المتن:
باب الْوُضُوءِ مِنْ التَّوْرِ
199 حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عَمِّي يُكْثِرُ مِنْ الْوُضُوءِ، قَالَ: لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَخْبِرْنِي كَيْفَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ ﷺ يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاغْتَرَفَ بِهَا فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً.
الشرح:
199 هذا الحديث فيه: جواز الوضوء مخالفًا، فالنبي ﷺ خالف بين أعضاء الوضوء: غسل اليدين مرتين، والوجه ثلاثًا، ومضمض واستنشق ثلاثًا.
وفيه: أنه غسل يديه أيضًا قبل الوضوء، وكل هذا مشروع.
والشاهد: أنه توضأ من التور، والتور: إناء من صفر ـ يعني من نحاس ـ فلا بأس بالوضوء من إناء النحاس، أو إناء الزجاج أو الحجارة، أو الخشب أو غيرها، إلا الذهب والفضة.
المتن:
فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَدْبَرَ بِهِ وَأَقْبَلَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَتَوَضَّأُ.
200 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ.
قَالَ أَنَسٌ: فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ.
الشرح:
200 حماد: هو حماد بن زيد، وليس حماد بن سلمة؛ لأن مسددًا لم يسمع من حماد بن سلمة.
وهذا الحديث فيه: بيان أن الماء نبع من بين أصابعه ﷺ، وهذا يدل على قدرة الله العظيم، وأن الله لا يعجزه شيء: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82]، وهذه معجزة للنبي ﷺ أن يضع أصابعه في المخضب الصغير، حتى توضأ ما بين السبعين إلى الثمانين.
قال العيني رحمه الله: «قوله: «رَحْرَاحٍ» بفتح الراء وبالحاءين المهملتين أي: واسع ويقال: رحرح أيضًا بحذف الألف، وقال الخطابي: الرحراح: الإناء الواسع الفم القريب القعر، ومثله لا يسع الماء الكثير فهو أدل على المعجزة.
وروى ابن خزيمة هذا الحديث عن أحمد بن عبدة عن حماد بن زيد، فقال بدل «رحراح» : «زجاج»[(618)] بزاي مضمومة وجيمين، وبوب عليه: الوضوء من آنية الزجاج، وفي «مسنده» عن ابن عباس رضي الله عنهما أن المقوقس أهدى النبي ﷺ قدحًا من زجاج[(619)] لكن في إسناده مقال».
ولفظ: «رَحْرَاحٍ» لو قرئ «زجاج» لا بأس، قد يحتمل.
والشاهد من الحديث: أن النبي ﷺ توضأ من قدح، ولا بأس أن يكون القدح من أي نوع، ما لم يكن ذهبًا أو فضة.
المتن:
باب الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ
201 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَغْسِلُ أَوْ كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ.
الشرح:
201 هذا الحديث فيه: دليل على مشروعية الاقتصاد في الماء في الوضوء وفي الغسل، وأنه ينبغي للإنسان أن يبتعد عن الإسراف، ولو كان الماء عنده كثيرًا متوفرًا؛ ولهذا كان النبي ﷺ يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع.
والمد: هو ملء كفي الرجل المتوسط.
والصاع: أربعة أمداد: أي ملء الكفين أربع مرات، هذا هو الصاع النبوي.
قوله: «كَانَ يَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» يدل على أن السنة الاقتصاد، وقوله: «وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ» يعني: كان النبي ﷺ يتوضأ بملء كفيه مرة، لكن إذا زاد عن المد مدين أو ثلاثة لا بأس، وكذلك إذا زاد في الغسل صاعًا أو صاعين أو ثلاثة لا بأس، وجاء في الحديث الآخر أنه اغتسل مع عائشة رضي الله عنها من إناء يسع ثلاثة آصع[(620)]، لكن ينبغي للإنسان ألا يسرف حتى لا يقع في الوسواس.
ولما قال رجل لجابر: ما يكفيني الصاع، قال: كان يكفي من هو أفضل منك، وأوفى منك شعرًا[(621)]؛ يعني: النبي ﷺ.
المتن:
باب الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
202 حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ عَنْ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو ابْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ ابْنَ عُمَرَ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: نَعَمْ، إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئًا سَعْدٌ عَنْ النَّبِيّ ﷺ فَلاَ تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدًا فَقَالَ: عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ.
الشرح:
202 هذا الحديث فيه: مشروعية المسح على الخفين، والمسح على الخفين من الأحاديث المتواترة عن النبي ﷺ، وقد أجمع عليه المسلمون، والرافضة لا يرون المسح على الخفين، لكن الرافضة ليسوا أهلاً لأن يعتبر خلافهم.
وفيه: أن ابن عمر كأنه توقف في هذا لما أخبره سعد بأن النبي ﷺ مسح على خفيه، فقال له: سل أباك، فسأل عمر، فقال له عمر: «إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئًا سَعْدٌ عَنْ النَّبِيّ ﷺ فَلاَ تَسْأَلْ» يعني: ثقة.
والمسح على الخفين له شروط منها: أن يلبسهما على طهارة، ولا بد أن يكون الخف أو الجورب ساترًا للمفروض ـ يعني لمحل الفرض ـ وذلك أن يتجاوز الكعب، فإن كان دون الكعب فهذا في حكم النهي، ولا يجوز المسح عليه. ء
ومن الشروط ألا يكون مخرَّقًا، ولا يكون خفيفًا يرى من ورائه البشرة؛ فإذا توافرت الشروط فإنه يمسح بالإجماع.
ويروى عن مالك[(622)] أنه خالف في ذلك، وكذلك ابن عمر توقف، لكن جماهير الصحابة والعلماء على مشروعية المسح على الخفين، وهو من الأحاديث المتواترة عن النبي ﷺ.
ويمسح عليهما في الحدث الأصغر، أما إذا كان عليه جنابة فيجب خلع الخفين؛ كما في حديث صفوان بن عسال: إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ، وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ [(623)]، فيمسح على الخفين من البول، والغائط، والنوم، وأكل لحم الجزور، والريح إن توافرت شروط المسح، كما في حديث علي أن للمقيم يومًا وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها[(624)]، وهذا مجمع عليه.
وإذا مسح على الخفين ثم نزع أحدهما بطل وضوءه، وعليه أن يعيد الوضوء من جديد، وإذا كان صلى بوضوئه فعليه أن يعيد ما صلى بالترتيب، وإذا كان لا يعرف عددها يصلي حسب ما يغلب على ظنه، يسردها في الضحى أو في الليل، ولا يؤخر الظهر مع الظهر والعصر مع العصر بل يسردها بالترتيب: فجر، ثم ظهر، ثم عصر، ثم مغرب، ثم عشاء، إلا إذا كانت كثيرة كأن تكون مدة طويلة فعليه التوبة فيما مضى والمحافظة فيما يستقبل؛ لأن النبي ﷺ لم يأمر الأعرابي الذي كان ينقر الصلوات أن يعيد الصلوات الكثيرة.
أما الرافضة فإنهم لا يرون المسح على الخفين، فإذا كانت الرجلان مكشوفتين تمسح ظهور القدمين، وإذا كان عليهما خفان وجب خلعهما ومسح ظهور القدمين، وهذا من أبطل الباطل، والرافضة من أهل الأهواء، ومن أهل الانحراف، وأهل الزيغ، فلا يعتبر خلافهم، نسأل الله السلامة والعافية.
المتن:
203 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ ابْنِ شُعْبَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، أَنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
204 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ، أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَتَابَعَهُ حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبَانُ عَنْ يَحْيَى.
الشرح:
203، 204 هذان الحديثان: صريحان في الدلالة على مشروعية المسح على الخفين، ففيهما أن النبي ﷺ مسح على خفيه، وفي اللفظ الآخر أنه قال: فأهويت لأنزع خفيه فقال: دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ [(625)].
وفي اللفظ الآخر أنه لما أراد أن يغسل يديه كان عليه جبة شامية ضيقة الكمين فلم يستطع أن يخرجهما، فأخرجهما من أسفل الجبة[(626)]؛ وهذا دليل على أنه لا بأس بلبس الثوب الضيق الكمين، ولا سيما في السفر، وأنه لا بأس بلباس الكفار؛ لأن هذه جبة شامية جاءت من الشام، وكانت الشام في ذلك الوقت بلاد كفار؛ كانت بلاد الروم وكانوا نصارى.
وفي حديث المغيرة: جواز الإعانة في الوضوء؛ لأن المغيرة صب على النبي ﷺ ولم ينكر عليه، فإذا أعان الإنسان صاحبه وصب عليه الماء وهو يتوضأ فلا حرج.
المتن:
205 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَْوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ.
وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ.
الشرح:
205 في هذا الحديث: مشروعية المسح على العمامة وعلى الخفين، ولكن بعض العلماء قال: إنه مسح على العمامة وبقية الرأس، وهؤلاء يرون المسح على العمامة وعلى الرأس جميعًا.
والقول الآخر: أن المسح على العمامة وحدها إذا كانت ساترة للرأس، لكن بشرط أن تكون محنكة، بمعنى: أن يدير أطرافها تحت حنكه ويربطها فيشق عليه نزعها، أما إذا لم تكن محنكة فلا يمسح عليها؛ فكما أن الخفين إذا لم يلبسهما على طهارة أو كانا دون الكعبين فإنه ينزعهما ويغسل رجليه، فكذلك العمامة إذا كانت صماء ولم تكن مدارة تحت الحنك فإنه ينزعها ويمسح رأسه.
والحكمة من ذلك التيسير ودفع المشقة.
وكذلك الخمار على المرأة إذا أدارته تحت حلقها، ولبسته على طهارة وصار يشق نزعه مسحت عليه.
والمسح يكون في السفر وفي الحضر، كما جاء في الحديث: «للمسافر ثلاثة أيام بلياليها وللمقيم يوم وليلة» [(627)].
المتن:
باب إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ
206 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ فَأَهْوَيْتُ لأَِنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: دَعْهُمَا فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ، فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
الشرح:
206 هذا الحديث فيه: اشتراط اللبس على طهارة للمسح على الخفين، فإن لبسهما وهو محدث وجب عليه نزعهما وغسل الرجلين.
قال العيني: «بيان الحكم وهو شيئان: أحدهما المسح على العمامة، والآخر على الخفين؛ أما الأول: فاختلف العلماء فيه؛ فذهب الإمام أحمد إلى جواز الاقتصار على العمامة بشرط الاعتمام بعد كمال الطهارة كما في المسح على الخفين، واحتج المانعون بقوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ [المَائدة: 6]، ومن مسح على العمامة لم يمسح على رأسه، وأجمعوا على أنه لا يجوز مسح الوجه في التيمم على حائل دونه، فكذلك الرأس.
وقال الخطابي: فرض الله مسح الرأس، والحديث في مسح العمامة محتمل للتأويل، فلا يترك المتيقن للمحتمل، قال ابن المنذر: وممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق ، وبه قال عمر وأنس وأبو أمامة، وروي عن سعد بن مالك وأبي الدرداء، وبه قال عمر بن عبدالعزيز والحسن وقتادة ومكحول والأوزاعي وأبو ثور، وقال عروة والنخعي والشعبي والقاسم ومالك والشافعي وأصحاب الرأي: لا يجوز المسح عليها».
والصواب: المسح كما في هذا الحديث أن النبي ﷺ مسح على العمامة، فهذا حجة عليهم.
والخروق في الجوربين تؤثر في صلاحيتهما للمسح؛ فإذا كانت خروقًا واضحة فالأحوط للمسلم أن يخلعهما خروجًا من الخلاف؛ لأن كثيرًا من العلماء والفقهاء يرون أن الخروق تؤثر، أما الشيء اليسير فيعفى عنه إن شاء الله.
وأما عن كيفية لبس الخفين، إذا غسل اليمنى وأدخلها في الخف قبل غسل اليسرى، ثم غسل اليسرى وأدخلها ـ فهذه المسألة فيها اختلاف بين أهل العلم؛ فبعض العلماء يرى أنه يجوز؛ لأنه لا يرى الموالاة واجبة، وقال آخرون: إن له أن يخلع الخفين، ويغسل رجليه ويدخلهما، أي قبل الوضوء، ثم يتوضأ ويمسح عليهما؛ والصواب: أنه لا يصح المسح عليهما حتى ينتهي من الطهارة بغسل رجليه جميعًا، ثم يدخلهما في الخفين.
أما إذا غسل اليمنى ثم لبس الخف ثم غسل اليسرى ثم لبس الخف ـ فقد لبسه قبل تمام الطهارة، وفي هذه الحالة لا يمسح عليهما بل يجب عليه نزعهما؛ لأنه ما لبسهما على طهارة كاملة.
المتن:
باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيقِ
وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ فَلَمْ يَتَوَضَّئُوا.
الشرح:
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «سقط قوله: «لحمًا» من رواية أبي ذر إلا عن الكشميهني وقد وصله الطبراني في «مسند الشاميين» بإسناد حسن من طريق سليم ابن عامر قال: رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضؤوا[(628)]».
يعني: أكلوا لحمًا مما مست النار حتى يطابق الترجمة ويكون مؤيدًا لها.
المتن:
الشرح:
207 هذا الحديث فيه: أن النبي ﷺ أكل كتف شاة ولم يتوضأ، وسبق في الترجمة أن أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا لحمًا ولم يتوضئوا، ففيه دليل على أنه لا يجب الوضوء من أكل لحم الغنم، أو من أكل ما مسته النار كالسويق، وهو حب الحنطة يحمس ثم يؤكل.
وكان في أول الإسلام إذا أكلوا شيئًا مسته النار توضئوا، فإذا أكلوا لحمًا أو شربوا مرقًا مسته النار توضئوا؛ لقوله ﷺ: توضئوا مِمَّا مَسَّتْهُ النَّارُ [(629)].
ثم نسخ ذلك بحديث جابر: «كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مسته النار» [(630)].
فيكون وجوب الأمر بالوضوء مما مسته النار منسوخًا.
وقال آخرون من أهل العلم: فعله ﷺ يصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، فيكون الوضوء مما مسته النار مستحبًّا، ولكنه لا يجب؛ وكونه أكل كتف شاة ولم يتوضأ دليل على جوازه، وهذا الفعل يصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، وهذا أرجح؛ لأن فيه عملاً بالحديثين.
ويستثنى مما مست النار لحم الإبل خاصة، وسواء مسته النار أو لم تمسه؛ لقول النبي ﷺ: توضؤوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، ولا تتوضؤوا مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ [(631)]، وللحديث الثاني لما سئل النبي ﷺ: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إِنْ شِئْتِ، قيل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم [(632)].
المتن:
الشرح:
208 هذا الحديث: واضح في أنه لا يجب الوضوء من أكل لحم الغنم، ولا من أكل ما مسته النار، فإذا شرب الإنسان مرقًا، أو قهوة أو شايًا أو أكل طعامًا مسته النار فلا يجب الوضوء، لكن يستحب في أحد القولين.
والقول الثاني: أنه منسوخ ولا يستحب. لكن الأرجح أن يحمل الأمر على الاستحباب جمعًا بين الأدلة.
وفيه: جواز القطع بالسكين، وأما ما جاء من الحديث في النهي عن القطع بالسكين[(633)]، فإنه لا يصح؛ ولهذا كان النبي ﷺ يحتز من كتف شاة بالسكين، فدل الاحتزاز بها على الجواز.
مسألة: اختلف العلماء في الوضوء من كبد الإبل والعصب والشحم وغير ذلك على قولين:
القول الأول: أنه لا يجب الوضوء إلا من أكل اللحم فقط، وهو اللحم الأحمر ويسمى الهبر، أما العصب أو الشحم أو الكرش أو لحم الرأس أو الكبد أو غيرها فلا يجب الوضوء منها؛ لأنه جاء في الحديث: توضؤوا مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ قال: هذا هو الذي يسمى لحمًا، أما الكبد فلا تسمى لحمًا على الإطلاق، ولحم الرأس ما يسمى لحمًا وإنما يسمى لحم رأس، وكذلك الكرش والكبد.
القول الثاني: يتوضأ منها بجميع أجزائها، وهذا هو الأحوط.
مسألة: أما إذا شرب من مرق اللحم، أو شرب لبن الإبل فهذا لا يوجب الوضوء.
المتن:
باب مَنْ مَضْمَضَ مِنْ السَّوِيقِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ
209 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِالأَْزْوَادِ فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
الشرح:
209 قوله: «فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ» السويق: هو حب الحنطة، وقيل: حب الشعير، يحمس بالنار ثم يثرى ويؤكل، وإذا كان يحمس فيكون بذلك مسته النار.
ففي الحديث: عدم وجوب الوضوء مما مسته النار؛ لأنه أكل سويقًا ولم يتوضأ.
وفيه: أنه مضمض؛ فدل على أنه يستحب للإنسان المضمضة إذا شرب لبنًا، أو أكل سويقًا أو غيره من باب النظافة، ومن باب إزالة ما يكون في الأسنان، وليس بواجب؛ ولذلك صلى النبي ﷺ العصر ثم دعا بالسويق فثري فأكل منه، ثم قام ومضمض ثم صلى ولم يتوضأ.
وفيه: جواز الصلاتين بوضوء واحد؛ لأنه صلى العصر والمغرب بوضوء واحد، وكان ﷺ كثيرًا ما يتوضأ لكل صلاة، وهذا هو الغالب من فعله ﷺ، وكان لا يتوضأ في بعض الأحيان ويجمع بين الصلاتين بوضوء واحد.
وقال بعض أهل العلم: إنه كان واجبًا عليه ثم نسخ، وثبت من حديث بريدة أن النبي ﷺ صلى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، فلما سأله عمر قال: عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ [(634)] يعني: لبيان الجواز، فيجوز للإنسان أن يصلي بوضوء واحد أكثر من صلاة ما دام باقيًا على طهارته.
المتن:
الشرح:
210 هذا الحديث فيه: أنه أكل كتفًا، ولم يتوضأ؛ فدل على أنه لا يجب الوضوء مما مسته النار، وليس فيه المضمضة؛ فدل على أن المضمضة ليست لازمة وإنما هي مستحبة، وهي من باب النظافة.
المتن:
باب هَلْ يُمَضْمِضُ مِنْ اللَّبَنِ
211 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَقُتَيْبَةُ قَالاَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ، وَقَالَ: إِنَّ لَهُ دَسَمًا.
تَابَعَهُ يُونُسُ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ الزُّهْرِيِّ.
الشرح:
211 هذا الحديث فيه: المضمضة من اللبن، وبين النبي ﷺ العلة فقال: إِنَّ لَهُ دَسَمًا، فالمضمضة تزيل الدسم، ولكن ليس هذا بواجب؛ بدليل الحديث الآخر الذي يرويه أنس أن النبي ﷺ شرب لبنًا ولم يمضمض[(635)]، فدل على أن المضمضة مستحبة، إن شاء تمضمض وهو أفضل وأحسن، وإن شاء لم يتمضمض.
المتن:
الْوُضُوءِ مِنْ النَّوْمِ وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنْ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ أَوْ الْخَفْقَةِ وُضُوءًا.
212 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لاَ يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ.
الشرح:
212 قوله: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي هذا الحديث فيه: الأمر لمن نعس وهو في الصلاة بالنوم، واستدل به المؤلف رحمه الله على أن النعاس لا ينقض الوضوء، ولذلك قال: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي يعني: وهو في صلاته، ولو كان النعاس ينقض الوضوء لبطلت صلاته، فدل على أن النعاس لا ينقض الوضوء.
والنعاس: هو مقدمات النوم، وكذلك الخفقة أي: خفقان الرأس، بأن يحرك رأسه حركة مقربة ـ فالنعاس الذي يشعر الإنسان معه بالناس من حوله، ويسمع كلامهم: لا ينقض الوضوء، وإنما ينقضه النوم المستغرق.
وفي الحديث: الأمر لمن نعس وهو يصلي أن يرقد فقال ﷺ: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ.
وبين الحكمة في ذلك أنه لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ، والمعنى: أنه يريد أن يدعو فيدعو على نفسه؛ لغلبة النعاس، وهذا محمول عند أهل العلم على صلاة التطوع بالليل، والسنة فيها الإطالة، فإذا نعس وهو يصلي فإن عليه أن يرقد ويأخذ راحته حتى يقبل على الصلاة بنشاط وقوة، أما الفرائض فليس له ذلك؛ لأن الفريضة مدتها لا تطول فهي مبنية على التخفيف، فليس له أن ينام ويترك الفريضة، وإنما إذا نعس في الفريضة يعالج نفسه حتى يزيل النعاس.
والشاهد من الحديث: أنه سماه ناعسًا، فبين أنه ينعس وهو يصلي، ولم يبين أن صلاته باطلة، أو أنه انتقض وضوءه بالنعاس قال: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي، فدلَّ على أن الناعس يكون مصليًا، ولا تنتقض طهارته بالنعاس، ولكن بالنوم المستغرق؛ وذلك أن النوم مظنة للحدث؛ لما جاء في الحديث الآخر: إِنَّ الْعَيْنَيْنِ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتُطْلِقَ الْوِكَاءُ [(638)]، والسه: حلقة الدبر، والوكاء: هو الرباط، والمعنى: أن حلقة الدبر رباطها العينان، فإذا كان الإنسان مستيقظًا منع نفسه من خروج الحدث، أما إذا نامت العينان فقد انحل الرباط، فيخرج الحدث وهو لا يشعر، فالنوم مظنة للحدث.
وقال آخرون: إن النوم نفسه حدث؛ ولذلك قالوا: إنه إذا نام فإنه ينتقض وضوءه بالنوم، ثم اختلفوا متى يكون نائمًا؟ هذا مع اتفاقهم على أن النوم الخفيف ـ وهو مبادئ النعاس ـ لا يكون نومًا، فقال بعضهم: إنه إذا نام مضطجعًا ينتقض وضوءه، وقال آخرون: إذا نام راكعًا أو ساجدًا واستغرق، وقال آخرون: إذا نام وهو متكئ.
والصواب: أن النوم مظنة للحدث، وأن النوم الذي ينقض الوضوء هو ذهاب الشعور، فإذا ذهب شعور الإنسان فلا يسمع من حوله فهذا دليل على أنه مستغرق، أما إذا كان خفقانًا ونعاسًا، فيخفق الرأس وينعس نعاسًا يشعر فيه بمن حوله ويسمع من حوله، فهذا لا ينقض الوضوء، ولا يعد هذا نومًا، والدليل على هذا ما ثبت أن الصحابة كانوا ينتظرون صلاة العشاء وتخفق رءوسهم فيصلون ولا يتوضؤون[(639)]، وفي لفظ: «كانوا ينامون» [(640)]، وفي لفظ: «كانوا ينعسون» [(641)].
ومن علامات النوم: الرؤيا، فإذا رأى رؤيا فهذا دليل على أن النوم مستغرق، ولو كان جالسًا.
المتن:
الشرح:
213 قوله: إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ يعني: في صلاة الليل، وهي صلاة التطوع، فَلْيَنَمْ يعني: حتى يأخذ حظه وراحته من النوم حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ يعني: حتى إذا استيقظ وقد أخذ ما يكفيه من النوم يصلي في نشاط ويعلم ويتدبر ما يقرأ، أما إذا صلى وهو ينعس فلا يعلم ما يقرأ، ولا يدري ما يقول، وفي الحديث السابق: لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ بسبب غلبة النعاس له؛ ولهذا أرشده النبي ﷺ إلى النوم.
قال العيني في تعليقه على الترجمة: «قوله: «أَوْ الْخَفْقَةِ» عطف على قوله: «النَّعْسَةِ» وهو أيضًا على وزن فَعْلة، مرة من الخفق، يقال: خفق الرجل ـ بفتح الفاء ـ يخفق خفقًا إذا حرك رأسه وهو ناعس، وفي «الغريبين»: معنى «تخفق رءوسهم»: تسقط أذقانهم على صدورهم.
وقال ابن الأثير: خفق: إذا نعس، والخفوق: الاضطراب، وخفق الليل: إذا ذهب.
وقال ابن التين: الخفقة: النعسة وإنما كرر لاختلاف اللفظ. وقال بعضهم: والظاهر أنه من ذكر الخاص بعد العام.
قلت: على قول ابن التين بين النعس والخفقة مساواة، وعلى قول بعضهم عموم وخصوص بمعنى أن كل خفقة نعسة وليس كل نعسة خفقة».
فالنعاس كأنه أشمل وأعم من الخفقة، فالخفقة كأنها النعسة الواحدة، والنعاس أطول يشمل الخفقة والخفقات.
قال العيني: «وقال بعضهم: ظاهر كلام البخاري أن النعاس يسمى نومًا، والمشهور التفرقة بينهما أن من فترت حواسه بحيث يسمع كلام جليسه، ولا يفهم معناه فهو ناعس، وإن زاد على ذلك فهو نائم.
ومن علامات النوم الرؤيا طالت أو قصرت، قلت: لا نسلم أن ظاهر كلام البخاري يدل على عدم التفرقة، فإنه عطف قوله: «وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنْ النَّعْسَةِ» إلى آخره على قوله: النوم في قوله: «باب النوم» ، والتحقيق في هذا المقام أن معنا ثلاثة أشياء: النوم والنعسة والخفقة، أما النوم فمن قال: إن نفس النوم حدث يقول بوجوب الوضوء من النعاس، ومن قال: إن نفس النوم ليس بحدث لا يقول بوجوب الوضوء على الناعس.
وأما الخفقة فقد روي عن ابن عباس أنه قال: وجب الوضوء على كل نائم إلا من خفق خفقة، فالبخاري أشار إلى هذه الثلاثة، فأشار إلى النوم بقوله: «باب النوم» ، والنوم فيه: تفصيل كما نذكره عن قريب.
وأشار بقوله: «النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ» إلى القول بعدم وجوب الوضوء في النعسة والنعستين، ويُفهم من هذا أن النعسة إذا زادت على النعستين وجب الوضوء؛ لأنه يكون حينئذ نائمًا مستغرقًا، وأشار إلى من يقول بعدم وجوب الوضوء على من يخفق خفقة واحدة، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما بقوله: «أَوْ الْخَفْقَةِ» ، ويُفهم من هذا أن الخفقة إذا زادت على الواحدة يجب الوضوء؛ ولهذا قيد ابن عباس الخفقة بالواحدة.
وأما النوم ففيه أقوال:
الأول: أن النوم لا ينقض الوضوء بحال، وهو محكي عن أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب، وأبي مجلز وحميد بن عبد الرحمن والأعرج، وقال ابن حزم: وإليه ذهب الأوزاعي، وهو قول صحيح عن جماعة من الصحابة وغيرهم، منهم ابن عمر ومكحول وعَبِيدة السلماني.
الثاني: النوم ينقض الوضوء على كل حال، وهو مذهب الحسن والمزني وأبي عبد القاسم بن سلام وإسحاق بن راهويه، وقال ابن المنذر: وهو قول غريب عن الشافعي قال: وبه أقول، قال: وروي معناه عن ابن عباس وأنس وأبي هريرة ، وقال ابن حزم: النوم في ذاته حدث ينقض الوضوء، سواء قل أو كثر، قاعدًا أو قائمًا، في صلاة أو غيرها، أو راكعًا أو ساجدًا أو متكئًا أو مضطجعًا أيقن من حواليه أنه لم يحدث أو لم يوقنوا.
الثالث: كثير النوم ينقض، وقليله لا ينقض بكل حال، قال ابن المنذر: وهو قول الزهري، وربيعة، والأوزاعي، ومالك، وأحمد ـ في إحدى الروايتين ـ وعند الترمذي، وقال بعضهم: إذا نام حتى غلب على عقله وجب عليه الوضوء، وبه يقول إسحاق.
الرابع: إذا نام على هيئة من هيئات المصلي كالراكع والساجد والقائم والقاعد لا يُنقض وضوءه سواء كان في الصلاة أو لم يكن، فإن نام مضطجعًا أو مستلقيًا على قفاه انتقض، وهو قول أبي حنيفة وداود، وقول غريب للشافعي، وقاله أيضًا حماد بن أبي سليمان وسفيان.
الخامس: لا ينقض إلا نوم الراكع، وهو قول عن أحمد ذكره ابن التين.
السادس: لا ينقض إلا نوم الساجد، روي أيضًا عن أحمد.
السابع: من نام ساجدًا في مصلاه فليس عليه وضوء، وإن نام ساجدًا في غير صلاة توضأ، وإن تعمد النوم فعليه الوضوء، وهو قول ابن المبارك.
الثامن: لا ينقض النوم الوضوء في الصلاة، وينقض خارج الصلاة وهو قول الشافعي.
التاسع: إذا نام جالسًا ممكِّنا مقعدته من الأرض لم ينقض سواء قل أو كثر، وسواء كان في الصلاة أو خارجها، وهو مذهب الشافعي رحمه الله.
وقال أبو بكر بن العربي: تتبع علماؤنا مسائل النوم المتعلقة بالأحاديث الجامعة لتعارضها، فوجدوها حالاً: ماشيًا وقائمًا ومستندًا وراكعًا، وقاعدًا متربعًا ومحتبيًا ومتكئًا، وراكبًا وساجدًا ومضطجعًا ومستقرًّا وهذا في حقنا، فأما سيدنا رسول الله ﷺ، فمن خصائصه أنه لا ينتقض وضوءه بالنوم مضطجعًا ولا غير مضطجع» ا.هـ.
والصواب من هذه الأقوال: أن النوم ناقض للوضوء بشرط أن يكون مستغرقًا، والعبرة بالنوم الذي يزول معه الشعور، فإذا زال معه الشعور فإنه ينقض الوضوء سواء كان قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا، فمن نام ولو خرج منه الحدث علم به لا ينتقض وضوءه، أما إذا زال شعوره بحيث لا يشعر بمن حوله فإن هذا يعتبر نومًا مستغرقًا فينقض الوضوء.
والدليل على هذا حديث صفوان بن عسال: وَلَكِنْ مِنْ غَائِطٍ وَبَوْلٍ وَنَوْمٍ [(636)].
والنوم مظنة للحدث؛ لأن قاعدة الشريعة أن الشيء يعطى حكم مظنته، فالسفر مثلاً مظنة للمشقة؛ ولذلك المسافر يترخص فيفطر في رمضان، ويقصر الصلاة، ويجمع بين الصلاتين، ويمسح على الخفين ثلاثة أيام بلياليها؛ والحكمة في هذا دفع المشقة، لكن لما كانت المشقة غير منضبطة علقها الشارع بالسفر؛ لأن السفر مظنة المشقة، وقد لا يكون في بعض الأسفار مشقة ومع ذلك تترخص، فكذلك النوم لما كان مظنة للحدث أعطي حكمه ومما يدل على ذلك قول النبي ﷺ في الحديث الآخر: إِنَّ الْعَيْنَيْنِ وِكَاءُ السَّهِ، فَإِذَا نَامَتِ الْعَيْنَانِ اسْتُطْلِقَ الْوِكَاءُ [(637)]
المتن:
باب الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ
214 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَساً ح.
وحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ، قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ.
الشرح:
214 اختلف في كون الرسول ﷺ كان يتوضأ لكل صلاة؛ قيل: إن هذا كان واجبًا عليه ثم نسخ، وقيل: إن المراد بـ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» ، يعني: في غالب أحواله بدليل الحديث التالي حديث سويد، أن النبي ﷺ لما كان في الصهباء صلى العصر، ثم أتي بالسويق فثري فأكل منه ثم قام إلى الصلاة فلم يتوضأ، فدل على أنه في غالب أحواله كان يتوضأ لكل صلاة، ولكنه في بعض الأحيان يصلي الصلاتين بوضوء واحد.
وفي فتح مكة صلى عليه الصلاة والسلام خمس صلوات بوضوء واحد، فلما سأله عمر قال: عَمْدًا فَعَلْتُهُ يَا عُمَرُ [(642)]، فدل على أن هذا ليس هو الغالب؛ ولهذا لما سئل أنس قال: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ» يعني: في غالب أحواله، أو أن هذا كان أولاً، ثم نسخ قال: وكيف كنتم تصنعون؟ قال: «يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ» ، يعني: ما لم يحدث يجزئه الوضوء، فإذا لم يحدث وجاءت الصلاة الأخرى صلى به، وكذلك الصلوات الأخرى.
المتن:
الشرح:
215 في هذا الحديث: أنه عليه الصلاة والسلام صلى العصر والمغرب بوضوء واحد؛ فدل على أن قوله في الحديث الأول: «كان النبي ﷺ يتوضأ عند كل صلاة» يعني: في الغالب.
وفيه: أنه ﷺ لم يتوضأ من السويق، وهو قد مسته النار، والسويق: حب الحنطة ـ وهو القمح ـ يُحمس بالنار ثم يُترى ثم يؤكل.
وفيه: عدم وجوب الوضوء مما مسته النار.
وفيه: أنه صلى صلاتين بوضوء واحد، فدل على أنه لا بأس أن يصلي الإنسان صلوات بوضوء واحد إذا لم يحدث، وأما الوضوء لكل صلاة فهو الأفضل؛ لتجديد الوضوء.
المتن:
باب مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ لاَ يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ
216 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ؛ فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآْخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ، فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا.
الشرح:
216 هذا الحديث فيه: دليل على أن عدم الاستتار من البول من الكبائر، وأنه يستوجب عذاب القبر، وكذلك النميمة.
قوله: يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، يعني: وما يعذبان في كبير في اعتقادهما وظنهما بل يتساهلان به، وإن كان كبيرًا عند الله، أو: وما يعذبان في كبير يشق عليهما الاحتراز منه؛ فالاحتراز من البول سهل، وكذلك الاحتراز من النميمة فلا يشق عليهم؛ ولهذا قال: «بَلَى» ، وفي لفظ آخر قال: وَإِنَّهُ لَكَبِيرٌ [(643)] فهو كبير عند الله وإن لم يكن كبيرًا في أنفسهم.
قوله: كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ في اللفظ الآخر: لَا يَسْتَنْزِهُ مِنْ بَوْلِهِ [(644)] فقوله: لاَ يَسْتَتِرُ، معناه: كأن يكشف عورته أمام الناس، ورواية: لاَ يَسْتَتِرُ، معناه: لا يتطهر من البول ولا يتقي البول، وفي اللفظ الآخر: لَا يَسْتَبْرِئُ [(645)] أي: يتساهل فيصيبه البول ورشاش البول، ويتساهل في غسله.
والنميمة: نقل الكلام من شخص إلى شخص على وجه الإفساد، فيفسد بين الرجل وولده، أو يفسد بين الزوج وزوجته، أو يسعى بالنميمة ليفسد بين الأخوين، أو يفسد بين القبيلتين أو بين البلدتين، أو القريتين أو الدولتين، يأتي لشخص ويقول: فلان قال فيك: كيت وكيت وكيت، ثم يذهب إلى الآخر ويقول: فلان قال فيك: كيت وكيت، فيوغر الصدور بينهما حتى يتعاديان؛ فهذا من الكبائر، وفي الحديث الآخر: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ [(646)]، وفي لفظ: لَا يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ [(647)]، وفي الحديث الآخر: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ [(648)]، فالواجب الحذر من هاتين الكبيرتين.
والكبيرة عند أهل التحقيق من أهل العلم هي التي توعد عليها بالنار أو اللعنة أو الغضب، أو ترتب عليها حد في الدنيا، وهنا توعد بعذاب القبر على النميمة وعدم الاستبراء من البول، فدل على أنهما كبيرتان.
قوله: «ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ، فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً» في اللفظ الآخر: «أخذ جريدة، وشقها نصفين وجعل في كل قبر واحدة» [(656)] «فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا أَوْ إِلَى أَنْ يَيْبَسَا، وهذا من خصائصه ﷺ.
وذهب بعض العلماء، وإليه ذهب إليه بريدة نفسه، أنه كان يغرس في بعض القبور جريدًا، هذا اجتهاد في غير محله، والصواب: أن هذا خاص بالنبي ﷺ، وخاص بهذين الشخصين؛ لأنه مات في عهده ﷺ أناس كثيرون، ولم يضع جريدة إلا على هذين الرجلين، فدل على أنه خاص بهما؛ وأن النبي ﷺ فعل ذلك بوحي من الله، أما ما عداه فليس لنا أن نفعل هذا؛ لأننا لا نعلم أحوال المقبورين، والوحي قد انقطع، فهذا خاص بالرسول ﷺ أوحى الله إليه أنهما يعذبان، ففعل بعض الناس لذلك خطأ.
قال العيني: «قوله: لاَ يَسْتَتِرُ هكذا في أكثر الروايات بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الثانية من السترة، ومعناه: لا يستر جسده ولا ثوبه من مماسة البول.
يعني: حمل معنى قوله: لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ على معنى: لَا يَسْتَبْرِئُ [(649)]، أي: لا يستر جسده وثوبه من البول، لكن ظاهر لاَ يَسْتَتِرُ أنه يكشف عورته، لكنه هنا حمله على أنه لا يستر جسده وثوبه، يعني: لا يحترز من رشاش البول لثوبه وبدنه.
قال العيني: «وفي رواية ابن عساكر لَا يَسْتَبْرِئُ بالباء الموحدة الساكنة بعد التاء المثناة من فوق المفتوحة من الاستبراء: وهو طلب البراءة، وفي رواية مسلم وأبي داود في حديث الأعمش: لَا يَسْتَنْزِهُ [(650)] بتاء مثناة من فوق مفتوحة ونون ساكنة وزاي مكسورة بعدها هاء من النزه: وهو الإبعاد، وروي: لَا يَسْتَنْثِرُ [(651)] بتاء مثناة من فوق مفتوحة ونون ساكنة وثاء مثلثة مكسورة، من الاستنثار: وهو طلب النثر، يعني: نثر البول عن المحل، وروي لا يَنتَتِرُ [(652)] بتائين مثناتين من فوق بعد النون الساكنة من النتر: وهو جذب فيه قوة وجفوة. وفي الحديث: إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلْيَنْتُرْ [(653)]».
يعني: حمل قوله: لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، على أنه لا يحترز من البول الذي يصيب بدنه أو ثوبه.
قلنا: ظاهر لاَ يَسْتَتِرُ أنه لا يستر عورته وأن هذا كان عادة له؛ فكلمة وَكَانَ تدل على الاستمرار أي: كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ يعني: يتساهل من البول، وعادته التساهل وعدم التحرز، فلا يجوز للإنسان أن يتساهل ولو مرة واحدة، فالواجب الاحتراز، وليس المراد أن الإنسان يسيطر عليه الوسواس، وإنما المراد الاحتياط والاستبراء من البول، أما الوساوس والأوهام فيجب على الإنسان أن يطرحها.
قال العيني: «فيه وجوب الاستنجاء إذ هو المراد بعدم الاستتار من البول، فلا يجعل بينه وبينه حجابًا من ماء أو حجر، ويبعد أن يكون المراد الاستتار عن الأعين، وقال ابن بطال: معناه: ولا يستتر جسده ولا ثوبه من مماسة البول، ولما عذب على استخفافه بغسله وبالتحرز عنه دل على أن من ترك البول في مخرجه ولم يغسله أنه حقيق بالعذاب، وقال البغوي: فيه وجوب الاستتار عند قضاء الحاجة عن أعين الناس عند القضاء.
قلت: هذا رد على من قال: ويبعد أن يكون المراد الاستتار عن الأعين، ولكن كلاهما واجب على ما لا يخفى»ا.هـ.
وهذا هو الصواب أن كليهما واجب، فكون الإنسان يستتر عن الأعين، فلا يكشف عورته أمام الناس هذا واجب، وكذلك كونه يستبرئ من البول، ويتنزه ويستنجي ويغسل ما أصابه هذا واجب.
قال العيني: «والتحقيق في هذا الكلام أن معنى رواية الاستتار إذا حمل على حقيقته يلزم منه أن يكون سبب العذاب مجرد كشف العورة، وفي الحديث ما يدل على أن للبول خصوصية في عذاب القبر، يدل عليه ما رواه ابن خزيمة في «صحيحه» من حديث أبي هريرة مرفوعًا أَكْثَرُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ [(654)] فإذا كان كذلك تعين أن يكون معنى الاستتار على الوجه الذي ذكرناه؛ لتتفق ألفاظ الحديث على معنى واحد ولا تختلف، ويؤيد ذلك رواية أبي بكرة عند أحمد وابن ماجه: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَيُعَذَّبُ فِي الْبَوْلِ [(655)] ومثله عند الطبراني عن أنس، وكلمة «في» للتعليل أي: يعذب أحدهما بسبب البول».
يعني: أن رواية: لاَ يَسْتَتِرُ حُملت على ما ذكر حتى تتفق مع الروايات الأخرى، فيكون البول هو سبب العذاب ليس مجرد الكشف، ويكون كشف العورة منهيًّا عنه بأدلة أخرى.
قال العيني: «قال الخطابي: فيه دليل على استحباب تلاوة الكتاب العزيز على القبور؛ لأنه إذا كان يرجى عن الميت التخفيف بتسبيح الشجر فتلاوة القرآن العظيم أعظم رجاء وبركة».
وهذا ليس بصحيح، بل هو باطل، فقراءة القرآن عند القبور من البدع؛ لقول النبي ﷺ: أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ [(657)]، فالقبور لا يصلى فيها، ولا يقرأ القرآن فيها.
وبالنسبة للعذاب في القبور فالمعتزلة يقولون: إن العذاب على الروح لا على البدن، والصواب أن العذاب والنعيم على الروح والبدن، لكن الأحكام على الروح أغلب في البرزخ.
المتن:
باب مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ لِصَاحِب الْقَبْرِ: كَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ.
217 حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فَيَغْسِلُ بِهِ.
الشرح:
قوله: «مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ» ، «أل» للعهد، فالمراد: البول المعهود، وهو بول الآدمي، وفي حكمه بول ما لا يؤكل لحمه، أما الحيوانات التي يؤكل لحمها فطاهرة، خلافًا لما روي عن الشافعي[(658)] وجماعة أن بول الحيوانات التي يؤكل لحمها نجس، بل الصواب أنه طاهر، والدليل على طهارته أن العرنيين الذين جاءوا إلى المدينة، واستوطنوها، أمرهم النبي ﷺ أن يلحقوا بإبل الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها[(659)]، ولم يأمرهم بغسل أفواههم، فلما لم يأمرهم بالغسل دل على أن البول طاهر، ثم أيضًا لو كان نجسًا لما أمرهم بشرب النجس؛ لأن الله لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها، فدل على أن ما يؤكل لحمه بوله وروثه ومنيه طاهر، إنما البول النجس هو بول الإنسان، وبول ما لا يؤكل لحمه، كالكلاب، وغيرها من السباع، وأيضًا البراذين والحمير.
قوله: مِنْ بَوْلِهِ المراد بالبول في الحديث هنا: بول الإنسان، فالواجب غسل البول والاستنجاء أو الاستجمار حتى يزول أثر الخارج، وليس المراد بول الحيوانات التي يؤكل لحمها، فبول الحيوانات التي يؤكل لحمها طاهر؛ كالإبل والبقر والغنم والطيور التي تؤكل؛ كل هذه بولها وروثها طاهر.
والمريض ومن عنده سلس البول معذور؛ لأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، فيغسل ما أصابه، ويتوضأ عند دخول الوقت، ويصلي على حسب حاله، وإذا جعل شيئًا على ذكره يحفظه يكون هذا حسنًا.
وقول البخاري: «وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ» يعني: لا حجة في الحديث على العنزه من بول جميع الحيوانات.
وأراد الرد على من جمله على العموم في بول كل حيوان، وكأنه أراد الرد على الخطابي حيث قال في الحديث دليل على نجاسة الأبوال كلها لأن العموم في الحديث أراد به الخصوص يعني: لا يستر من بوله هو أي: الإنسان، وال في الحديث وإن كانت للعموم لكن أراد به الخاص للأدلة الأخرى.
والحديث الذي ساقه أراد أنه يستنجي ومنه غسل البول فغسل البول من الاستنجاء.
217 تقدم الكلام على الحديث في «بَاب الاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ» .
المتن:
218 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ، قالَ: حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ ﷺ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآْخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفِّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا.
قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا مِثْلَهُ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ.
الشرح:
218 قوله: لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ الْبَوْلِ، هو مؤول بـ«أل» للعهد، فالبول يعني: البول المعهود الذي هو بول الآدمي، ويدل على هذا ما في رواية أخرى: لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ [(660)]، فـ«أل» نائبة عن الضمير ـ الهاء ـ فدل على أن هذا خاص ببول الآدمي، فلا يدخل فيه بول الحيوانات التي يؤكل لحمها.
المتن:
باب تَرْكِ النَّبِيِّ ﷺ وَالنَّاسِ الأَْعْرَابِيَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ
219 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: دَعُوهُ حَتَّى إِذَا فَرَغَ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ.
الشرح:
219 قوله ﷺ: دَعُوهُ فيه: بيان حسن خلقه ﷺ، وإرشاده وتعليمه ورأفته بأمته؛ فإن هذا الأعرابي الجافي جاء يبول في المسجد: «فزجره الناس»[(661)]، كما في الرواية الأخرى، فقال النبي ﷺ: دَعُوهُ، وفي لفظ: لاَ تُزْرِمُوهُ [(662)]، فلما قضى بوله أمر بسجل أي: بدلو من ماء فصب عليه، ثم دعا الرجل فقال له: إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من القذر والبول، إنما هي لذكر الله والصلاة وتعليم القرآن [(663)].
وهذا فيه: دليل للقاعدة المشهورة، وهي أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأنه إذا وجدت مفسدتان لا بد من ارتكاب إحداهما، فإنه تُرتكب المفسدة الصغرى وتدفع الكبرى، فهذا الرجل لو زجره الناس فقام وهو يبول لترتب على هذا مفاسد منها:
أولاً: أنه سيلطخ ثوبه وبدنه بالنجاسة، بخلاف ما إذا بال على الأرض.
ثانيًا: أن ذلك سيجعل البول في عدة أمكنة وفي بقع متعددة، بدلاً من أن يكون في مكان واحد من المسجد.
ثالثا: أنه إذا قطع البول أضر هذا بصحته.
ولذا قال ﷺ: دَعُوهُ،لاَ تُزْرِمُوهُ [(664)]، حتى قضى بوله في المسجد، ثم أمر بسجل من ماء فصب عليه، فهذا النبي ﷺ هو الرءوف الرحيم بأمته؛ ولهذا قيل: إن هذا الأعرابي لما قام قال: «اللهم ارحمني ومحمدًا ولا ترحم معنا أحدًا»[(665)]؛ لرحمة النبي ﷺ به في التعليم.
وفيه: دليل على أن البول إذا كان على الأرض فإنه يُصب عليه ويكاثَر بالماء، مرة واحدة تكفي ويطهر بذلك.
والبول إذا كان في الأرض فلا يحتاج غسله إلى نية، فلو نزل المطر حتى أزال عين النجاسة طهر بنزول المطر؛ فهو ليس كالعبادة، وكذلك الشيء المبسوط على الأرض إذا أصابته نجاسة يغسل ويكاثر بالماء، وإذا أمكن فيقلب ويعصر، وإذا كان شيئًا ثقيلاً فيكاثر بالماء ويفُرك، وقد يقال: إن الشيء إذا كان ثقيلاً فحكمه حكم الأرض، وإذا كان ثوبًا فإنه ينقع في الماء بعض الشيء أو يغسل ويكاثر بالماء.
المتن:
باب صَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ فِي الْمَسْجِدِ
220 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمْ النَّبِيُّ ﷺ: دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ؛ فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ.
221 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
220، 221 قوله: وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ فيه: أن البول يُكاثر بالماء إذا كان على الأرض ويطهر بذلك، يصب عليه ماء أكثر منه ويكفي.
وفيه: رد على من قال: يحتاج إلى أن تحفر الأرض. بل يصب عليه ويكفي، ما دامت النجاسة ليس لها عين، أما إذا كان لها جِرم، مثل قطع الدم والعذرة، فتنقل ثم يغسل مكانها حتى يزول أثره، فإذا كانت بولاً وما ليس له جرم فتكفي المكاثرة بالماء.
قوله: فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ فالرسول ﷺ هو الذي بعث بالحنيفية السمحة، فقال: بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ؛ لأنهم مأمورون من قبله ﷺ بأن ييسروا؛ ولهذا قال النبي ﷺ: يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلاَ تُنَفِّرُوا [(666)]، ولما أرسل معاذًا وأبا موسى رضي الله عنهما إلى اليمن قال لهما: يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا ، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا [(667)].
وأما إذا كان البول على الثوب فالصواب أنه لا بد من الغسل، وذهب بعض العلماء إلى أن النجاسة تزول بالريح والشمس وهو مذهب الأحناف[(668)]، لكن قولهم ضعيف، فلو كانت تزول بالريح والشمس لترك النبي ﷺ بول الأعرابي حتى تأتيه الشمس والريح فييبس، لكن النبي ﷺ أمر بإتباعه ذنوبًا من ماء.
المتن:
باب يُهَرِيقُ الْمَاءَ عَلَى الْبَوْلِ
حَدَّثَنَا خَالِدُ، قَالَ: وَحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ ابْنَ مَالِكٍ، قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ، فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمْ النَّبِيُّ ﷺ، فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْهِ.
الشرح:
قوله: «بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ» الذنوب: هو الدلو.
وهذه التراجم كلها بمعنى واحد، كررها المؤلف لتأكيد الحكم ولاستنباط الفوائد.
وفي الحديث: دليل على أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وفيه: دليل على أن البول إذا كان على الأرض يكاثر بالماء ويكفي، ولا يحتاج حفرًا ولا فركًا ولا شيئًا من ذلك؛ ولهذا أمرهم النبي ﷺ أن يصبوا على بوله ذنوبًا من ماء، وفي لفظ: «سجلاً» [(669)]، وهو الدلو، فيطهر بذلك.
وفيه: دليل على الرفق بالجاهل وتعليمه.
المتن:
باب بَوْلِ الصِّبْيَانِ
222 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِصَبِيٍّ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ.
الشرح:
222 قوله: «فَدَعَا بِمَاءٍ، فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ» فيه: دليل على نجاسة بول الصبي. أما التفريق في الحكم بين الصبي الذي أكل الطعام والذي لم يأكل، وكذلك التفريق بين بول الصبي والجارية فيأتي في الحديث التالي.
المتن:
الشرح:
223 قوله: «فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ» فيه: دليل على أن بول الصبي الذي لم يأكل الطعام نجس كغيره، ولكنه ينضح بالماء ـ يعني: يصب عليه الماء ـ ولا يحتاج فركًا ولا مَرْسًا.
أما إذا كانت أنثى فإن بولها يغسل؛ كما جاء في الحديث الآخر: يُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ، وَيُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الْجَارِيَةِ [(670)]، وفي لفظ: يُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الْغُلَامِ [(671)]، والمؤلف ما أتى بهذا الحديث؛ لأنه ليس على شرطه، والأحاديث ثابتة في السنن أنه يفرق بين الصبية والصبي الذي لم يأكل الطعام[(672)]، فالصبي الذي لم يأكل الطعام ـ أي: الذي يشرب الحليب فقط ـ يكفي في بوله النضح دون فرك، أما الصبية الأنثى فإنه لا بد من فرك، وإذا أكل الصبي الذكر الطعام صار لبوله حكم بول الجارية، فلا بد من غسله، أما إذا لم يأكل الطعام فيكفي فيه النضح، وفي هذا الحديث أن النبي ﷺ أتبعه بماء ونضحه.
واختلف العلماء في الحكمة من التفريق:
فقيل: لأن الصبي يكثر حمله؛ لمحبة أهله له بخلاف الأنثى فخفف الشارع؛ لأن المشقة تجلب التيسير.
وقيل: لأن بول الذكر ينتشر بخلاف بول الأنثى فإنه لا ينتشر؛ ولذلك خفف الشارع.
وقيل: لأن الأنثى أصلها من اللحم والدم؛ لأن حواء خلقت من آدم، والذكر أصله من الطين والتراب.
وعلى كل حال فهذه حكم يلتمسها العلماء وليس هناك دليل يدل عليها، ويحتمل أن هذه الحكم كلها مقصودة.
فالمهم أن حكم بول الصبي الذي لم يأكل الطعام يكفي فيه النضح، وبول الأنثى لا بد فيه من الغسل، سواء عرفنا الحكمة أم لم نعرف، فإن عرفنا فالحمد لله، وإن لم نعرف فقد سلمنا لله ولرسوله ﷺ.
المتن:
باب الْبَوْلِ قَائِمًا وَقَاعِدًا
224 حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ ﷺ سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ.
الشرح:
224 حديث الباب ـ حديث حذيفة ـ استدل به العلماء على جواز البول قائمًا إذا دعت الحاجة إلى ذلك وكان بمأمن عن نظر الناس وأمن من رشاش البول، لكن الأفضل أن يبول قاعدًا، وهذا هو الأكثر من فعله ﷺ، وإنما بال قائمًا للحاجة.
قال بعض العلماء: إن هذا منسوخ.
وقال آخرون: إنما فعل هذا لألم في باطن الركبة، وهذا ليس بجيد.
والصواب: أنه ليس به علة ﷺ، وإنما فعل هذا للحاجة؛ لئلا يرتد البول إليه؛ لأن السباطة يتخللها البول، ولو جلس لارتد إليه البول.