شعار الموقع

شرح كتاب التيمم من صحيح البخاري (7-1) من بداية كتاب التيمم - إلى باب الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ يَكْفِيهِ مِنْ الْمَاءِ

00:00
00:00
تحميل
179

المتن:

(7) كِتَاب الْتَّيَمُّم

قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ

 334 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ  ﷺ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ انْقَطَعَ عِقْدٌ لِي فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ عَلَى الْتِمَاسِهِ وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلاَ تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ  ﷺ وَالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ  ﷺ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِي قَدْ نَامَ فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ! فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِي أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِي بِيَدِهِ فِي خَاصِرَتِي، فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ عَلَى فَخِذِي، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا. فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِي كُنْتُ عَلَيْهِ فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ.

الشرح:

جاء المؤلف رحمه الله بكتاب التيمم بعد أبواب الطهارة؛ لأن التيمم بدل من طهارة الماء.

والتيمم لغة: معناه القصد، كما في قول امرئ القيس:

تَيَمَّمْتُهَا مِنْ أَذْرِعَاتٍ وَأَهْلُهَا بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي

فقوله: تيممتها يعني: قصدتها.

وشرعًا: القصد إلى الصعيد، ومسح الوجه واليدين عند فقد الماء، أو العجز عن استعماله.

وصدّر المؤلف رحمه الله كتاب التيمم بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ؛ لأن الآية فيها دليل على أن التيمم يكون عند فقد الماء.

 334 في الحديث: أنهم أقاموا في مكان ليسوا على ماء وليس معهم ماء، فأنزل الله سبحانه آية التيمم.

وهذا الحديث فيه فوائد:

 1- وهو أهمها: مناسبة الحديث للترجمة، وهو مشروعية التيمم عند فقد الماء، وكذا عند العجز عن استعماله، كالخوف من زيادة المرض باستعمال الماء، أو الخوف من العطش والهلاك إذا كان ما معه من ماء لا يكفي إلا لشربه وشرب دوابه، وكذلك إذا خاف من البرد بأن كان عليه جنابة في يوم شديد البرودة.

أما من فقد الماء والتراب فإنه يصلي على حسب حاله، كالمحبوس في مكان لا تراب فيه ولا ماء، وكالمريض العاجز عن استعمال الماء وليس عنده تراب.

 2- عناية أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالنبي  ﷺ؛ حيث طعنها أبوها في خاصرتها ـ والخصر: مؤخر الأضلاع ـ فحرصت على ألا تتحرك؛ لمكان النبي  ﷺ؛ حيث كان نائمًا على فخذها، قالت: «فَلاَ يَمْنَعُنِي مِنْ التَّحَرُّكِ إِلاَّ مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ عَلَى فَخِذِي» .

 3- أنه لا بأس أن ينام الرجل على فخذ امرأته ولو دخل عليه بعض محارمها؛ لأن النبي  ﷺ نام على فخذ عائشة ودخل أبو بكر وهو على حاله.

 4- معاتبة الرجل ابنته وتأديبها ولو كانت كبيرة.

 5- جواز شكوى الناس إلى والد المرأة ولو كانت ذات زوج؛ ولهذا شكا الناس عائشة إلى أبي بكر رضي الله عنهما.

 6- أن الرسول  ﷺ لا يعلم الغيب، فلو كان الرسول  ﷺ يعلم الغيب لعلم أن العقد تحت البعير.

 7- استحباب عناية الإمام بأمور رعيته؛ فقد أقام النبي  ﷺ من أجل التماس عقد لعائشة رضي الله عنها.

 8- في قوله: «فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ» أن بعض الناس مبارك ـ كآل أبي بكر ـ وبعض الناس مشؤوم؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثَةٍ [(902)]، وفي لفظ: إن يكن الشؤم ففي ثلاث: المرأة والدار والفرس أو الدابة [(903)].

 9- أنه لا بأس أن يقال: هذا من بركتك ـ أو ما هي بأول بركتك ـ للشخص الصالح المبارك، يعني إن هذا من البركة التي جعلها الله فيه، بسبب علمه، أو أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، أو إحسانه ونفقته على الناس، أو بر الوالدين وصلة الرحم، أو اجتهاده في عبادة ربه.

فكل هذه الفوائد مأخوذة من الحديث.

المتن:

335 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ َح قَال: وحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ النَّضْرِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَيَّارٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ الْفَقِيرُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ  ﷺ قَالَ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأَِحَدٍ قَبْلِي، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً.

 الشرح:

335 قوله في سند الحديث: «يَزِيدُ هُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ الْفَقِيرُ» ، سمي الفقير لألم في فقار ظهره، وليس من أجل الفقر[(904)].

قوله: أُعْطِيتُ خَمْسًا هذه الخصال للنبي  ﷺ:

الخصلة الأولى: قوله: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، يعني: أن العدو يخافه ويهابه وبينه وبينه مسافة شهر. وقيل: إن هذه الخصلة له ولأمته  ﷺ.

الخصلة الثانية: قوله: وَجُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وهذا هو الشاهد من الحديث، مَسْجِدًا، يعني: مكانًا للسجود، فكل الأرض تصلح للصلاة، وَطَهُورًا أي: وتربتها طاهرة تصلح للتيمم بها. وهذا من خصائص هذه الأمة، وأما الأمم السابقة فكانت لهم أماكن خاصة للصلاة والتعبد، أما هذه الأمة فيصلون في كل مكان من الأرض؛ ولذا قال: فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ.

الخصلة الثالثة: قوله: وَأُحِلَّتْ لِي الْمَغَانِمُ، فقد كانت محرمة على الأمم السابقة، حيث كانوا يجمعونها وتأتي نار فتأكلها، وأكل النار لها كان علامة على القبول.

الخصلة الرابعة: قوله: وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، والمراد بها: الشفاعة العظمى، أي: الشفاعة في أهل الموقف جميعًا مؤمنهم وكافرهم، وهذه من خصائص النبي  ﷺ.

الخصلة الخامسة: قوله: وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً، فالنبي  ﷺ بعثته عامة للعرب والعجم، وللإنس والجن؛ أما الأنبياء السابقون فكان كل نبي منهم يُبعث إلى قومه خاصة.

ـ وقد جاء في حديث آخر زيادة على هذه الخمس، ففي بعض الروايات: أعطيت ستًّا منها: وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ [(905)]، وهناك أيضًا زيادات أخر جاءت في أحاديث أخر.

والشاهد هنا قوله: وَجُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، ففيه: دليل على أن تربة الأرض طاهرة يتيمم بها في أي مكان.

المتن:

باب إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلاَ تُرَابًا

الشرح:

قوله: «بَاب إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلاَ تُرَابًا» ، يعني: إذا لم يجد ماء ولا ترابًا ماذا يفعل هل يصلي أو لا يصلي؟

ومثال ذلك: إنسان مريض في المشفى ليس عنده ماء ولا تراب، أو لا يقدر على استعماله، أو إنسان محبوس في مكان ليس عنده ماء ولا تراب، أو لا يقدر على استعماله.

والمسألة فيها خلاف، والمؤلف أطلق المسألة وترك الحكم حتى يُتأمل ويُستنبط من الأحاديث.

المتن:

336 حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلاَدَةً فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ رَجُلاً فَوَجَدَهَا، فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلاَةُ وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ فَصَلَّوْا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا؛ فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا.

الشرح:

336 في الحديث قصة عائشة رضي الله عنها وأنها استعارت قلادة من أختها أسماء، وهذا فيه: أنه لا بأس باستعارة المرأة من أختها أو من غيرها إذا كان بعد استئذان زوجها.

وفيه: أنه ينبغي التماس المال وعدم إضاعته؛ لأن المال له شأن وهو عصب الحياة، والله تعالى يقول: وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا، ولهذا لما ضاعت القلادة أمر النبي  ﷺ رجلاً أن يلتمسها.

وفيه: أنه ينبغي للإمام أن يعتني بحوائج رعيته.

قوله: «فَأَدْرَكَتْهُمْ الصَّلاَةُ» ، أي: حان وقت الصلاة وليس عندهم ماء ولم يشرع التيمم.

قوله: «فَصَلَّوْا» أي بغير: ماء ولا تيمم، فلما جاء النبي  ﷺ شكوا ذلك إليه، «فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا؛ فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا»

وهذا الحديث فيه: دليل على أن فاقد الماء والتراب يصلي؛ لأن الصحابة صلوا بغير ماء وكان التيمم لم يشرع بعد، فعدم شرعية التيمم مع فقد الماء ينزل منزلة فاقد الماء والتيمم؛ ولهذا إذا فقد الإنسان الماء والتراب ـ كالمريض في المشفى أو كالمحبوس الذي ليس عنده ماء ولا تراب أو كالمحمول على خشبة ـ وجاء وقت الصلاة، فإنه يصلي بالنية بغير ماء ولا تراب وصلاته صحيحة ولا يعيدها، هذا هو الصواب الذي ذهب إليه الإمام أحمد[(906)]، وابن المنذر، وسحنون، وجماعة.

القول الثاني: ذهب الشافعي[(907)] وجماعة إلى أنه تجب عليه الصلاة والإعادة، وقالوا: لأن هذا عذر نادر.

القول الثالث: ذهب الإمام أبو حنيفة[(908)] إلى أنه لا يصلي، ولكن يجب عليه القضاء.

القول الرابع: ذهب الإمام مالك[(909)] إلى أنه لا يصلي ولا يجب عليه القضاء.

القول الخامس: ذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه يستحب له أن يصلي ويجب عليه القضاء، وإلى هذا ذهب الشافعي في القديم[(910)].

أصح هذه الأقوال وأرجحها: أنه يصلي ولا يعيد؛ لأن هؤلاء الصحابة صلوا بغير ماء ولا تراب، ولم يأمرهم النبي  ﷺ بالإعادة، ولو أمرهم بالإعادة لنُقل، ولأن من أوجب عليه الصلاة والإعادة فقد أوجب عليه الصلاة مرتين، والإسلام لم يوجب على الإنسان أن يصلي مرتين فهذا فيه تكليف بغير دليل؛ ولهذا لم يجزم المؤلف رحمه الله بالحكم في الترجمة من أجل وجود الخلاف بين العلماء.

أما إن استطاع الوضوء، أو التيمم بنفسه، أو بأن كان عنده من يوضئه، أو ييممه، وجب عليه، وبطلت صلاته بغير وضوء أو تيمم.

والأصل في التيمم أنه من التراب الذي له غبار، لكن إذا لم يجد إلا أرضًا رملية أو صخرية فله أن يتيمم منها، أما إذا وجد ترابًا له غبار فهذا هو المتعين؛ لأن الله تعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ.

وجه الدلالة: أن «من» تقتضي التبعيض.

المتن:

باب التَّيَمُّمِ فِي الْحَضَرِ إِذَا لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَخَافَ فَوْتَ الصَّلاَةِ.

وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ.

وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الْمَرِيضِ عِنْدَهُ الْمَاءُ وَلاَ يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ يَتَيَمَّمُ.

وَأَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَرْضِهِ بِالْجُرُفِ فَحَضَرَتْ الْعَصْرُ بِمَرْبَدِ النَّعَمِ فصَلَّى ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ.

الشرح:

قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الْمَرِيضِ عِنْدَهُ الْمَاءُ وَلاَ يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ يَتَيَمَّمُ» ؛ لأن من عجز عن استعمال الماء يكون كفاقده؛ فله أن يتيمم.

قوله: «فَحَضَرَتْ الْعَصْرُ بِمَرْبَدِ النَّعَمِ فصَلَّى» ، كأن البخاري رحمه الله اختصر الأثر، والأصل أن يقال: فتيمم وصلى.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «وَأَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ» قال الشافعي: أخبرنا ابن عيينة عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أنه أقبل من الجرف حتى إذا كان بالمربد تيمم فمسح وجهه ويديه وصلى العصر».

وهذا هو الشاهد: أنه تيمم وصلى، أما الأثر الذي ذكره المؤلف ففيه اختصار، فلم يذكر فيه أنه تيمم.

قوله: «ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ» ، أي: ووقت العصر باق لم يخرج فلم يعد الصلاة، والمسافر إذا فقد الماء وحانت الصلاة له أن يتيمم في أول الوقت ويصلي، وإن أخر إلى آخر الوقت فهو أفضل، والعلماء يقولون: والتيمم آخر الوقت لراجي الماء أولى، لكن لا يجب، لكن ابن عمر تيمم في أول الوقت ودخل المدينة والوقت باق فلم يعد الصلاة.

المتن:

337 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ الأَْعْرَجِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَسَارٍ مَوْلَى مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ  ﷺ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الأَْنْصَارِيِّ، فَقَالَ أَبُو الْجُهَيْمِ: أَقْبَلَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ  ﷺ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ رحمه الله.

الشرح:

337 قوله: «فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ  ﷺ حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ» وفي لفظ: «حكه» [(911)]، فالجدار من طين فحكه حتى يصير عليه غبار ليتيمم عليه، فضرب الجدار ومسح بوجهه ويديه ثم رد ، مع أنه يجوز له أن يرد وهو على غير طهارة، لكن هذا أكمل وأفضل؛ فالسلام اسم من أسماء الله تعالى، فكره النبي  ﷺ أن يذكر الله تعالى إلا على طهر، كما ورد في الرواية الأخرى: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر [(912)].

وجه استشهاد المؤلف رحمه الله بهذا الحديث: أن النبي  ﷺ تيمم لرد السلام لفقده للماء، مع أنه يجوز له أن يرد من غير تيمم، فكان التيمم للصلاة لمن فقد الماء في الحضر إذا خاف فوت الوقت أولى؛ لأن الصلاة لابد لها من طهارة.

والتيمم في الحضر فيه خلاف بين أهل العلم، والصواب أنه إذا خاف فوت الوقت ولم يجد الماء فإنه يتيمم ويصلي ولا يعيد، وإلى هذا ذهب الإمام مالك[(913)]، وهو ظاهر قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، وقياسًا على المريض والمسافر الذي فقد الماء، فكما أن المسافر إذا فقد الماء ـ والمريض إذا عجز عن استعمال الماء ـ تيمم، فكذلك في الحضر إذا فقد الماء يتيمم ولا يعيد.

القول الثاني: ذهب الإمام الشافعي رحمه الله[(914)] إلى أنه يتيمم ويصلي وتجب عليه الإعادة، وحجته أن هذا عذر نادر.

القول الثالث: ذهب آخرون من أهل العلم إلى أنه لا يتيمم إلى أن يجد الماء ولو خرج وقت الصلاة.

وعليه فتكون المسألة فيها أقوال ثلاثة.

ولا يتيمم في الحضر إلا إذا خاف فوات الوقت ولم يجد الماء، أما إذا خاف فوات الجماعة أو الجمعة فلا يتيمم، بل يذهب إلى مسجد آخر أو يذهب إلى بيته فيبحث عن الماء حتى يضيق الوقت، فإذا ضاق الوقت وخاف فواتها وبحث ولم يجد تيمم، أما إذا كان يؤمل أن يجد الماء فيجتهد في إيجاده ولو صلى في آخر الوقت على الصحيح، وإذا استيقظ الإنسان من النوم متأخرًا فإنه يتوضأ ويصلي، وبعض الناس قد يظن أنه إذا استيقظ قبيل طلوع الشمس ولم يجد الماء تيمم حتى لا يفوته الوقت وهذا ليس بصحيح؛ لأن وقت الصلاة في حقه متى استيقظ؛ لقول النبي  ﷺ: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك [(915)].

ـ ووجه التفرقة بين الحضر والسفر ـ لمن قال به ـ أن الله تعالى نص على السفر فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا، فمفهومه: أنه إذا كان صحيحًا وليس على سفر فلا يتيمم، فالتيمم في السفر؛ لأن المسافر هو الذي يفقد الماء، أما في الحضر فالماء موجود في الغالب؛ ولهذا قال الشافعي[(916)]: هذا عذر نادر، ولذلك تجب عليه الإعادة.

والخلاصة: أن المرء إذا كان الماء قريبًا منه، ويأمل أن يتوضأ بالماء، فهذا هو المتعين؛ لكن متى ما وجد الشرط الخاص، وهو خوف فوات الوقت، وأراد الماء ولم يجده، فإنه يتيمم؛ هذا هو الأصل.

والإنسان الذي عنده ماء لا يكفي إلا لشربه ودوابه يتيمم؛ لأنه إذا توضأ به هلك وهلكت دوابه؛ فماء الشرب مقدم.

وإذا لم يجد الماء في الحضر، وعلم بوجوده في بلدة أخرى، فالأقرب أنه ينتقل إليها ويتوضأ.

المتن:

باب الْمُتَيَمِّمُ هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا

 338 حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ ذَرٍّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنِّي أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبْ الْمَاءَ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ: لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِي سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، فَأَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِيِّ  ﷺ، فَقَالَ النَّبِيُّ  ﷺ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، فَضَرَبَ النَّبِيُّ  ﷺ بِكَفَّيْهِ الأَْرْضَ وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.

الشرح:

 338 قوله: «عَنْ ذَرٍّ» ، ذَر هذا ليس له نظير في كتب السنة، وهو غير زِر ابن حبيش.

وفي الحديث: دليل على أن التيمم ضربة واحدة يمسح بها وجهه وكفيه، وليس ضربتين، وما جاء في بعض الآثار أنه ضربتان فهو اجتهاد من بعض الصحابة قبل أن يعلمهم النبي  ﷺ، وحديث: التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين [(917)] فيه كلام.

وفيه: أن التيمم ضربة واحدة للحدث الأكبر وللحدث الأصغر لا فرق بينهما.

وفيه: أن هذه القصة حصلت لعمر وعمار، وأنهما كانا في سفر، فأجنب عمار فتمعك كما تتمعك الدابة ـ أي قاس التيمم على الغسل، فظن أنه يجب تعميم الجسم بالتراب، فتمرغ كما تتمرغ الدابة ـ فقال له النبي  ﷺ: إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا، وضرب بيده ضربة واحدة، فدل على أن التيمم ضربة واحدة للحدث الأكبر والأصغر.

قوله: «وَنَفَخَ فِيهِمَا»، هذا الشاهد للترجمة، فيستحب النفخ في اليدين إذا علق بهما تراب كثير؛ لأن المقصود الامتثال والخضوع لأمر الله وأمر رسوله  ﷺ، وليس المراد تلطيخ الوجه بالتراب، أما إذا لم يعلق بهما تراب كثير فلا يحتاج للنفخ؛ ولهذا قال المؤلف في ترجمة الباب: «هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا؟» .

وفيه: الاجتهاد في زمن النبي  ﷺ، فقد اجتهد عمار واجتهد عمر، أما عمر فلم يصلّ وعمار تمعك كما تتمعك الدابة وصلى، فلما ذكرا ذلك للنبي  ﷺ بين لهما السنة.

المتن:

باب التَّيَمُّمُ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ

 339 حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي الْحَكَمُ عَنْ ذَرٍّ عَنْ سَعِيدِ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ عَمَّارٌ بِهَذَا، وَضَرَبَ شُعْبَةُ بِيَدَيْهِ الأَْرْضَ ثُمَّ أَدْنَاهُمَا مِنْ فِيهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.

وَقَالَ النَّضْرُ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ قَالَ: سَمِعْتُ ذَرًّا يَقُولُ: عَنْ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى.

قَالَ الْحَكَمُ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ: عَمَّارٌ.

 340 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ذَرٍّ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ شَهِدَ عُمَرَ، وَقَالَ لَهُ: عَمَّارٌ كُنَّا فِي سَرِيَّةٍ فَأَجْنَبْنَا وَقَالَ: تَفَلَ فِيهِمَا.

 341 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ ذَرٍّ عَنْ ابْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَ: قَالَ عَمَّارٌ: لِعُمَرَ تَمَعَّكْتُ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ  ﷺ فَقَالَ: يَكْفِيكَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ.

 342 حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ذَرٍّ، عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، قَالَ: شَهِدْتُ عُمَرَ فَقَالَ: لَهُ عَمَّارٌ وَسَاقَ الْحَدِيثَ.

 343 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الْحَكَمِ، عَنْ ذَرٍّ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ عَمَّارٌ: فَضَرَبَ النَّبِيُّ  ﷺ بِيَدِهِ الأَْرْضَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ.

الشرح:

 339، 340، 341، 342، 343 ذكر فيها قصة عمر وعمار رضي الله عنهما السابقة.

قوله: «فَضَرَبَ النَّبِيُّ  ﷺ بِيَدِهِ الأَْرْضَ» ، فيه: دليل على أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين.

قوله: «فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ» ، يستنبط منه الترتيب بين الوجه والكفين ولا سيما في الحدث الأصغر، فيبدأ بمسح الوجه ثم اليدين، واليدان يمسح ظاهرهما وباطنهما، لا كما يظنه بعض الناس أنه يمسح ظاهر الكفين ويخلل الأصابع.

وأما ما جاء في بعض الآثار أنها ضربة إلى الذراع أو إلى الآباط، فهذا ضعيف، وهو من اجتهاد بعض الصحابة، والصواب أن التيمم للكفين فقط، ضربة واحدة يمسح بهما وجهه ثم يديه باطنهما وظاهرهما.

المتن:

باب الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ يَكْفِيهِ مِنْ الْمَاءِ

وَقَالَ الْحَسَنُ: يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ مَا لَمْ يُحْدِثْ.

وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ.

وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ عَلَى السَّبَخَةِ وَالتَّيَمُّمِ بِهَا.

الشرح:

قوله: «بَاب الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ» الصعيد ما تصعَّد على وجه الأرض وفيه جَزْم من المؤلف رحمه الله بأن التيمم وضوء لقوة الدليل، وأخذًا من الحديث: الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ [(918)]، ولم يخرجه البخاري؛ لأنه ليس على شرطه، والرسول  ﷺ سمى التيمم بالصعيد وضوءًا؛ ولهذا ذهب المحققون من أهل العلم إلى أن التيمم كالماء يرفع الحدث، ولا يبطل التيمم إلا بالحدث، أو بوجود الماء، أو بالقدرة على استعماله لمن كان عاجزًا عن استعماله، وهذا هو اختيار الإمام البخاري رحمه الله؛ ولهذا قال: «بَاب الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ» .

قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ: يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ مَا لَمْ يُحْدِثْ» ، يعني: يجوز له أن يصلي بالتيمم وقتًا أو وقتين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة كالماء سواء بسواء، إلا إذا أحدث فإنه تنتقض طهارته، سواء أكانت هذه الطهارة بالماء أم بالصعيد، فالتيمم يبطل بشيئين:

الأول: بالحدث.

الثاني: بوجود الماء أو القدرة على استعماله.

ولأهل العلم في التيمم أقوال:

القول الأول: أن التيمم رافع للحدث كالوضوء سواء بسواء؛ لأن النبي  ﷺ سمى التيمم وضوءًا، وإذا كان وضوءًا فإنه لا يبطل إلا بما يبطل به الوضوء، فإذا تيمم يجوز أن يصلي بتيممه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ما لم يحدث أو يجد الماء أو يقدر على استعماله عند زوال المانع. وهذا هو اختيار الإمام البخاري رحمه الله، وهو الذي تدل عليه النصوص، وهو اختيار جماعة من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[(919)]، وابن القيم رحمه الله[(920)]، والشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله[(921)]، واختيار سماحة شيخنا عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله[(922)].

القول الثاني: أن التيمم مبيح لا رافع ـ أي يستبيح به المسلم الصلاة للضرورة، وهي فقد الماء أو العجز عن استعماله ـ وعلى هذا فيصلي به ما دام الوقت فروضًا ونوافل، فإذا خرج الوقت بطل التيمم، فإذا دخل الوقت التالي تيمم مرة أخرى وصلى، وهكذا، وهذا هو الذي عليه جماهير الفقهاء من: الحنابلة[(923)] والشافعية[(924)] والمالكية[(925)] وغيرهم، فيبطل التيمم على هذا القول بخروج الوقت، وبالحدث، وبوجود الماء إذا كان فاقدًا له أو بالقدرة على استعماله.

القول الثالث: أن التيمم رافع للحدث ولكن في الوقت فقط، وهذا قريب من القول الذي قبله، فيقولون: إنه يرفع الحدث لكن في الوقت الخاص، فإذا جاء الوقت الثاني انتهى رفعه للحدث.

القول الرابع: أنه رافع للحدث مطلقًا حتى مع وجود الماء، وهذا قول باطل؛ لأنه مصادم لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا، فمفهوم الآية أنك إذا وجدت الماء بطل التيمم؛ ولِما جاء في الحديث أن النبي  ﷺ قال: إِنَّ الصَّعِيدَ الطَّيِّبَ، وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ عَشْرَ سِنِينَ، فَإِذَا وَجَدَهُ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرَهُ [(926)]، حتى إنه صار مثلاً عند الناس فيقال: إذا وُجد الماء بطل التيمم.

أصح هذه الأقوال: القول الأول أنه رافع للحدث عند فقد الماء أو العجز عن استعماله.

قوله: «وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ» فيه: دليل على جواز أن يؤم المتيمم المتوضئين؛ لأن التيمم كالماء تنتج عنه طهارة كاملة.   

قوله: «وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لاَ بَأْسَ بِالصَّلاَةِ عَلَى السَّبَخَةِ وَالتَّيَمُّمِ بِهَا» ، فيحيى بن سعيد يرى جواز التيمم على السَّبَخة، والأرض السَّبِخة هي المالحة التي لا تنبت، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم، فقالوا: يجوز للإنسان أن يتيمم على ما تصاعد على وجه الأرض، سواء كان ترابًا له غبار ـ وهو تراب الزرع ـ أو أرض سَبِخة، أو أرض رملة ـ وهو الرمل الأحمر الذي ليس فيه غبار ـ أو أرض حجارة أو صخر؛ لأن الله يقول: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا، فكل ما تصعّد على وجه الأرض فإنه يتيمم به.

القول الثاني: أنه لا يجوز التيمم إلا بالتراب الذي له غبار، الذي إذا ضربته خرج غبار يعلق باليد، فتمسح به الوجه واليدين؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ، فقوله: مِنْهُ دليل على أنه لابد أن يعلق باليد شيء من الغبار حتى يمسح به الوجه واليدين.

والصواب: أنه إن وجد التراب الذي له غبار وجب التيمم به، وإن لم يجد تيمم على ما تصعد على وجه الأرض؛ من سبخة أو رمل أو حجارة؛ لأن هذا هو وجه الأرض في حقه واستطاعته، والله تعالى يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، ولا يجب عليه نقل التراب لقوله تعالى: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا.

المتن:

344 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ عَنْ عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ وَإِنَّا أَسْرَيْنَا حَتَّى كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَقَعْنَا وَقْعَةً وَلاَ وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا فَمَا أَيْقَظَنَا إِلاَّ حَرُّ الشَّمْسِ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ اسْتَيْقَظَ فُلاَنٌ ثُمَّ فُلاَنٌ ثُمَّ فُلاَنٌ يُسَمِّيهِمْ أَبُو رَجَاءٍ فَنَسِيَ عَوْفٌ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الرَّابِعُ.

وَكَانَ النَّبِيُّ  ﷺ إِذَا نَامَ لَمْ يُوقَظْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ لأَِنَّا لاَ نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ فِي نَوْمِهِ.

فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ وَكَانَ رَجُلاً جَلِيدًا فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ حَتَّى اسْتَيْقَظَ بِصَوْتِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ قَالَ: لاَ ضَيْرَ أَوْ لاَ يَضِيرُ ارْتَحِلُوا.

فَارْتَحَلَ فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ نَزَلَ فَدَعَا بِالْوَضُوءِ فَتَوَضَّأَ وَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ فَصَلَّى بِالنَّاس.

فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاَتِهِ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ قَالَ: مَا مَنَعَكَ يَا فُلاَنُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلاَ مَاءَ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ.

ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ  ﷺ فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ الْعَطَشِ فَنَزَلَ فَدَعَا فُلاَنًا كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ نَسِيَهُ عَوْفٌ وَدَعَا عَلِيًّا فَقَالَ: اذْهَبَا فَابْتَغِيَا الْمَاءَ.

فَانْطَلَقَا فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا فَقَالاَ لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ قَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ وَنَفَرُنَا خُلُوفًا.

قَالاَ لَهَا: انْطَلِقِي إِذًا قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالاَ: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ قَالَتْ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ، قَالاَ: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ فَانْطَلِقِي.

فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيِّ  ﷺ وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ، قَالَ: فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا وَدَعَا النَّبِيُّ  ﷺ بِإِنَاءٍ، فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ، أَوْ سَطِيحَتَيْنِ، وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا، وَأَطْلَقَ الْعَزَالِيَ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: اسْقُوا وَاسْتَقُوا.

فَسَقَى مَنْ شَاءَ وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ وَكَانَ آخِرُ ذَاكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ قَالَ: اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ. وَهِيَ قَائِمَةٌ تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلأَْةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا.

فَقَالَ النَّبِيُّ  ﷺ: اجْمَعُوا لَهَا فَجَمَعُوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا فَجَعَلُوهَا فِي ثَوْبٍ وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا قَالَ لَهَا: تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا.

فَأَتَتْ أَهْلَهَا وَقَدْ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، قَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلاَنَةُ؟ قَالَتْ: الْعَجَبُ، لَقِيَنِي رَجُلاَنِ، فَذَهَبَا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ وَهَذِهِ، وَقَالَتْ: بِإِصْبَعَيْهَا الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ تَعْنِي السَّمَاءَ وَالأَْرْضَ أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَلاَ يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِي هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا: مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا، فَهَلْ لَكُمْ فِي الإِْسْلاَمِ؟ فَأَطَاعُوهَا فَدَخَلُوا فِي الإِْسْلاَمَِ.  

الشرح:

 344 قوله: «أَسْرَيْنَا» ، يعني: سرنا في الليل، فالسرى هو المشي في الليل، ومنه قولهم: عند الصباح يحمد القوم السرى، وفي الحديث: عليكم بالدلجة فإنها تطوى بها الأرض [(927)]، فالمسافر يقطع المسافات إذا سرى في الليل.

قوله: «حَتَّى كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ وَقَعْنَا وَقْعَةً» ، يعني: أنهم ناموا في آخر الليل، فـ «وَقَعْنَا وَقْعَةً» يعني: نمنا نومة، ومن شدة التعب كان نومًا مريحًا يجد له المسافر حلاوة وراحة بعد التعب والسهر الطويل؛ ولهذا قال: «وَلاَ وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا» .

قوله: «فَمَا أَيْقَظَنَا إِلاَّ حَرُّ الشَّمْسِ» فيه: دليل على أن النبي  ﷺ بشر يصيبه يصيب البشر، كما قال الله تعالى: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، فيأكل، ويشرب، وينام، وينكح النساء، ويبيع في الأسواق؛ ولهذا استنكر المشركون : وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ.

وفي حديث آخر أن النبي  ﷺ لم ينم حتى ألزم بلالاً بإقامته فقال: من يكلأ لنا الصبح؟، فقال بلال: أنا يا رسول الله[(928)]، يعني: أنا أرقب الصبح، ولا أنام ـ وهذا فيه دليل على أن الإنسان ينبغي له أن يأخذ بالأسباب ولا يهمل، فيجعل من ينبهه للقيام للصلاة، فيأمر بذلك بعض أهله، أو بعض رفقته، أو بعض أصحابه، أو بعض أولاده، أو يجعل عنده آلة منبهة، ولا سيما إذا نام متأخرًا ـ ثم إن بلالاً لما ناموا نصب ذراعه وجعل رأسه عليها فنعس، ولم يستيقظوا إلا بحر الشمس، فلما استيقظوا قال  ﷺ: أين ما قلت يا بلال؟، فقال: يا رسول الله، أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك[(929)]، يعني: غلبني النوم بغير اختياري. ء

قوله: «وَكَانَ النَّبِيُّ  ﷺ إِذَا نَامَ لَمْ يُوقَظْ حَتَّى يَكُونَ هُوَ يَسْتَيْقِظُ» ، فيه: أن النبي  ﷺ كان لا يوقظه الصحابة؛ لأنهم لا يدرون ماذا يحدث له، فقد يكون يوحى إليه.

فلما استيقظ بعض الصحابة واستيقظ عمر، جعل عمر يكبر ويرفع صوته ـ وكان رجلاً جهوريًّا ـ حتى استيقظ النبي  ﷺ، فلما استيقظ النبي  ﷺ شكوا إليه الذي أصابهم وأنهم ناموا عن صلاة الصبح، فهدأهم النبي  ﷺ وقال: لاَ ضَيْرَ يعني: لا لوم عليكم؛ لأن هذا ليس باختياركم، وجاء في الحديث الآخر: لَيْسَ فِي النَّوْمِ تَفْرِيطٌ إِنَّمَا التَّفْرِيطُ فِي الْيَقَظَةِ [(930)]، فلا إثم على من نام نومًا لم يفرط فيه بأن اتخذ أسبابًا توقظه ثم غلبه النوم، ووقت الصلاة في حقه حين يستيقظ ما دام أنه ليس باختياره، وفي الحديث الآخر: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك [(931)].

تنبيه:

أما ما يظنه بعض الناس من أنه إذا استيقظ المرء قريبًا من طلوع الشمس أوشك أن يخرج الوقت في حقه فليس بصحيح، بل لا يخرج الوقت في حقه، وعليه أن يتوضأ كالمعتاد، وإذا كان عليه غسل يغتسل ـ ولا يتيمم ما دام واجدًا للماء ـ ويصلي.

قوله: «فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ» فسره النبي  ﷺ في الحديث الآخر حيث قال: هذا منزل حضر فيه الشيطان [(932)]؛ ولذلك أمرهم  ﷺ أن يرحلوا عنه، فلما تجاوزوه نزلوا غير بعيد وتوضئوا، ثم أمر النبي  ﷺ بلالاً فأذن كما يؤذن في الوقت المعتاد، ثم صلى النبي  ﷺ السنة الراتبة كعادته، ثم أمر بلالاً فأقام ثم صلى النبي  ﷺ الفجر، فدل على أن الإنسان إذا فاتته صلاة فعليه أن يفعل المعتاد، فيؤذن ويصلي السنة الراتبة قبل الفريضة ثم يقيم ويصلي الفريضة، وإذا كان في البلد وقد رفع الأذان فلا يرفع صوته بالأذان إلا بقدر ما يسمع نفسه، أو يكتفي بأذان البلد، أما الإقامة فمتأكدة في حقه.

ثم إن النبي  ﷺ لما صلى رأى رجلاً معتزلاً لم يصل معهم، فقال: مَا مَنَعَكَ يَا فُلاَنُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ؟ قَالَ: أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلاَ مَاءَ، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ يعني: اضرب بيديك على الصعيد فتيمم به بأن تمسح وجهك وكفيك، وهذا هو الشاهد ففيه دليل على أن التيمم يكفي لرفع الجنابة، كما يكفي لرفع الحدث الأصغر، وأن التيمم للحدث الأكبر كالتيمم للحدث الأصغر سواء بسواء ولا فرق، فيضرب الأرض بيديه مرة واحدة ويمسح وجهه ويديه، وعمار ـ كما مر ـ لما أصابته جنابة هو وعمر قاس التيمم للجنابة على الغسل، فنزع ثيابه وتمرغ كما تتمرغ الدابة، أي: حتى يصل التراب إلى جميع جسده، وعندما جاء إلى النبي  ﷺ وأخبره، قال له  ﷺ: إنما يكفيك أن تقول بالأرض هكذا، وضرب الأرض بيده ضربة واحدة[(933)].

فالجنب إذا فقد الماء أو عجز عن استعماله تيمم وصلى ما شاء، يومًا أو يومين أو ثلاثة أو أربعة حتى يجد الماء، فإذا وجد الماء أو انتفى العجز وجب عليه غسل الجنابة، كما في الحديث: فليتق الله وليمسه بشره [(934)]، ولا يعيد الصلوات التي مضت.

وإذا كان منفردًا أذن وأقام، فالأذان والإقامة فرضا كفاية؛ لظاهر الأدلة، كما في حديث مالك بن الحويرث: إذا كنتما في سفر فأذنا وليؤمكما أكبركما [(935)]، فكل جماعة عليهم أذان وإقامة، وكذلك المنفرد يؤذن ويقيم.

قوله: «وَنَفَرُنَا خُلُوفًا» ، يعني: رجالنا تخلفوا لطلب الماء، والنفر ثلاثة فأكثر، و «خُلُوفًا» ، حال سدت مسد الخبر.

قولها: «الصَّابِئُ» ، أي: الذي خرج من دين إلى دين، قال البخاري في آخر الحديث: «صبأ: خرج من دين إلى غيره» ، وكانت قريش يسمون من أسلم: الصابئ؛ أما لفظة الصابئة فتطلق على عباد الكواكب، وهم الذين بعث إليهم إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام.

قوله: «فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ» أي: القربتين، فهذه المرأة جاءت على بعير وعليه قربتان، فأمر النبي  ﷺ بإناء وصب فيه من فم هذه القربة شيئا ومن فم هذه شيئًا، وهذه الرواية فيها نقص، ففي رواية الطبراني أنه تمضمض فأعاده في الإناء[(936)]؛ حتى تحصل البركة وأوكأ ـ يعني: ربط فم القربتين ـ ثم بعد ذلك أُتي بإناء وصب فيه.

قوله: «وَأَطْلَقَ الْعَزَالِيَ» ، يعني: فتح فم القربتين، فيكون فتح فم القربتين مرتين، المرة الأولى فتح وصب في إناء، ثم توضأ فيه وتمضمض، ثم أعاده إلى القربتين حتى تحصل البركة بما لمس جسده  ﷺ، ثم بعد ذلك أمر أن يؤتى بالأواني وصب من فم القربتين حتى ملئوا كل إناء في العسكر، والقربتان ما نقصتا، وهذا من آيات الله العظيمة الدالة على أن الله على كل شيء قدير، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ؛ ولهذا قال للمرأة: مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا، يعني: ما نقصنا من الماء، فالماء على حاله، وذلك بسبب البركة التي جعلها الله فيما مس جسد النبي  ﷺ.

وبالرغم من أن النبي  ﷺ لم ينقص من مائها، إلا أنه أمر بالإحسان إليها فقال: اجْمَعُوا لَهَا ، فجمعوا لها شيئًا من تمر ودقيق وسويق، ووضعوه على البعير، ثم ذهبت إلى أهلها.

وكونهم لم يستأذنوا المرأة فلأنه لا يُشترط الاستئذان عند الضرورة.

وقال بعضهم: إنهم لم يستأذنوا لأنها امرأة محاربة، ومالها حلال؛ أو لأن الصحابة لما أخذوها صارت رقيقة ـ يعني أمة ـ فصار المال لهم، لكن هذا ليس بوجيه؛ لأن النبي  ﷺ تركها وأحسن إليها.

وقد احتج أهل العلم بهذا الحديث على أن المضطر يجب أن يُبذل له من فضل الماء، فإذا اضطر إنسان إلى الماء وخشي على نفسه الموت عطشًا وكان هناك من عنده ماء فاضل عن حاجته فيجب عليه أن يبذله له بثمن أو بغير ثمن ـ والأقرب أنه بغير ثمن ـ فإن رفض وامتنع أخذ منه بالقوة، والمؤمن أخو المؤمن، قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، فكيف يترك المؤمن أخاه يواجه الموت وعنده ماء زائد عن الحاجة؟!

وفي الحديث: دليل على طهارة أواني المشركين، فهذه المرأة مشركة، ومعلوم أن القربة مصنوعة من جلد شاة، وذبيحة المشركين نجسة، ومع ذلك أخذ من الماء الذي في هذه القربة.

ولأن الأصل في أواني المشركين الطهارة، إلا إذا علمت فيها النجاسة أو علم أنهم يشربون فيها الخمر فتغسل الأواني وتستعمل، وكذلك ثيابهم، وكذلك ما يرد منهم الأصل فيه الطهارة، إلا الذبائح، فإن كانت لأهل الكتاب تؤكل، أما ذبائح الوثنيين فلا تؤكل مطلقًا؛ لقول الله تعالى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى خاصة، فذبائحهم تحل لنا إذا جهلنا حال الذبح، أما إذا علمنا أنهم يذبحون بالصعق أو يذكرون غير اسم الله فلا يحل، وإن كان من الاحتياط ألا نأكل، أو نأكل اللحوم التي لا تحتاج إلى ذبح ـ كالسمك وما أشبهه ـ أو اللحوم التي تخرج من مجاذر يذبح فيها أناس مسلمون أو كتابيون.

وفيه: دليل على أن الجلد يطهر بالدباغ؛ لأن جلد هاتين القربتين مدبوغ ولابد كما في الحديث لما ماتت شاة لأم سلمة رضي الله عنها قال النبي  ﷺ: هَلَّا أَخَذْتُمْ إِهَابَهَا فَدَبَغْتُمُوهُ، قالوا: يا رسول الله إنها ميتة، قال: يُطَهِّرُهَا الْمَاءُ وَالْقَرَظُ [(937)]، فدل على أن الجلد يطهر بالدباغ ولو كان جلد ميتة.

قوله: «وَايْمُ اللَّهِ» ، هذا قسم أصله وأيْمُن الله ـ جمع يمين ـ، وحُذفت النون للتخفيف، والتقدير: وأيمن الله قسمي، وهذا قسم من الراوي أن القربتين على حالهما.

قوله: «وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلأَْةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا» ، فيه: دليل على قدرة الله ، فقد ملئوا من ماء القربتين كل إناء في العسكر وهما على حالهما، فهذا من المعجزات، ومن دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، وهو من الأدلة على أن الله على كل شيء قدير، وأنه إذا أراد شيئًا فلا يمتنع.

قوله: «فَجَمَعُوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ» ، يعني: فجمعوا لها تمرًا ودقيقًا وسويقًا في مقابل ما أخذوه من الماء، وهذا من باب الكرم ومحاسن الأخلاق وإلا فهم ما أخذوا شيئًا على الحقيقة؛ فالقربتان على حالهما.

قوله: مَا رَزِئْنَا، يقال: رَزِئنا، ويقال: رَزَأنا، أي: ما نقصنا؛ لأن الفعل إذا كان ثالثه حرفًا من حروف الحلق يُفتح، فيقال: رزأ يرزأ وقرأ يقرأ قياسًا، لكن سماعًا يقال: ما رزئنا.

قوله: «وَقَدْ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ» يعني: تأخرت على أهلها بعض الشيء، فلما سألوها أخبرتهم القصة.

قوله: «وَقَالَتْ: بِإِصْبَعَيْهَا الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ» ، يعني: لما جاءت إلى أهلها، «قَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلاَنَةُ؟ قَالَتْ: الْعَجَبُ» ، لقيت الذي يقال له: الصابئ، ففعل كذا وكذا، ووالله إنه لواحد من أحد أمرين، إما إنه أسحر ما بين السماء والأرض، أو إنه رسول الله حقًّا، والثاني هو الحق أنه رسول الله حقًّا، وهذه من معجزات النبوة.

قوله: «وَلاَ يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِي هِيَ مِنْهُ» ، يعني: قد عرف الصحابة مكانها وأهلها، فكانوا يغيرون على البيوت التي حولها، ويتركون هذا الصرم الذي هي منه، أي بيت هذه المرأة وما حوله: «مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا، فَهَلْ لَكُمْ فِي الإِْسْلاَمِ؟ فَأَطَاعُوهَا فَدَخَلُوا فِي الإِْسْلاَمَِ» ، فكانت سببًا في إسلامهم.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد