شعار الموقع

شرح كتاب الصلاة من صحيح البخاري (8-1) من بداية كتاب الصلاة - إلى باب إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا

00:00
00:00
تحميل
237

المتن:

(8) كِتَاب الصَّلاَة

باب كَيْفَ فُرِضَتْ الصَّلاَةُ فِي الإِْسْرَاءِ

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ هِرَقْلَ فَقَالَ: يَأْمُرُنَا يَعْنِي النَّبِيَّ ﷺ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ.

الشرح:

جاء المؤلف بكتاب الصلاة بعد كتب الطهارة والوضوء، فالطهارة تسبق الصلاة؛ لأنها شرط في صحتها؛ ولذلك قدم الطهارة والوضوء، ثم بعد ذلك عقب بالصلاة.

والصلاة في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ أي: ادع لهم، وقال بعضهم: الصلاة مشتقة من الصلوين، وهما عرقان في جانبي الذنب، أو عظمان ينحنيان في الركوع والسجود.

والصواب: أنها مشتقة من الدعاء؛ لأن الصلاة مشتملة على دعاء العبادة ودعاء المسألة، فدعاء المسألة في الاستفتاح ـ مثل اللَّهُمَّ بَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ، كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ [(942)] ـ وبين السجدتين وفي آخر التشهد، ودعاء العبادة في الركوع والسجود والقيام والقعود.

وفي الشرع: أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم.

قوله: «يَأْمُرُنَا يَعْنِي النَّبِيَّ  ﷺ بِالصَّلاَةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ» هذه الجملة جزء من حديث أبي سفيان الطويل في قصته مع هرقل لما سأله عن النبي  ﷺ، وقد ذكره المؤلف رحمه الله هنا مختصرًا، معلقًا، مقتصرًا على موضع الشاهد، فدل هذا على أن الصلاة مشروعة، وأنها مفروضة في مكة.

المتن:

349 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ قَالَ: فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ  ﷺ فَفَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، مَعِي مُحَمَّدٌ  ﷺ، فَقَالَ: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَال: هَذَا آدَمُ وَهَذِهِ الأَْسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالأَْسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ؛ فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، حَتَّى عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ: خَازِنِهَا مِثْلَ مَا قَالَ الأَْوَّلُ، فَفَتَحَ

قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ.

قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ  ﷺ بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَْخِ الصَّالِحِ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَْخِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالأَْخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسَى، ثُمَّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ  ﷺ.

قَالَ: ابْنُ شِهَابٍ فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الأَْنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولاَنِ: قَالَ النَّبِيُّ  ﷺ: ثُمَّ عُرِجَ بِي، حَتَّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوَى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَْقْلاَمِ.

قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ النَّبِيُّ  ﷺ: فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلاَةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاَةً، قَالَ: فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، قُلْتُ وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ رَاجِعْ رَبَّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ فَرَاجَعْتُ فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ؛ فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ.

الشرح:

 349 حديث أبي ذر في الإسراء فيه أحكام وفوائد عظيمة، منها:

 1- أنه فُرج سقفُ بيتِ النبيِّ  ﷺ، وأن جبريل انصب عليه انصبابًا؛ لأنه هو مقصوده، فلم يأت من الباب، ثم أخذ النبي  ﷺ وشق صدره، وغسل قلبه بماء زمزم، وهذا من آيات الله العظيمة؛ فقد انفرج سقف البيت وانشق والتأم في الحال، وهذا خلاف المعتاد؛ فالمعتاد أن السقف أو الجدار إذا انكسر احتاج إلى إصلاح.

 2- لما شق جبريل صدر النبي  ﷺ واستخرجه وغسله بماء زمزم وجاء بطست من ذهب، ثم أفرغ في صدره ما جاء به في هذا الطست من الحكمة والإيمان التأم في الحال من غير جراح ولا ألم، وهذا أيضًا من آيات الله العظيمة، إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، والمعتاد أنه لو شق صدر إنسان واستخرج قلبه لمات في الحال، والآن بعد تطور الطب الحديث لا يمكن فعل هذا إلا بعملية جراحية دقيقة تستخدم فيها أجهزة معقدة وتتم تحت ظروف خاصة .

وقد شُقَّ صدر النبي  ﷺ عدة مرات:

الأولى: وهو صغير يلعب مع الصبيان عند مرضعته بالبادية[(943)].

الثانية: قبل المعراج.

وقيل أيضًا: إنه شق مرة ثالثة عند البعثة.

وذكرت أيضًا مرة رابعة.

والمحفوظ في الأحاديث مرتان: وهو صغير، وعند المعراج.

وكأن الحكمة في ذلك ـ والله أعلم ـ أن يطهر ظاهرًا وباطنًا، ظاهرًا بماء زمزم، وباطنًا بالحكمة والإيمان؛ حتى يتهيأ لمناجاة الله والصلاة بالأنبياء؛ وليتلقى هذه الأمور العظيمة من فرضية الصلاة وغيرها من أحكام الشرع.

 3- أن النبي  ﷺ وجد في السموات أنبياء، وإن كان لم يبين في هذا الحديث كيفية منازلهم، وجاء في الأحاديث الأخرى بيان ذلك، وأنه وجد في السماء الدنيا آدم ، وفي السماء الثانية عيسى ويحيى عليهما السلام ابني الخالة، وفي السماء الثالثة يوسف ، وفي السماء الرابعة إدريس ، وفي السماء الخامسة هارون ، وفي السماء السادسة موسى وفي السماء السابعة إبراهيم عليه الصلاة والسلام[(944)].

تنبيه:

وأما ما جاء في هذه الرواية من أنه وجد إبراهيم في السماء السادسة فهو وهم من بعض الرواة وهو شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، والصواب أن إبراهيم في السماء السابعة لا في السادسة.

 4- أن السموات لها أبواب وحراس؛ ولذا قال له: فَلَمَّا جِئْتُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ.

 5- في قوله: قَالَ: مَنْ هَذَا؟ دليل على أن السموات ليست شفافة وإلا لعرفه قبل أن يراه.

قوله: أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ يحتمل أنه يقصد به: هل بُعث؟ أي أنه لم يعرف هذا؛ لأنه منشغل بالعبادة، أو: هل أرسل إليه للصعود إلى السموات؟ وهذا هو الأقرب.

 6- أن آدم وإبراهيم أبوان للنبي  ﷺ؛ ولهذا قال كلٌّ منهما: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ فهما في السلسلة الأبوية، وأما سائر الأنبياء فإنهم في سلسلة الحواشي ـ أي: الإخوة ـ فكل واحد قال: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَْخِ الصَّالِحِ.

 7- أن إدريس ليس أبًا وإنما هو أخ؛ لأنه لما مر بإدريس قال: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَْخِ الصَّالِحِ. ولم يقل: وَالاِبْنِ الصَّالِحِ. خلافًا لمن قال من أهل العلم: إن إدريس أب وإنه جد نوح .

وسيأتي في كتاب الأنبياء ـ إن شاء الله تعالى ـ أن البخاري رحمه الله اختار أن إدريس أب، ولو كان أبًا لقال: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ، كما قاله إبراهيم وآدم.

 8- دليل على إثبات العلو لله ؛ لأنه لما صعد عليه الصلاة والسلام تجاوز السبع الطباق ووصل إلى مكان يسمع فيه صريف الأقلام، وكلمه رب العزة والجلال وفرض عليه الصلوات الخمس، وفي كل مرة يمر بموسى ثم يعلو به جبريل إلى الرب ؛ فدل على أن الله في العلو، وهذا فيه الرد على المعطلة الذين ينكرون أن الله في العلو.

 9- أن موسى عليه الصلاة والسلام أحسن إلى هذه الأمة؛ حيث أشار على نبينا  ﷺ أن يسأل ربه التخفيف، وكذلك جبرائيل لما التفت إليه النبي  ﷺ يستشيره أشار إليه أن نعم، وعلا به إلى الجبار ، وإن كان الفضل كله لله أولاً وآخرًا، فهو الذي ألهم موسى حتى يأمر نبينا  ﷺ أن يسأل ربه التخفيف، وهو الذي حرك قلب نبينا  ﷺ فوافق.

وفي هذه الرواية أنه في كل مرة وضع شطر الصلاة، وجاء في حديث آخر أنه «لما فرضت خمسين صلاة ورجع إلى موسى وضع عنه في كل مرة عشرًا» [(945)] وفي رواية أخرى: «أنه في كل مرة وضع عنه خمسًا»[(946)].

 10- إثبات الإسراء والمعراج، وأنه أسري بالنبي  ﷺ بصحبة جبريل ، وفي رواية أنه أسري به على البراق ـ وهي دابة فوق الحمار ودون البغل، خطوه مد البصر [(947)]؛ ولهذا قطع هذه المسافة من مكة إلى بيت المقدس في مدة وجيزة، وكان الناس يقطعونها في ذلك الوقت في شهر كامل ـ، وربط البراق بحلقة الباب التي يربط بها الأنبياء، ثم عرج به عليه الصلاة والسلام من بيت المقدس إلى السماء، فأتي بالمعراج كهيئة الدرج.

قال بعض العلماء: إن الإسراء كان في ليلة والمعراج في ليلة، وقال آخرون: إنهما في ليلة واحدة، وقيل: إن الإسراء والمعراج كانا في النوم، وقيل: في اليقظة، وقيل: كان بروحه فقط، وقيل: إنه أسري به مرارًا والصواب: الذي تدل عليه النصوص أنه أسري به من مكة إلى بيت المقدس، ثم عرج به من بيت المقدس إلى السماء في ليلة واحدة، وكان ذلك بروحه وجسده، وكان يقظة لا منامًا، ولو كان منامًا لما كذَّبته قريش، ولما ارتد ناس ممن أسلموا، وكذلك لو كان بروحه دون جسده.

ومن أنكر الإسراء كفر؛ لأنه مكذب لله؛ قال الله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.

وأنكر بعضهم المعراج وقال: لا يمكن أن يعرج به ويتجاوز السبع الطباق في وقت وجيز وجسم ثقيل، وإنما الصعود من شأن الأرواح. وهؤلاء عارضوا النصوص بعقولهم الفاسدة، فقد عرج به عليه الصلاة والسلام بروحه وجسده، يقظة لا منامًا، والله على كل شيء قدير، والنصوص لا تعارض بالعقول ولا بالآراء والأذهان الفاسدة.

قوله: فَإِذَا رَجُلٌ قَاعِدٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ. هذا الرجل هو آدم عليه الصلاة والسلام، والأسودة هي نسم بنيه وأرواحهم، فـ إِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ؛ لأنهم أهل الجنة، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَسَارِهِ بَكَى؛ لأنها أرواح أهل النار.

قوله: قُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَال: هَذَا آدَمُ وَهَذِهِ الأَْسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ. وفي اللفظ الآخر أنه قال: هَذَا أَبُوكَ آدَمُ [(948)].

قوله: «وَإِبْرَاهِيمَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ» . هذا وهم ـ كما سبق ـ والصواب أن «إبراهيم في السماء السابعة» [(949)]، كما جاء بذلك الحديث الصحيح، وأنه وجده مسند ظهره إلى البيت المعمور [(950)]، وهو كعبة سماوية تحاذي الكعبة الأرضية.

فائدة:

كل الأنبياء رآهم النبي  ﷺ في السموات بأرواحهم، فالروح أخذت شكل الجسد، وإلا فأجسادهم في الأرض، إلا عيسى فإنه مرفوع بروحه وجسده وسينزل في آخر الزمان إلى الأرض، ويكون نزوله علامة من علامات الساعة، كما قال الله تعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا، وفي قراءة: وإنه لَعَلَمٌ، وينزل كفرد من أفراد الأمة المحمدية ويحكم بشريعة نبينا محمد  ﷺ، وهو العلامة الثالثة من العلامات الكبرى، والعلامة الأولى المهدي، والعلامة الثانية الدجال.

والمهدي رجل من سلالة النبي  ﷺ من نسل فاطمة رضي الله عنها، اسمه كاسم النبي  ﷺ وكنيته ككنيته، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورًا، ويبايع له في وقت لا يكون للناس فيه إمام، وهو أول أشراط الساعة الكبار، وفي وقته تكثر الحروب، ومنها حرب تنشب بين النصارى والمسلمين، فتفتح فيها القسطنطينية، ويقتتل الناس بالسيوف ويعلقون سيوفهم بالزيتون، فإذا انتهت المعركة صاح الشيطان: إن الدجال قد خلفكم في أهليكم.

فإذا رجعوا وجدوا الدجال قد خرج، وهو رجل من بني آدم أعور العين اليمنى يدعي الصلاح في أول الأمر، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية، ثم ينزل عيسى بن مريم في زمان المهدي والدجال؛ وهو العلامة الثالثة، فإذا نزل صارت له الولاية والحكم، فيحكم بين الناس بشريعة نبينا محمد  ﷺ، ويكون فردًا من أفراد هذه الأمة المحمدية، وهو أفضل هذه الأمة بعد نبيها؛ لأنه نبي، فأفضل هذه الأمة بعد نبيها عيسى ، ثم يليه أبو بكر الصديق ، ثم بعد ذلك يخرج يأجوج ومأجوج في زمان عيسى ثم يهلكهم الله ؛ فهذه أربع متواليات من أشراط الساعة الكبار.

وبعد ذلك تتوالى بقية أشراط الساعة الكبار العشر، ومن ذلك هدم الكعبة المشرفة؛ ويهدمها رجل من الحبشة ينقضها حجرًا حجرًا ويلقيها في البحر، فيصلي الناس إلى الجهة، ثم تنسى الجهة.

وكذلك أيضا خروج الدخان الذي يملأ الأرض ويصيب المؤمن كهيئة الزكام، والكافر تصيبه شدة.

ثم ينزع القرآن من صدور الرجال ومن المصاحف ـ عياذًا بالله ـ بسبب ترك الناس العمل به.

ثم بعد ذلك تطلع الشمس من مغربها، والدابة تَسِمُ الناس، فأيهما خرج فالأخرى على إثرها قريبة.

ثم آخر أشراط الساعة العشر نار تخرج من قعر عدن تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا، ومن تخلف أكلته، وقبل ذلك تأتي ريح طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا تقبضه، ولا يبقى إلا الكفرة فعليهم تقوم الساعة.

وكونهم سيحاربون في آخر الزمان بالسيوف فهذا هو نص الحديث، قال  ﷺ: يعلقون سيوفهم بالزيتون [(954)] فيحتمل أن تهلك الأسلحة الحديثة قبل هذا الزمان، وفي بعض الروايات التي تتحدث عن حروب آخر الزمان قبيل خروج الدجال أنه يخرج جيش من المدينة إلى النصارى بالشام، قال النبي  ﷺ: يخرج أناس إني لأعرف أسماءهم وألوان خيولهم [(955)]؛ فدل على أنهم يقاتلون على الخيل، وفيه أنهم ينقسمون ثلاثة أقسام: قسم ينكلون عن الجهاد لا يتوب الله عليهم أبدًا، وقسم يقتلون ويكونون شهداء، وقسم يجاهدون فهم خير الناس.

 11- روايات حديث الإسراء والمعراج تدل على عظم شأن الصلاة وأهميتها؛ فإن الرسول  ﷺ قد شق صدره أولاً وغسل بماء زمزم وملئ حكمة وإيمانًا، فتطهر وتقدس باطنًا وظاهرًا لمناجاة الله تعالى، ثم كلمه الله وفرض عليه خمسين صلاة في المكان الأعلى، فلم يفرضها في الأرض؛ لعظم شأنها، ثم تردد بين ربه وبين موسى حتى خفضت من خمسين إلى خمس، فكل هذا يدل على عظم شأن الصلاة وأن أمرها جلل.

قوله: صَرِيفَ الأَْقْلاَمِ هو صوت الأقلام التي تكتب الأقضية والأقدار التي يقدرها الله .

قوله: فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ الحبايل قال بعضهم: لعلها وهم من بعض الرواة وأنها جنابل لا حبايل، والجنابل: قباب اللؤلؤ، وقد ورد في لفظ أن نهر الكوثر حَافَتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ[(956)].

قوله: تُرَابُهَا الْمِسْكُ أي: تراب الجنة المسك، والمسك هو الطيب.

مسألة: اختلفوا هل كان هناك صلاة قبل الإسراء أم لا؟

فقال بعضهم: ليس هناك صلاة.

وقال آخرون: كانت ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي.

وقال بعضهم: لم يكن هناك صلاة إلا ما كان من فرض صلاة الليل، ثم نسخت بفرض الصلوات الخمس.

المتن:

350 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: فَرَضَ اللَّهُ الصَّلاَةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَأُقِرَّتْ صَلاَةُ السَّفَرِ وَزِيدَ فِي صَلاَةِ الْحَضَرِ.

الشرح:

 350 استدل بعض العلماء كالأحناف[(957)] بحديث عائشة رضي الله عنها على أن القصر في السفر واجب؛ لأن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، وجاء في «صحيح مسلم» أن الصلاة فرضت في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين[(958)]؛ فاستدل الأحناف بهذا على أن القصر في السفر واجب، القول الثاني: ذهب الجمهور أنه ليس واجبًا وإنما هو مستحب؛ بدليل قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ؛ ولقوله  ﷺ في رخصة السفر أنها: صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ [(959)] ولأن عثمان لما أتم الصلاة في السفر في الحج صلى خلفه الصحابة كلهم، ولا يمكن للصحابة أن يجمعوا على شيء لا يجوز؛ فدل على أن قصر الصلاة في السفر مستحب ومتأكد وليس بواجب، ولو أتم لصحت الصلاة، خلافًا للأحناف الذين يقولون: لا يجوز أن يتم في السفر.

المتن:

باب وُجُوبِ الصَّلاَةِ فِي الثِّيَابِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.

وَمَنْ صَلَّى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ.

وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَْكْوَعِ أَنَّ النَّبِيَّ  ﷺ قَالَ: يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ.

وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَا لَمْ يَرَ أَذًى.

وَأَمَرَ النَّبِيُّ  ﷺ أَنْ لاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.

الشرح:

قوله: «وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ المراد بالزينة الثياب، والمراد بالمسجد: الصلاة، أي: خذوا ثيابكم عند كل صلاة، وهذا يدل على وجوب الثياب في الصلاة، وعلى وجوب ستر العورة، فالمراد بالزينة الثياب مطلقًا ولو لم تكن جميلة.

وسميت الثياب: زينة؛ لأن الثياب تجمل الإنسان من العري الذي هو مستقبح، ولا يشترط أن يكون الثوب جميلاً، لكن إن كان جديدًا أو مغسولاً فهو أفضل، ولو صلى في ثوب غير مغسول فلا حرج ويكون له زينة.

قوله: «مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ». المراد بالثوب القطعة الواحدة، وتسمى: القميص، فإذا صلى في ثوب واحد وكان هذا الثوب كبيرًا التحف به وخالف طرفيه على عاتقيه، وإن كان صغيرًا شد به نصفه الأسفل ووضع قطعة منه على كتفيه كالمحرم في الحج أو في العمرة، والأفضل والأستر أن يصلي في ثوبين: قميص وسروال.

والقطعة الواحدة تسمى ثوبًا في اللغة، فالإزار قطعة، والرداء قطعة، والقميص قطعة، والسروال قطعة، فالمراد القطعة الواحدة، وليس المراد الثوب المتعارف عليه بين الناس.

قوله: يَزُرُّهُ وَلَوْ بِشَوْكَةٍ. أي: إذا كان الثوب قطعة واحدة يزره؛ حتى يلف بعضه على بعض كي لا تظهر العورة، وإذا كان واسعًا التحف به ووضعه على عاتقيه فيكون ساترًا له.

قوله: «وَمَنْ صَلَّى فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ» ، أي: لا بأس أن يصلي في الثوب الذي يجامع فيه إذا كان نظيفًا، أما إذا رأى فيه بولاً أو منيًّا غسله، وإن لم ير فيه شيئًا فلا حرج أن يصلي فيه، والمرأة تصلي في الثوب الذي تحيض فيه ما لم تر فيه شيئًا، فإن رأت شيئًا من دم الحيض تغسله، وإلا فلا حرج في الصلاة فيه، وكذلك المرضع إذا لم يكن في ثوبها نجاسة من الطفل تصلي فيه، وإذا كان فيه شيء من البول تغسله.

قوله: «وَأَمَرَ النَّبِيُّ  ﷺ أَنْ لاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» ؛ وجه الدلالة: أنه إذا كان الطائف عليه أن يستتر ولا يتعرى، فالمصلي من باب أولى، فستر العورة للصلاة آكد من سترها في الطواف، والنبي  ﷺ أمر مناديًا ينادي في حجة الوداع ألا يطوف بالبيت عريان، حيث كان أهل الجاهلية يطوفون عراة في الكعبة، خصوصًا الذين يأتون من خارج مكة، فكانوا يقولون: لا نطوف في ثيابنا التي عصينا الله فيها؛ لأنها نجسة، فيخلعون ثيابهم، فإن وجدوا أحدًا من أهل مكة ـ ويسمونهم الحمس ـ يعطيهم ثوبًا طافوا فيه، وإن لم يجدوا طافوا عراة، حتى إن المرأة تطوف وهي عارية وتجعل يدها على فرجها وهي تطوف وتقول:

الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ [(960)]

فتظهر عورتها للناس ثم تقول: لا أحله، وهذا هو مبلغ عقولهم في الجاهلية؛ ولهذا أمر النبي  ﷺ في السنة التاسعة مناديًا ينادي: أَنْ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، ومن كان له عهد فعهده إلى مدته ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. [(961)]، فأمر المؤذنين يؤذنون بهذه الكلمات قبل حجة الوداع في السنة التاسعة لما حج أبو بكر بالناس؛ ولهذا قال تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، فلما علم الناس ذلك حج النبي  ﷺ بالناس حجة الوداع في السنة التي بعدها، وهي السنة العاشرة.

المتن:

351 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: أُمِرْنَا أَنْ نُخْرِجَ الْحُيَّضَ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ وَذَوَاتِ الْخُدُورِ فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ عَنْ مُصَلاَّهُنَّ، قَالَتْ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ؟ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا.

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا عِمْرَانُ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ حَدَّثَتْنَا أُمُّ عَطِيَّةَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ  ﷺ بِهَذَا.

الشرح:

 351 والشاهد من حديث أم عطية رضي الله عنها قول النبي  ﷺ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا فإذا كانت المرأة مأمورة بالخروج لصلاة العيد، وإذا لم يكن لها ثياب تستعير ثيابًا من أختها؛ فالثياب وستر العورة في الصلاة المفروضة من باب أولى.

وفي الحديث: دليل على أهمية صلاة العيد وتأكدها، حتى إن النساء تؤمر بالخروج إليها، وحتى الحُيّض وذوات الخدور يشهدن الخير ودعوة المسلمين ويؤمِّنَّ على الدعاء، ويعتزلن الحُيَّض المصلى حتى لا يقطعن الصفوف، وإلا فمصلى العيد ليس مسجدًا؛ فيجوز للمرأة الحائض أن تدخل مصلى العيد، لكنها ممنوعة من دخول المسجد الذي يصلى فيه الصلوات الخمس؛ ولهذا أمر النبي  ﷺ أن تخرج العواتق وذوات الخدور والحيض يشهدن الخير ودعوة المسلمين ويعتزلن المصلى، فتكون الحُيّض وراء النساء يسمعن الخطبة ويؤمن على الدعاء، ولما قالت امرأة: «يَا رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَانَا لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ؟ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا والجلباب: ثوب كالعباءة، فإذا كانت المرأة مأمورة أن تخرج لصلاة العيد وإذا لم يكن لها جلباب تعيرها أختها من جلبابها، فهذا يدل ـ كما أسلفنا ـ على أن ستر العورة للصلاة المفروضة أولى وأحرى، وأنه لابد للإنسان أن يصلي في ثوب يستر عورته، وهذا وجه الدلالة من الحديث، وهذا من دقيق تراجم البخاري.

المتن:

باب عَقْدِ الإِْزَارِ عَلَى الْقَفَا فِي الصَّلاَةِ

وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: عَنْ سَهْلٍ صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ.

الشرح:

هذه الترجمة عقدها المؤلف رحمه الله لبيان جواز الصلاة في الثوب الواحد ـ والمراد بالثوب القطعة الواحدة ـ وأنه إذا صلى في ثوب واحد فإنه يتزر ويتوشح به، فيخالف بين طرفيه على عاتقيه؛ ولهذا قال: «بَاب عَقْدِ الإِْزَارِ عَلَى الْقَفَا فِي الصَّلاَةِ» ، يعني: يعقده على القفا حتى يستره.

قوله: «صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ» ، يعني: من لم يكن عنده إلا قطعة صغيرة من الثوب كالإزار يشدها على نصفه الأسفل ويعقدها على رقبته حتى لا تظهر العورة، فقد كانوا على عهد النبي  ﷺ بلغوا من قلة ذات اليد أن يكون أناس ليس عندهم إلا إزار وليس عندهم رداء يسترون به النصف الأعلى.

المتن:

352 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: صَلَّى جَابِرٌ فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ، قَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ: إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ، وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ  ﷺ.

الشرح:

 352 قوله في حديث جابر : «وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمِشْجَبِ» المشجب: عيدان يفرج بين قوائمها وتضم رءوسها ويوضع عليها الرداء.

قوله: «قَالَ لَهُ قَائِلٌ: تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ» أي: فأنكر عليه: أتصلي في إزار واحد ورداؤك موضوع على المشجب ـ وكان العرب في الغالب يلبسون الأزر والأردية، والإزار: قطعة قماش يشد به النصف الأسفل، والرداء: قطعة توضع على الكتفين، مثل التي يلبسها المحرم في الحج والعمرة ـ فقال جابر: «إِنَّمَا صَنَعْتُ ذَلِكَ لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ» ، يعني: ليراني جاهل مثلك، فزجره على اعتراضه على العالم، وإنما كان ينبغي له أن يسأل ولا يعترض، فجابر إنما فعل هذا حتى يراه الجاهل فيعلمه الحكم الشرعي، أو حتى يسأله أحد فيجيبه.

قوله: «وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ  ﷺ» ، أي: قليل من كان يملك ثوبين على عهد النبي  ﷺ، أما غالب الناس فلم يكن عند الواحد منهم إلا قطعة واحدة يتزر بها.

وإذا لم يملك الإنسان إلا قطعة واحدة فاتزر بها وستر بها نصفه الأسفل فصلاته صحيحة بالاتفاق، لكن إذا وجد قطعة أخرى أو ثوبًا آخر يضعه على كتفيه ولم يفعل، ففي المسألة خلاف بين أهل العلم:

القول الأول: ذهب الجمهور إلى أنها تصح الصلاة ولو لم يستر كتفيه.

القول الثاني: ذهب الإمام أحمد[(962)] إلى أنها لا تصح؛ لحديث: لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ [(963)].

القول الثالث: ذهب بعض أهل العلم إلى أنها تصح مع الإثم ـ وسيأتي بسط هذا الخلاف في التراجم الآتية إن شاء الله.

وجابر ممن يرى أن الصلاة تصح بدون ستر الكتفين؛ لأنه صلى في إزار ولم يضع الرداء على كتفيه وهو قادر، ولما سأله السائل، قال: تعمدت هذا حتى يراني جاهل مثلك فأبين له، فأينا على عهد رسول الله  ﷺ كان له ثوبان، والثوب كما سبق المراد به القطعة الواحدة، ليس القميص.

المتن:

353 حَدَّثَنَا مُطَرِّفٌ أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الْمَوَالِي، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، قَالَ: رَأَيْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ  ﷺ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ.

 الشرح:

353 قوله: «فِي ثَوْبٍ» يعني: في قطعة واحدة، فإن كانت صغيرة شد بها نصفه الأسفل، كالإزار يشد به النصف الأسفل، وإن كانت كبيرة وضعها على كتفيه وخالف بين طرفيها، فوضع طرفًا على عاتقه الأيمن وطرفًا على عاتقه الأيسر فتستر جميع الجسد الأعلى والأسفل.

وظاهر حديث جابر أنه صلى في قطعة واسعة فشد بها نصفه الأسفل وخالف بين طرفيها على عاتقيه، كما جاء في الحديث الآخر: إذا كان الرداء واسعًا فالتحف به، وإن كان ضيقًا فاتزر به [(964)]، وهذا إن لم يجد إلا قطعة واحدة، أما إن وجد غيرها فهذا هو محل الخلاف بين أهل العلم، يعني هل ستر الكتفين واجب أم مستحب؟ وسيأتي إن شاء الله.

المتن:

باب الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ مُلْتَحِفًا بِهِ

قَالَ الزُّهْرِيُّ: فِي حَدِيثِهِ الْمُلْتَحِفُ الْمُتَوَشِّحُ، وَهُوَ الْمُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَهُوَ الاِشْتِمَالُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ.

قَالَ: قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: الْتَحَفَ النَّبِيُّ  ﷺ بِثَوْبٍ وَخَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.

الشرح:

قوله: «وَهُوَ الْمُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ» هو الملتحف، فالذي يضع الثوب على عاتقيه؛ فيضع طرفه على كتفه الأيسر والطرف الآخر على كتفه الأيمن يسمى متوشحًا أوملتحفًا.

قوله: «الْتَحَفَ النَّبِيُّ  ﷺ بِثَوْبٍ» ، يعني: بثوب كبير، فخالف بين طرفيه وصلى فيه؛ فدل على أنه لا بأس بالصلاة في الثوب الواحد ولو لم يلبس تحته سراويل، لكن لو لبس السراويل كان أفضل وأكمل.

وهذا يفسر ما جاء في الحديث السابق من أن النبي  ﷺ صلى في ثوب واحد، فبين هنا أن النبي  ﷺ التحف بثوب وخالف بين طرفيه على عاتقيه؛ فوضع طرفًا على عاتقه الأيمن والآخر على الأيسر، كما في الحديث الآخر: إن كان واسعًا فالتحف به وإن كان ضيقا فاتزر به [(965)]، أي: إن كان الثوب قطعة صغيرة قصيرة اتزر بها فشد بها النصف الأسفل، وإن كان قطعة كبيرة اتزر ببعضه وخالف بين طرفيه على عاتقيه، كما فعل النبي  ﷺ، قالت أم هانئ: «الْتَحَفَ النَّبِيُّ  ﷺ بِثَوْبٍ وَخَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ» .

وعلى كل حال فينبغي للإنسان أن يضع شيئًا على عاتقيه ما دام قادرًا، وعليه فينبغي التنبيه على مثل هذا خصوصًا في الحج والعمرة؛ فبعض الناس يتساهل حال إحرامه، فتجده قد شد الإزار على نصفه الأسفل وترك الرداء، فإذا حانت الصلاة صلى وكتفاه مكشوفتان وليس عليه رداء، وهذا غلط؛ لحديث: لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ [(966)] والمسألة وإن كان فيها خلاف بين أهل العلم، لكن ينبغي عدم التساهل في هذا، فما دام في قدرة المرء أن يضع شيئًا على عاتقيه فليضع ولا يتساهل.

المتن:

354 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ  ﷺ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ.

الشرح:

354 قوله: «خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ» أي: وضع طرفًا على عاتقه الأيمن وطرفًا على الأيسر، فدل هذا على صحة الصلاة في الثوب الواحد، وإذا صلى في قطعتين فهو أفضل وأكمل، فيصلي في إزار ورداء، أو قميص وسروال إذا تيسر، وإذا لم يتيسر كَفَتْ قطعة واحدة يستر بها العورة.

المتن:

355 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ  ﷺ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، قَدْ أَلْقَى طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.

الشرح:

355 في الحديث: التصريح بأن عمر بن أبي سلمة رأى النبي  ﷺ يصلي في ثوب واحد ـ أي: قطعة واحدة ـ قد خالف بين طرفيه؛ لأنه ثوب واسع، فاتزر به وألقى طرفيه على عاتقيه.

المتن:

356 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ مُشْتَمِلاً بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ.

الشرح:

356 قوله: «يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ» ، يعني: في قطعة واحدة يتزر ببعضها ويلقي طرفيها على عاتقيه.

وقوله: «وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ» ، هذا تفسير للاشتمال، فمعنى قوله: «مشتمل به» : واضع طرفيه على عاتقيه.

المتن:

357 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ أَخْبَرَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ تَقُولُ: ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ  ﷺ عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ، قَالَتْ: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: مَنْ هَذِه؟، فقُلْتُ: أَنَا أُمُّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ قَامَ فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ ابْنُ أُمِّي أَنَّهُ قَاتِلٌ رَجُلاً قَدْ أَجَرْتُهُ؛ فُلاَنَ ابْنَ هُبَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ، قَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: وَذَاكَ ضُحًى.

الشرح:

357 وحديث أم هانئ رضي الله عنها فيه فوائد:

 1- جواز سلام المرأة على الرجل إذا أمنت الفتنة، ولاسيما إذا كان بينهما قرابة؛ حيث جاءت أم هانئ بنت عم النبي  ﷺ، وهي أخت علي بن أبي طالب فقالت: السلام عليك، فرد عليها السلام.

والأولى للمرأة ـ إذا كان الرجل أجنبيًّا وتخشى الفتنة ـ ألا تسلم عليه، أما إذا كان بينهما قرابة فلا بأس أن تسلم المرأة عليه إذا أمنت الفتنة.

 2- أنه لا بأس أن تستر الإنسانَ ابنتُه وهو يغتسل؛ ولهذا كان النبي  ﷺ يغتسل وفاطمة رضي الله عنها تستره.

 3- في قوله  ﷺ: مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ الترحيب وحسن الضيافة.

 4- مشروعية صلاة الضحى، حيث أنه النبي  ﷺ صلى ثمان ركعات في الضحى وقال بعضٌ: إن هذه صلاة الفتح؛ أي صلاها لفتح مكة وهي ضحى؛ فيصح أن يطلق عليها صلاة الفتح وصلاة الضحى.

 5- أن أم هانئ أجارت رجلاً كافرًا ـ يعني: أمَّنته ـ فأراد علي أخوها أن يقتله، فشكت ذلك للنبي  ﷺ، فقال: قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ ففيه: دليل على صحة إجارة المرأة، وفي الحديث الآخر: المسلمون ذمة واحدة يسعى بها أدناهم [(967)]، فإذا أمَّن عبد أو أمَّنت امرأة فالتأمين والإجارة صحيحة.

 6- استحباب تسمية الإنسان نفسه عند الاستئذان، فإذا قيل: مَن؟ قال: أنا فلان، فالرسول  ﷺ قال: مَنْ هَذِه؟ قالت: «أَنَا أُمُّ هَانِئٍ» ، فينبغي أن يسمي الإنسان نفسه ولا يقول: أنا، وفي الحديث الآخر أن جابرًا لما ضرب الباب على النبي  ﷺ قال: مَنْ فقال جابر: أنا، فقال النبي  ﷺ: أَنَا أَنَا كأنه كرهها[(968)]؛ لأن كلمة أنا لا تفيد تعريفًا.

والشاهد من الحديث: مشروعية الالتحاف بالثوب الواحد؛ ولهذا قالت: «فَصَلَّى ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ» ، يعني: بقطعة واحدة متوشحًا بها، يعني قد خالف بين طرفيها على عاتقيه.

المتن:

358 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ سَائِلاً سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ عَنْ الصَّلاَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ  ﷺ: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ.

 الشرح:

358 قوله: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ؟، استفهام بمعنى الإخبار، وفيه: دليل على أنه لا بأس بالصلاة في الثوب الواحد، وهي فتوى في ضمن الفحوى، يعني هل كل واحد يجد ثوبين، أي قطعتين.

وهذا الحديث احتج به الجمهور على صحة الصلاة في الثوب الواحد إذا كان ساترًا للعورة ولو لم يكن على عاتقه منه شيء، ولكن الصلاة في القطعتين أفضل وأكمل، فيصلي في إزار ورداء أو قميص وسروال كما سيأتي في قصة عمر .

المتن:

باب إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلَى عَاتِقَيْهِ

 359 حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ  ﷺ: لاَ يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ.

360 حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: سَمِعْتُهُ أَوْ كُنْتُ سَأَلْتُهُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ  ﷺ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ.

 الشرح:

 359 قوله: لاَ يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ؛ هذا الحديث فيه: نهي عن أن يصلي المرء في الثوب الواحد ـ يعني: في القطعة الواحدة ـ إلا إذا جعل على عاتقيه منه شيئا، فإن صلى في ثوب واحد وليس على عاتقيه منه شيء فقد خالف النهي، إلا إذا لم يجد غيره وكان قصيرًا اتزر به، وهذا ليس فيه خلاف، لكن إذا وجد غيره، واستطاع أن يضع على عاتقيه، ولم يضع، فهذا هو المخالف.

واختلف العلماء في الصلاة في الثوب الواحد، أي: القطعة الواحدة ـ يستر به المصلي عورته، ولا يكون على عاتقه منه شيء ـ أي: اختلفوا كيف يجمع بين الأحاديث:

القول الأول: ذهب الجمهور إلى جواز الصلاة في الثوب الواحد، ولو كان بادي العاتقين؛ عملاً بالأحاديث الكثيرة، كصلاته  ﷺ في الثوب الواحد، وصلاة جابر ورداؤه على المشجب، وقول النبي  ﷺ: أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ. [(969)]، وحملوا النهي في هذا الحديث على كراهة التنزيه، وحملوا الأمر على الاستحباب في قوله: مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، وقوله: إن كان واسعًا فالتحف به [(970)].

القول الثاني: ذهب الإمام أحمد رحمه الله[(971)] وجماعة إلى الجمع بين الأحاديث بحمل المطلق على المقيد وحمل الأمر على الوجوب، فقالوا: فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ،، وهذا واجب، وحملوا النهي على التحريم: لاَ يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ شَيْءٌ، أي: يَحْرُم عليه ألا يجعل على عاتقيه منه شيئًا، وجعلوه شرطًا، أي تبطل الصلاة بعدم ستر العاتق مع القدرة؛ لأن النهي يقتضي الفساد؛ لأن أصله للتحريم.

القول الثالث: أن الأمر للوجوب والنهي للتحريم لكن لا تبطل الصلاة، فيأثم وتصح الصلاة، وهو رواية عن أحمد رحمه الله[(972)]: ستر العاتق واجب يأثم بتركه وتصح الصلاة وليس بشرط.

والأقرب منها الثالث: أنه يأثم ولكن تصح الصلاة؛ لأن الأصل في الأوامر الوجوب، ولا تحمل على الاستحباب إلا بدليل.

وهذا كله مع القدرة، أما إذا لم يجد شيئًا فصلاته صحيحة بالاتفاق، فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فيستر العورة ويتزر.

رأى بعض العلماء أنه يكفي ستر أحد العاتقين، ففي بعض الأحاديث: عَلَى عَاتِقِهِ، وفي بعضها: عَلَى عَاتِقَيْهِ، [(973)].

وإذا لم يجد فصلاته صحيحة ـ كما تقدم ـ؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، حتى العاري إذا لم يجد شيئًا صلى ولو كان عاريًا، ولو مكشوف العورة، لكن يصلي وهو جالس ويومئ إيماء، حتى لا تنكشف عورته.

 360 قوله في حديث أبي هريرة : مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، يعني: في قطعة واحدة.

قوله: فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ، أي: يتزر ببعضه، ويلقي طرفيه على عاتقيه.

المتن

باب إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا

 361 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ، قَالَ: سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟ فَقَالَ: خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً لِبَعْضِ أَمْرِي فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ فَاشْتَمَلْتُ بِهِ وَصَلَّيْتُ إِلَى جَانِبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: مَا السُّرَى يَا جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ قَالَ: مَا هَذَا الاِشْتِمَالُ الَّذِي رَأَيْتُ؟ قُلْتُ: كَانَ ثَوْبٌ، يَعْنِي ضَاقَ قَالَ: فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ.

الشرح:

 361 قوله: فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ؛ هذا هو السنة، فالمشروع للمسلم إذا كان الثوب ضيقًا أن يتزر به ـ والمراد بالثوب: القطعة الواحدة ـ فإذا كانت عنده قطعة واحدة وكان الثوب لا يكفي أن يجعل شيئًا منه على عاتقيه فليتزر به، يعني يشد به نصفه الأسفل، وإن كان واسعًا اتزر ببعضه وخالف بين طرفيه على عاتقيه.

وقوله: مَا السُّرَى؟ أي: ما سبب سيرك بالليل؟

فالسرى هو: السير بالليل.

المتن:

362 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ: لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا.

 الشرح:

362 قوله في حديث سهل : «لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا» ، يعني: خشية أن يبدو شيء من عورة الرجال عند السجود، وهذا فيه دليل على أن النساء كانت تصلي خلف الرجال مع النبي  ﷺ، وكن يحافظن على الصلوات معه  ﷺ، كما جاء في الحديث الآخر: «كان النبي  ﷺ يصلي الصبح ويصلي معه نساء فينصرفن متلفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس» [(974)]، يعني: من اختلاط ضياء الصبح بظلام الليل، فكانت النساء تصلي مع الرجال الصلوات الخمس، وكن يصلين خلف الرجال، وليس بينهن وبينهم حاجز، لا جدار ولا سترة؛ ولهذا قيل للنساء: «لاَ تَرْفَعْنَ رُءُوسَكُنَّ» ، يعني: من السجود، «حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا» ؛ وذلك خشية أن يبادرن برفع الرءوس فيرين شيئًا من عورات الرجال الذين أمامهن.

قوله: «كَانَ رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ  ﷺ عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ» ؛ وذلك خشية أن يسقط الإزار، فهم لا يملكون إلا قطعة واحدة، فيتزرون بها، ويجعلون خيطًا على الرقبة حتى يشد الإزار فلا يسقط؛ وهذا فيه بيان ما أصاب الصحابة من قلة ذات اليد، فكان الواحد منهم لا يجد إلا إزارًا واحدًا يشده على نصفه الأسفل، وقد يكون قصيرًا يُخشى سقوطه، أو إذا سجد بدا شيء من العورة فيشده بخيط على رقبته؛ ولهذا قال: «عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ كَهَيْئَةِ الصِّبْيَانِ» .

وفيه: دليل على ما أصابهم من جهد، ما ورد في قصة الرجل الذي خطب المرأة التي جاءت للنبي  ﷺ، فقال النبي  ﷺ ومن ذلك: الْتَمِسْ شَيْئًا، فذهب ولم يجد شيئًا، قال: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فذهب فلم يجد ولا خاتمًا من حديد، وقال: زوجني هذه المرأة، قال: ما تصدقها؟ قال: يا رسول الله ما عندي إلا إزاري هذا، أي ما عنده إلا إزار واحد، قطعة يشد بها نصفه الأسفل، والكتفان ما عليهما شيء، فقال النبي  ﷺ: إزارك هذا إن لَبِسْتَه لم يكن عليها منه شيء، وإن لَبِسَتْه لم يكن عليك منه شيء، ثم جلس الرجل، فلما طال المقام ذهب الرجل، فلما ولى دعاه النبي  ﷺ، وقال: أَمَعَكَ مِنَ القُرْآنِ شَيْءٌ؟ قال: نعم أحفظ سورة كذا وسورة كذا، قال: زَوَّجْنَاكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ [(975)] ففي أول الأمر كان الصحابة في جهد وفقر وشدة، ثم بعد ذلك وسَّع الله عليهم وفتحت الفتوح، لكنهم ما ضرهم هذا، فنشروا دين الله وجاهدوا في سبيله؛ فأفلحوا، ونجحوا، وأعزهم الله، ولم يضرهم ما أصابهم من الفقر وقلة ذات اليد.

أما حكم انكشاف العورة في أثناء الصلاة فالمعروف عند العلماء أنه إذا كان ما ظهر يسيرًا يعفى عنه ولو طال الوقت، أما إذا كان انكشافًا شديدًا فإن أزاله في الحال فلا يضر، وإن فحش وطال بطلت الصلاة.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «ومذهب أحمد: أنه إذا انكشفت العورة كلها أو كثير منها، ثم سترها في زمن يسير لم تبطل الصلاة؛ وكذلك إن انكشف منها شيء يسير، وهو ما لا يستفحش في النظر ولو طال زمنه»؛ فهذا هو المعروف عند العلماء؛ ثم قال رحمه الله: «وإن كان كثيرًا، وطالت مدة انكشافه بطلت الصلاة، وكذا قال الثوري: لو انكشفت عورته في صلاته لم يُعِد، ومراده: إذا عاد سترها في الحال، ومذهب الشافعي أنه يعيد الصلاة بانكشافها بكل حال، وعن أحمد ما يدل عليه.

وعن أبي حنيفة وأصحابه: إن انكشف من المغلظة دون قدر الدرهم فلا إعادة، ومن المخففة إن انكشف دون ربعها فكذلك، ويعيد فيما زاد على ذلك ولا فرق بين العمد والسهو في ذلك عند الأكثرين».

والأقرب: أنه إذا انكشف شيء كثير لكن ستره في الحال فلا تبطل الصلاة، فإن طال الزمن بطلت الصلاة، أما إذا كان شيئًا يسيرًا فهذا يرجع إلى العرف.

ثم قال رحمه الله: «وقال إسحاق: إن لم يعلم بذلك إلا بعد انقضاء صلاته لم يعد، وهو الصحيح عند أصحاب مالك أيضًا، وحكي عن طائفة من المالكية: أنه من صلى عاريًا فإنه يعيد في الوقت ولا يعيد بعده، وقالوا: ليس ستر العورة من فرائض الصلاة كالوضوء، بل هو سنة، والمنصوص عن مالك: أن الحرة إذا صلت بادية الشعر أو الصدر أو ظهور القدمين أعادت في الوقت خاصة».  

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد