فبال قائمًا ليكون هذا أبعد عن رشاش البول وأبعد أن يرتد إليه البول.
فلا بأس بالبول قائمًا عند الحاجة بشرطين:
الشرط الأول: أن يستتر عن الناس ويكون بمأمن عن الأعين.
الشرط الثاني: أن يأمن من رشاش البول.
وقد توفر هذان الشرطان للنبي ﷺ، فإن الجدار كان أمامه وحذيفة يستره من خلفه؛ ولهذا قال له ﷺ لما أبعد عنه قليلاً: ادْنُهْ [(673)]، فصار عند عقبيه فستره، ثم دعا بماء فتوضأ.
وقد أنكرت السيدة عائشة رضي الله عنها بوله قائمًا، وقالت: «من حدثك أن النبي ﷺ كان يبول قائمًا فلا تصدقه إنما كان يبول قاعدًا»[(674)]، وهذا قالته حسب علمها وخفي عليها ما أثبته حذيفة ، وإنما أخبرت هي بما كان يفعله ﷺ في البيت.
والأكثر من فعله ﷺ أنه كان يبول قاعدًا، أما البول قائمًا ففعله مرة لبيان الجواز؛ ولهذا بوب البخاري رحمه الله فقال: «بَاب الْبَوْلِ قَائِمًا وَقَاعِدًا» ، يعني: يجوز الأمران، لكن لا بد أن يستتر عن الناس، وأن يأمن رشاش البول، فإذا وجد هذان الشرطان فلا بأس بالبول قائمًا.
وقد ثبت عن عمر وعلي وزيد بن أرقم أنهم بالوا قيامًا.
المتن:
باب الْبَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ وَالتَّسَتُّرِ بِالْحَائِطِ
225 حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُنِي أَنَا وَالنَّبِيُّ ﷺ نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ، فَبَالَ فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَيَّ فَجِئْتُهُ فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغَ.
الشرح:
قوله: «بَاب الْبَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ وَالتَّسَتُّرِ بِالْحَائِطِ» ، يعني: أن من بال قائمًا فلا بد أن يتستر؛ ولهذا تستر النبي ﷺ بالحائط من أمامه وبحذيفة من خلفه.
وقوله: «الْبَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ» يعني: حذيفة صاحب النبي ﷺ، فلا بأس أن يبول المرء عند صاحبه إذا دعت الحاجة، قال بعضهم: لعل النبي ﷺ أطال المكث مع أصحابه ليقضي حوائج الأمة فاحتاج إلى البول ولم يتمكن من الذهاب بعيدًا ـ كعادته ﷺ أنه إذا قضى حاجته ابتعد عن الأعين، فهذا هو الغالب عليه في أسفاره وفي غيرها ـ فبال قائمًا واستتر بالحائط وبحذيفة ، أشار إليه بيده فاقترب منه حتى صار عند عقبه وستره من الخلف، فجعل ظهره إلى النبي ﷺ والحائط أمامه؛ ولهذا قال: «وَالتَّسَتُّرِ بِالْحَائِطِ» ، فالتستر بحائط ونحوه لا بأس به، أما أن يكشف عورته أمام الناس فهذا ممنوع، فلا يجوز كشف العورة أمام الناس.
225 وحديث الباب هو حديث حذيفة السابق لكن المؤلف رحمه الله كرره في هذه الترجمة ليستنبط الأحكام.
المتن:
باب الْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ
226 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى الأَْشْعَرِيُّ يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ، وَيَقُولُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَيْتَهُ أَمْسَكَ، أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا.
الشرح:
226 قوله: «يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ، وَيَقُولُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ» ، أي: قرضه بالمقراض ـ أي: المقص ـ وفي رواية: «إذا أصاب جلد أحدهم قرضه» [(675)]، وهذا من الآصار والأغلال التي كانت على من سبقنا، وقد رفع الله عن هذه الأمة الإصر والأغلال، قال سبحانه: رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا [البَقَرَة: 286]، قال الله: قَدْ فَعَلْتُ كما ثبت في صحيح مسلم[(676)]، وهذا من تيسير الله تعالى على هذه الأمة؛ أن الإنسان إذا أصاب ثوبه البول غسله وطهره ولا يحتاج إلى أن يقصه أو يقرضه بالمقراض، وكذلك إذا أصاب جلده.
وكان أبو موسى يشدد في البول، فقال حذيفة : «لَيْتَهُ أَمْسَكَ، أَتَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سُبَاطَةَ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِمًا» ، يعني: أن الاحتمالات التي لا دليل عليها لا يُلتفت إليها، فيحتمل أنه يُصيبه شيء من رشاش البول، ولكن هذا الاحتمال ضعيف لا يعول عليه، والنبي ﷺ أتى سباطة قوم وبال قائمًا، ولم يلتفت إلى الاحتمالات الضعيفة التي لا دليل عليها، والتي تؤدي إلى الوساوس. فكأن حذيفة يقول: إن النبي ﷺ بال قائما تيسيرًا ورفعًا للحرج عن الأمة، فليت أبا موسى لا يشدد.
والسباطة: هي الكناسة التي يلقى فيها الزبل وغيره، فبال ﷺ عندها؛ لأنها رخوة يتخللها البول، فبال قائمًا حتى لا يرتد إليه البول؛ لأنه لو جلس لارتد إليه.
ويروى عن مالك[(677)] أنه قد يعفى عن مثل رءوس الإبر من البول. لكن هذا لا يصح.
والصواب: أن الإنسان إذا رأى شيئًا من البول فلا بد أن يغسله قليلاً كان أو كثيرًا؛ لكن إذا لم يعلم فالأصل السلامة؛ أما قول الفقهاء: يعفى عن يسير النجاسات، فهذا في غير ما خرج من السبيلين، مثل: يسير الدم من الرعاف، وما أشبه ذلك.
المتن:
باب غَسْلِ الدَّمِ
227 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: جَاءَتْ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ ﷺ فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ، وَتُصَلِّي فيهِ.
الشرح:
227 قوله ﷺ: تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ، وَتُصَلِّي فيهِ. فيه: دليل على نجاسة الدم، وأنه يجب غسله.
وفيه: دليل على جواز صلاة الحائض في ثوبها الذي تحيض فيه إذا كان خاليًا من النجاسة، وإذا أصابه دم تغسله؛ ولهذا لما سألت فاطمة بنت قيس النبي ﷺ: المرأة تحيض في الثوب يصيبه الدم كيف تصنع؟ قال: تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ؛ تَحُتُّهُ يعني: تحكه حتى يزول جرم الدم، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ؛ يعني: تدلكه بأصابعها مع الماء، ثم وَتَنْضَحُهُ، أي: بالماء؛ فالنجاسة إذا كان لها جرم، ولها عين كقطع الدم والعذرة يزال ثم يغسل أثره، وكذلك الثوب الذي أصابه دم الحيض يحك جرم الدم حتى يزول، ثم يغسل أثره بالماء؛ فهذه كيفية تطهير الثوب الذي أصابه دم الحيض؛ أما إذا كان الدم لا جرم له فلا يحتاج إلى حك، فيغسل بالماء، ويدلك بالأصابع.
والدم كله نجس، ولا يقال: إن خصوص النجاسة في دم الحيض؛ لقول الله تعالى: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعَام: 145]، فالدم المسفوح الذي يخرج من الذبيحة نجس، ونقل النووي في «شرح صحيح مسلم» إجماع العلماء على نجاسة الدم. [(678)].
وكذلك الدم الخارج من الجروح؛ لأن الأصل أنه كله نجس.
ولو بقي أثر بعد الإزالة فلا يضر، وسيأتي أنه إذا أزاله وبقي أثر لا يستطيع إزالته يعفى عنه.
وصلاة المسلمين في جراحاتهم في الغزوات لا تدل على عدم نجاسة الدم؛ لأن هذا استصحاب لأصل الطهارة كما سيأتي؛ ولأنهم لا يستطيعون إلا هذا، فلو غسلوها لسال منها الدم مرة ثانية، فهم مضطرون إلى هذا.
قوله: تَحُتُّهُ، ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ؛ ذهب أبو حنيفة[(679)] إلى أن النجاسة تطهر بالشمس والريح، والصواب أنها لا تزول إلا بالماء؛ ولهذا قال: تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ، وَتَنْضَحُهُ؛ فلا تزول النجاسة ولا تطهر إلا بالماء، فلا تطهر بالريح ولا بالشمس خلافًا لأبي حنيفة؛ ولو كانت النجاسة تطهر بالشمس والريح لما أمر النبي ﷺ بصب ذنوب من ماء على بول الأعرابي الذي بال في المسجد[(680)]، ولكان تركها للشمس والريح، باستثناء الخفين وذيل ثوب المرأة؛ فالخفان إذا أصابهما أذى فطهارتهما الدلك، وذيل ثوب المرأة الذي تسحبه إذا مر بأرض وسخة ثم مر بأرض أخرى طهر؛ فهذا مستثنى.
المتن:
الشرح:
228 حديث فاطمة بنت أبي حبيش رضي الله عنها فيه: دليل على أن دم الاستحاضة عرق وليس بحيض.
وفيه: دليل على أن المستحاضة تعمل بعادتها؛ ولهذا قال النبي ﷺ: فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي، فالمرأة المستحاضة ـ وهي التي أطبق عليها الدم وزاد أكثر من خمسة عشر يومًا ـ تعمل بالعادة، فإذا كانت عادتها من أول الشهر خمسة أيام مثلاً تجلس خمسة أيام ثم تغتسل وتصلي ولو كان الدم معها، هذا إذا كان لها عادة، فإن لم يكن لها عادة أو نسيت العادة فإنها تعمل بالتمييز الصالح فتنظر للدم؛ فإذا جاء بأوصاف دم الحيض بأن كان أسود غليظًا منتنًا فهذا دم حيض، وإذا جاء الأحمر أو الأصفر الرقيق فهذا دم الاستحاضة، وهذا إذا نسيت العادة أو لم تكن لها عادة. فإن لم يكن لها تمييز ولا عادة فإنها تجلس ستة أيام أو سبعة أيام على عادة أغلب النساء من أول يوم جاءتها العادة أو من أول كل شهر هلالي ـ كما سيأتي إن شاء الله في «كتاب الحيض» .
وفاطمة هذه استحيضت وكانت تعرف عادتها؛ ولهذا قال لها النبي ﷺ: إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، أي: إن دم الاستحاضة بسبب العرق، يعني: أنه دم فاسد وليس بحيض، فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاَةَ، أي: بحكم معرفتها لعادتها، فإذا أقبلت جلست، فإذا انتهت العادة اغتسلت وصلت وصامت ويأتيها زوجها، لكن تتوضأ لكل صلاة، فتتوضأ وتصلي في الوقت ما تشاء فرضًا أو نافلة، فإذا خرج الوقت بطلت طهارتها، وصار عليها أن تتوضأ للوقت الآخر وهكذا؛ ولا تتوضأ إلا بدخول الوقت.
ومثلها من كان به سلس البول، يجعل على ذكره شيئًا من الحفاظات ويتوضأ لوقت كل صلاة، لكن لا يتوضأ إلا بعد دخول الوقت، ويصلي في الوقت الفريضة والنوافل ما شاء، ومن السنن قبلها وبعدها، ويقرأ القرآن من المصحف، فإذا خرج الوقت بطل وضوءه، ولا بد أن يتوضأ عند دخول الوقت الثاني.
والشاهد من الحديث: قوله ﷺ: فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ، ففيه دليل على وجوب غسل الدم وأنه نجس.
والاستحاضة نوع من المرض ـ أي: إذا كانت يشق عليها وتحس بتعب فهي مريضة ـ جاء في الحديث الآخر أن النبي ﷺ أمرها بالاغتسال[(681)]، وهذا على سبيل الاستحباب، وأمرها أن تجمع جمعًا صوريًّا؛ تجمع الظهر والعصر وتغتسل لهما غسلاً وتجمع المغرب والعشاء وتغتسل لهما غسلاً، وتغتسل للفجر غسلاً إن قويت[(682)]؛ فهذا على سبيل الاستحباب، وإلا فالواجب الوضوء لكل صلاة، وإذا شق عليها تجمع الظهر والعصر، لكن لا تقصر، بل تصلي الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والمغرب ثلاثًا، والعشاء أربعًا؛ وبعض المرضى في دور العلاج يقصر الصلاة، يجمع ويقصر، وهذا غلط؛ فالقصر خاص بالمسافر، أما المريض فيجمع ولا يقصر.
وصاحب السلس لا يجمع؛ لأنه لا يشق عليه خروج البول، فلا يعتبر كالمستحاضة، فالمستحاضة يخرج منها دم كثير فتتألم وتضعف.
ومن به سلس الريح فحكمه حكم من به سلس البول، وكذلك من به جروح سيالة مستمرة أو بواسير يخرج منها الدم دائمًا فحكمهم حكم واحد، فعليهم أن يتوضؤوا لكل صلاة ويصلوا ولو خرجت النجاسة، وهذا إذا كان الخارج مستمرًّا لا ينقطع، أما إذا كان هناك وقت يتوقف فيه فعليه أن يتحين ذلك الوقت ويصلي ولو فاتته الجماعة، أما إذا كان مستمرًّا فيتوضأ لوقت كل صلاة ولا يتوضأ إلا بعد دخول الوقت، وكل واحد من هؤلاء عليه أن يتحرز ويتحفظ؛ بأن يربط شيئًا على الجرح وكذلك المرأة، ويصلي كل منهم ما دام في الوقت، فيصلي الفريضة والنوافل ويقرأ القرآن من المصحف.
والأفضل عند جمع الصلاة جمع التأخير، والصلاة إنما تجمع عند الحاجة، فإذا كانت المستحاضة مريضة يشق عليها خروج الدم تجمع؛ لأن الاستحاضة نوع من المرض.
المتن:
باب غَسْلِ الْمَنِيِّ وَفَرْكِهِ وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ الْمَرْأَةِ
229 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْجَزَرِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ ﷺ، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ.
230 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ سُلَيْمَان قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ ح.
وحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ؟ فَقَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ، وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ.
الشرح:
229 قولها: «كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ ﷺ» أي: أغسل المني، وهذا على سبيل الاستحباب، وإلا فالمني طاهر وهو أصل الإنسان.
230 قولها: «كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» ؛ هذا الغسل على سبيل الاستحباب والنظافة؛ لأن المني طاهر ـ على الصحيح ـ فهو أصل الإنسان، وجاء في «صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أفرك المني من ثوب رسول الله ﷺ فركًا من ثوبه فيصلي فيه»[(683)]، فدل على أن المني يستحب غسل رطبه وفرك يابسه، ولو صلى فيه دون غسل فالصلاة صحيحة؛ لأنه طاهر، وقال بعض العلماء: إنه نجس، وهذا قول ضعيف.
والصواب: أنه طاهر بدليل أن عائشة رضي الله عنها كانت تغسل الرطب وتفرك اليابس، ولو كان نجسًا ما أجدى فيه الفرك، فدل على أنه طاهر سواء كان عن جماع أو عن احتلام.
وهذا بخلاف البول فإنه نجس، وبخلاف المذي؛ وهو ماء أصفر لزج يخرج عند الملاعبة واشتداد الشهوة، وهو نجس، لكن نجاسته مخففة ينضح ما أصابه ويتوضأ، ولا بد أيضًا أن يغسل أنثييه لما جاء في الحديث: تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ أنثييك [(684)]، وكذلك الودي، وهو الذي يخرج بعد البول، فحكمه حكم البول.
فالذي يخرج إما بول وهذا نجس، أو مذي وهو نجس نجاسة مخففة، أو ودي بعد البول وهو نجس، أو مني ـ وهو ماء أبيض يخرج دفقًا بلذة ـ فهذا طاهر يوجب الغسل، والمذي والبول لا يوجبان الغسل، وإذا خرج المني بسبب المرض لا عن شهوة، فهذا حكمه حكم البول، فقد يخرج من المريض مني لكن لا على سبيل الشهوة، فهذا ليس له حكم المني ولا يوجب الغسل، فلا يوجب الغسل إلا الذي يخرج دفقًا بلذة سواء كان باحتلام أو بجماع، أما الذي يخرجه المريض من دون شهوة ولا لذة ولا انتصاب ذكر فهذا حكمه حكم البول، وهذا المرض يسمى الإبردة يخرج بسببه المني، ولا يوجب الغسل.
وإن قام من النوم فوجد في ثوبه أثرًا لا يدري هل هو مني أو مذي: نظر وتحقق من الماء، فإن المني بيِّن كثير قوي غليظ، فإذا تيقن أنه مني وجب الغسل، أما إذا لم يتيقن فالأصل عدم الوجوب، وينبغي أن يغسل الثياب من باب الاحتياط.
المتن:
باب إِذَا غَسَلَ الْجَنَابَةَ أَوْ غَيْرَهَا فَلَمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ
231 حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ قَال: سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ فِي الثَّوْبِ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ الْمَاءِ.
الشرح:
231 قولها: «ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ الْمَاءِ» أي: إذا غسل الجنابة وبقي أثر فلا يضره، كما سيتبين من الأدلة أنه إذا غسل الجنابة أو النجاسة وأزال الجرم، ثم غسل الأثر وبقي أثر من صفرة اللون أو ما أشبه ذلك فهذا معفو عنه.
واستدل المصنف بقوله: «وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ الْمَاءِ» على أن أثر البقع باق ولا يضر، ويقاس على هذا النجاسة إذا غسلها وأزالها وبقي أثرها فإنه لا يضره، كما غسلت عائشة رضي الله عنها الجنابة من ثوب النبي ﷺ.
ولا يجب عليه الإكثار من غسل هذا الأثر ليزول؛ فإن نجاسة الكلب هي التي تغسل سبع مرات ويضاف لهن التراب، ولكن إذا أراده على سبيل النظافة فله ذلك.
المتن:
الشرح:
232 قولها: «أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا» ، أي: أثرًا من غسل المني، فالبقع تعتبر أثرًا، فقاس عليه المؤلف النجاسة، فإذا بقي أثرها من اللون بعد الغسل فلا يضر؛ لأن الله تعالى قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التّغَابُن: 16]، وقال أيضًا: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البَقَرَة: 286]، وقال النبي ﷺ: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ [(685)]، وقد أدى المكلف ما عليه من غسل النجاسة، وبقي هذا اللون الذي لم يستطع إزالته فيعفى عنه.
ولا يلزم المرء أن يتكلف إزالة أثر النجاسة بشيء من المزيلات، بل يكفيه الماء، وما زاد على الماء فهو على سبيل الاستحباب وليس على الوجوب.
المتن:
باب أَبْوَالِ الإِْبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْغَنَمِ وَمَرَابِضِهَا
وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي دَارِ الْبَرِيدِ وَالسِّرْقِينِ وَالْبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: هَا هُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ.
الشرح:
قوله: «وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي دَارِ الْبَرِيدِ وَالسِّرْقِينِ» ، يعني: صلى في البيت الذي تربط فيه الخيل السريعة التي تحمل الرسائل للأمراء، وهذه الخيول تخلف الروث والسرقين، والسرقين: هو الزبل.
وكان البريد يطلق على الرسل، ثم أطلق على المسافة المعروفة، فصلى أبو موسى في دار البريد، أي: في البيت الذي تأوي فيه الخيل، أو الذي تربط فيه، ويكون فيه الزبل، وكان هذا البريد في طرف البلد والصحراء أمامه؛ ولهذا قال: «وَالْبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ» ، فصلى وقال: «هَا هُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ» ، يعني: لا فرق بين أن أصلي هنا أو أصلي في الصحراء، يعني: أنه طاهر؛ فدل على أن بول ما يؤكل لحمه وروثه تصح الصلاة فيه لأنه طاهر، فالخيل والإبل والبقر والغنم أبوالها وأرواثها طاهرة في أصح أقوال العلماء.
وقال آخرون من أهل العلم: إنها نجسة، والصواب أنها طاهرة كما في حديث الباب أن النبي ﷺ أمر العرنيين أن يشربوا من أبوال إبل الصدقة وألبانها، ولم يأمرهم بغسل أفواههم، ولو كانت الأبوال نجسة لقال: اغسلوا أفواهكم، فلما لم يأمرهم بغسل أفواههم دل على أن بول ما يؤكل طاهر، أما ما لا يؤكل لحمه كالسباع والكلاب والذئاب والنمور وغيرها فمخلفاته نجسة وكذلك الآدمي.
فما يؤكل لحمه فالصواب أن مخلفاته طاهرة، هذا هو الذي عليه المحققون من أهل العلم، خلافًا لمن قال بالنجاسة مطلقًا، كالشافعي[(686)] وجماعة فإنهم يرون أن البول نجس، ويحملون النصوص على العموم، كحديث: كَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ [(687)] فيحملونه على العموم على بول الآدمي وغيره، والصواب أن «أل» في قوله: كَانَ لَا يَسْتَنْزِهُ مِنَ الْبَوْلِ للعهد، والبول المعهود هو بول الآدمي، لا غيره من الأبوال.
المتن:
الشرح:
233 قوله: «قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ» ؛ هذه الجماعة وفدت على النبي ﷺ وقالوا: إنهم مؤمنون مسلمون، لكن استوخموا المدينة فأصابهم الوخم والمرض ولم يناسبهم هواءها، فأمرهم النبي ﷺ أن يلحقوا بإبل الصدقة، وأمرهم: «وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا» في البرية حتى تصح أجسامهم، فذهبوا وشربوا من أبوالها وألبانها فزال عنهم الوخم والمرض، «فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ ﷺ» ، وفي رواية: «قتلوا الرعاة» [(688)]، وسمروا عين الراعي، وارتدوا عن الإسلام وسرقوا الإبل، فجاء الصريخ إلى النبي ﷺ فأرسل في آثارهم، فأتي بهم لما انتصف النهار، واقتص منهم النبي ﷺ، فأمر أن تقطع يد كل واحد منهم ورجله من خلاف ـ وهو حد الحرابة ـ وأمر أن تسمر أعينهم كما سمروا عين الراعي، أي: بالقصاص، وتُركوا في الشمس في الصحراء يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا. قال أبو قلابة: «فَهَؤُلاَءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ» ، أي: جمعوا شرورًا كثيرة: سرقوا الإبل وقتلوا الراعي وسمروا عينيه وكفروا بعد إسلامهم، فيؤخذ منه أنه يُفعل بالجاني مثل ما فعل، فمن قَتل بالسيف قُتل بالسيف، ومن قَتل بالخنق يقتل بالخنق قصاصًا وهكذا، وهؤلاء سمروا عين راعي النبي ﷺ فسمر النبي ﷺ أعينهم ثم تُركوا فماتوا.
والشاهد من هذا الحديث: أنهم شربوا من أبوال إبل الصدقة ولم يأمرهم النبي ﷺ أن يغسلوا أفواههم، فدل على أن أبوال ما يؤكل لحمه طاهرة، ولو كانت نجسة لأمرهم بغسلها، فلما لم يأمرهم بغسل أفواههم دل على أن بول ما يؤكل لحمه من الإبل والبقر والغنم والصيود كلها طاهرة، وكذلك روثها ومعاطنها التي تبيت فيها، إلا أعطان الإبل فقد جاء النهي ألا يصلى فيها خاصة[(689)]، وليس لأنها نجسة، بل لمعنى آخر قيل: إنها مأوى للشياطين، وقيل غير ذلك.
وقول أبي قلابة: «وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ» أي: ارتدوا، فجمعوا شرورًا كثيرة: سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم.
وفي الحديث: دليل على إقامة حد الحرابة.
وفيه دليل على وجوب القصاص وقتل القاتل بمثل ما قتل.
وفيه دليل على قتل المرتد.
المتن:
الشرح:
234 قوله: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ» يدل على أن أبوال الغنم وأبعارها طاهرة؛ ولهذا كان النبي ﷺ يصلي في مرابضها وفيها البعر والزبل؛ فدل على أن بول ما يؤكل لحمه وروثه وزبله طاهر.
المتن:
باب مَا يَقَعُ مِنْ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالْمَاءِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أَوْ رِيحٌ أَوْ لَوْنٌ.
وَقَالَ حَمَّادٌ: لاَ بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِي عِظَامِ الْمَوْتَى نَحْوَ الْفِيلِ وَغَيْرِهِ أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا لاَ يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا.
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ: وَلاَ بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ.
الشرح:
قوله: «وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أَوْ رِيحٌ أَوْ لَوْنٌ» ؛ إذ إن الأصل في الماء الطهارة، فلا بأس بالماء إلا إذا غيرت النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه، ويدل على هذا حديث أبي سعيد مرفوعًا: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ [(690)]، وذهب كثير من الفقهاء إلى التفريق بين الماء القليل والكثير، فالماء القليل ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة، والكثير لا ينجس إلا إذا تغيرت أحد أوصافه، واستدلوا بحديث القلتين، فالنبي ﷺ قال: إِذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلِ الْخَبَثَ [(691)]، وفي لفظ: لَمْ يُنَجُسْ [(692)]، والقلتان تقارب خمس قرب، قالوا: فما كان أقل من القلتين فهو ماء قليل ينجس بمجرد الملاقاة، فلو وقعت فيه قطرة من البول صار نجسًا؛ عملاً بحديث القلتين، أما ما زاد على القلتين فلا ينجس إلا إذا تغير طعمه أو لونه أو ريحه.
وذهب المحققون من أهل العلم إلى أنه لا فرق بين القليل والكثير؛ لأن حديث القلتين مختلف في صحته ـ والصواب: أنه صحيح ـ لكن على القول بصحته فإن له مفهومًا ومنطوقًا، فمنطوقه أن الماء إذا بلغ القلتين لا يحمل الخبث، ومفهومه أنه إذا كان أقل من القلتين فإنه يحمل الخبث، هذا هو المفهوم، لكن يقدم عليه حديث أبي سعيد مرفوعًا: الْمَاءُ طَهُورٌ لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ [(693)]، فحديث أبي سعيد منطوق تعارض مع مفهوم حديث القلتين، والمنطوق مقدم على المفهوم وهذا هو الصواب، لكن حديث القلتين يفيد أن الإنسان ينبغي أن يتأمل فيما كان أقل من القلتين، فإذا تغير أحد أوصافه اجتنبه.
قوله: «وَقَالَ حَمَّادٌ: لاَ بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ» ، مسألة عظم الميتة وريشها اختلف فيها العلماء: هل تحلُّه الحياة أو لا تحله؟ فمن قال: تحله الحياة قال: بنجاسته، ومن قال: لا تحله الحياة قال: لا ينجس الريش ولا العظم.
ونقل عنهم أنهم يمتشطون بعظم الفيل ويتجرون بالعاج ـ وهو ناب الفيل ـ فإن ناب الفيل لم يزل العلماء يمتشطون به ويستعملونه ويتجرون فيه؛ لأن له شأنًا وخصوصية وقيمة كبيرة.
وأما عظم الميتة وريشها ففيه الخلاف؛ فمن العلماء من قال: تحله الحياة فيكون نجسًا، ومن قال: لا تحله الحياة قال: إنه لا ينجس، وعليه فإذا تركها المرء للاحتياط فهو الأحسن، وإلا فالظاهر أن العظم والريش لا تحله الحياة، والخلاف واضح في هذا، وصنيع البخاري رحمه الله في ترجمته يدل على أنه يذهب إلى القول بأنه لا تحله الحياة.
المتن:
الشرح:
235 قوله: «عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ؟» أي: فأرة ميتة. وسيأتي حكمها في الحديث التالي إن شاء الله تعالى.
المتن:
236 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ؟ فَقَالَ: خُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ.
قَالَ مَعْنٌ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ مَا لاَ أُحْصِيهِ يَقُولُ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ.
الشرح:
236 قوله: «سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ؟» أي: سقطت وماتت، هذا هو المراد، أما إذا سقطت وخرجت حية فلا يضر، فإذا سقطت وماتت فإنها تلقى وما حولها من السمن ويؤكل الباقي.
والنبي ﷺ لم يفرق بين ما إذا كان السمن ذائبًا أو جامدًا:
فإن كان جامدًا فلا خلاف في أنه تلقى الفأرة وما حولها ويؤكل الباقي.
أما إذا كان ذائبًا:
القول الأول: على التفرقة بين السمن الجامد والمائع، وهذا مذهب الجمهور، قالوا: إذا وقعت الفأرة في سمن جامد تلقى وما حولها ويؤكل الباقي، وإذا وقعت في سمن ذائب ينجس كله، واستدلوا بحديث: إِذَا وَقَعَتِ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ [(694)]، لكنه وإن كان ضعيفًا فقد أخذ به الجمهور ففرقوا بين السمن الجامد والذائب.
القول الثاني: أنه لا فرق بين الجامد والذائب، فتلقى وما حولها في الجميع، والسمن ليس رقيقًا كالماء بل أغلظ والسريان فيه أقل، والسمن أيضًا له مالية كثيرة فلو ألقي لضاع المال، والنبي ﷺ نهى عن إضاعة المال.
والحديث الذي اعتمد عليه الجمهور حديث ضعيف، وحديث الباب لم يفرق فيه النبي ﷺ بين الجامد والذائب، فالقول الثاني هو الصواب.
أما الماء فإذا ماتت فيه الفأرة نجسته إذا كان قليلاً كما في الأواني، فلا بد أن تتغير أحد أوصافه: طعمه أو لونه أو ريحه، أما إن كان كثيرًا فلا، وفي بعض روايات حديث الكلب: فَلْيُرِقْهُ [(695)]، أي: إذا كان قليلاً في الأواني، أما إذا كان كثيرًا ولم يتغير أحد أوصافه فالأصل الطهارة.
والفأرة طاهرة إذا كانت في الحياة؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الهرة وما دونها: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ [(696)]، وأبو قتادة كفأ لها الإناء لتشرب فقيل له في ذلك، فذكر هذا الحديث، فكل من الفأرة والهرة إذا أكلت من شيء لا ينجس، وإذا شربت من شيء لا ينجس، لكن إذا ماتت الفأرة أو ماتت الهرة في ماء أو في سمن فهذا هو محل البحث. فكل من الهرة والفأرة طاهرة في حال الحياة لدورانها على الناس.
وكذلك سؤر الهرة والفأرة ـ يعني: ما تأكل وتشرب منه ـ طاهر، أما بول الهرة والفأرة فنجس.
المتن:
الشرح:
237 هذا الحديث فيه: فضل الجهاد والجراحات في سبيل الله، والكلم يعني: الجراحة، فكل كَلْم ـ أي: كل جرح ـ في سبيل الله يتفجر يوم القيامة، اللون لون الدم، والعرف ـ يعني: الريح ـ عرف المسك.
فلما كان عمل المجاهد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، جعل الله أثره طيبًا يوم القيامة، فتأتي جراحاته يوم القيامة تتفجَّر، اللون لون الدم والريح ريح المسك.
ولكن قد يقول قائل: ما مناسبة هذا الحديث للترجمة؟ والجواب أن المؤلف رحمه الله دقيق الاستنباط، استدل بهذا الحديث على أن الدم وإن كان نجسًا لكنه ـ إذا كان يوم القيامة ـ تغير فصار اللون لون الدم والريح ريح المسك فتزول النجاسة ويكون مرغوبًا فيه بعد أن كان مكروهًا. والماء النجس إذا صب عليه ماء طاهر كثير فأزال عنه وصف النجاسة طعمها ولونها وريحها صار طاهرًا.
المتن:
باب الْمَاءِ الدَّائِمِ
238 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَْعْرَجَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: نَحْنُ الآْخِرُونَ السَّابِقُونَ.
239 وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ.
الشرح:
238 قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «اختلف في الحكمة في تقديم هذه الجملة على الحديث المقصود فقال ابن بطال: يحتمل أن يكون أبو هريرة سمع ذلك من النبي ﷺ مع ما بعده في نسق واحد فحدث بهما جميعًا، ويحتمل أن يكون همام فعل ذلك؛ لأنه سمعهما من أبي هريرة، وإلا فليس في الحديث مناسبة للترجمة».
فقد ذكر الحديث الأول في هذا الباب، لأن الراوي رواهما جميعًا.
239 قوله: لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ، فيه: تحريم البول في الماء الدائم، أي: الراكد الذي لا يجري؛ لأنه يكدره على نفسه وعلى غيره، وإذا كثر البول في الماء أدى إلى تنجيسه، فالنهي للتحريم، أي: تحريم البول في الماء الدائم.
المتن:
باب إِذَا أُلْقِيَ عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّي قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلاَتُهُ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا وَهُوَ يُصَلِّي وَضَعَهُ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ: إِذَا صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ تَيَمَّمَ صَلَّى، ثُمَّ أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي وَقْتِهِ لاَ يُعِيدُ.
الشرح:
هذه الترجمة جزم فيها المؤلف رحمه الله بالحكم، وأنه إذا صلى الإنسان وفي ثوبه قذر أو جيفة لم تفسد صلاته؛ لظهور الدليل عنده، وهذه المسألة فيها خلاف وتفصيل عند أهل العلم.
والصواب في هذه المسألة: أنه إذا صلى وفي ثوبه نجاسة وهو لا يعلم حتى انتهت الصلاة فصلاته صحيحة، أما إذا علم في أثناء الصلاة فإن استطاع أن يلقيها يفعل ويمضي في صلاته، كأن يرى دمًا في ثوبه وعليه ثوبان فيخلع الذي فيه النجاسة ويمضي في صلاته، أما إذا لم يمكن إزالة النجاسة فعليه أن يقطع الصلاة ثم يغسلها ويستأنف، هذا هو الصواب.
والمسألة فيها خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: إذا صلى وفي ثوبه نجاسة وهو لم يعلم فصلاته صحيحة.
القول الثاني: لا يجب اجتناب النجاسة، وهذا قول ضعيف.
القول الثالث: هناك فرق بين الابتداء وبين ما يطرأ عليه، فإذا أراد بدء الصلاة فلا يجوز له أن يصلي إذا علم أن في ثوبه نجاسة، أما إذا طرأت النجاسة عليه في أثناء الصلاة فإنها لا تفسد صلاته.
والصواب ـ كما سبق ـ أنه إذا صلى وفي ثوبه نجاسة وهو لا يعلم بها ـ أو علم بها ثم جهلها ـ حتى انتهت الصلاة فصلاته صحيحة، أما إذا علم في أثناء الصلاة فإنه بين أحد أمرين:
الأمر الأول: إن استطاع أن يزيل النجاسة، بأن كانت في منديل، أو في ثوب، أو في بردة، أو في غير ذلك، فيلقيها ويستمر في صلاته.
الأمر الثاني: أن لا يستطيع أن يزيل النجاسة إلا بقطع الصلاة، وفي هذه الحال يقطع الصلاة ويغسل النجاسة أو يزيلها ثم يستأنف صلاته.
والدليل على هذا ما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي ﷺ صلى مرة بأصحابه فجاءه جبريل فأخبره أن في نعليه أذى، فخلعهما في أثناء الصلاة، فخلع الصحابة نعالهم ـ وكانوا يصلون في نعالهم ـ فلما قضى النبي ﷺ صلاته قال لهم: ما لكم خلعتم؟ قالوا: رأيناك يا رسول الله خلعت فخلعنا قال: إن جبريل أخبرني أن فيهما أذى [(697)]، فالنبي ﷺ صلى أول الصلاة وفي نعليه أذى ومع ذلك لم يعد الصلاة، بل خلع نعليه واستمر في صلاته، فدل على أن المصلي إذا كان في ثوبه نجاسة وعلم بها أثناء الصلاة ألقاها واستمر في صلاته، فإن صلى ولم يعلم حتى انتهت الصلاة فصلاته صحيحة، هذا هو الصواب، والشيء اليسير الذي لا يؤبه له يعفى عنه إذا كان في غير محل القبل أو الدبر.
والمني إذا كان على الثوب فليس بنجس بل هو طاهر، وهذا هو الصواب؛ لأنه أصل الولد.
قوله: «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا وَهُوَ يُصَلِّي وَضَعَهُ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ» هذا لا إشكال فيه، وهذا إذا أمكن طرح الثوب الذي عليه النجاسة بأن كان يصلي في ثوبين مثلاً، أو كانت النجاسة في منديل أو نعل أو عمامة، أما إذا لم يكن عليه إلا ثوب واحد يستر عورته ويكفيه ولا يستطيع خلعه، فإنه يقطع الصلاة ويغسل النجاسة ثم يستأنف.
قوله: «صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ» فمعروف أن الدم نجس، «أَوْ جَنَابَةٌ» يعني: أثر الجنابة وهو المني، وهذا على القول بأن المني نجس، والصواب أن المني طاهر، فإذا صلى وفي ثوبه جنابة جاز؛ لما ثبت في الحديث الصحيح أن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أحكه وهو يابس بظفري من ثوب رسول الله ﷺ»[(698)]، وفي رواية أخرى أنها قالت: «كنت أغسل المني من ثوب رسول الله ﷺ فيذهب إلى الصلاة وإن أثر البقع بقع الماء في ثوبه»[(699)]، فالمني طاهر، لكن يستحب غسل رطبه وفرك يابسه، كما كانت عائشة رضي الله عنها تفعل.
قوله: «أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ» فيه: تفصيل؛ فإذا صلى لغير القبلة عن اجتهاد، وتنبه في أثناء الصلاة أو نُبِّه فإنه يستدير إلى القبلة ويبني على صلاته، أما إذا انتهت الصلاة وكان قد صلى عن اجتهاد فصلاته صحيحة ولا يعيد، هذا هو الصواب الذي عليه الأئمة الأربعة.
فإذا كان في البرية فاجتهد وصلى ثم جاءه إنسان ونبهه وقال: القبلة عن يمينك أو عن شمالك أو خلفك فإنه يستدير إلى القبلة ويتم صلاته ولا يعيد أول الصلاة، والدليل على هذا ما ثبت عن النبي ﷺ أنه لما هاجر إلى المدينة أقام بها ستة عشر شهرًا أو سبعة عشر شهرًا يصلي إلى بيت المقدس ثم حولت القبلة إلى الكعبة، فلما حولت صلى النبي ﷺ إلى الكعبة، فذهب إنسان ممن قد صلى مع النبي ﷺ فوجد أهل قباء يصلون إلى بيت المقدس فقال: «أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله ﷺ قِبل مكة» [(700)]، فاستداروا جهة الكعبة وهم في الصلاة، فكان أول صلاتهم جهة بيت المقدس وآخرها جهة الكعبة ولم يعيدوا أولها، فدل على أن المصلي إذا صلى عن اجتهاد في الصحراء إلى غير القبلة ثم تنبه أو نبهه أحد إلى القبلة يستدير.
أما إذا انتهت الصلاة فلا يعيد ما دام قد صلى عن اجتهاد.
بخلاف ما إذا كان في البلد فعليه أن يعيد؛ لأنه في الحضر يمكنه أن يعرف القبلة بسهولة فيعتبر مفرطًا، فإذا كان في البلد وصلى إلى غير القبلة يعيد الصلاة؛ لأنه يستطيع أن يعرف القبلة، ومراد الحديث الصلاة في السفر وفي الصحراء.
قوله: «أَوْ تَيَمَّمَ صَلَّى» كذلك إذا تيمم فصلى ثم وجد الماء، فقولان:
القول الأول: أنه يعيد.
القول الثاني: أنه لا يعيد، وهو الصواب.
وهكذا الصواب في جميع المسائل، فإذا صلى وفي ثوبه نجاسة ألقى النجاسة ومضى في صلاته، وكذلك إذا صلى لغير القبلة عن اجتهاد ثم علمها استدار وأتم صلاته، وإن كان قد انتهى فصلاته صحيحة، هذا هو الصواب الذي عليه الجمهور أنه لا يعيد.
أما إذا صلى في ثوب به جنابة، فالصواب أن المني طاهر، حتى لو تعمد فالصلاة صحيحة.
المتن:
240 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو ابْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَاجِدٌ ح.
قَالَ: وحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، أَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ ﷺ وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لاَ أُغْنِي شَيْئًا لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ، قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَع رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ ثُمَّ سَمَّى: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ؛ وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ.
الشرح:
240 قوله: «فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ» ، يعني: انتظر حتى سجد، ثم جاء بالسلى والنبي ﷺ يصلي، فوضعه بين كتفيه.
قوله: «وَأَنَا أَنْظُرُ لاَ أُغْنِي شَيْئًا» ؛ لضعف عبد الله بن مسعود في مكة؛ فهو هذلي ليس له حليف، يقول: «لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ» يعني: لو كانت لي منعة وقوة لمنعت الرسول ﷺ، ومنعتهم أن يضعوا ما وضعوا، لكنه ليست له منعة ولا قوة ولا استطاعة.
قوله ﷺ: اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ» ؛ يدل على أنهم يعلمون أنه على الحق، وقد كانوا يسمونه الصادق الأمين، لكن حملهم الحسد والبغي والكبر على ما فعلوه؛ ولذلك خافوا من دعوته، قال الله تعالى: فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعَام: 33]، وكانوا أيضًا يعلمون أن الدعوة في هذا البلد مستجابة.
قوله: «رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ» أي: استجيبت دعوته، فهؤلاء الذين دعا عليهم قتلوا وسحبوا في قليب بدر، والمراد: أغلبهم؛ وإلا فعقبة بن أبي معيط قتل صبرًا، قتله النبي ﷺ ـ من شدة عداوته ـ، وكذلك أمية بن خلف، أما الباقون فقتلوا وسحبوا في القليب، وناداهم النبي ﷺ: يا أهل القليب، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا، فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، قال: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُجِيبُوا [(701)]، فقد ردت إليهم أرواحهم وحيوا حياة برزخية.
وهذه القصة حصلت في مكة قبل الهجرة، واستدل بها المؤلف رحمه الله على أن المصلي إذا طرأت عليه النجاسة واستمر فإن صلاته صحيحة؛ لأن الكفار وضعوا السلى بين كتفيه ﷺ، والسلى نجس؛ ومعلوم أن ذبيحة الكفار نجسة، فما ذبحه الكفار والمشركون فهو نجس، والدم نجس، فعلى الرغم من وضعهم النجاسة على كتفه ﷺ فقد استمر في صلاته ولم يستأنف الصلاة، فدل هذا على أن المصلي إذا طرأت عليه النجاسة واستمر فإن صلاته صحيحة، هكذا استدل المؤلف.
وهذه القصة إنما حصلت في مكة قبل أن تشرع الأحكام، ثم ـ بعد ذلك ـ لما هاجر المسلمون إلى المدينة شرعت أغلب الأحكام، أما الصلاة وإن كانت قد فرضت قبل الهجرة بخمس سنوات، لكن الأذان والمواقيت كلها في المدينة، وكذلك الزكاة والصوم والحج والحدود، وكذلك اجتناب النجاسات إنما شرع في المدينة بعد الهجرة، فهذه القصة قبل أن تشرع الأحكام.
وذكر النووي رحمه الله: أن هذا محمول على ما إذا كان المصلي وُضع عليه شيء وهو لا يدري فاستمر في صلاته استصحابًا للأصل؛ لأن الأصل أنه يصلي وثوبه طاهر، فلو وضع عليه شيء وهو لا يدري فإنه يستصحب الأصل وهو الطهارة، ولو كان يعلم الأزالة، لكنه لا يعلم من الذي وضع عليه فصلاته صحيحة[(702)].
وقال بعض العلماء: إن هذا طرأ عليه، والنجاسة إذا طرأت فلا تؤثر، بخلاف ما إذا كانت في ابتداء الصلاة، فإذا كان في ابتداء الصلاة وعليه نجاسة فلا تصح.
والصواب: أن هذا كان في مكة قبل أن تشرع الأحكام، وقبل أن تفرض الفرائض، واجتناب النجاسة والوضوء والغسل ووجوب الطهارة كل هذا شرع في المدينة بعد الهجرة.
لكن هذه المسألة ـ وهي طروء النجاسة على الإنسان ـ فيها أنه إذا لم يعلم بالنجاسة استصحب الأصل وهو الطهارة، ومن ذلك قصة الصحابيين اللذين كانا يحرسان النبي ﷺ وأصحابه[(703)]، فنام أحدهما وجعل الآخر يصلي، فجاء أحد الأعداء وضربه بسهم فنزعه واستمر في صلاته، ثم ضربه بآخر حتى سالت الدماء ووصلت إلى صاحبه، فاستيقظ فقال له: لمَ لمْ توقظني؟ قال: كنت في سورة فكرهت أن أقطعها، والشاهد من هذا أنه استمر وصلى في دمائه؛ لأن هذا طرأ عليه، لكن القصة في إسنادها بعض الضعف.
وإذا علم المرء أن ثيابه نجسة لم يصل فيها، أما إذا اشتبهت عليه الثياب فلم يعلم الطاهر من النجس ففيه تفصيل:
القول الأول: ذهب الحنابلة[(704)] وجماعة: أنه إذا اشتبهت عليه ثياب طاهرة بثياب نجسة صلى بعدد الثياب النجسة وزاد صلاةً، فإذا كان عنده عشر ثياب: أربعة نجسة وستة طاهرة واشتبهت عليه صلى خمس صلوات، فيصلي في ثوب ويخلع، ثم يصلي في ثوب ويخلع حتى يصلي في خمسة أثواب، فإذا صلى في خمسة أثواب تيقن أنه صلى في واحد طاهر؛ لأن النجسة أربعة، ومثلها أيضًا لو كان عنده عشر أوانٍ فيها أربعة نجسة وستة طاهرة، فإنه يتوضأ من خمسة حتى يتيقن أنه توضأ من الطاهر.
القول الثاني: أن يتحرى بغلبة الظن؛ لأن هذا فيه مشقة، فإذا تحرى الطاهر ـ بغلبة الظن ـ فصلاته صحيحة.
والكفار الذين يؤذون المؤمنين دعا عليهم النبي ﷺ، فدعا على رِعل وذكوان وعُصية[(705)] ـ الذين قتلوا القراء ـ شهرًا كاملاً، وكما دعا على هؤلاء لما آذوه، لكن الكفار الذين لم يؤذوه يدعو لهم بالهداية، فلما قيل للنبي ﷺ: إن دوسًا عصت فادع الله عليهم، قال: اللهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَائْتِ بِهِمْ [(706)]، فالكافر الذي لا يؤذي يُدعى له بالهداية، أما الذي يؤذي المؤمنين ويقتلهم فيُدعى عليه.
المتن:
باب الْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ فِي الثَّوْبِ
قَالَ عُرْوَةُ: عَنْ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ زَمَنَ حُدَيْبِيَةَ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ: وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِيُّ ﷺ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ.
241 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَزَقَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ثَوْبِهِ.
طَوَّلَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنْ النَّبِيِّ ﷺ
الشرح:
عقد المؤلف رحمه الله هذا الباب لبيان أن فضلات الإنسان طاهرة: البزاق والمخاط والنخامة والريق والعرق كل هذا طاهر، ما عدا البول والغائط والقيء، فالبول والغائط والقيء أشياء نجسة وما عداها فهو طاهر، والدليل على هذا أن النبي ﷺ كان إذا تنخم فوقعت في كف واحد من الصحابة دلك بها جلده، وإقرار النبي ﷺ لهم على ذلك دليل على طهارتها.
وكون أحدهم يدلك بها جلده فهذا للتبرك؛ لما جعل الله في فضلاته ﷺ من البركة، وهذا خاص به ﷺ فقد كان الصحابة يتبركون بفضلاته، فإذا تنخم تنخم في يد واحد منهم فدلك بها جلده وإذا توضأ أخذوا القطرات، وإذا حلق شعره في الحج قسمت الشعرات بين الصحابة، ولما نام ﷺ عند أم سليم ـ وبينه وبينها محرمية ـ فعرق جعلت تسلت العرق فجعلته في قارورة وجعلته مع طيب لها، وقالت: «إنه لأطيب الطيب»[(707)]، فهذا خاص به ﷺ.
وأما من عداه فلا يتبرك به؛ لأمور:
أولاً: لأن الصحابة لم يفعلوه مع غير النبي ﷺ، فلم يتبركوا بأبي بكر ولا عمر ولا عثمان، ولا علي .
ثانيًا: لأن هذا من وسائل الشرك.
ومن التبرك بالرسول ﷺ أيضًا: التوسل بدعائه وهو حي، أما بعد موته فلا، فقد كان الصحابة يتوسلون بدعاء الأحياء منهم، كما أمر عمر العباس أن يدعو فقال: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا ـ يعني بدعاء نبينا ـ فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا، قم يا عباس فادع الله، فجعل العباس يدعو.
فلا بأس بالتبرك بالصالح لو كان حيًّا، فيدعو ويؤمن الناس على دعائه، أما سؤال الميت فممنوع؛ ولذا لم يأت الصحابة إلى النبي ﷺ بعد موته، ولو كانوا يتوسلون بذاته لجاءوا إليه وهو في قبره، فذاته أوجه من ذات العباس، لكنهم كانوا يستسقون بالنبي ﷺ في حياته فيدعو ويؤمِّنون، فلما مات جاءوا إلى العباس ؛ لأن دعاء الميت شرك والتوسل بذاته بدعة.
وكونه ﷺ أقرهم على دلكهم أجسامهم بالنخامة فيه دليل على طهارتها، وليس هذا خاصًّا به ﷺ، وإنما الذي اختص به هو التبرك، والأصل في الآدمي الطهارة، ففضلات الآدمي كلها طاهرة ما عدا البول والغائط والقيء، فالقيء المشهور عند العلماء أنه نجس وفي حكمه خلاف إلا الشيء اليسير، والأحوط غسله.
241 قوله: «بَزَقَ النَّبِيُّ ﷺ فِي ثَوْبِهِ» ؛ لأن النخامة طاهرة، فإذا أصابت الثوب لا ينجس وكذلك إذا أصابت الماء، وكذلك البزاق ـ وغيره من فضلات الإنسان الطاهرة ـ كما مر في شرح ترجمة الباب ـ إذا أصاب الماء لا ينجسه أو أصاب الثوب لا ينجسه.
والنخامة ـ رغم طهارتها ـ لا ينبغي بلعها، وإذا ابتلعها المرء وكان صائمًا أفطر بها.
المتن:
الشرح:
قوله: «لاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ وَلاَ الْمُسْكِرِ» ؛ هذا هو الصواب خلافًا لأبي حنيفة[(708)] فقد قال: يجوز الوضوء بالنبيذ. لحديث رواه الإمام أحمد أنه أتي النبي ﷺ بالنبيذ فقال: «تمرة طيبة وماء طهور» [(709)]، وهو حديث ضعيف وفي سنده متهم.
والنبيذ عصير العنب وغيره، فعصير البرتقال أو التفاح أو الليمون أو التمر يسمى نبيذًا، فلا يجوز الوضوء به؛ لأنه ليس بماء مطلق، وكذلك القهوة لا يتوضأ بها؛ لأنها ليست بماء مطلق، فما لا يطلق عليه اسم الماء لا يتوضأ به، وكذلك إذا عصر الماء من الشجر فلا يتوضأ به؛ لأنه ليس بماء مطلق بل ماء مقيد، يقال: ماء قهوة، وهكذا، وكذلك اللبن لا يتوضأ به؛ لأنه ليس بماء؛ خلافًا لأبي حنيفة فإنه أجاز الوضوء بالنبيذ.
وكذلك لو تغير الماء بمخالطته للزعفران فصار أصفر اللون، أو صار أزرق من الحبر فلا يتوضأ به؛ لأنه ليس بماء مطلق، هذا هو الصواب، فلا يصح الوضوء ولا يجزئ إلا بالماء المطلق الذي لم يخالطه شيء.
وماء الورد لا يجزئ في الوضوء؛ لأنه ماء ورد وليس ماء مطلقًا، فلا يسمى ماء بإطلاق؛ لذلك سميناه ماء ورد.
والماء الآجن ـ وهو: ما تغير من طول المكث من حيث طعمه أو رائحته ـ لا بأس به؛ لأن اسم الماء باق عليه، أما إذا تغير تغيرًا شديدًا بحيث لم يصلح أن يطلق عليه اسم الماء فلا.
وأما الملح المائي؛ فالغالب أنه يغير الماء ويمازجه فلا يكون ماء بإطلاق. فالمقصود أن يبقى الماء على إطلاقه.
وكل ما سبق مما لم يكن ماء مطلقًا لا يتوضأ به ولا تزول به النجاسة، فإذا لم يجد غيره تيمم، فإذا لم يجد إلا ماء عصير مثلاً تيمم ولا يتوضأ به.
وكذلك المسكر أيضًا كالخمر لا يجوز أن يتوضأ به؛ لأنه ليس بماء؛ ولأنه متوعد عليه، ولا يجوز اقتناؤه، فكما أنه لا يشربه لا يتوضأ به.
المتن:
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ.
الشرح:
قوله: «وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ» الصواب: أنه لا يجوز؛ فليست كراهة تنزيه.
قوله: «وَقَالَ عَطَاءٌ: التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ» ، بل هذا هو الواجب أن لا يتوضأ بالنبيذ ولا باللبن بل يتيمم، وما ذهب إليه محمد بن الحسن الصاحب الثاني للإمام أبي حنيفة[(710)] أنه يجمع بين الوضوء والتيمم فهو قول ضعيف، والصواب: أنه إذا لم يجد غيره تيمم ولا يتوضأ به؛ لأنه ليس ماء مطلقًا وإنما هو ماء مقيد فلا يرفع الحدث، فإذا لم يجد إلا ماء متغيرًا كماء لبن أو ماء قهوة أو ماء عصير فإنه يتيمم ولا يستعمله.