريح التحديث».
يعني: قال: حدثنا أحمد بن شبيب.
المتن:
الشرح:
175 هذا الحديث موضعه الصيد.
وفيه: دليل على أن الكلب المعلم إذا صاد وقتل فإن صيده حلال، لكن بشروط:
الشرط الأول: أن يكون الكلب معلمًا، والمعلم هو الذي إذا أرسلته استرسل؛ وإذا زجرته انزجر، فهذا يؤكل صيده، أما غير المعلم فلا يؤكل صيده.
الشرط الثاني: أن يسمي الله عند إرساله، كما جاء في الحديث الآخر إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ فسمِّ اللَّه [(531)].
الشرط الثالث: ألا يأكل منه، فإن أكل فلا يؤكل لأنه إنما أمسكه لنفسه كما جاء في الحديث: وَإِذَا أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ؛ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ.
الشرط الرابع: ألا يجد كلبًا آخر معه، فإن وجد كلبًا آخر معه فلا يأكل؛ لأنه لا يدري هل قتله كلبه أو الكلب الآخر.
فصيد الكلب المعلم يحل بهذه الشروط الأربعة، فإذا توفرت الشروط وقتل هذا الكلب أرنبًا أو غيره من الطيور، فهي حلال.
والشاهد من حديث البخاري أن هذا الحديث في كلب الصيد، لكن البخاري جاء به ليبين طهارة الكلب؛ لأن الكلب حينما يصيد الصيد يعضه، فلو كان نجسًا لأمر النبي ﷺ بقطع العض، فلما قال: فَكُلْ دل على أن الكلب طاهر.
والصواب: أن الشيء الذي يعضه الكلب مستثنى في هذه الحالة، فعندما يشويه صاحبه ويأكله تكون النار مطهرة لآثار العضة، وإذا قطع مكان العضة من باب النظافة وأزالها فلا بأس، ولكن هذا ليس بواجب؛ لأن الرسول ﷺ ما أمر بغسله، فإذا غُسل أو قُطع من باب النظافة يكون مثل الخضار يُغسل من باب النظافة، وكذلك الدجاج، واللحم، وغير ذلك.
فالخلاصة في هذا: أن ما ذهب إليه البخاري رحمه الله من كون سؤر الكلب طاهرًا ضعيف؛ لأن الحديث صريح في نجاسته: إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ [(532)]، وهذا الذي في الحديث يكون في الصيد، وهو مستثنى، خاصة أن النار تزيل أثره، فهو معفو عنه؛ رحمة بهذه الأمة.
المتن:
باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ
وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النِّسَاء: 43].
وَقَالَ عَطَاءٌ: فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ يُعِيدُ الْوُضُوءَ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِذَا ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ أَعَادَ الصَّلاَةَ وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ فَلاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ.
وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ وَسَجَدَ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ.
وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٌ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ.
وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وَبَزَقَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى دَمًا فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ: فِيمَنْ يَحْتَجِمُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ غَسْلُ مَحَاجِمِهِ.
الشرح:
هذه الترجمة أراد بها المؤلف رحمه الله تأييد من يرى أنه لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من المخرجين: القبل والدبر، ولهذا قال: «بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ» أي: البول من القبل، والغائط من الدبر، وكذلك الريح التي تسمى الضراط.
لكن يرد على المؤلف أنه جاء في حديث صفوان بن عسال: وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ [(533)].
ولكن قد يجاب عنه بأن النوم مظنة للحدث، وليس حدثًا، فأعطي حكم الحدث، وكذلك القيء يرد عليه، لكنه لا يرى أن القيء ينقض الوضوء، وكذلك مس الفرج، فأجيب بأن مس الفرج مظنة خروج المذي، والنوم مظنة خروج الريح وهو لا يشعر، فأعطي حكمه؛ فالظاهر أنه يرى أن مس الفرج لا ينقض الوضوء، وكذلك مس المرأة، وكذلك النوم وكذلك أكل لحم الإبل، وكذلك خروج الدم.
والصواب خلاف هذا؛ فالنوم ينقض الوضوء كما في حديث صفوان بن عسال: وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ.
وكذلك أكل لحم الإبل ينقض الوضوء في حديثين كما قال الإمام أحمد رحمه الله[(534)]: الأول حديث أسيد بن حضير: تَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَلَا تَتَوَضَّئُوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ [(535)]، والحديث الآخر عن جابر بن سمرة: سئل ﷺ: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إِنْ شِئْتَ، قيل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نَعَمْ [(536)].
وكذلك مس الفرج كما في حديث بسرة: مَنْ مَسَّ فَرْجَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ [(537)] هذا هو الصواب.
والقيء كذلك فيه خلاف لأهل العلم، والصواب: أنه أيضًا ينقض الوضوء إذا كان عن عمد، ويبطل الصيام، أما إذا ذرعه القيء بدون اختياره فلا؛ لحديث: مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَلْيَقْضِ [(538)] وهذا في الصوم وفي الوضوء.
الدم فإنه إذا كان قليلاً أو قطرات قليلة، فهذا لا يؤثر. أما إذا كان كثيرًا ففيه خلاف بين العلماء، والأحوط للمسلم أن يتوضأ خروجًا من الخلاف، وإلا فليس عليه دليل واضح، والبخاري رحمه الله في هذه الترجمة يرى أنه لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من السبيلين، قال: «بَاب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ» فقط، يعني: البول والغائط والريح، وغير ذلك.
فقوله: «وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ النِّسَاء: 43]» هذا في الخارج من الدبر.
قوله: «وَقَالَ عَطَاءٌ: فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ يُعِيدُ الْوُضُوءَ» هذا لأنه خارج من السبيلين، وكل خارج من السبيلين يُتوضأ منه، قال بعضهم: إلا إذا كان شيئًا طاهرًا كحصاة أو ما أشبه ذلك، ولكن الدود يُتوضأ منه، هذا بالاتفاق.
قوله: «َقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِذَا ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ أَعَادَ الصَّلاَةَ وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ» هذا هو الصواب خلافًا للأحناف[(539)] الذين يقولون: إذا ضحك في الصلاة بطلت صلاته ووضوءه، والمراد بالضحك القهقهة. وهذا قول ضعيف، يستدلون بحديث ضعيف في هذا[(540)].
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ فَلاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ» يعني: هو على وضوئه لا يفسده ذلك.
أما إذا خلع الخفين وكان قد مسح عليهما بطل الوضوء. وقال آخرون من أهل العلم: إذا خلع خفيه غسل رجليه؛ لأنه غسل الأعضاء الثلاثة، غسل الوجه واليدين ومسح الرأس، فإذا خلع الخفين سرى الحدث في رجليه فيغسلهما، بناء على أن الموالاة غير واجبة، والصواب أنه يبطل الوضوء؛ لأن الموالاة لا بد منها.
قوله: «وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ» الحدث كما فسره المؤلف: هو الخارج من السبيلين، والصواب أن الوضوء يكون أيضًا من النوم، ويكون من مس الفرج، ويكون من أكل لحم الإبل، أما خروج الدم ففيه خلاف.
قوله: «وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ وَسَجَدَ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ» هذا استدل به على أن الدم لا ينقض الوضوء.
وهذه القصة أن النبي ﷺ كان في بعض الغزوات، فقال: مَنْ يَحْرُسُنَا؟ فالتزم مهاجري وأنصاري، فاقتسما الليل، واحد ينام والثاني يصلي، فجعل أحدهما يصلي، فجاءه رجل من المشركين ورماه بسهم، فأخذه ونزعه واستمر في قراءته، ثم رماه بسهم آخر فنزعه واستمر، ثم رماه بسهم، فلما كثرت الدماء ركع وسجد وأسرع وأيقظ صاحبه، فرأى فيه الدماء فقال: لم ما أيقظتني؟ قال: كنت في سورة فكرهت أن أقطعها[(541)]، وكانت السورة سورة الكهف.
هذا استدل به البخاري رحمه الله على أن الدم لا ينقض الوضوء، وكذلك مثل قصة عمر لما طعن، فقد طعن وهو في الصلاة، وجرحه يثعب دمًا، لكنه استخلف عبدالرحمن بن عوف، ولكن هذا قد يقال: إن هذا استمرار للصلاة، ولأنه لو توضأ ما يزول عنه الدم.
وعلى كل حال مسألة الدم الكثير فيها خلاف وليس هناك دليل واضح يدل على أنه ينقض الوضوء، لكن كونه يتوضأ احتياطًا لهذه العبادة وخروجًا من الخلاف ـ جيد ـ.
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ» ، يعني: ولا يتوضؤون، أي: ما زال المسلمون في الغزوات يصلون في جراحاتهم ولا يتوضؤون، فدل على أن الدم لا ينقض الوضوء.
قوله: «وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٌ: وَأَهْلُ الْحِجَازِ لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ» هذا كله يؤيد ما ذهب إليه البخاري، فهذه الآثار يؤيد بها ما ذهب إليه من أن الوضوء لا يكون إلا من المخرجين القبل والدبر.
قوله: «وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ» البثرة في الغالب تكون دمًا يسيرًا لا يؤثر، فإن عصر الإنسان بثرة لا يعيد الوضوء.
قوله: «وَبَزَقَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى دَمًا فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ» ، كذلك بزوغ الدم في أسنانه لا يؤثر؛ لأن هذا شيء يسير.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ: فِيمَنْ يَحْتَجِمُ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ غَسْلُ مَحَاجِمِهِ» يعني: ولا يتوضأ، ولكن الحجامة دم كثير، والمسألة فيها خلاف.
وقد ثبت أن الخليفة هارون الرشيد احتجم، فأفتاه الإمام مالك[(542)] بأن وضوءه باقٍ فصلى بالناس ولم يتوضأ، وصلى خلفه أبو يوسف الصاحب الأول لأبي حنيفة[(543)]، وكان يرى أن الدم ينقض الوضوء، لكنه ترك رأيه لرأيه، فقيل له: صليت خلفه؟ قال: نعم، أمير المؤمنين.
هذا فيه: دليل على أن المأموم يترك رأيه لرأي الإمام إذا كان الخلاف في مسألة فرعية؛ حرصًا على الاجتماع والائتلاف، وبعدًا عن الخلاف، فالمأموم إذا كان يرى أن لحم الجزور ينقض الوضوء، والإمام يرى أن لحم الجزور لا ينقض الوضوء يصلي خلفه، ويترك رأيه لرأيه في المسألة الخلافية.
ومن ذلك أيضًا كون الإمام في صلاة التراويح يصلي عشرين ركعة، والمأموم يرى أن الأفضل إحدى عشرة ركعة، أو كان الإمام يرى أن يختم في صلاة التراويح، والمأموم يرى أن الختمة غير مشروعة، فعليه أن يصلي خلفه، ويترك رأيه لرأيه.
أما ما يفعله بعض الشباب في المسجد الحرام من كونه لا يصلي خلف إمام الحرم هذا لا ينبغي، فبعض الشباب يجلس في صلاة التراويح، يصلي عشرًا ثم يجلس، فإذا قيل له: لماذا؟ قال: سنة الرسول ﷺ إحدى عشرة ركعة ما يزيد عليها، وبعضهم يصلي العشر ركعات في آخر الليل، ولا يصلي في أول الليل، وهذا من الجهل فالرسول ﷺ يقول: مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ [(544)] وفعلهم هذا لا ينبغي لأنه يؤدي إلى الخلاف والفرقة.
ويدل على هذا أن الصحابة رضوان الله عليهم صلوا خلف أمير المؤمنين عثمان بن عفان في منى في الحج وقد أتم الصلاة أربع ركعات، وصلى خلفه عبدالله بن مسعود، فلما صلى قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. اعتبرها مصيبة، فقيل له: يا أبا عبد الرحمن، تعتبره مصيبة وتصلي؟ فقال : الخلاف شر. وإجماع الصحابة على الصلاة خلف أمير المؤمنين عثمان يدل على أن قصر الصلاة في السفر ليس بواجب، لكنه مستحب متأكد.
ومسائل الخلاف الفرعية لا يجب التوقف عندها؛ والاختلاف فيها مثل صلاة التراويح أو القيام إحدى عشرة ركعة، فصلاة إحدى عشرة ركعة مستحب، وليس بواجب، هو سنة عن النبي ﷺ؛ لأن الرسول ﷺ كان يصلي إحدى عشرة[(545)] ركعة في الغالب، وقد يوتر بثلاث عشرة ركعة كما في حديث ابن عباس[(546)]، وقد أوتر بسبع[(547)]، وأوتر بتسع أيضًا[(548)]، كلها ثابتة عن النبي ﷺ، وليس بواجب، ويدل عليه قول النبي ﷺ: صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فليوتر بوَاحِدَة [(549)].
ثم أيضًا من أراد أن يقتدي بالرسول ﷺ في العدد إحدى عشرة ركعة فعليه أن ينظر كيف كانت صلاة النبي ﷺ، فصلاة النبي ﷺ كما في حديث ابن عباس: كان النبي ﷺ إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل قام[(550)]، وكان يصلي إحدى عشرة ركعة يقرأ في الركعة الأولى كما في حديث حذيفة[(551)]: البقرة وآل عمران والنساء. خمسة أجزاء وربعًا في ركعة واحدة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا وقف يسأل، وإذا مر بآية عذاب وقف يتعوذ، وإذا مر بآية تسبيح وقف يسبح، وكان ركوعه نحوًا من قراءة خمسين آية، والسجدة كذلك يعني مثل ربع الساعة أو ثلث الساعة، ولذلك رأى بعض الصحابة أن يصلوا عشرين ركعة، فإذا خففت القراءة تكثر الركعات، وإذا طولت القراءة وأطلت الركوع والسجود تخفف الركعات.
والصحابة صلوا هذا وذاك، صلوا إحدى عشرة ركعة وصلوا ثلاث وعشرين ركعة.
المتن:
الشرح:
176 هذا الحديث استدل به البخاري على أنه لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من السبيلين مثل الضرطة، وفي الحديث الآخر أنه قال: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط[(552)]، يعني: الريح التي تخرج، فإن كان لها صوت فهي ضراط، وإن لم يكن لها صوت كانت فساء، والسائل رجل أعجمي، يحتمل أنه هو الرجل الأول، وهو من حضرموت، قال: ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط[(553)]، يبين له؛ والمراد أن هذا مثال؛ فأبو هريرة يمثل مثالاً للحدث بالضرطة، ومعلوم أن البول والغائط أشد، لكنه كان في المسجد فمعلوم أنه لا يحصل منه إلا الريح.
المتن:
الشرح:
177 هذا الحديث: يدل على أن المصلي لا ينصرف من صلاته حتى يسمع صوتًا، وهو الضراط، أو ريحًا وهو الفساء، والمعنى: لا ينصرف حتى يتحقق الحدث، وكذلك لو تحقق أنه خرج من ذكره شيء ينصرف من الصلاة، أما إذا وجد في بطنه قرقرة أو أحس بخروج شيء من ذكره فلا يخرج حتى يتيقن، فإذا كان عنده شك فلا يخرج؛ لأن الطهارة يقين فهو متيقن أنه على طهارة فلا يخرج من الطهارة إلا بيقين من خروج الحدث؛ أما الشكوك والوساوس فينبغي للإنسان أن يطرحها حتى لا يستولي عليه الشيطان.
وهذا الحديث: دليل للقاعدة المعروفة، وهي أن اليقين لا يزول إلا بيقين، ولا يزول بالشك، والبخاري رحمه الله يستدل بهذا الحديث للترجمة أنه لا وضوء إلا من المخرجين: القبل والدبر.
المتن:
178 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ أَبِي يَعْلَى الْثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَْسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: فِيهِ الْوُضُوءُ.
وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنْ الأَْعْمَشِ.
الشرح:
178 قوله: «كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً» ، يعني: كثير المذي، والمذي: ماء لزج أصفر رقيق يخرج على رأس الذكر عند الشهوة أو الملاعبة، وفي اللفظ الآخر في الصحيح: «فاستحييت أن أسأله لمكان ابنته مني» [(554)] يعني: فاطمة.
وفي هذا الحديث دليل على أن المذي ينقض الوضوء، وهو نجس، ولكن نجاسته مخففة مثل بول الصبي الذي لم يأكل الطعام، فيكفي فيه النضح؛ ويجب فيه ـ أيضاً ـ غسل الذكر والأنثيين، أي: الخصيتين، والحكمة في هذا ـ والله أعلم ـ أنه يؤدي إلى تقلص الخارج.
وهذا الحديث: أورده البخاري كدليل للترجمة أنه لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من السبيلين؛ لأن المذي ضمن الخارج من السبيلين.
المتن:
179 حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ فَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ قَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ.
الشرح:
179 هذا الحديث منسوخ، وهذا كان في أول الإسلام؛ فكان الرجل إذا جامع زوجته ولم يمن لا يجب عليه الغسل حتى ينزل، بل كان يغسل ذكره ويتوضأ؛ لاحتمال أن يكون خرج منه مذي، وهذا شاهد الترجمة أنه لا ينقض الوضوء إلا ما خرج من المخرجين.
وقد نسخ هذا الحكم بعد ذلك، واستقرت الشريعة على أن الإنسان إذا جامع يجب عليه الغسل ولو لم يمن كما جاء في حديث أبي هريرة في الصحيح: إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا فَقَدْ وَجَبَ الغَسْلُ [(555)]، وفي لفظ: وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ [(556)] فالغسل يجب بالتقاء الختانين، فإذا غيب الحشفة أي: طرف الذكر في فرج المرأة وجب الغسل ولو لم ينزل.
المتن:
180 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ الأَْنْصَارِ فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ قُحِطْتَ فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ.
تَابَعَهُ وَهْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ.
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَلَمْ يَقُلْ غُنْدَرٌ وَيَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ: الْوُضُوءُ.
الشرح:
180 قوله: لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ؟ لأن الرجل تأخر عن إجابة النبي ﷺ فجاء ورأسه يقطر من الغسل، فقال له النبي ﷺ: لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ؟ قال: نعم يا رسول الله.
قوله: إِذَا أُعْجِلْتَ أَوْ قُحِطْتَ معناه: إذا جامعت ولم تنزل، فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ أي: فعليك الوضوء فقط، والمعنى: أن هذا الرجل كان يجامع زوجته، وهذا ـ كما سبق ـ في أول الإسلام ثم نسخ، واستقرت الشريعة على أن الجماع يوجب الغسل ولو لم ينزل.
وبالنسبة للوضوء من مس الذكر ففيه خلاف بين العلماء، فمنهم من يرى أنه لا ينقض الوضوء، واستدل بحديث طلق بن علي: إِنَّمَا هُوَ بَضْعَةٌ مِنْكَ [(557)]، أي: جزء منك. ومنهم من رأى أنه ينقض الوضوء، واستدل بحديث بسرة: مَنْ مَسَّ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ [(558)]. وحديث بسرة متأخر، وحديث طلق بن علي كان في أول الهجرة؛ جاء والنبي ﷺ يبني مسجده، فالصواب أنه ينقض الوضوء.
وقال آخرون من أهل العلم: إنه إذا مس فرجه بشهوة نقض الوضوء، وإلا فلا ينقض؛ فالأقوال ثلاثة: