شعار الموقع

شرح كتاب الحيض من صحيح البخاري (6-2) باب الطِّيبِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ - إلى باب الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الإِْفَاضَةِ

00:00
00:00
تحميل
169

أما المصع فللتخفيف قبل وقت الصلاة، كما يؤيده ما سبق: «فلتقرصه، ثم لتنضحه بماء، ثم تصلي فيه» [(846)] يعني: تغسله بالماء؛ والأحاديث يفسر بعضها بعضًا.

المتن:

باب الطِّيبِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ

 313 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ قَالَ؛ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ، قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: أَوْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُ مِّ عَطِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ قَالَتْ: كُنَّا نُنْهَى أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلاَ نَكْتَحِلَ، وَلاَ نَتَطَيَّبَ، وَلاَ نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنْ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ.

قَالَ: رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ

الشرح:

 313 في حديث الباب: ذكرت أم عطية رضي الله عنها أن النساء كن ينهين على عهد النبي  ﷺ عن الإحداد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرة أيام؛ والناهي لهن هو الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا له حكم الرفع؛ لأن الصحابي أو الصحابية إذا قال: أمرنا أو نهينا، فالمراد الرسول  ﷺ، فهو الآمر الناهي المبلغ عن ربه، عليه الصلاة والسلام.

والإحداد هو: ترك الزينة وأدوات التحسين، فيجوز للمرأة أن تحد على أبيها، أو أخيها، أو ابنها ثلاثة أيام فأقل، ولا يجوز لها أن تزيد على الثلاث إلا على الزوج خاصة، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرة أيام. ويدل على هذا ما ثبت أن أم حبيبة رضي الله عنها لما توفي أبوها أبو سفيان دعت بصفرة بعد ثلاثة أيام، وقالت: «والله ما لي بالطيب من حاجة، إلا أني سمعت رسول الله  ﷺ يقول: لاَ يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلَّا عَلَى زَوْجٍ، فدهنت ومسحت عارضيها [(847)]، يعني: لكي تخرج من الإحداد، وكذلك فعلت أم سلمة.

والمحادة تراعي عدة أمور:

الأمر الأول: المكث في البيت، فلا تخرج من البيت حتى تنتهي العدة؛ لقول النبي  ﷺ لإحدى المحدات: امكثي حتى يبلغ الكتاب أجله [(848)]، ويجوز أن تخرج لعذر أو لحاجة لابد منها، كأن لا يكون عندها من يخدمها، ولا من يأتي لها بما تحتاج من طعام وشراب، فتخرج للسوق ليلاً أو نهارًا لتشتري ما يكفيها ويسد حاجتها، وكأن تخرج إذا طلبت للشهادة في المحكمة، أو لأن عليها دعوى، أو للتدريس إن كانت مدرسة، أو للتعليم، أما الزيارات والذهاب والإياب فهذه ممنوعة منها حتى تنتهي العدة.

الأمر الثاني: ترك الثياب الجميلة التي تلفت أنظار الرجال إليها، كما في هذا الحديث: «وَلاَ نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ» ؛ لأن الثوب المصبوغ فيه جمال، وثياب العصب برود من اليمن تجمع ثم تصبغ ثم تنسج.

وليس هناك اشتراط للون كما يظنه بعض العامة؛ حيث يظنون أنه لا يجوز لها أن تلبس إلا الأسود، فلها أن تلبس الأسود وغير الأسود، ولكن لا تلبس ثياب الجمال والزينة التي تلفت أنظار الرجال إليها.

الأمر الثالث: ترك الطيب، فلا تتطيب إلا إذا كانت شابة، وكانت تحيض، فيجوز لها أن تتبخر بشيء من الطيب؛ لقطع الرائحة الكريهة، كما قالت أم عطية رضي الله عنها في هذا الحديث: «رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ»، يعني: قطعة من الطيب، و «أَظْفَارٍ» ـ ويقال: ظَفار أو ظِفار ـ بلدة في السواحل اليمنية فيها شيء من طيب الهند، أو أنها نوع من الطيب.

الأمر الرابع: ترك التحلي بالذهب والفضة في يديها، أو رجليها، أو رقبتها، أو أنفها، أو أذنيها، أو ساعديها؛ فتترك جميع أنواع الحلي؛ وإذا كان عليها حلي تنزعه ولو بالقص إذا كان لا يخرج.

الأمر الخامس: ترك أدوات التجميل والتحسين، كالكحل، والحناء، وغيرها؛ ولهذا قالت أم عطية: «وَلاَ نَكْتَحِلَ» .

فهذه أمور خمسة تراعيها الحادة:

أولاً: المكث في البيت.

ثانيًا: ترك الثياب الجميلة التي تلفت أنظار الرجال.

ثالثًا: ترك أنواع الطيب.

رابعًا: ترك التحلي بكل أنواع الحلي من ذهب أو فضة.

خامسًا: ترك أدوات التحسين والجمال، كالكحل والحناء وغيرها.

والشاهد من الحديث: قول أم عطية: «وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهْرِ إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِي نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ» ؛ فدل هذا على أن الحادة إذا اغتسلت من الحيض فلها أن تتبخر بشيء من الطيب لتمام الطهر وقطع الرائحة الكريهة.

وللحادة أيضًا أن تغسل ثيابها وتنظف بدنها، ولا بأس من كونها تغير ثيابها وتستبدلها بأخرى نظيفة، ولا بأس من تجوالها في أرجاء بيتها، فلها أن تخرج إلى سطح بيتها أو فنائه أو حديقته، ولها أن تكلم الرجال إذا احتاجت إلى ذلك من غير خضوع بالقول، أو تتكلم في الهاتف أو ما أشبه ذلك، فكل هذا لا بأس به إذا دعت إليه الحاجة، وأما ما يزعمه بعض العامة من كونها لا تخرج إلى السطح، ولا تطلع للفناء، أو لا تمشي مع القمر، فكل هذا لا أصل له، وهذا من خرافات العامة.

المتن:

باب دَلْكِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إِذَا تَطَهَّرَتْ مِنْ الْمَحِيضِ

وَكَيْفَ تَغْتَسِلُ وَتَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً فَتَتَّبِعُ أَثَرَ الدَّمِ.

 314 حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ مَنْصُورِ بْنِ صَفِيَّةَ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ  ﷺ عَنْ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، قَالَ: خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ؟ قَالَ: تَطَهَّرِي بِهَا، قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي، فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَيَّ، فَقُلْتُ: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ.

الشرح:

 314 قوله: «أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ النَّبِيَّ  ﷺ عَنْ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ» فيه: دليل على أن للمرأة أن تسأل عما أشكل عليها ولو كان مما يُستحيى منه؛ للحاجة والضرورة، قالت عائشة رضي الله عنها: «نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين» [(849)] أي: عما أشكل عليهن. وقالت أم سليم رضي الله عنها: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال: نَعَمْ إِذَا رَأَتِ المَاءَ [(850)].

وهذه المرأة جاءت فسألت النبي  ﷺ عن كيفية الغسل من المحيض، فقال: خُذِي فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِي بِهَا قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ؟»، أي: أنها لم تعرف الكيفية. فقال: سُبْحَانَ اللَّهِ تَطَهَّرِي، أي أعرض النبي  ﷺ عنها ـ كما في الحديث الآخر ـ حياءً، فجذبتها عائشة رضي الله عنها، وقالت: «تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ» ؛ فعلمتها كيف تفعل.

وقوله  ﷺ: فِرْصَةً، أي: قطعة من قطن أو غيره.

وقوله: مِنْ مَسْكٍ، قال بعضهم: مَسك بفتح الميم، وهي: القطعة من الجلد؛ وهذا بعيد، والصواب مِسك بكسر الميم، ويدل على ذلك الحديث الآتي الذي يقول فيه: فِرْصَةً مُمَسَّكَةً [(851)]، وجاء في الحديث الآخر: ذريرة من طيب [(852)]، وكان النبي  ﷺ ـ كما ورد في الحديث ـ يُرى أثر المسك في مفارق رأسه ولحيته وهو محرم[(853)]، فالمراد: المسك، الذي هو نوع من الطيب.

المتن:

باب غَسْلِ الْمَحِيضِ

 315 حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ أُمِّهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الأَْنْصَارِ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ  ﷺ: كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِنْ الْمَحِيضِ؟ قَالَ: خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً، فَتَوَضَّئِي ثَلاَثًا، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ  ﷺ اسْتَحْيَا، فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ أَوْ قَالَ: تَوَضَّئِي بِهَا فَأَخَذْتُهَا، فَجَذَبْتُهَا، فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ  ﷺ.

الشرح:

 315 قوله: «فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ  ﷺ» ، يعني: بينت لها مراد النبي  ﷺ؛ فقالت لها: تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ [(855)].

وفي الحديث: دليل على دم المحيض، وعلى أن المرأة لابد لها أن تغتسل من الدم؛ أما أن تأخذ فرصة ممسكة وتتطهر بها، فتتبع بها أثر الدم، فهذا من باب الكمال، وإلا فالغسل بالماء كاف.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فَتَوَضَّئِي ثَلاَثًا، يحتمل أن يتعلق قوله: ثَلاَثًا، بـ تَوَضَّئِي، أي: كرري الوضوء ثلاثًا، ويحتمل أن يتعلق بـ «قال» ؛ ويؤيده السياق المتقدم، أي: قال لها ذلك ثلاث مرات».

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «والصحيح الذي عليه جمهور الأئمة العلماء بالحديث والفقه: أن غسل المحيض يستحب فيه استعمال المسك، بخلاف غسل الجنابة؛ والنفاس كالحيض في ذلك؛ وقد نصَّ على ذلك الشافعي وأحمد، وهما أعلم بالسنة واللغة وبألفاظ الحديث ورواياته من مثل ابن قتيبة والخطابي؛ وزعم ابن قتيبة والخطابي أن الرواية مَسك [(854)]، بفتح الميم، والمراد به الجلد الذي عليه الصوف، وأنه أمر أن تدلك به مواضع الدم».

 مسألة: والصواب: أن استعمال المسك للحائض أو النفساء إنما هو من باب الاستحباب وليس واجبًا ـ فالواجب هو الاغتسال وتعميم الجسد بالماء ـ وهو زيادة في التطهير لقطع الرائحة؛ لأن مدة الحيض ومدة النفاس قد تطول، فقد تصل في النفاس إلى أربعين يومًا، أما الجنابة فلا تحتاج شيئًا من ذلك.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «قال الإمام أحمد في رواية حنبل: يستحب للمرأة إذا هي خرجت من حيضها أن تمسك مع القطنة شيئًا من المسك؛ ليقطع عنها رائحة الدم وزفرته».

يعني تأخذ قطعة من القطن ثم تجعل فيها شيئًا من المسك فتتبع أثر الدم؛ لقطع الرائحة.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقال يعقوب بن بختان: سألت أحمد عن النفساء والحائض، كم مرة يغتسلان؟ قال: كما تغتسل الميتة. قال: وسألته عن الحائض متى توضأ؟ قال: إن شاءت توضأت إذا ابتدأت واغتسلت، وإن شاءت اغتسلت ثم توضأت، وظاهر هذا أنها مخيرة بين تقديم الوضوء وتأخيره؛ فإنه لم يرد في السنة تقديمه كما في غسل الجنابة، وإنما ورد في حديث أبي الأحوص، عن إبراهيم بن المهاجر: توضأ وتغسل رأسها وتدلكه[(856)]، بالواو، وهي لا تقتضي ترتيبًا؛ فنحصل من هذا: أن غسل الحيض والنفاس يفارق غسل الجنابة من وجوه:

أحدها: أن الوضوء في غسل الحيض لا فرق بين تقديمه وتأخيره، وغسل الجنابة السنة تقديم الوضوء فيه على الغسل.

الثاني: أن غسل الحيض يستحب أن يكون بماء وسدر، ويتأكد استعمال السدر فيه، بخلاف غسل الجنابة؛ لحديث إبراهيم بن المهاجر.

قال الميموني: قرأت على ابن حنبل: أيجزئ الحائض الغسل بالماء؟ فأملى علي: إذا لم تجد إلا وحده اغتسلت به، قال النبي  ﷺ: ماءك وسدرتك [(857)]، وهو أكثر من غسل الجنابة. قلت: فإن كانت قد اغتسلت بالماء ثم وجدته؟ قال: أحب إلي أن تعود؛ لما قال.

الثالث: أن غسل الحيض يستحب تكراره كغسل الميتة بخلاف غسل الجنابة، وهذا ظاهر كلام أحمد، ولا فرق في غسل الجنابة بين المرأة والرجل، نص عليه أحمد في رواية مهنا.

الرابع: أن غسل الحيض يستحب أن يستعمل فيه شيء من الطيب، في خرقة أو قطنة أو نحوهما، يتبع به مجاري الدم، وقد علل أحمد ذلك بأنه يقطع زفورة الدم[(858)]، وهذا هو المأخذ الصحيح عند أصحاب الشافعي أيضًا».

فهذه أربعة وجوه، و الخامس: أن الحائض وكذلك النفساء تنقض الضفائر في الغسل، وهذا واجب عند الإمام أحمد[(859)]، ومستحب عند الجمهور؛ والنبي  ﷺ قد أمر عائشة وهي محرمة أن تنقض شعرها لغسل الحج[(860)]، أما غسل الجنابة فلا يلزم فيه نقض الشعر؛ ولهذا سألت أم سلمة: فأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا [(861)]، وفي بعض الروايات: للجنابة والحيضة [(862)].

المتن:

باب امْتِشَاطِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنْ الْمَحِيضِ

 316 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَكُنْتُ مِمَّنْ تَمَتَّعَ وَلَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ، فَزَعَمَتْ أَنَّهَا حَاضَتْ وَلَمْ تَطْهُرْ حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ عَرَفَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذِهِ لَيْلَةُ عَرَفَةَ، وَإِنَّمَا كُنْتُ تَمَتَّعْتُ بِعُمْرَةٍ؟ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: انْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْتُ الْحَجَّ أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ فَأَعْمَرَنِي مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِي الَّتِي نَسَكْتُ.

الشرح:

 316 قوله: «فَكُنْتُ مِمَّنْ تَمَتَّعَ» ، كان هذا في حجة الوداع، فقد خير النبي  ﷺ أصحابه عند الميقات بين الأنساك الثلاثة، فمنهم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بحج، ومنهم من أهل بحج وعمرة، وكانت عائشة رضي الله عنها ممن أهل بالعمرة متمتعة بها إلى الحج، فلما قربت من مكة بسَرِف حاضت، فدخل عليها النبي  ﷺ وهي تبكي، فقال: مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ [(863)]، ثم استمر عليها الدم حتى جاء يوم التروية، فلما كانت ليلة عرفة قال لها النبي  ﷺ: انْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ، يعني: ولبي بالحج، فدل هذا على أن المرأة إذا نزل عليها الدم وهي متمتعة ولم تطهر حتى جاء عليها اليوم الثامن من ذي الحجة أنها تُدخل الحج على العمرة.

والمراد بالامتشاط: نقض الشعر عند الغسل باليد، ولا يلزم أن يكون بالمشط؛ لأنه يقطع الشعر ويُسقطه، وذلك محظور في الحج، فتنقض الضفائر، ثم تمشطه بأصابعها، ثم تعيد المشط مرة ثانية، وإذا سقطت بعض الشعرات فلا حرج.

وفي الحديث: دليل على أن الحائض إذا أحرمت بالعمرة، وطهرت قبل اليوم الثامن من ذي الحجة، فإنها تغتسل وتطوف، وتسعى، وتتحلل؛ وإن جاء اليوم الثامن وهي على حالها لبَّت بالحج وأدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة.

وفيه: أن النبي  ﷺ أمرها أن تغتسل مرة أخرى للحج وهي لا تزال حائضًا، وتنقض شعرها؛ وهذا وجه الدلالة من الحديث؛ فإذا كانت المرأة تؤمر بالاغتسال ونقض الشعر وهي حائض ولم تطهر وذلك لأجل الحج، فنقض الشعر والاغتسال عند الطهر من الحيض من باب أولى.

قوله: وَأَمْسِكِي عَنْ عُمْرَتِكِ، يعني: أمسكي عن أعمالها، وإلا فهي قد حَصَلت لها العمرة بأن صارت قارنة، فقد طافت طوافًا واحدًا وسعت سعيًا واحدًا لحجها وعمرتها، ثم لما كانت ليلة الحصبة ـ وليلة الحصبة هي ليلة الرابع عشر، وسميت ليلة الحصبة لأن النبي كان يبيت بالمُحَصَّب، وهو الوادي الذي فيه حصباء، وهو الأبطح الذي بين مكة ومنى، وهو يسمى الآن العزيزية ولم يعد هناك واد ولا أبطح فقد انتشر فيه البنيان ـ وكانت لم تطب نفسها قالت: «يا رسول الله يرجع صواحباتي بحج وعمرة، وأرجع بحج!» [(864)] أي: بعمرة مفردة، وإلا فقد حصلت لها العمرة مع الحج، لأنها كانت قارنة، لكنها كانت تريد عمرة مفردة عن الحج مثلما حدث لصويحباتها، فقال النبي  ﷺ لأخيها عبدالرحمن: اخرج بأختك من الحرم فلتعتمر [(865)]؛ فخرج بها إلى التنعيم، فأحرمت، واعتمرت عمرة ثانية، فحصل لها عمرتان، فدل هذا على جواز العمرتين في الشهر الواحد، فقد اعتمرت رضي الله عنها عمرتين في حدود أربعة عشر يومًا، لكن النبي  ﷺ وأصحابه لم يعتمروا؛ ولهذا اختلف أهل العلم في حكم العمرة لمن كان في مكة:

القول الأول: ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية[(866)] وابن القيم[(867)] وجماعة إلى أنه لا يشرع للإنسان أن يعتمر وهو في مكة، وإنما العمرة للداخل.

القول الثاني: ذهب جمهور العلماء إلى أنه لا بأس للإنسان أن يعتمر فيخرج ويحرم من التنعيم؛ لأن النبي  ﷺ لما أمر عائشة بذلك دل على الجواز.

تنبيه:

لكن ينبغي ألا يعتمر في وقت الزحام حتى لا يؤذي الناس، وإنما يتحين وقت خفة الزحام، وليس هناك تحديد بشهر معين؛ إذ لم يرد دليل على التحديد.

وفعل النبي  ﷺ ذلك مع عائشة رضي الله عنها تطييبًا لخاطرها، وتشريعًا للأمة، فيؤخذ منه الجواز، لكن شيخ الإسلام وابن القيم قالا: إن هذا خاص بعائشة، فالنبي ﷺ لم يعتمر ولا أحد من أصحابه، حتى أخوها عبدالرحمن لم يعتمر.

وأمر النبي  ﷺ أصحابه لما دنوا من مكة أن يجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي على سبيل التخيير، ثم لما طافوا وسعوا عند المروة ألزم الجميع بأن يتحللوا إلا من ساق الهدي.

حكم التمتع:

القول الأول: ابن عباس يرى وجوب التمتع، وأن كل من طاف وسعى حلَّ، شاء أم أبى، ويروى ذلك أيضًا عن الإمام أحمد[(868)]، وإليه يميل الشيخ ناصر الدين الألباني، ومال إليه ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، حيث قال: «وأنا أَمْيَلُ إلى قول ابن عباس منه إلى قول شيخنا»[(869)]، فشيخ الإسلام[(870)] يرى التخيير، وأن هذا الإلزام خاص بالصحابة؛ ليزول اعتقاد الجاهلية؛ لأنهم كانوا في الجاهلية يرون أن العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، فأراد النبي  ﷺ أن يزيل اعتقادهم فأمرهم أن يعتمروا.

القول الثاني: وهو قول الجمهور بالجواز، وأنه عام؛ لأن النبي  ﷺ خيرهم عند الميقات بين الأنساك الثلاثة، وأنها باقية؛ إلا أن الأفضل التمتع، ولا بأس للحاج إذا كان مفردًا، أو قارنًا، أن يأتي بعد الحج بعمرة.

المتن:

باب نَقْضِ الْمَرْأَةِ شَعَرَهَا عِنْدَ غُسْلِ الْمَحِيضِ

 317 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مُوَافِينَ لِهِلاَلِ ذِي الْحِجَّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهْلِلْ، فَإِنِّي لَوْلاَ أَنِّي أَهْدَيْتُ لَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ؛ فَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بِعُمْرَةٍ، وَأَهَلَّ بَعْضُهُمْ بِحَجٍّ، وَكُنْتُ أَنَا مِمَّنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَدْرَكَنِي يَوْمُ عَرَفَةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَشَكَوْتُ إِلَى النَّبِيِّ  ﷺ؛ فَقَالَ: دَعِي عُمْرَتَكِ، وَانْقُضِي رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِي، وَأَهِلِّي بِحَجٍّ؛ فَفَعَلْتُ حَتَّى إِذَا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ أَرْسَلَ مَعِي أَخِي عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى التَّنْعِيمِ، فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي.

قَالَ هِشَامٌ: وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ وَلاَ صَوْمٌ وَلاَ صَدَقَةٌ.

الشرح:

 317 قوله: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُهِلَّ بِعُمْرَةٍ فَلْيُهْلِلْ أي: أن هذا على سبيل التخيير، فخيرهم عند الميقات بين الإهلال بعمرة والإهلال بحج والإهلال بحج وعمرة، ففعلوا الأنساك الثلاثة؛ فمنهم من أهل بالعمرة، ومنهم من أهل بالحج، ومنهم من أهل بالحج والعمرة؛ فلما قربوا من مكة أمرهم أن يجعلوها عمرة إلا من ساق الهدي على سبيل التخيير، فلما سعوا بين الصفا والمروة ألزمهم بالتحلل إلا من ساق الهدي.

قوله: دَعِي عُمْرَتَكِ، أي: دعي أعمال العمرة، وأهلي بالحج، وإلا فالعمرة داخلة في الحج، لأنها صارت قارنة، فحصل لها بذلك عمرتان: عمرة مع الحج، وعمرة بعد الحج، وفي لفظ: ارْفِضِي عُمْرَتَكِ [(871)]، يعني: اتركي أعمالها، وأهلي بالحج، فتدخل أعمال العمرة مع أعمال الحج وتكون بذلك قارنة.

قوله: «وَلَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ هَدْيٌ وَلاَ صَوْمٌ وَلاَ صَدَقَةٌ» ، أي: أن العمرة الثانية ليس فيها هدي، ولا صوم، ولا صدقة؛ لكن لابد من الهدي للعمرة الأولى؛ لأن العمرة الأولى كانت مع الحج.

وهذا الحديث فيه أن النبي  ﷺ أمرها أن تنقض شعرها وتغتسل لأجل أن تحرم بالحج، فدل هذا على أن المرأة إذا حاضت، وقد كانت أهلت بالعمرة، ثم جاء الحج ولم تطهر بعد، تغتسل مرة أخرى للحج.

والشاهد لترجمة المؤلف رحمه الله: أنه لما أمر النبي  ﷺ عائشة رضي الله عنها أن تنقض شعرها لأجل أن تغتسل للحج، وهي بعد لم تزل محرمة، ولم يزل عليها الدم، دل ذلك على أن نقض الشعر عند الغسل من المحيض أولى وأحرى، وهذا يدل على دقة فهمه واستنباطاته. قول عائشة رضي الله عنها: «فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ مَكَانَ عُمْرَتِي» ، أي: مكان عمرتها التي أدخلت عليها الحج، وبذلك حصل لها عمرتان: عمرة القران، وعمرة مستقلة بعد الحج؛ لأنه جاء في الحديث الآخر أنها قالت: «يا رسول الله يذهب الناس بحج وعمرة وأذهب بحجة» [(872)]، يعني: متمتعات بحج وعمرة مستقلين.

المتن:

باب مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ

 318 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا يَقُولُ يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهُ قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ وَالأَْجَلُ؟ فَيُكْتَبُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ.

الشرح:

318 في الحديث: إثبات للقدر، وأن الإنسان يكتب عليه وهو في بطن أمه الرزق، والأجل، والعمل، والشقاوة، والسعادة؛ لحديث ابن مسعود في «الصحيحين»، أن الله سبحانه يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ [(873)]، فالرزق مكتوب، كمه وكيفه، وهل هو من حلال أو حرام؟ والأجل مكتوب، متى يكون أجله، وكيف سببه؟ وهل يطول عمره، أو يقصر؟ وكذلك العمل، والشقاوة، والسعادة؛ فكل شيء مكتوب.

قوله: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ هذا يتعلق بالنفساء، فالنطفة تكون في الرحم أربعين يومًا، ثم تكون علقة ـ أي: قطعة دم غليظ جامد ـ، ثم تكون مضغة ـ أي: قطعة لحم ـ، فإذا أسقطت المرأة قطعة لحم ففيه تفصيل:

ـ فإن كانت مخلقة ـ أي: تبين فيها خلق الإنسان من يد أو رجل أو رأس ـ يكون حكمها حكم النفساء، والدم دم نفاس، وما نزل منها يصلى عليه ويعق عنه ويسمى؛ لأنه إنسان.

ـ أما إذا أسقطت دمًا أو أسقطت قطعة لحم ولم يتبين فيه خلق الإنسان، فالدم الخارج منها دم فساد، فتتلجم كالمستحاضة وتصوم وتصلي؛ لأنه ليس لها حكم النفساء.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «باب مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» ، روّيناه بالإضافة، أي: باب تفسير قوله تعالى: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ، وبالتنوين، وتوجيهه ظاهر».

المتن

باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ

 319 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فَقَدِمْنَا مَكَّةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَلَمْ يُهْدِ فَلْيُحْلِلْ، وَمَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَأَهْدَى فَلاَ يُحِلُّ حَتَّى يُحِلَّ بِنَحْرِ هَدْيِهِ، وَمَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتِمَّ حَجَّهُ، قَالَتْ: فَحِضْتُ فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ وَلَمْ أُهْلِلْ إِلاَّ بِعُمْرَةٍ، فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ  ﷺ أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي، وَأَمْتَشِطَ، وَأُهِلَّ بِحَجٍّ، وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ، فَفَعَلْتُ ذَلِكَ حَتَّى قَضَيْتُ حَجِّي، فَبَعَثَ مَعِي عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَعْتَمِرَ مَكَانَ عُمْرَتِي مِنْ التَّنْعِيمِ.

الشرح:

قوله: «بَاب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ» ، أي: أن المراد بيان كيفية الإهلال، فإهلال الحائض والنفساء صحيح، فكل منهما تهل وتحرم ولو كان عليها الدم ولا شيء عليها؛ لأن أسماء بنت عميس، امرأة أبي بكر رضي الله عنهما، ولدت محمد بن أبي بكر، فأمرها النبي  ﷺ أن تستثفر بثوب وتغتسل وتهل[(874)]، فالاغتسال مشروع لكل حاج رجل أو امرأة، حتى ولو كانت المرأة حائضًا أو نفساء، لكن الحائض والنفساء ممنوعة من دخول المسجد الحرام حتى تطهر، وتفعل جميع المناسك ولو كان عليها الدم، من: الوقوف بعرفة، والمبيت بمنى، ومزدلفة، ورمي الجمار، وتقصير الشعر، وغير ذلك، إلا الطواف بالبيت، فهي ممنوعة منه حتى تطهر.

 325 في قصة عائشة رضي الله عنها: أن الصحابة رضوان الله عليهم أحرموا من ذي الحليفة، ومنهم من أهل بعمرة، ومنهم من أهل بحج، وفي اللفظ الآخر: «منا من أهل بحج وعمرة» [(875)] فكانوا ثلاثة أصناف:

الصنف الأول: أهل بعمرة، ومنهم عائشة رضي الله عنها.

الصنف الثاني: أهل بحج فقط.

الصنف الثالث: أهل بحج وعمرة.

ومنهم من ساق الهدي، ومنهم من لم يسق الهدي؛ ولهذا قال ابن عمر: «فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، ومنهم من لم يهدِ»[(876)]، فلما وصلوا إلى مكة أمرهم النبي  ﷺ أن يتحللوا بعمرة جميعًا، إلا من ساق الهدي، فلا يحل حتى ينحر هديه، ثم لما طافوا وسعوا بين الصفا والمروة ألزمهم أن يتحللوا جميعًا عند المروة، فتحللوا كلهم إلا من ساق الهدي؛ ولهذا ذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أن من طاف أو سعى فقد حل، شاء أم أبى ـ أي: يجب على الإنسان أن يتمتع إلا من ساق الهدي ـ أخذًا من كون النبي  ﷺ أمرهم، وحتم عليهم، وألزمهم بالتحلل؛ وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله[(877)]، واختاره العلامة ابن القيم رحمه الله[(878)]، وهو اختيار الشيخ محمد ناصر الدين الألباني.

أما الجمهور فيرون أن الإنسان مخير بين العمرة وبين الحج والعمرة، وبين الحج فقط؛ لأن النبي  ﷺ خيرهم في أول الأمر.

وقد بيَّن شيخ الإسلام رحمه الله إلى أن هذا الإلزام في حق الصحابة؛ حتى يزول اعتقاد الجاهلية[(879)].

وعائشة رضي الله عنها أهلت بالعمرة ولم تسق الهدي، لكنها حاضت بسَرِف، فدخل عليها النبي ﷺ وهي تبكي قال: مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟ يعني: أحضت؛ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ [(880)]، ثم أمرها النبي  ﷺ أن تنقض شعرها وتمتشط، والامتشاط لا يلزم منه كد الشعر بالمشط، وإنما المراد به إعادة إبرام الضفائر بعد نقضها.

قوله: فَلاَ يُحِلُّ من: حَل يَحلَ ـ الثلاثي ـ، وهو أفصح من: أحل يُحل ـ الرباعي ـ.

قوله: «فَأَمَرَنِي النَّبِيُّ  ﷺ أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِي، وَأَمْتَشِطَ، وَأُهِلَّ بِحَجٍّ، وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ» ، أي: أمرها النبي  ﷺ أن تترك العمرة، وتهل بالحج؛ فنقضت شعرها، واغتسلت مرة ثانية للحج، وامتشطت وأهلت بالحج، وأدخلت الحج على العمرة، ثم لما طهرت بعد ذلك طافت طوافًا واحدًا، وسعت سعيًا واحدًا لحجها وعمرتها، ولكنها مع ذلك لم تطب نفسها، كما في الحديث الآخر: قالت: «يا رسول الله يذهب الناس بعمرة وحج وأنا أذهب بحجة» [(881)] يعني: يذهبن بعمرة مستقلة؛ لأن صواحباتها طفن وسعين وقصرن وتحللن ثم أحرمن بالحج في اليوم الثامن، أما هي فما استطاعت، فقد استمر معها الدم، فأدخلت الحج على العمرة، وهي تريد عمرة مستقلة، فأمر النبي  ﷺ أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم لما انتهى الحج في الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة، فقال له النبي  ﷺ: اذهب بأختك فأعمرها من التنعيم إذا انحدَرْتَ من الأكمة، فإنها عمرة متقبلة [(882)]، فاعتمرت.

قوله: «مَكَانَ عُمْرَتِي» ، يعني: بدلاً من العمرة التي كانت أدخلت الحج عليها، فقد حصل لها العمرتان؛ عمرة مع الحج، وعمرة بعد الحج، وذلك في نحو عشرة أيام، فعائشة رضي الله عنها اعتمرت في اليوم الرابع من ذي الحجة، واعتمرت الثانية في الليلة الرابعة عشرة، فدل هذا على جواز العمرتين في الشهر الواحد، وليس لتكرار العمرة حد، واستدل بذلك الجمهور على أنه لا بأس أن يعتمر الإنسان بعد الحج، فيذهب إلى التنعيم ويعتمر، وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن هذا بدعة[(883)]، وقال: إن الرسول ﷺ والصحابة لم يعتمروا، وإنما أمر عائشة رضي الله عنها أن تعتمر تطييبًا لخاطرها.

والصواب: أنه لا بأس بالعمرة بعد الحج، لكن يستحب عدم الإكثار من العمرة في أيام موسم الحج حتى لا يضيق على الناس كما يفعله كثير من الناس من الإكثار من الاعتمار بعد الحج، فيعتمر في الصباح عمرة وفي المساء عمرة، ويقول: هذه لأبي، وهذه لزوجتي، وهذه لجدي. فيكفي الصدقة عنهم والدعاء لهم، فإذا خف الزحام في غير أيام الحج فلا بأس.

والشاهد أن الحائض والنفساء كل منهما تهل بالحج والعمرة كغيرها وتغتسل كغيرها، وإنما تمتنع من دخول المسجد الحرام حتى تطهر.

والاغتسال للإحرام على سبيل الاستحباب مثل غسل الجمعة، فالاغتسال ليس بواجب لا على من حاض من النساء ولا على غيرهن، فلو توضأ الإنسان وأحرم صح إحرامه، ولو لم يتوضأ أيضًا فلا بأس، لكن الأفضل أن يتوضأ أو يغتسل.

والصواب: عدم تقديم السعي على الطواف، فالذي عليه جمهور العلماء أنه لا يصح السعي إلا بعد الطواف المشروع في الحج.

وكون النبي  ﷺ لم يحل لا يفهم منه أن هذا هو السنة مطلقًا، فهذا بالنسبة لمن ساق الهدي، أما من لم يسق الهدي فلو طاف ورمى جمرة العقبة يوم العيد وحلق رأسه تحلل ولو لم ينحر، لكن من ساق الهدي من بلده، أو من الطريق، فلا يتحلل حتى ينحر هديه؛ ولهذا قال النبي  ﷺ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ [(884)]، والمحصر الذي مُنع من دخول مكة، أو منع من الطواف، فلا يتحلل حتى ينحر.

وكون عائشة رضي الله عنها ما طابت نفسها بالعمرة، لأنها تريد عمرة مستقلة، وإلا فقد حصلت لها العمرتان: العمرة الأولى مع حجتها، والعمرة الثانية مستقلة؛ ففي العمرة الأولى أدخلت الحج على العمرة وصارت قارنة، والقارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحج والعمرة؛ لقوله  ﷺ: دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [(885)]، أي: تداخلتا، والقارن إن أحب أن يؤخر السعي بعد طواف الإفاضة فله ذلك، فالسعي يأتي بعد طواف القدوم، أو بعد طواف الإفاضة، أو بعد طواف الوداع.

والمتمتع يطوف للعمرة، ويسعى، ويقصر، ويتحلل؛ ثم يطوف ويسعى للحج طوافًا آخر وسعيًا آخر، أما القارن، والمفرد، فما عليهما إلا طواف واحد، وسعي واحد؛ أما طوافه أول ما يقدم مكة فهو سنة، وعليه فإن جاء متأخرًا وذهب مباشرة إلى منى فليس عليه إلا طواف واحد، وهو طواف الإفاضة يوم العيد، فيدخل طواف القدوم في طواف الإفاضة، ويسقط طواف القدوم.

وإذا جاء رجل متأخرًا يوم الثامن، أو التاسع، أو ليلة العيد، وأحرم بالحج مفردًا، أو قارنًا، فإننا نقول له: اذهب إلى عرفة، فإذا نزل، وقال: أنا أريد أن أسافر قريبًا، نقول له: تبيت بمزدلفة ثم ترمي جمرة العقبة يوم العيد، ثم تبيت ليلتين وترمي اليوم الحادي عشر، والثاني عشر، ثم تنزل فتطوف سبعة أشواط، ويكون هذا الطواف للقدوم، وللإفاضة، وللوداع؛ ثم تسعى بين الصفا والمروة سعيًا واحدًا، ثم تنصرف، فما عليه إلا طواف واحد، وسعي واحد، ويكفيه.

والنية تكون لطواف الإفاضة، والباقي يدخل معها، فيدخل: الوداع، والقدوم.

وينبغي لمن لم يسق الهدي أن يجعلها عمرة ـ كما أمر الرسول أصحابه ـ فيكون متمتعًا ويتحلل، وإذا كان لا يستطيع الهدي فإنه يصوم ثلاثة أيام وسبعة في بلده، ولا يجوز أن يصوم جميع الأيام إذا رجع بلده إلا إذا كان مريضًا أو عاجزًا. وإذا لم يجد الهدي ولم يستطع الصيام حتى جاءت أيام التشريق ـ أي: إذا انقضت الأيام قبل العيد، ولم يتمكن من الصيام ـ فإنه يصوم أيام التشريق الثلاثة، ولا يحل له أن يصوم يوم العيد.

والسعي يكون بعد الطواف ولا يقدم، ولا يمنع كونه قدم الطواف أن يكون آخر عهده بالبيت؛ لأن السعي تابع للطواف.

المتن:

باب إِقْبَالِ الْمَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ

وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ فَتَقُولُ: لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنْ الْحَيْضَةِ.

وَبَلَغَ ابْنَةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نِسَاءً يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ فَقَالَتْ مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ.

الشرح:

قوله: «إِقْبَالِ الْمَحِيضِ» ، المراد به: خروج الدم بكثرة، «وَإِدْبَارِهِ» انتهاؤه، ويعرف بأحد أمرين:

الأول: بالقصة البيضاء ، وهو ماء أبيض يخرج بعد انتهاء الحيض، وهو علامة على الطهر.

الثاني: بالجفاف ، وهو أن تحتشي بقطنة فتخرج القطنة بيضاء ليس فيها أذى.

قوله: «وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرَجَةِ فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ فَتَقُولُ: لاَ تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ» أي: أنه لا ينبغي للمرأة أن يحملها حبها لفعل الخير والصلاة مع الناس ـ ولا سيما في رمضان ـ أن تستعجل فتغتسل قبل أن ترى الطهر.

قوله: «وَبَلَغَ ابْنَةَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ نِسَاءً يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ فَقَالَتْ مَا كَانَ النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ» يعني: ما كان نساء الصحابة يفعلن ذلك، فهذا من التنطع والتكلف، ويكفيها إذا جاء وقت الصلاة أن تحتشي بقطنة، فإذا رأت القطنة بيضاء نقية فهذا دليل على الطهر، ولا تحتاج إلى الإتيان بالمصابيح.

المتن:

320 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ كَانَتْ تُسْتَحَاضُ فَسَأَلَتْ النَّبِيَّ  ﷺ فَقَالَ: ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي.

الشرح:

 320 في حديث فاطمة بنت أبي حبيش أن النبي  ﷺ قال: فَإِذَا أَقْبَلَتْ الْحَيْضَةُ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْتَسِلِي وَصَلِّي، أي: فإذا أقبلت الحيضة بأن جاء الوقت الذي ينزل فيه الدم فإنها تدع الصلاة، فإذا انتهت وأدبرت ورأت الطهر اغتسلت وصلت، وإذا كانت معتادة فتعمل بعادتها، أما إذا كانت غير معتادة فتعمل بالتمييز الصالح؛ أي: أنها إذا كانت تميز ـ وكان الدم مستمرًّا ـ فإذا جاء دم الحيض أسود ثخينًا تركت الصلاة، وإذا ذهب وجاءت الصفرة والكدرة اغتسلت وصلت، وهذا إذا كانت لا تعرف عادتها، وإلا فالعادة مقدمة.

أما إذا كانت المرأة لا عادة لها، وليس لها تمييز صالح، فتسمى المتحيرة، وهذه تعمل بعادة نسائها، فإذا كانت تعرف بداية الحيض فإنها تجلس منذ بدايته ستة أيام، أو سبعة أيام على عادة نسائها، فإن لم تعلم الوقت الذي جاءها فيه فمن أول كل شهر هلالي.

والصواب: أن ما يأتي المرأة من الدماء الأصل فيه أن يكون دم حيض، وما جاءها قبل تسع سنين فليس من دم الحيض، وإنما هو دم فساد، ودم الحيض قد يستمر إلى نصف شهر، أي: ما يقارب خمسة عشر يومًا، فإذا مضت واستمر الدم تعتبره استحاضة.

وإذا انتهت أيام عادة المرأة ورأت القصة البيضاء فهذا هو الطهر فتغتسل وتصوم وتصلي، فإذا رجع الدم إليها، فإن كان صفرة أو كدرة فلا تلتفت إليه؛ لحديث أم عطية قالت: «كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا» [(886)]، فإن كان غير الكدرة أو الصفرة فإنها تجلس خمسة عشر يومًا فإن زاد اعتبرته استحاضة.

المتن:

 لاَ تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّلاَةَ

وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو سَعِيدٍ: عَنْ النَّبِيِّ  ﷺ تَدَعُ الصَّلاَةَ.

 321 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: حَدَّثَتْنِي مُعَاذَةُ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ: أَتَجْزِي إِحْدَانَا صَلاَتَهَا إِذَا طَهُرَتْ؟ فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ كُنَّا نَحِيضُ مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ فَلاَ يَأْمُرُنَا بِهِ، أَوْ قَالَتْ: فَلاَ نَفْعَلُهُ.

الشرح:

 321 قوله: «أَتَجْزِي» يعني: أتقضي.

والمرأة الحائض لا تقضي الصلاة وإنما تقضي الصوم، وهذا مجمع عليه بين العلماء، كما قال ذلك الزهري وابن المنذر، خلافًا للخوارج؛ فإن الخوارج يرون أن المرأة تقضي الصلاة؛ لأنهم لا يعملون بالسنة إذا زادت على القرآن بزعمهم.

والخوارج فرقة ضالة مارقة، كفَّرهم بعض العلماء، لكن جمهور العلماء على أنهم فساق وليسوا كفارًا؛ لأنهم متأولون.

قوله: «أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟» يعني: هل أنت من الخوارج الذين يسكنون بلدة حروراء؟! وهي قرية قرب الكوفة سكنها الخوارج.

قوله: «كُنَّا نَحِيضُ مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ فَلاَ يَأْمُرُنَا بِهِ» ، وفي رواية: «كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة» [(887)]، فدل على أن الحائض لا تقضي الصلاة وتقضي الصوم، وهذا من إحسان الله تعالى وفضله على عباده؛ لأن الصلاة تتكرر في اليوم والليلة خمس مرات، فلو أمرت بقضائها لشق عليها ذلك، بخلاف الصوم فإنه لا يجب إلا مرة في السنة فلا يشق قضاؤه.

يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقد استحب لها طائفة من السلف أن تتوضأ في وقت كل صلاة مفروضة، وتستقبل القبلة، وتذكر الله بمقدار تلك الصلاة، منهم: الحسن وعطاء وأبو جعفر محمد بن علي، وهو قول إسحاق. وروي عن عقبة بن عامر أنه كان يأمر الحائض بذلك، وأن تجلس بفناء مسجدها، خرجه الجوزجاني، وقال مكحول: كان ذلك من هدي نساء المسلمين في أيام حيضهن، وأنكر ذلك أكثر العلماء».

وهذا ـ الإنكار ـ هو الصواب؛ فالاستحباب حكم شرعي يحتاج إلى دليل، وليس هناك دليل على أنه يستحب للحائض أن تتوضأ وتستقبل القبلة، فهذا اجتهاد من بعض العلماء، لكنه اجتهاد خاطئ، وقد أنكر ذلك أكثر العلماء.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقال أبو قلابة: قد سألنا عن هذا فما وجدنا له أصلاً. خرجه حرب الكرماني، وقال سعيد بن عبدالعزيز: ما نعرف هذا ولكننا نكرهه، قال ابن عبدالبر: على هذا القول جماعة الفقهاء وعامة العلماء في الأمصار».

أي: على الكراهة، وهو الصواب، فاستحبابهم ليس عليه دليل، فالله تعالى سامحها فلا شيء عليها ولا بدل.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وممن قال: ليس ذلك على الحائض: الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك، وكذلك قال أحمد: ليس عليها ذلك، ولا بأس أن تسبح وتهلل وتكبر».

أي: في كل وقت ـ سواء في وقت الصلاة أو في غير وقتها ـ تهلل وتسبح وتذكرالله، بل وتقرأ القرآن عن ظهر قلب عند فريق من العلماء.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقال أبو خيثمة، وسليمان بن داود الهاشمي، وأبو ثور، وأصحاب الشافعي، وزادوا: أنه يحرم عليها الوضوء إذا قصدت به العبادة ورفع الحدث، وإنما يجوز لها أن تغتسل أغسال الحج؛ لأنه لا يراد بها رفع الحدث، بل النظافة».

المتن:

باب النَّوْمِ مَعَ الْحَائِضِ وَهِيَ فِي ثِيَابِهَا

 322 حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ حَدَّثَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: حِضْتُ وَأَنَا مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ فِي الْخَمِيلَةِ فَانْسَلَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْهَا فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي، فَلَبِسْتُهَا؛ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: أَنُفِسْتِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي فَأَدْخَلَنِي مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ، قَالَتْ: وَحَدَّثَتْنِي أَنَّ النَّبِيَّ  ﷺ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ، وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ  ﷺ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ الْجَنَابَةِ.

الشرح:

 322 قولها: «فَانْسَلَلْتُ فَخَرَجْتُ مِنْهَا فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي» ، بكسر الحاء أو بفتحها فالحِيضة والحَيضة وجهان، وهذا فيه: دليل على جواز النوم مع الحائض، وكذلك النفساء، ولا بأس أن يقبلها ويضمها إليه ويستمتع بها في كل شيء إلا الجماع؛ فالجماع ممنوع كما في «صحيح مسلم» عن عائشة رضي الله عنها أن النبي  ﷺ قال: اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ [(888)]، يعني: إلا الجماع.

والحائض بدنها طاهر، وثيابها طاهرة، وعرقها طاهر، وريقها طاهر؛ والنجاسة تخص الدم فقط.

قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ  ﷺ كَانَ يُقَبِّلُهَا وَهُوَ صَائِمٌ» ، فيه: دليل على أنه يجوز للصائم أن يقبل زوجته بالفم، إلا إذا كان لا يصبر، وخشي فوران الشهوة، فإنه يمتنع سدًّا لذريعة المحرم؛ ولهذا قالت عائشة: كان النبي  ﷺ يباشر وهو صائم، ويقبل وهو صائم، وكان أملككم لإربه[(889)]، أي: كان مالكًا لنفسه، فإذا كان الإنسان يملك نفسه ولا يخشى أن يخرج منه شيء، ولا أن يقع في المحرم جاز له أن يقبل وهو صائم، أما إذا خشي خروج المني أو المذي، أو خشي أنه لا يصبر فليترك ذلك سدًّا للذريعة؛ لأنه إذا خرج منه مني بطل الصوم بالاتفاق، وفي الحكم إذا خرج المذي فيه خلاف، ففي المذهب أن المذي يبطل الصوم ويقضي ذلك اليوم، وقيل: إنه لا يقضيه.

قوله: «وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِيُّ  ﷺ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ» ، فيه: دليل على جواز اغتسال الرجل مع زوجته من إناء واحد.

المتن:

باب مَنْ اتَّخَذَ ثِيَابَ الْحَيْضِ سِوَى ثِيَابِ الطُّهْرِ

 323 حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيلَةٍ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي؛ فَقَالَ: أَنُفِسْتِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِي، فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ.

الشرح:

 323 قوله: «فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِي» فيه: دليل على جواز اتخاذ المرأة ثيابًا خاصة للحيض؛ لأن النبي  ﷺ لم ينكر عليها، وإذا لم تتخذ ثيابًا خاصة فلا بأس، ويجوز لها أن تصلي في ثوبها الذي حاضت فيه إن لم يصبه شيء من الدم، وإن أصابه شيء غسلته.

قوله  ﷺ: أَنُفِسْتِ؟ فيه: دليل على أن الحيض يسمى نفاسًا.

وقوله: «فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الْخَمِيلَةِ» ، فيه: دليل على جواز النوم مع الحائض، والاستمتاع به دون الفرج، ودخولها مع زوجها تحت لحاف واحد؛ فكل هذا لا بأس به.

المتن:

باب شُهُودِ الْحَائِضِ الْعِيدَيْنِ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى

 324 حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا، وَكَانَ زَوْجُ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ ثِنْتَيْ عَشَرَةَ، وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتٍّ، قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى، وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى، فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ  ﷺ أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لاَ تَخْرُجَ؟ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ سَأَلْتُهَا أَسَمِعْتِ النَّبِيَّ  ﷺ؟ قَالَتْ: بِأَبِي نَعَمْ، وَكَانَتْ لاَ تَذْكُرُهُ إِلاَّ قَالَتْ: بِأَبِي، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى، قَالَتْ: حَفْصَةُ فَقُلْتُ: الْحُيَّضُ، فَقَالَتْ: أَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَكَذَا وَكَذَا.

الشرح:

 324 قوله  ﷺ: وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، فيه: دليل على جواز شهود الحائض العيد، وسماع الخطبة، والتأمين على الدعاء، لكنها لا تصلي مع الناس. 

وقول النبي  ﷺ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا، ردًّا على من قالت: «أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لاَ تَخْرُجَ؟» واستدل به بعضهم على أن صلاة العيد فرض كشيخ الإسلام ابن تيمية[(891)]، وغيره، وأنها فرض السَّنة كما أن الصلوات الخمس فرض، اليوم والليلة؛ ولهذا أمر النبي  ﷺ بإخراج النساء العواتق، وذوات الخدور، والشابات، والأبكار، لصلاة العيد، حتى إذا لم يكن لإحداهن جلباب ألبستها أختها من جلبابها، فدل على وجوب صلاة العيد.

والسنة في صلاة العيد والاستسقاء أن تكون في صحراء قريبة من البلد وليس في المسجد، وكان النبي  ﷺ يصلي العيد في المصلى[(890)]، فكانت النساء تأتي للمصلى ـ والمصلى ليس له حكم المسجد ـ وهن طاهرات يتقدمن بعد الرجال، والْحُيَّض يكن خلفهن، يسمعن الخطبة والدعاء والتأمين.

أما إذا كانت صلاة العيد في المسجد فلا تدخل الحائض المسجد، بل تكون خلف المسجدز

قوله: «كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى» ، أي: المرضى، وهذا فيه: دليل على جواز خروج النساء في الجهاد لمداواة الجرحى وسقيهم، وصنع الطعام ومناولة السلاح، ولكن لا تشارك في القتال، أما إذا جاءها أحد من الأعداء فعليها أن تدافع عن نفسها، كما ورد عن بعض الصحابيات أنها أخذت خنجرًا وقالت: «إن جاءني أحد من الكفار بقرت به بطنه» فلها أن تدافع عن نفسها ولكن لا تشارك في القتال ابتداء.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وأما أمر الحائض باعتزال المصلى، فقد قيل: بأن مصلى العيدين مسجد، فلا يجوز للحائض المكث فيه، وهو ظاهر كلام بعض أصحابنا، منهم: ابن أبي موسى في «شرح الخرقي»، وهو ـ أيضًا ـ أحد الوجهين للشافعية، والصحيح عندهم: أنه ليس بمسجد، فللجنب والحائض المكث فيه».

والصواب: أن المكان الذي يصلى فيه العيد والاستسقاء ليس بمسجد؛ فيجوز أن يمكث فيه الجنب والحائض، فالمسجد هو الذي تقام فيه الصلوات الخمس، وهو الذي له تحية، أما مصلى العيد فلا تحية له.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وأجابوا عن حديث الأمر باعتزال الحيض المصلى: بأن المراد أن يتسع لغيرهن ويتميزن. وفي هذا نظر؛ فإن تميز الحائض عن غيرها من النساء في مجلس وغيره ليس بمشروع، وإنما المشروع تميز النساء عن الرجال جملة؛ فإن اختلاطهن بالرجال يخشى منه وقوع المفاسد. وقد قيل: إن المصلى يكون له حكم المساجد في يوم العيدين خاصة، في حال اجتماع الناس فيه دون غيره من الأوقات. وفي ذلك أيضًا نظر، والله أعلم».

والحديث ظاهره أن الحائض لها أن تمكث في المصلى؛ فليس فيه أمر لها بالتميز، وإنما تبتعد عن النساء حتى لا تقطع الصفوف.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «والأظهر: أن أمر الحيض باعتزال المصلى إنما هو حال الصلاة؛ ليتسع على النساء الطاهرات مكان صلاتهن، ثم يختلطن بهن في سماع الخطبة».

وهذا الحديث فيه: دليل على أن النبي  ﷺ كان يعتني بصلاة العيد حتى إنه كان يأمر بإخراج العواتق وذوات الخدور ـ يعني الشابات اللاتي بلغن أو قاربن البلوغ ليحضرن صلاة العيد.

المتن:

باب إِذَا حَاضَتْ فِي شَهْرٍ ثَلاَثَ حِيَضٍ

وَمَا يُصَدَّقُ النِّسَاءُ فِي الْحَيْضِ وَالْحَمْلِ فِيمَا يُمْكِنُ مِنْ الْحَيْضِ

لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ

وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ إِنْ امْرَأَةٌ جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلاَثًا فِي شَهْرٍ صُدِّقَتْ.

وَقَالَ عَطَاءٌ: أَقْرَاؤُهَا مَا كَانَتْ وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ.

وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَيْضُ يَوْمٌ إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ.

وَقَالَ مُعْتَمِرٌ: عَنْ أَبِيهِ سَأَلْتُ ابْنَ سِيرِينَ عَنْ الْمَرْأَةِ تَرَى الدَّمَ بَعْدَ قُرْئِهَا بِخَمْسَةِ أَيَّامٍ؛ قَالَ: النِّسَاءُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ.

الشرح:

قوله: «وَقَالَ عَطَاءٌ: الْحَيْضُ يَوْمٌ إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ» ، أي: أن الدم يعتبر حيضًا إلى خمسة عشر يومًا، وهذا هو رأي جمهور العلماء، فالصواب أن الأصل في الدماء التي تصيب المرأة أنها تكون للحيض، وإذا جاوز خمسة عشر يومًا تعتبره استحاضة، فإذا كان لها عادة خمسة أيام مثلاً ثم استمر الدم معها فلا تتعجل لأن العادة قد تزيد، فتجلس حتى تصل إلى خمسة عشر، وما زاد عن ذلك تعتبره استحاضة.

وقد تحيض المرأة في شهر ثلاث حيض، كما روي عن علي  أنه سئل عن امرأة حاضت في شهر ثلاث حيض؟ فقال لشريح: اقض فيها. قال: أقضي فيها وأنت حاضر؟! قال: نعم. قال: «يا أمير المؤمنين، إن جاءت ببينة من بطانة أهلها ممن يرضى دينه أنها حاضت ثلاثًا في شهر صدقت. فقال علي: قالون» ، يعني: جيد ـ بالرومية ـ. والمعنى: أنها قد تحيض في الشهر ثلاث حيض، وهذا مبني على أن أقل الحيض يوم، وأقل الطهر ثلاثة عشر يومًا، فتكون حاضت يومًا وليلة، وطهرت ثلاثة عشر يومًا، فهذه أربعة عشر يومًا، ثم حاضت الحيضة الثانية في اليوم الخامس عشر، ثم طهرت ثلاثة عشر يومًا، فهذه ثمانية وعشرون يومًا، ثم حاضت في اليوم التاسع والعشرين، فتكون في شهر واحد قد حاضت ثلاث حيض وخرجت من العدة، لكن هذا قليل نادر، فالغالب أن المرأة تحيض في كل شهر مرة، وأنها تحيض خمسة أو ستة أو سبعة أيام وبقية الشهر طهر.

قوله: «بَعْدَ قُرْئِهَا» : القرء عند الحنابلة[(892)] والأحناف[(893)] هو الحيض، وعند الشافعية[(894)] هو الطهر، والصواب: أن القرء هو الحيض؛ لقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ، فالمرأة تعتد بثلاث حيض، وعلى رأي الشافعية تعتد بثلاثة أطهار.

المتن:

325 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِي حُبَيْشٍ سَأَلَتْ النَّبِيَّ  ﷺ قَالَتْ: إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ: لاَ إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ وَلَكِنْ دَعِي الصَّلاَةَ قَدْرَ الأَْيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي.

 الشرح:

325 قوله  ﷺ: دَعِي الصَّلاَةَ قَدْرَ الأَْيَّامِ الَّتِي كُنْتِ تَحِيضِينَ فِيهَا ثُمَّ اغْتَسِلِي وَصَلِّي، معناه: أن هذا الأمر موكول إليها؛ حيث ردها النبي  ﷺ إلى عادتها ووكلها إلى أمانتها فما دامت معتادة تعرف أيامها، تدع الصلاة قدر عادتها ثم تغتسل وتستثفر بثوب وتصلي، وتعتبر ما سبق من الأيام من الحيض.

المتن:

باب الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ

 326 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كُنَّا لاَ نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ شَيْئًا.

الشرح:

 326 قوله: «كُنَّا لاَ نَعُدُّ الْكُدْرَةَ وَالصُّفْرَةَ شَيْئًا» ، يعني: بعد الطهر، فإذا رأت القصة البيضاء واغتسلت، ثم رأت الكدرة أو الصفرة فلا تعتد بهما؛ جمعًا بين هذا الحديث وبين قول عائشة: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء[(895)].

المتن:

باب عِرْقِ الاِسْتِحَاضَةِ

 327 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ وَعَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ  ﷺ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ؛ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ عَنْ ذَلِكَ؛ فَأَمَرَهَا أَنْ تَغْتَسِلَ؛ فَقَالَ: هَذَا عِرْقٌ؛ فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاَةٍ.

الشرح:

 327 قوله: «فَكَانَتْ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاَةٍ» ، هذا للاستحباب، جمعًا بين حديث أم حبيبة هذا وحديث فاطمة بنت أبي حبيش، فإن النبي  ﷺ قال لها: وَتَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلَاةٍ [(896)]، فالمستحاضة يجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة، أما الغسل فهو مستحب للمستحاضة وليس بواجب، ولا يجب الغسل إلا إذا طهرت من الحيض.

المتن:

باب الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الإِْفَاضَةِ

 328 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ  ﷺ، أَنَّهَا قَالَتْ: لِرَسُولِ اللَّهِ  ﷺ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ؛ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا أَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ مَعَكُنَّ؟ فَقَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَاخْرُجِي.

 329 حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا حَاضَتْ.

 330 وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ إِنَّهَا لاَ تَنْفِرُ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تَنْفِرُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ رَخَّصَ لَهُنَّ.

الشرح:

 328 في الحديث: دليل على أن المرأة الحاجَّة إذا حاضت قبل طواف الإفاضة حبست رفقتها؛ ولهذا قال النبي  ﷺ: لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا، وفي رواية: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟! [(897)]، أما إذا طافت طواف الإفاضة ثم حاضت، فإنه يسقط عنها طواف الوداع، يقول النبي  ﷺ: فلتنفر إذن [(898)]، ولقول ابن عباس رضي الله عنهما: أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خُفِّف عن الحائض[(899)].

فالحائض يسقط عنها طواف الوداع، أما طواف الإفاضة فلا يسقط عنها؛ فلذلك تحبس الرفقة، وتحبس وليها معها؛ لأنه ليس لها أن تترك الطواف، وثمت صورتان:

الصورة الأولى: إن كانت لا تستطيع البقاء في مكة وكانت من مكان قريب ذهب بها وليها إلى بلدتها ثم إذا طهرت واغتسلت جاء بها لتطوف طواف الإفاضة.

الصورة الثانية: إذا كانت لا تستطيع البقاء في مكة، وجاءت من مكان بعيد ـ كإندونيسيا مثلا ـ فهذه للعلماء فيها قولان:

القول الأول: أنها تكون محصرة، فإن كانت اشترطت: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني تحللت ورجعت، وإن لم تكن اشترطت تكون محصرة ممنوعة شرعًا من الوصول إلى البيت، فتذبح ذبيحة في مكانها، وتتحلل ويبقى الحج في ذمتها.

القول الثاني: أنها تتوضأ وتتلجم وتطوف، ويكون حكمها حكم المستحاضة، وحكم من به جروح سيالة، ومن به سلس بول؛ لأنها مضطرة، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(900)].

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد