شعار الموقع

شرح كتاب الغسل من صحيح البخاري (5-2) تابع بَاب تَفْرِيقِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ - إلى باب الْجُنُبُ يَخْرُجُ وَيَمْشِي فِي السُّوقِ وَغَيْرِهِ

00:00
00:00
تحميل
145

ففيه: أنه أخر غسل القدمين بعد الغسل، أي: توضأ أولاً فغسل وجهه ويديه ورأسه ثم بعد ذلك غسل سائر جسده ثم غسل قدميه.

وما استدل عليه المؤلف رحمه الله من أن الموالاة في الغسل ليست بواجبة ليس بظاهر، والصواب: أن الموالاة واجبة في الغسل وفي الوضوء، لكنها في الوضوء آكد، والدليل على وجوب الموالاة:

 1- أن النبي  ﷺ توضأ متواليًا وكذلك اغتسل متواليًا.

 2- ما ثبت أن النبي  ﷺ رأى رجلاً بعدما توضأ وفي قدمه لمعة ـ يعني: بقعة ـ لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء[(754)]، ولو كانت الموالاة غير واجبة لأمره أن يغسل البقعة، فلما أمره بأن يعيد الوضوء دل هذا على أن الموالاة واجبة.

 3- أن القول بتفريق الوضوء أو بتفريق الغسل يفضي إلى التساهل في الوضوء والغسل؛ فلهذه الأمور الثلاثة يجب الموالاة.

وكونه  ﷺ غسل قدميه بعدما اغتسل لا يلزم منه عدم الموالاة؛ لأن هذه ليست مدة طويلة.

ففروض الوضوء كما هو معلوم ستة:

 1- غسل الوجه.

 2- غسل اليدين إلى المرفقين.

 3- مسح جميع الرأس.

 4- غسل الرجلين إلى الكعبين.

 5- الترتيب.

 6- والموالاة.

فالترتيب بين أعضاء الوضوء والموالاة من الفروض، لكنها في الوضوء آكد، ولو قيل: إن الموالاة واجبة في الوضوء دون الغسل لكان له وجه؛ لأن النبي  ﷺ اغتسل ثم بعد ذلك رأى بقعة في جسده فعصر شيئًا من شعره فغسلها[(755)]، وكذلك في هذا الحديث لو كان الفصل طويلاً لكان دليلاً على أنه لا يجب الموالاة في الغسل، لكن في الوضوء الموالاة متأكدة، والدليل على هذا حديث صاحب اللمعة[(756)]، والمؤلف رحمه الله في الترجمة قال: «بَاب تَفْرِيقِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ» ، فهو يرى أن الموالاة ليست واجبة، لا في الغسل ولا في الوضوء.

وحديث ميمونة هذا استنبط منه المؤلف رحمه الله أحكامًا متعددة، فكرره مرات.

من هذه الأحكام: أنه أخر غسل القدمين، فلما أخر غسل القدمين عن غسل الوجه واليدين والرأس دل على أن الموالاة ليست واجبة في الغسل وفي حديث عائشة[(757)] أنه والى بين أعضاء الوضوء فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه وغسل رجليه، ثم أكمل بقية الغسل.

وفي الحديث: بيان الغسل الكامل، وهو أن يستنجي ويغسل مذاكيره وما حوله، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه ثلاثًا، ثم يغسل شقه الأيمن ثم يغسل شقه الأيسر.

قوله: «تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ» ، سبب هذا أن المكان في الغالب يكون فيه طين، فهو تنحى ليغسل قدميه في مكان آخر غير المكان الذي انتشر فيه الطين؛ حتى يكون غسلهما في مكان نظيف، أما الآن فالحمامات نظيفة مبلطة فلو أكمل الوضوء على ما في حديث عائشة فحسن.

وفيه: دليل على استحباب غسل اليد اليسرى بالتراب أو بالأشنان أو بالصابون بعدما يستنجي؛ لإزالة الرائحة أو اللزوجة التي تعلق باليد؛ ولهذا ضرب النبي ﷺ بيديه الأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثًا[(758)]، وكان الحائط من طين ليس كحوائطنا الآن، فكان إذا ضرب بيديه الحائط علق بيديه الطين فغسلهما بالماء فأزال الرائحة، والآن لو غسل بالصابون لقام مقامه، وهذا من باب الاستحباب.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب تَفْرِيقِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ»، أي: جوازه وهو قول الشافعي في الجديد، واحتج له بأن الله تعالى أوجب غسل أعضائه، فمن غسلها فقد أتى بما وجب عليه فرقها أو نسقها» أي: فرقها أو والاها، لكن النبي  ﷺ توضأ متواليًا وقال: صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي [(753)].

والبخاري رحمه الله ذكر فعل ابن عمر بصيغة التمريض فقال: «وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ» مع الترجمة ليستدل به على أن الموالاة في الغسل ليست واجبة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ» هذا الأثر رويناه في الأم عن مالك عن نافع عنه، لكن فيه أنه توضأ في السوق دون رجليه ثم رجع إلى المسجد فمسح على خفيه ثم صلى، والإسناد صحيح، فيحتمل أنه إنما لم يجزم به؛ لكونه ذكره بالمعنى، قال الشافعي: لعله قد جف وضوءه؛ لأن الجفاف قد يحصل بأقل ما بين السوق والمسجد».

وقد يكون ابن عمر يرى أنه لا تجب الموالاة، والمسألة فيها خلاف لكن الصواب وجوب الموالاة.  

المتن:

مَنْ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فِي الْغُسْلِ

 266 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا الأَْعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ قَالَتْ: وَضَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ  ﷺ غُسْلاً وَسَتَرْتُهُ فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَالَ سُلَيْمَانُ: لاَ أَدْرِي أَذَكَرَ الثَّالِثَةَ أَمْ لاَ؟ ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأَْرْضِ أَوْ بِالْحَائِطِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَغَسَلَ رَأْسَهُ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى، فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، فَنَاوَلْتُهُ خِرْقَةً؛ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَلَمْ يُرِدْهَا.

الشرح:

قوله: «مَنْ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فِي الْغُسْلِ» ، أي: فغسلهما ثلاثًا، وإذا كان بالصنبور فإنه يفتحه ويغسلهما ثلاثًا، ولكن لا يُسرف.

وهذه الترجمة واضحة، استدل بها المصنف رحمه الله على أن غسل اليدين ثلاثًا قبل الوضوء وقبل الغسل سنة.

 266 قوله: «لاَ أَدْرِي أَذَكَرَ الثَّالِثَةَ أَمْ لاَ؟» ؛ الصواب: أنها ثلاث، وهذه الرواية فيها شك أنه غسل يديه مرتين أو ثلاثًا، والرواية الأخرى فيها الجزم أنه غسلها ثلاثًا[(759)]، والقاعدة أن الروايات يفسر بعضها بعضًا، والأحاديث يفسر بعضها بعضًا، والآيات يفسر بعضها بعضًا.

وفي الحديث: أن السنة غسل اليدين ثلاثًا قبل أن يدخلهما في الإناء، فإذا كان عليه جنابة أو أراد الوضوء ثم أتى بالماء فإنه يفرغ على يديه فيغسلهما ثلاثًا قبل أن يدخلهما في الإناء استحبابًا في الوضوء وفي الغسل أيضًا، أما إذا كان مستيقظًا من نوم ليلٍ فإنه يتأكد الاستحباب في حقه، وأوجبه بعض العلماء؛ لقول النبي  ﷺ: إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ [(760)].

وليس له أن يغمس يديه في الإناء قبل غسلهما، وإذا غمسها فإنه يكون مخالفًا للسنة، ولا يكون الماء مستعملاً بذلك.

وفيه: أنه لما غسل فرجه ضرب بيديه الأرض أو الحائط فغسلهما من باب النقاء.

وفيه: أنه لما اغتسل أتته ميمونة بخرقة فلم يردها وجعل ينفض الماء بيديه، وهذا دليل على عدم استحباب التنشف بعد الغسل وأن الأفضل ألا يتنشف وإن تنشف فلا حرج، وأما الوضوء فإنه مسكوت عنه، فإذا تنشف بعد الوضوء فلا بأس.

المتن:

باب إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَادَ وَمَنْ دَارَ عَلَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ

 267 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ذَكَرْتُهُ لِعَائِشَةَ، فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ، فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ، ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا، يَنْضَخُ طِيبًا. 

الشرح:

267 قولها عائشة رضي الله عنها: «يَنْضَخُ طِيبًا» بالخاء، وفي رواية: «ينضح» [(761)] وفي الحديث أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إني ما أحب أن أتطيب ثم أغتسل ثم يبقى أثر الطيب، فأنكرت عليه عائشة رضي الله عنها وقالت: «يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ» وهي كنية عبدالله بن عمر رضي الله عنهما «كنت أطيب رسول الله  ﷺ»، ثم يغتسل ويبقى أثر الطيب «يَنْضَخُ طِيبًا» ، ففيه: دليل على أن المحرم إذا تطيب قبل الإحرام ثم بقي أثر الطيب فلا يضره استدامته، ولا يجب عليه إزالته، إنما الممنوع كونه يتطيب بعد الإحرام، أما كونه يتطيب قبل الإحرام فهذا هو السنة، ويدل على هذا حديث عائشة رضي الله عنها الآخر: قد كنت أطيب رسول الله  ﷺ لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت[(762)].

ولكن اختلف العلماء هل ينقل الطيب من مكان إلى مكان أو لا ينقله؟ والأقرب أنه لا ينقله.

فخفيت السنة على عبدالله بن عمر فظن أن المحرم لا يستديم الطيب، وبينت له عائشة أن النبي  ﷺ كان يتطيب ويبقى أثر الطيب بعد الإحرام.

وفيه قولها: «فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ» ، وهذا هو الشاهد للترجمة، أي: يطوف على نسائه يجامعهن، ويغتسل غسلاً واحدًا، ففيه دليل على أنه لا بأس للإنسان إن كان عنده عدد من النساء أن يجامع نساءه بغسل واحد، والأفضل أن يغتسل بعد كل واحدة، لكن يفصل بالوضوء، فبعد أن يجامع يتوضأ استحبابًا أو وجوبًا، فبعض أهل العلم رأى الاستحباب، وبعض أهل العلم رأى وجوب الوضوء، وقال بعض أهل العلم: لا يستحب وإنما يغسل فرجه فقط، وحملوا الوضوء الذي جاء في الحديث على الوضوء اللغوي.

المتن:

268 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ  ﷺ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ لأَِنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟ قَالَ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاَثِينَ.

وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: إِنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ: تِسْعُ نِسْوَةٍ.

الشرح:

 268 قوله: «كَانَ النَّبِيُّ  ﷺ يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ» ، فيه: أنه  ﷺ «ُعْطِيَ قُوَّةَ» ؛ ولهذا سأل قتادة أنسًا: «أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟» أي: يطيق أن يجامع تسعًا في وقت واحد؟! فقال: «كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاَثِينَ» أي: أعطي  ﷺ قوة ثلاثين رجلاً، مع الجهد ومع قلة الطعام والشراب، وكانت هذه القوة في الأنبياء السابقين كأنبياء بني إسرائيل، فسليمان عليه الصلاة والسلام ـ كما جاء في الصحيح ـ قال: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة كلهن تلد غلامًا يجاهد في سبيل الله [(763)]، وفي رواية: سبعين [(764)]، وهذا يدل على أن بني إسرائيل أعطاهم الله في شريعتهم الجمع بين العدد الكثير من النساء، ولكن انظر إلى هدفه عليه الصلاة والسلام: تلد كل واحدة غلامًا يجاهد في سبيل الله فسليمان هدفه الجهاد، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله، فلم يقل، فلم تحمل منهن إلا واحدة أتت بشق إنسان، فقال النبي  ﷺ: والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لكان دركًا لحاجته ولجاهدوا في سبيل الله أجمعون. رواه البخاري في الصحيح[(765)].

فهذا سليمان يدور على تسعين امرأة في ليلة واحدة، وهذا من خصائص الأنبياء فقد أعطاهم الله القوة، ونبينا  ﷺ كان يدور على تسع أو على إحدى عشرة في الساعة الواحدة من الليل أو النهار، وهذا فيه دليل على أن الإنسان إذا كان عنده عدد من النساء ودار عليهن في ساعة واحدة في الليل أو في النهار فإن هذا لا يعتبر جورًا، بل هذا من العدل، ولا يخل بالقسم.

والشاهد من هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان يطوف على نسائه جميعًا في وقت واحد وبغسل واحد.

وإذا اغتسل الإنسان بعد كل واحدة يكون أفضل، وإلا فإذا اقتصر على الوضوء كفاه، وقد جاء في الحديث الآخر: فإنه أنشط للعود [(766)]، كذلك إذا أراد أن ينام وهو عليه جنابة فالأفضل أن يتوضأ، بل يتأكد في حقِّه أن يتوضأ وضوءه للصلاة ثم ينام، كما جاء في الصحيح أن عمر سأل النبي  ﷺ قال: أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نَعَمْ إِذَا تَوَضَّأَ [(767)].

والنبي  ﷺ تزوج بعد خديجة تسع نسوة، وكانت له جاريتان، فلم يتزوج عليها ولا أخذ يعدد النساء حتى ماتت رضي الله عنها؛ فخديجة توفيت قديمًا بمكة وهذا كان في المدينة بعد الهجرة.

قوله: «عَنْ قَتَادَةَ: إِنَّ أَنَسًا حَدَّثَهُمْ: تِسْعُ نِسْوَةٍ» أي: تسع نسوة حرائر، وجاريتان: مارية وريحانة، فمن قال: «إحدى عشرة» أضاف الجاريتين، ومن قال: «تِسْعُ نِسْوَةٍ» حذف الجاريتين.

المتن:

غَسْلِ الْمَذْيِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ

 269 حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَأَمَرْتُ رَجُلاً أَنْ يَسْأَلَ النَّبِيَّ  ﷺ لِمَكَانِ ابْنَتِهِ فَسَأَلَ فَقَالَ: تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ.

الشرح:

 269 قوله: «مَذَّاءً» صيغة مبالغة، يعني كثير المذي.

قوله: «فَأَمَرْتُ رَجُلاً» ؛ في رواية أنه قال: فأمرت المقداد بن الأسود فسأله فقال: فِيهِ الوُضُوءُ [(768)] وهنا قال: تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ.

والمذي: ماء لزج أصفر رقيق يخرج على رأس الذكر عند الملاعبة أو تذكر الجماع أو الملامسة، وهو نجس لكن نجاسته مخففة، فإذا أصاب الثوب أو البدن فإنه يكفي فيه الرش بالماء، والغسل أفضل، ولا يكفي فيه الأحجار؛ ولهذا قال: تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ أي: يجب فيه غسل الذكر والأنثيين؛ لقوله في الرواية الأخرى: اغْسِلْ ذَكَرَكَ وَأُنْثَيَيْكَ [(769)]، والحكمة ـ والله أعلم ـ في هذا أن غسلهما يكون سببا في تقلص الخارج بخلاف البول فإنه يغسل منه موضع الخارج فقط ولا يغسل الذكر كله ولا الخصيتين.

أما المني فهو طاهر، فالمني أصل الولد، كما ثبت أن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنت أغسل المني من ثوب رسول الله  ﷺ فيخرج إلى الصلاة وإن أثر البقع فيه» [(770)]، وفي رواية: «كنت أحكه يابسًا بظفري من ثوب النبي  ﷺ» [(771)] فهو طاهر خصوصًا إذا كان استنجى قبل خروجه، فإذا كان محل الخارج طاهرًا فهو طاهر، لكن يستحب من باب النظافة غسل رطبه وحك يابسه، والبول نجس، أما المذي فنجاسة مخففة.

وظاهر الحديث أن الأمر للوجوب، فيجب غسل الذكر والأنثيين في المذي خاصة دون مبالغة.

وأما نتر الذكر، فالصواب فيه أنه غير مشروع، خلاف لما ذكره الحنابلة[(772)]، أنه ينتر ذكره ثلاثًا من أصله إلى رأس الذكر، وبعضهم قال: إنه يمشي خطوات، وبعضهم قال: يقفز قفزات، وكل هذه الأقوال ليس لها أصل، قال الحافظ: «إنها تولد الوسواس»، فكل إنسان أعلم بنفسه، إذا كان الخارج يبقى منه قطرات ينتظر ويستنجي حتى يتأكد من انقطاع الخارج.

وخروج المذي ناقض من نواقض الوضوء، فإذا خرج منه المذي وهو يصلي بطل وضوءه، وعليه أن يقطع الصلاة إذا تأكد؛ أي ليس على سبيل الوسواس، فلا بد أن يتأكد أو يغلب على ظنه أنه خرج، فإذا تأكد خروج بطل الوضوء بإجماع المسلمين؛ فكل خارج من السبيلين ينقض الوضوء: الريح والمني والمذي والبول.

المتن:

مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَبَقِيَ أَثَرُ الطِّيبِ

 270 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ، فَذَكَرْتُ لَهَا قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ، ثُمَّ طَافَ فِي نِسَائِهِ ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا.

الشرح:

 270 قولها رضي الله عنها: «ثم أصبح محرمًا» ؛ فيه: دليل على أنه إذا بقي أثر الطيب بعد الإحرام فلا يضر، وخفي هذا على ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: «مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَخُ طِيبًا؟» فقالت له عائشة: «أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ» ؛ وفي الرواية الأخرى: «يرحم الله أبا عبدالرحمن أنا طيبت رسول الله  ﷺ بيدي، ثم اغتسل، ثم بقي أثر الطيب فيه» [(773)] فلا يضر أثر الطيب إذا أحرم؛ لأنه يشرع للإنسان أن يتطيب، ولا شك أن الطيب يبقى، وهو مقصود للشارع أن يبقى أثر الطيب حتى يقاوم الروائح التي تحصل؛ لأن الغالب أن الناس كانوا في الأزمان السابقة بينهم وبين مكة مسافة، وتطول المدة، وكانت المواصلات على الإبل وعلى الرواحل، فهو يحرم ثم يبقى مدة، يومين أو ثلاثة، وإذا أحرم من ميقات ذي الحليفة ـ ميقات أهل المدينة ـ يبقى أسبوعًا تقريبًا.

والطيب يكون بالبدن فقط، فلا يطيب الإزار ولا الرداء، فإذا طيبه يجب عليه غسله، سواء خلعه أو لم يخلعه.

والتطيب يكون بعد الغسل أفضل، وإن تطيب قبله فلا بأس.

والطيب هو الأدهان المعروفة كدهن العود ودهن الورد وما أشبه ذلك، أما المختلط بالكحول فليس من الأطياب، بل هو من مواد التعقيم، وبعض العلماء ينهى عنه؛ لأنهم يرون أن الكحول نجس، فينبغي للإنسان أن يحتاط لدينه، أما إذا كانت نسبة الكحول قليلة مغمورة مثل القطرة اليسيرة في الماء الكثير فلا تؤثر، وهي مثل قطرة بول في الماء الكثير.

المتن:

271 حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الأَْسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفْرِق النَّبِيِّ  ﷺ وَهُوَ مُحْرِمٌ.

الشرح:

 271 قوله: «وَبِيصِ الطِّيبِ» ، الوبيص معناه اللمعان، أي كأني أنظر إلى لمعان المسك «فِي مَفْرِق النَّبِيِّ  ﷺ» ، أي: في رأسه، وكان  ﷺ شعره طويلاً، فربما كان وفرة إلى الأذنين أو جمة تتجاوزهما[(774)]، وكان يفرق رأسه فرقتين[(775)] من الوسط، فكان في مفارق رأسه  ﷺ يُرى لمعان المسك.

قوله: «وَهُوَ مُحْرِمٌ» ؛ لأنه تطيب قبل الإحرام؛ فدل على أن بقاء أثر الطيب بعد الإحرام لا يضر؛ ولهذا يُرى لمعان المسك في مفارق رأس رسول الله  ﷺ وهو محرم، فالمحرم له أن يستديم الطيب، أما الاستئناف بكونه يتطيب وهو محرم، فهذا هو الممنوع، وليس له أن ينقله من مكان إلى مكان.

ومن السنة أن يفرق الشعر من الوسط؛ فقد كان النبي  ﷺ أول ما قدم المدينة يسدل شعره[(776)]؛ لأن اليهود كانوا يسدلون وكان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه، ثم كان بعد ذلك يفرقه من النصف إذا كان جمة أو وفرة؛ وهي أسماء للشعر، فالوفرة التي تصل إلى الأذن، والجمة التي تتجاوز شحمة الأذن.

وكان النبي  ﷺ يحلق شعره في الحج أو في العمرة فقط، قال الإمام أحمد[(777)] في إبقاء الشعر: «هو سنة لو أنا نقوى عليه لاتخذناه، لكن له كلفة ومشقة؛ مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ [(778)]»، يعني: يحتاج إلى غسل ودهن وتسريح، لكن حلقه مباح.

فإذا قصد المسلم الاقتداء بالنبي  ﷺ فترك شعره وأكرمه فهذا طيب حسن، أي: إذا قصد السنة، أما إذا كان يتشبه ببعض الطوائف المنحرفة الذين يحلقون لحاهم ويتركون شعورهم، ويقول: أنا متشبه بالرسول  ﷺ، فهذا كذاب.

المتن:

تَخْلِيلِ الشَّعَرِ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ

 272 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَت: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَيْهِ وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اغْتَسَلَ، ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدِهِ شَعَرَهُ حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ.

 273 وَقَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ  ﷺ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْرِفُ مِنْهُ جَمِيعًا.

الشرح:

272، 273 في الحديث: أن النبي  ﷺ توضأ وأكمل الوضوء، وفي حديث ميمونة السابق: توضأ وأبقى القدمين فغسلهما بعدما غسل سائر جسده، فدل هذا على أن المغتسل مخير بين أن يؤخر القدمين بعد غسل سائر جسده، وبين أن يغسلهما مع أعضاء الوضوء.

وفيه: أن الأفضل للإنسان إذا كان عليه جنابة أن يستنجي؛ فيغسل فرجه وما حوله وما لوثه، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه.

وفي هذا الحديث أنه خلل شعر رأسه  ﷺ، ففيه: مشروعية التخليل، يعني يدخل أصابعه في الشعر.

قوله: «حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى» ؛ أي: بلغ بالماء أصول شعره.

قوله: «كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ  ﷺ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ نَغْرِفُ مِنْهُ جَمِيعًا» ، فيه: دليل على أنه لا حرج في أن يغتسل الرجل وامرأته جميعًا ولو كانا عاريين، ولا حرج في أن ينظر إلى عورتها وهي تنظر إلى عورته؛ لأنها حل له وهو حل لها.

وفيه: دليل على أنهما إذا اغتسلا من إناء واحد واغترفا جميعًا لا يعتبر الماء مستعملاً، فكونه يغمس يده ويأخذ ماء ويغتسل وهي تغمس يدها لا يصير الماء مستعملاً، لكن السنة أن يغسل يديه ثلاثًا وهي تغسل يديها ثلاثًا قبل إدخالهما في الإناء ثم بعد ذلك كل منهما يغترف من الإناء.

وكذلك لو تقاطر في الماء شيء من القطرات من الجسم لا يضر؛ ولهذا كان النبي  ﷺ يغتسل هو وعائشة ويغترفان جميعًا، حتى في بعض الأحاديث أنهما اغتسلا من إناء يسع صاعًا أو صاعين وكان الماء قليلاً، فكان يقول لها: دعي لي، وهي تقول: دع لي [(779)] يعني أبق لي الماء، والفَرَق يسع صاعين.

قوله: «ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدِهِ شَعَرَهُ» ، المقصود به شعر الرأس وشعر اللحية، فيستحب أن يخلل في الوضوء، أما في الغسل فينبغي أن يخلله  ﷺ حتى يصل الماء إلى أصول الشعر؛ ولهذا خلله  ﷺ حتى إذا ظن أنه بلغ أصول الشعر أفاض على رأسه الماء، ففي الحديث: «حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ» .

المتن:

باب مَنْ تَوَضَّأَ فِي الْجَنَابَةِ ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ جَسَدِهِ

وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مَرَّةً أُخْرَى

 274 حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ عِيسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَْعْمَشُ، عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ وَضُوءًا لِجَنَابَةٍ، فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ ضَرَبَ يَدَهُ بِالأَْرْضِ أَوْ الْحَائِطِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، قَالَتْ فَأَتَيْتُهُ بِخِرْقَةٍ؛ فَلَمْ يُرِدْهَا فَجَعَلَ يَنْفُضُ بِيَدِهِ.

الشرح:

هذه الترجمة فيها بيان أنه لا يعيد غسل أعضاء الوضوء، بل يكتفي بغسلها أولاً، فإذا توضأت وأنت عليك جنابة ارتفع الحدث عن أعضاء الوضوء، عن اليدين وعن الوجه وعن الرجلين، فأنت بعد ذلك تفيض الماء على رأسك ثم تغسل سائر جسدك، الشق الأيمن والشق الأيسر، ولا تغسل أعضاء الوضوء؛ اكتفاء بغسلهما سابقًا؛ ولهذا كان النبي  ﷺ يغتسل بالصاع، فيتوضأ كمثل وضوئه للصلاة، ثم بعد ذلك يغسل بقية الجسد ولا يغسل أعضاء الوضوء مرة أخرى.

 274 وحديث ميمونة هذا كرره المؤلف رحمه الله لاستنباط الأحكام، وفيه أنه  ﷺ لما قدم له الماء للغسل غسل يديه ثلاثًا، وهذا هو السنة، ثم استنجى ثم ضرب بيديه الأرض أو الحائط فغسلهما لتنقية اليد ولإزالة ما علق بها من لزوجة أو رائحة، ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم غسل رأسه، ثم غسل سائر جسده، ثم أتته بخرقة فلم يُرِدها.

والحديث استدل به المؤلف رحمه الله على أنه لا تجب إعادة غسل أعضاء الوضوء، لكن هذا ليس بصريح، وحديث عائشة الأول أصرح من هذا؛ حيث قالت: ثم غسل سائر جسده[(780)] ففيه: دليل على أن أعضاء الوضوء لا يعيدها المغتسل مرة أخرى، فإذا توضأ فغسل وجهه وغسل يديه ومسح على رأسه وغسل رجليه، فإنه بعد ذلك يغسل بقية الجسد ولا يغسل اليدين ولا الرجلين ولا الوجه مرة أخرى؛ لأن الحدث ارتفع عنهما بالوضوء.

وقد اختلف العلماء هل يُكتفى بالغسل في رفع الحدثين أم لابد من الوضوء معه؟

فبعض العلماء يرى أنه إذا نوى ارتفاع الحدثين ارتفع الحدثان، ويدخل الأصغر في الأكبر، لكن الأفضل والأحوط أن يتوضأ الإنسان قبل ذلك، لكن بشرط ألا يمس فرجه، فإذا مس فرجه بعد الوضوء بيده أو خرج منه ريح فإنه يتوضأ مرة أخرى، والمراد باليد الكف ظاهرها وباطنها، فإذا مسه بالذراع أو بالرجل فلا يضر.

المتن:

إِذَا ذَكَرَ فِي الْمَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ يَخْرُجُ كَمَا هُوَ وَلاَ يَتَيَمَّمُ

 275 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُقِيمَتْ الصَّلاَةُ، وَعُدِّلَتْ الصُّفُوفُ قِيَامًا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ، فَلَمَّا قَامَ فِي مُصَلاَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ، فَقَالَ لَنَا: مَكَانَكُمْ ثُمَّ رَجَعَ، فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ، فَصَلَّيْنَا مَعَهُ.

تَابَعَهُ عَبْدُ الأَْعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

وَرَوَاهُ الأَْوْزَاعِيُّ عَنْ الزُّهْرِيِّ.

الشرح:

 275 في الحديث: أن النبي  ﷺ لما جاء ليصلي بالناس وقام في مصلاه تذكر أنه جنب فخرج وقال لهم: مَكَانَكُمْ، ثم اغتسل، ثم جاء وصلى بهم  ﷺ، ولم يتيمم؛ وهذا فيه: الرد على من قال: إن الجنب إذا تذكر أنه عليه جنابة يتيمم لأجل لبثه في المسجد، وهذا تكلف لا وجه له، ولأن كونه جاء وأراد أن يكبر ناسيًا الجنابة ثم خرج فهذا يعتبر شيئًا يسيرًا كالمرور، والله تعالى يقول: وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ، فلا حرج أن يمر من عليه جنابة في المسجد وكذلك المرأة الحائض، أما اللبث في المسجد فهما ممنوعان منه، وثبت كذلك عن عائشة رضي الله عنها أن النبي  ﷺ قال لها: نَاوِلِينِي الْخُمْرَةَ مِنَ الْمَسْجِدِ والخمرة سجادة صغيرة من خوص، فقالت: يا رسول الله إني حائض، فقال: إِنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ فِي يَدِكِ [(781)]، فدخلت وأخذت الخمرة، فالدخول مرور يسير، أما الممنوع فالمكث والجلوس للحائض أو الجنب.

وقال العلماء: يصح للمؤذن أن يؤذن وهو جنب، فيؤذن ثم يخرج ويغتسل، ولكن هذا خلاف الأفضل، فالأفضل أن يكون متوضئًا، لكن لو أذن وهو جنب فلا حرج، ويعتبر وقوفه للأذان شيئًا يسيرًا من جنس المرور فلا بأس به، والجنب ممنوع من قراءة القرآن، أما الأذان والذكر والتسبيح والتهليل والتكبير فلا يمنع منه، وقد كان النبي  ﷺ يذكر الله على جميع أحيانه[(782)].

وليس للحائض أن تحضر دروس العلم في المسجد فهذا لا ينبغي، وهذه المسألة مشكلة؛ فالأولى ألا تكون دروس النساء في المسجد، بل تكون بجوار المسجد أو في مدرسة، أو لا تحضر حتى تطهر.

ويجوز لها أن تحضر مصلى العيد؛ لأن المسجد هو الذي تصلى فيه الصلوات الخمس، أما مصلى العيد فليس بمسجد.

المتن:

نَفْضِ الْيَدَيْنِ مِنْ الْغُسْلِ عَنْ الْجَنَابَةِ

 276 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ قَالَ: سَمِعْتُ الأَْعْمَشَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَتْ مَيْمُونَةُ: وَضَعْتُ لِلنَّبِيِّ  ﷺ غُسْلاً، فَسَتَرْتُهُ بِثَوْبٍ، وَصَبَّ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ، فَضَرَبَ بِيَدِهِ الأَْرْضَ فَمَسَحَهَا، ثُمَّ غَسَلَهَا، فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، ثُمَّ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ، فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا فَلَمْ يَأْخُذْهُ، فَانْطَلَقَ وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ.

الشرح:

هذه الترجمة استدل بها المؤلف رحمه الله على أنه يشرع للإنسان أن ينفض الماء بيديه ولا يتنشف، وهذا من باب الأفضلية.

 276 في الحديث من الأحكام:

 1- أنه يغسل يديه ثلاثًا.

 2- يضرب بيديه الأرض بعد الاستنجاء.

 3- يتوضأ أولاً ويؤخر القدمين.

 4- يغسل رأسه ثلاثًا.

 5- يفيض الماء على جسده.

وأتى به رحمه الله هنا؛ لبيان أن للمغتسل أن ينفض الماء بيديه ولا يتنشف، وهذا من باب الأفضلية والاستحباب.

المتن:

باب مَنْ بَدَأَ بِشِقِّ رَأْسِهِ الأَْيْمَنِ فِي الْغُسْلِ

 277 حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنَّا إِذَا أَصَابَتْ إِحْدَانَا جَنَابَةٌ أَخَذَتْ بِيَدَيْهَا ثَلاَثًا فَوْقَ رَأْسِهَا، ثُمَّ تَأْخُذُ بِيَدِهَا عَلَى شِقِّهَا الأَْيْمَنِ وَبِيَدِهَا الأُْخْرَى عَلَى شِقِّهَا الأَْيْسَرِ

الشرح:

 277 قوله: «تَأْخُذُ بِيَدِهَا عَلَى شِقِّهَا الأَْيْمَنِ» ، فيه: مشروعية البدء بالشق الأيمن في الرأس، وكذلك في الجسد، فالسنة للمغتسل أن يبدأ بشقه الأيمن ثم شقه الأيسر، وهذا هو الأفضل وهو السنة، وإلا لو بدأ بالشق الأيسر أو غسل من دون تيامن فلا بأس، ولو عمم جسده بالماء كفاه، فالغسل المجزئ هو أن يعمم بدنه مرة واحدة على أي كيفية، من دون أن ينظر إلى شقه الأيمن ولا شقه الأيسر.

المتن:

باب مَنْ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَةِ وَمَنْ تَسَتَّرَ فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ

وَقَالَ بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ: اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنْ النَّاسِ.

278 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ ابْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، وَكَانَ مُوسَى  ﷺ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلاَّ أَنَّهُ آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ؛ فَخَرَجَ مُوسَى فِي إِثْرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى؛ فَقَالُوا وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْبًا فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ ضَرْبًا بِالْحَجَرِ.

الشرح:

هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الاغتسال عريانًا، أي إذا كان وحده فهل يغتسل عريانًا أو يغتسل وقد ستر عورته بشيء من الثياب أو السراويل؟

وقد بيَّن المؤلف رحمه الله الحكم، وهو: أنه يجوز الاغتسال عريانًا إلا أن التستر أفضل، فقال: «بَاب مَنْ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِي الْخَلْوَة» يعني: فهو جائز، «فَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ» ؛ وهذا فيه نظر؛ لأنه لو اغتسل وهو عليه ثيابه لوث ثيابه وترطبت، وقد لا يكون عنده ثياب أخرى غير هذه الثياب التي عليه، وقد يكون الجو باردًا فيشق عليه فينبغي أن يحمل هذا على ما إذا كان يخشى أن يأتي أحد فيطلع على عورته، كأن يكون في الصحراء أو في بركة؛ فهذا يتستر، أما إذا كان في البيت وحده وقد أغلق باب الحمام عليه فهذا لا حاجة له إلى أن يلبس شيئًا من السراويل.

وكأن المؤلف رحمه الله أشار إلى الخلاف في هذا وأن بعض العلماء يرى أنه يجب التستر ولو أمن النظر، والصواب أنه يجوز للإنسان أن يغتسل عريانًا إذا لم يكن عنده أحد، ولا حرج في هذا.

 278 قوله: «وَكَانَ مُوسَى  ﷺ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ»، استدل المؤلف رحمه الله على الجواز بقصة موسى : أنه اغتسل عريانًا ووضع ثوبه على حجر، ففر الحجر بثوبه، وهذا من آيات الله العظيمة، وهو من المعجزات التي أيد الله بها موسى ؛ حتى يراه بنو إسرائيل؛ لأن بني إسرائيل اتهموه بأنه آدر ـ والآدر هو منتفخ الخصيتين ـ لأنه يستتر، وكانت بنو إسرائيل يتساهلون في العورات فيغتسلون وهم عراة ينظر بعضهم إلى عورات بعض، وموسى لا يوافقهم على هذا، فكان لا يتعرى أمام الناس فاتهموه فقالوا: ما يستتر موسى هذا الاستتار إلا أن به عيبًا، ولولا أن به عيبًا لاغتسل أمامنا، فأراد الله أن يبرئ موسى مما اتهموه به، فلما اغتسل عريانًا وخلع ثوبه ووضعه على حجر فر الحجر بثوبه، وهذا من قدرة الله : إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

وجعل موسى عليه الصلاة والسلام يتبع الحجر ويقول: ثَوْبِي يَا حَجَرُ؛ وفي رواية: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ [(783)] على تقدير حرف النداء، أي: ثوبي يا حجر، والمعنى: أعطني ثوبي، فعامله معاملة العاقل، حتى مر على بني إسرائيل وهو يتبع الحجر، فلما رأوه قالوا: وَاللَّهِ مَا بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، ثم بعد ذلك نزل الحجر بثوبه فضربه موسى بعصاه فأثرت هذه العصا في الحجر؛ ولهذا قال: «وَاللَّهِ إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ» ، وهذا من آيات الله، ومن تبرئة الله لموسى.

وقيل: إن قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا نزلت في ذلك، ومن إيذائهم له قولهم: إنه «آدر» .

 مسألة: هذه القصة في بني إسرائيل في شريعة موسى ، فهل يستدل بهذه القصة على أنه يجوز في شرعنا أن يغتسل المرء عريانًا؟

الجواب: أن شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يأت شرعنا بخلافه؛ فهذا هو الصواب في هذه المسألة الأصولية، والنبي  ﷺ ساق هذه القصة ولم يتعقبها، بل ساقها مقرًّا لها؛ فدل على أنه  ﷺ يؤيدها؛ فدل هذا على جواز الاغتسال عريانًا، ويؤيد ذلك أيضًا قوله تعالى في سورة الأنعام: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ۝ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ۝ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ، ثم قال بعد ذلك: أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ، فأمر الله نبيه بالاقتداء بهم، ومن الاقتداء بهم العمل بشرعهم إذا لم يخالف شرعنا، وذكر منهم موسى وأيوب ـ وقد اغتسل عريانا كما في الحديث الذي بعده ـ فدل على أن الاغتسال عريانًا ـ إذا لم يكن عنده أحد ـ لا بأس به، وهو مذهب الجمهور وهو الصواب.

وبعض العلماء يرى المنع، والبخاري رحمه الله يرى أن التستر أفضل وهذا فيه نظر، فإذا كان يخشى أن يأتيه أحد فقد تكون الأفضلية لها وجه، أما إذا كان لا يخشى أن يأتيه أحد فلا بأس بالاغتسال عريانًا، وليس هناك ما يدل على أنه خلاف الأولى.

المتن:

279 وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ قَالَ: بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ؛ فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ؛ فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ.

وَرَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ قَالَ: بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا....

الشرح:

 279 وحديث أبي هريرة فيه قصة أيوب ، وهذه القصة فيها دليل ـ كما في القصة السابقة ـ على جواز الاغتسال عريانًا؛ لأن أيوب اغتسل عريانًا، وقد أقرَّ النبي  ﷺ هذه القصة ولم يتعقبها، وإن كان هذا في شرع من قبلنا؛ فشرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يأت شرعنا بخلافه.

وفي هذه القصة أيضًا فوائد تزيد على الحكم الذي قرَّره المؤلف في الترجمة، وهو جواز الاغتسال عريانًا إذا لم يكن عنده أحد؛ فمنها:

 1- إثبات الكلام والنداء لله تعالى فأيوب كلمه الله من دون واسطة؛ ولهذا قال: فَنَادَاهُ رَبُّهُ أي: كلَّمه الله.

 2- أن قدرة الله عظيمة، فقد خلق جرادًا من ذهب فخر على أيوب وهو يغتسل، وهو على كل شيء قدير، إذا أراد أن يخلق جرادًا من ذهب أو من فضة أو من غيره فلا يعجزه شيء.

 3- قوله: فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ؛ فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ، يعني: وهذا من البركة.

 4- جواز أخذ الإنسان المال الذي يأتيه من غير سؤال ولا إشراف نفس، ويؤيد هذا ما في «الصحيحين» أن النبي  ﷺ قال: مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ [(784)] وهذا إذا لم يكن ثمنًا لدينه فإنه يرده، يعني إذا أعطي هذا المال ليتكلم كأن يعطى ليتكلم بباطل أو يسكت عن حق، كما قال بعض السلف: فإن كان ثمنًا لدينك فدعه.

 5- جواز الحلف بصفة من صفات الله؛ فإن أيوب أقسم بعزة الله قال: بَلَى وَعِزَّتِكَ، والعزة صفة من صفات الله كالعلم والقدرة والسمع والبصر، وكذلك يجوز أن يستعيذ بصفة من صفات الله فيقول: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ، وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ، وَأُحَاذِرُ [(785)]، وقد قال الله تعالى عن إبليس: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، فحلف بالعزة، وفي «الصحيحين» في قصة الرجل الذي هو آخر أهل النار خروجًا، وآخر أهل الجنة دخولاً -لما أخذ الله عليه المواثيق ألا يسأل قال: لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا [(786)].

أما دعاء الصفة ذاتها ونداؤها فلا يجوز كأن يقول: يا رحمة الله ارحميني، يا قدرة الله أنقذيني، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(787)] أنه كفر وردة.

والشاهد من الحديث: اغتسال أيوب عريانًا وإقرار النبي  ﷺ لهذه القصة، وعدم تعقيبه عليها؛ فدل على أنه لا بأس بالاغتسال عريانًا.

ويدل على هذا أيضًا ظاهر الأحاديث التي فيها أن النبي  ﷺ كان يغتسل في بيته، وكذلك أنه كان يغتسل مع بعض أزواجه، فالظاهر أنه  ﷺ كان يغتسل عريانًا؛ لأنه لم يكن عنده أحد إلا زوجه.

المتن:

باب التَّسَتُّرِ فِي الْغُسْلِ عِنْدَ النَّاسِ

 280 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ، فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟؛ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ.

الشرح:

هذه الترجمة في وجوب التستر في الغسل عند الناس، والترجمة السابقة في التستر إذا لم يكن عنده أحد، فإذا لم يكن عنده أحد جاز أن يغتسل عريانًا، وإذا كان عنده أحد، فإنه يجب عليه أن يستر ما بين السرة والركبة، ومما يؤيد ذلك قوله  ﷺ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخلن الحمام إلا بإزار [(788)]، والإزار يستر ما بين السرة والركبة، والمراد بالحمام الذي يؤجر في الأسواق، وكان موجودًا في الشام، ويكون فيها ماء حار وماء بارد، وقد يكون في الحمام مغتسل لأربعة أو خمسة أشخاص يغتسلون معا، وقد يكون عنده إنسان يدلكه، ففي هذا الحمام لابد من ستر العورة؛ لأنه ليس وحده، أما الحمامات التي في البيوت فهذه لا تسمى حمامات، ولكن تسمى مكان اغتسال، وهذا خاص بالإنسان في بيته فيغلق عليه الباب ويخلع ثوبه ولا إشكال فيه.

 280 قوله: «ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ عَامَ الْفَتْحِ» وجاءت أم هانئ ـ وهي بنت عم النبي  ﷺ بنت أبي طالب ـ فسلمت، فرد عليها السلام، وزاد في رواية أخرى «وكان ذلك ضحى، ثم صلى  ﷺ ثمان ركعات بعد هذا الاغتسال» [(789)]، فقيل: إن هذه الصلاة صلاة الضحى، وقيل: إنها صلاة شكر لله على فتح مكة.

قولها: «وَفَاطِمَةُ تَسْتُرُهُ» ، استدل المؤلف رحمه الله باغتسال النبي  ﷺ يوم الفتح وفاطمة تستره على وجوب التستر عند الناس.

قوله: مَنْ هَذِهِ؟؛ فَقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ» فيه: استحباب الاستئذان أولاً، فإذا جاء الإنسان إلى البيت يسلم ويستأذن، فإذا سئل عن اسمه يقول: فلان بن فلان، ولا يقول: أنا؛ لأنه لما جاء جابر إلى النبي  ﷺ ودق الباب فقال النبي  ﷺ: مَنْ هَذِا؟؛، فقال جابر: أنا، فقال النبي  ﷺ: أَنَا أَنَا [(790)]، يعني: كره ذلك؛ لأن «أنا» ليس فيها تعريف، فكل واحد يقول: أنا، فإذا سئل الإنسان فينبغي أن يقول: أنا فلان بن فلان، أو أنا أبو فلان، حتى يعرفه أصحاب البيت؛ وينبغي للإنسان أن يستأذن ثلاثًا، كما جاء في الحديث: الاستئذان ثلاثًا فإن أذن لك وإلا فارجع [(791)].

وكيفية الاستئذان جاءت في الحديث أنه يقول: السلام عليكم أأدخل، السلام عليكم أأدخل، السلام عليكم أأدخل، فإن أذن له وإلا ينصرف، ولا يؤذي أهل البيت [(792)] فبعض الناس يأتي إلى أهل البيت ويؤذيهم؛ فيضرب الجرس عشر مرات أو عشرين مرة، وهذا غلط وينافي الأدب، وكما قال بعض السلف: الاستئذان ثلاثا؛ الأولى ليعرفك أهل البيت، والثانية ليستعدوا، والثالثة ليأذنوا لك أو يردوك، وإذا ردوك ترجع وأنت منشرح الصدر، كما قال الله تعالى: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ؛ لأن الناس لهم حاجات، فقد يكون صاحب البيت مشغولاً، وقد يكون لا يستطيع مقابلتك في هذا الوقت، وقد يكون في الحمام، وقد يكون متعبًا، وقد يكون عنده عمل لابد أن ينجزه وليس عنده استعداد أن يقابلك فلا حرج عليه، وبعض الناس يتكلم في عرضه ويغتابه ويقول: أنا جئت من مكان بعيد وما أذن لي ولا أدخلني، وهذا غلط ينافي الأدب، وهذا كلام ربنا من فوق سبع سموات: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ، أي: هذا أطهر؛ ولهذا كان بعض السلف يتمنى أن يقال له: ارجع حتى يطبق هذه الآية، فيرجع وهو منشرح الصدر مطمئن النفس، لكن بسبب الجهل صار كثير من الناس يتجاوزون الحدود، ويعتدون، ومِن تجاوزِ الحدود: الاستئذان الكثير وإطالة المكث عند الباب وإيذاء صاحب البيت، وكل هذا مناف للأدب.

ومن آداب الاستئذان: أنه إذا رُد اعتذر لصاحب البيت، لكن الحاصل أنك تجد بعض الناس يسب صاحب البيت أو يغتابه، وكل هذا من العدوان، فالواجب على المسلم أن يتأدب بالآداب الشرعية التي أدب الله بها عباده يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ *فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ.

ويدخل في هذا: الاستئذان بالهاتف؛ فالظاهر أن هذا من جنس الاستئذان، فإن رُدَّ عليه وإلا فيتصل ثلاث مرات، ففي هذا الكفاية لا يزيد.

المتن:

281 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الأَْعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: سَتَرْتُ النَّبِيَّ  ﷺ وَهُوَ يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ، فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ صَبَّ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ فَرْجَهُ وَمَا أَصَابَهُ، ثُمَّ مَسَحَ بِيَدِهِ عَلَى الْحَائِطِ أَوْ الأَْرْضِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاَةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى جَسَدِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ.

تَابَعَهُ أَبُو عَوَانَةَ وَابْنُ فُضَيْلٍ فِي السَّتْرِ.

 الشرح:

281 قول ميمونة رضي الله عنها: «سَتَرْتُ النَّبِيَّ  ﷺ وَهُوَ يَغْتَسِلُ» هو الشاهد من الحديث، وفيه: دليل على وجوب التستر، وفي الأحاديث الأخرى أن النبي  ﷺ كان يغتسل مع أزواجه، وليس فيها «سترت» ، فيحمل هذا الحديث على أنه كان عنده أحد  ﷺ.

وفيه: أنه ضرب يده بالأرض أو الحائط بعدما غسلها من باب الاستحباب، وإلا فالماء كاف.

المتن:

باب إِذَا احْتَلَمَتْ الْمَرْأَةُ

 282 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ امْرَأَةُ أَبِي طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ.

الشرح:

 282 قوله: «هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ غُسْلٍ إِذَا هِيَ احْتَلَمَتْ؟» ، وفي رواية أخرى أن أم سلمة قالت: وتحتلم المرأة؟! فقال النبي  ﷺ: نَعَمْ، تَرِبَتْ يَمِينُكِ، فَبِمَ يُشْبِهُهَا وَلَدُهَا؟! [(793)]، وفي رواية أنها قيل لها: فضحت النساء[(794)]، فيه: دليل على أن المرأة تحتلم، ولكن كأن احتلام النساء قليل؛ ولهذا أنكرته أم سلمة، وأنكره بعض النسوة.

وفيه: فضل أم سليم؛ فقد سألت عن دينها، فينبغي للإنسان أن يسأل عما أشكل عليه ولا يستحيي، سواء كان رجلاً أو امرأة؛ ولهذا قدمت أم سليم رضي الله عنها بين يدي هذا السؤال الذي يُستحى منه بقولها: «يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ» .

قوله: «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: نَعَمْ إِذَا رَأَتْ الْمَاءَ، يعني: المني.

وفيه: دليل على أنه يجب الغسل على من احتلم؛ سواء كان رجلا أو امرأة بشرط أن يرى المني، فإذا احتلم الرجل ورأى المني وجب عليه الغسل، وإذا احتلمت المرأة ورأت المني وجب عليها الغسل، أما إذا احتلم ورأى أنه يجامع ولم ير أثر المني في ثيابه فهذا لا يجب عليه الغسل، وإذا وجد بللاً في ثيابه وتيقَّن أنه احتلام وجب عليه الغسل ولو لم ييتذكر في نومه شيئا.

وفي الحديث: إثبات الحياء لله؛ لأن النبي  ﷺ أقر أم سليم على قول: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي مِنْ الْحَقِّ» فالله تعالى يوصف بالحياء، وهو حياء يليق بجلاله وعظمته، ليس كحياء المخلوق، فصفات الله تليق به، ولا يشابهه فيها أحدٌ من خلقه، كالحياء والعلم والقدرة والسمع والبصر وغيرها، وقد جاء إثبات هذا الوصف في القرآن الكريم، فقد قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا، وقال في سورة الأحزاب: إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فالله تعالى يوصف بالحياء والمخلوق يوصف بالحياء كما وصف الله تعالى نبيه بأنه يستحيي ووصف نفسه بالحياء، ولكن حياء الخالق ليس كحياء المخلوق، كما أن علم الخالق ليس كعلم المخلوق، فالخالق له صفات تليق به، والمخلوق له صفات تليق به.

فالاحتلام لا بد فيه من رؤية المني حتى يجب الغسل، ويحمل عليه حديث: إِنَّمَا الْمَاءُ مِنَ الْمَاءِ [(795)]، أما الجماع في اليقظة فهذا لا يشترط فيه الإنزال، بل يجب الغسل بالجماع ولو لم ينزل.

والحافظ ابن حجر رحمه الله لا يثبت صفة الحياء لله ، وهو في هذا كغيره من الأشاعرة يسلك مسلك التأويل، فيؤول الحياء، والصواب إثبات الحياء لله على ما يليق بجلاله وعظمته، ليس فيه ضعف ولا نقص كحياء المخلوق.

فحياء المخلوق خلق داخلي يبعث الإنسان على فعل ما يجمله ويزينه وترك ما يدنسه ويشينه، فيبعث على فعل مكارم الأخلاق، أما الحياء الذي يمنع الإنسان من قول الحق أو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو من حضور حلقات العلم، فهذا ليس حياء وإنما هو ضعف وجبن وخور، فالحياء هو الذي يمنع الإنسان من فعل الرذائل ويحثه على فعل الفضائل.

المتن:

باب عَرَقِ الْجُنُبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ

 283 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بَكْرٌ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ  ﷺ لَقِيَهُ فِي بَعْضِ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ وَهُوَ جُنُبٌ؛ فَانْخَنَسْتُ مِنْهُ، فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ؛ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ.

الشرح:

 283 قوله: «فَانْخَنَسْتُ» الظاهر أن يقول: فانبجس، فعدل عن ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب، وهو جائز، وفي رواية: «فانبجست» ، وهو الأشهر، وانخنس: يعني تأخر وانسل منه.

قوله: «فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ» ، يعني: أن أبا هريرة لقي النبي  ﷺ وهو عليه جنابة فتحرج من ذلك، فتأخر وانسل خفية حتى ذهب واغتسل ثم جاء إلى النبي  ﷺ، فسأله النبي  ﷺ فقال: أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ وَأَنَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ؛ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ.

وهذا استدل به المؤلف رحمه الله على أن الجنب بدنه طاهر وعرقه وبصاقه ومخاطه، وكذلك الحائض عرقها وبدنها ولعابها طاهر، والنجاسة في خصوص الدم فقط.

وقوله: «إِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ» ، وصف للأغلب، وإلا فالكافر أيضًا عرقه وبدنه طاهر ليس نجسًا على الصحيح، وأما قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا، فالراجح أنها نجاسة الشرك ونجاسة الاعتقاد، أما بدنه فهو طاهر، وذهب بعض العلماء إلى نجاسة الكافر، وأن الكافر نجس العين، لكن هذا قول ضعيف شاذ، فالكافر بدنه ليس نجسًا، ومما يدل على ذلك أن الله تعالى أحل ذبائح أهل الكتاب وطعامهم فقال: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ، وأحل نساءهم، فيجوز للإنسان أن يتزوج الكتابية وهي على دينها اليهودية أو النصرانية إذا كانت عفيفة حافظة لعرضها، ومعلوم أن مخالطة الزوج لزوجته يلزم منه أن عرقها وشيء من بدنها يتصل به، والصواب أن عرق الإنسان ولعابه طاهر؛ سواء أكان مسلمًا أم كافرًا.

أما ما ورد عن أم المؤمنين أم حبيبة رضي الله عنها أنها طوت فراش النبي  ﷺ عن أبيها وقالت له: إنك نجس[(796)]، فلا ينافي ما ذهبنا إليه، فليس المقصود نجاسة العين، وإنما نجاسة الشرك، ويدل على هذا أنه حتى ولو قيل: إنه نجس، فما دام يابسًا فلا يؤثر وهو يابس ليس فيه رطوبة، فلا إشكال، وإنما مقصدها رضي الله عنها تكريم فراش النبي  ﷺ، يعني: فراش النبي مكرم، وأنت نجس؛ لأنك على شركك فلا تجلس على فراش النبي  ﷺ، وليس مرادها أن بدنه نجس، فالمراد بقوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ نجاسة الشرك والاعتقاد.

وقوله: سُبْحَانَ اللَّهِ فيه: مشروعية التسبيح عند الأمور التي يتعجب منها، فلما تعجب النبي  ﷺ قال: سُبْحَانَ اللَّهِ إِنَّ الْمُسْلِمَ لاَ يَنْجُسُ.  

المتن:

باب الْجُنُبُ يَخْرُجُ وَيَمْشِي فِي السُّوقِ وَغَيْرِهِ

وَقَالَ: عَطَاءٌ يَحْتَجِمُ الْجُنُبُ وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَهُ وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ وَإِنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ.

الشرح:

قوله: «بَاب الْجُنُبُ يَخْرُجُ وَيَمْشِي فِي السُّوقِ وَغَيْرِهِ» ، أي: فلا بأس بكون الجنب يخرج وعليه جنابة، فقد تدعو الحاجة إلى أن يخرج لقضاء بعض حوائجه، أو يحك رأسه ويقلم أظفاره ويحتجم أو أن يذهب للسوق ليشتري بعض الحوائج، وقد تدعو الحاجة إذا كان مؤذنًا أن يؤذن وهو عليه جنابة، فلا حرج في هذا كله على الصحيح، والأذان وإن كان مكثًا لكنه مكث يسير كالمرور، فإذا اضطر إلى هذا ودعت الحاجة فله أن يؤذن وعليه جنابة ثم يذهب ويغتسل ويرجع؛ لأن النبي  ﷺ كان يذكر الله على جميع أحواله[(797)]، فالجنب ممنوع من قراءة القرآن، أما التسبيح والتهليل والتكبير والذكر فلا يُمنع منه، والأذان من الذكر.

المتن:

 284 حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَْعْلَى بْنُ حَمَّادٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ  ﷺ كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ.

الشرح:

284 قوله: «كَانَ يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاحِدَةِ» . وكونه يطوف على نسائه، وهن تسع نسوة في تسع حجر في وقت واحد، فهذا من القوة التي أعطيها عليه الصلاة والسلام.

وهذا فيه: أنه إذا كان الإنسان له عدد من النساء وجامعهن في وقت واحد فلا يعتبر هذا جورًا، بل هذا من العدل، سواء أكان هذا في ساعة من الليل أو من النهار.

واستدل به المؤلف رحمه الله على جواز مشي الجنب، فالنبي  ﷺ خرج من حجرة إلى حجرة وهو جنب، فدل على الجواز؛ لأنه جامعهن بغسل واحد، لكنه كان يتوضأ عند كل واحدة، فالجنب له أن يخرج ويمشي في السوق وإن أراد أن ينام وهو جنب يتوضأ ثم ينام.

المتن:

 285 حَدَّثَنَا عَيَّاشٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَْعْلَى حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ بَكْرٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ وَأَنَا جُنُبٌ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى قَعَدَ، فَانْسَلَلْتُ فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ، فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ قَاعِدٌ، فَقَالَ: أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هِرٍّ؟ فَقُلْتُ لَهُ؛ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ! يَا أَبَا هِرٍّ إِنَّ الْمُؤْمِنَ لاَ يَنْجُسُ.  

 الشرح:

285 قوله: «فَأَتَيْتُ الرَّحْلَ» يعني: البيت.

قوله: أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هِرٍّيرَةَ؟، وفي رواية: يَا أَبَا هِرٍّ؟، [(798)] اختصار أبي هريرة، ومن ذلك قول النبي  ﷺ: يَا عَائِشَ [(799)] بحذف بعض الحروف، ويسمى هذا ترخيمًا، فلا بأس بالترخيم.

والشاهد: أن أبا هريرة خرج إلى السوق وهو عليه جنابة

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد