والصواب: أن ستر العورة شرط لابد منه، فمن صلى ولم يستر عورته وهو قادر فصلاته باطلة، والشيء اليسير يعفى عنه.
المتن:
باب الصَّلاَةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الثِّيَابِ: يَنْسُجُهَا الْمَجُوسِيُّ لَمْ يَرَ بِهَا بَأْسًا.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ مَا صُبِغَ بِالْبَوْلِ.
وَصَلَّى عَلِيٌّ فِي ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ.
الشرح:
قوله: «بَاب الصَّلاَةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ» ؛ هذه الترجمة معقودة لجواز الصلاة في ثياب الكفار، وأنه لا بأس بالصلاة في الثياب التي جاءت من بلاد الكفار بدون غسل؛ لأن الأصل فيها الطهارة، و «الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ» تعني: الجبة التي جاءت من بلاد الشام، وكانت بلاد الشام في ذلك الوقت بلاد كفر يسكنها الروم، ولم تكن فتحت في عهد النبي ﷺ، فصلى النبي ﷺ في جبة شامية، وكانت ضيقة الكمين ولم يغسلها، فدل على جواز الصلاة في الثياب التي جاءت من بلاد الكفار بدون غسل.
قوله: «وَقَالَ الْحَسَنُ فِي الثِّيَابِ: يَنْسُجُهَا الْمَجُوسِيُّ لَمْ يَرَ بِهَا بَأْسًا» ؛ فالحسن البصري لم ير في الثياب التي ينسجها المجوسي بأسًا؛ لأن الأصل الطهارة والحل حتى تُعلم النجاسة، فإذا نسجها مجوسي أو يهودي أو نصراني فيجوز الصلاة فيها، إلا إذا عُلم أن فيها نجاسة.
وأما قول معمر: « رَأَيْتُ الزُّهْرِيَّ يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ مَا صُبِغَ بِالْبَوْلِ» ، فقد فسره الحافظ ابن حجر رحمه الله بأن قوله: «بالبول» إن كان للجنس ـ يعني: لجنس البول ـ فمحمول على أنه كان يغسله قبل لبسه، وإن كانت للعهد فالمراد بول ما يؤكل لحمه وهذا لا يحتاج إلى غسل؛ لأنه طاهر، ولكن قد يقال: إن دعوى كونه صبغ بالبول لا تثبت إلا بدليل؛ لأن الأصل السلامة من البول.
لكن لو ثبت أنه يصبغ ببول ما لا يؤكل لحمه فإنه يجب غسله، وإن كان ببول ما يؤكل لحمه فلا يغسل لأنه طاهر.
قوله: «وَصَلَّى عَلِيٌّ فِي ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ» ؛ يعني: صلى في ثوب جديد غير مغسول، والمعنى: أنه قد جاءه ثوب جديد من بلاد الكفار غير مغسول فصلى فيه، ولم يلتفت علي إلى احتمال كونه أصابته نجاسة؛ لأن الأصل الطهارة، واحتمال إصابته بالنجاسة لا يعارض الأصل.
المتن:
الشرح:
363 قوله في حديث المغيرة بن شعبة : «وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ» استدل به المؤلف رحمه الله على جواز لبس الثياب والجبب التي جاءت من بلاد الكفار؛ لأن الشام في زمن النبي ﷺ كانت بلاد كفار.
وفي الحديث: جواز الصلاة بالجبة، وجواز لبس الثوب ضيق الكمين، وإذا أراد أن يغسل ذراعيه أخرج يديه من أسفلها، أما إذا كان الضيق الذي يتعب المرء فلا يستطيع معه الوضوء ولا السجود والذي يبين مقاطع الجسد فلا.
وقوله: «فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَتَّى تَوَارَى عَنِّي» ، فيه: مشروعية الاستتار عند قضاء الحاجة، وأنه ينبغي البعد حتى لا تُرى عورته ولا يسمع له صوت ولا يشم له ريح.
قوله: «فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَتَوَضَّأَ» ، فيه: جواز الإعانة في الوضوء وصب الماء؛ ولهذا قال العلماء ـ أخذًا من هذا: تباح معونة المتوضئ، كما يباح له أن ينشف أعضاءه، وكل هذا لا حرج فيه.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وروى أبو بكر الخلال بإسناده، عن ابن سيرين، قال: ذُكر عند عمر الثياب اليمانية أنها تصبغ بالبول؟ فقال: نهانا الله عن التعمق والتكلف؛ وروى الإمام أحمد، عن هشيم، عن يونس، عن الحسن، أن عمر بن الخطاب أراد أن ينهى عن حلل الحبرة؛ لأنها تصبغ بالبول، فقال له أُبَيّ: ليس ذاك لك، قد لبسهن النبي ﷺ، ولبسناهن في عهده[(976)]. وروى ابن أبي عاصم في كتاب اللباس من طريق محمد بن عبيد الله العَرْزَمي ـ وفيه ضعف ـ عن عبدالملك بن عمير، عن قبيصة بن جابر، قال: خطب عمر الناس، فقال: إنه بلغني أن هذه البرود اليمانية التي تلبسونها تصبغ بالبول؛ بول العجائز العتق، فلو نهينا الناس عنها؟ فقام عبدالرحمن بن عوف فقال: يا أمير المؤمنين، أتنطلق إلى شيء لبسه رسول الله ﷺ وأصحابه فتحرمه؟! إنها تغسل بالماء، فكَفَّ عُمَر عَن ذَلِكَ. وقد رُوي عَن الْحَسَن أنه كَانَ إذا سئل عَن البرود إذا صبغت بالبول: هل ترى بلبسها بأسًا؟ حدث بحديث عمر مع أبي بن كعب كما تقدم » .
وعلى كل حال فلو ثبت أنها صبغت بالبول فلابد أن تُغسل؛ لقول النبي ﷺ: دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لاَ يَرِيبُكَ [(977)] أما إذا لم يُعلم شيء ولم يذكر شيء فالأصل الطهارة.
المتن:
كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا
364 حَدَّثَنَا مَطَرُ بْنُ الْفَضْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ: يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ، قَالَ: فَحَلَّهُ فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا ﷺ.
الشرح:
364 قوله: «كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمْ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ» ؛ هذه القصة حصلت للنبي ﷺ قبل البعثة بخمس سنوات وعمره خمس وثلاثون، فلما بنت قريش الكعبة كانوا ينقلون الحجارة وكان النبي ﷺ ينقل معهم وعليه إزاره، فقال له العباس عمه: «يَا ابْنَ أَخِي، لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ فَجَعَلْتَ عَلَى مَنْكِبَيْكَ» حتى يقيك الحجارة ـ وكانت قريش على عادتهم يتساهلون في كشف العورة ـ فحل النبي ﷺ الإزار «فجعله على منكبيه فسقط مغشيًّا عليه» أي: من شدة الحياء، «فما رئي بعد ذلك عريانًا» ، وهذا من حماية الله لنبيِّه عليه الصلاة والسلام.
وكانت العرب تتساهل في كشف العورة، حتى كانوا يطوفون بالكعبة وهم عراة، فإذا جاءوا الحرم قالوا: لا نطوف في الثياب التي عصينا الله فيها، فإن وجدوا أحدًا من أهل مكة يعطيهم ثوبًا طافوا به، وإن لم يجدوا طافوا عرايا، وهذا من جهلهم وضلالهم، حتى كانت المرأة في الجاهلية إذا لم تجد ثوبًا من ثياب أهل مكة طافت عريانة، ووضعت يدها على فرجها، وقالت وهي تطوف:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ[(978)] |
وهذا من ضلالهم وجهلهم، ومن الآصار التي وضعوها على أنفسهم في الجاهلية.
والشاهد: أن النبي ﷺ لم يُرَ بعد ذلك عريانًا، وهذا يتناول ما بعد النبوة، فقوله: «فما رئي بعد ذلك».
يعني مطلقًا؛ والمؤلف رحمه الله ترجم فقال: «بَاب كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي فِي الصَّلاَةِ وَغَيْرِهَا» ؛ وهذا من دقة استنباطاته، يعني إذا كان النبي ﷺ لم يُرَ له عورة بعد ذلك في غير الصلاة، ففي الصلاة من باب أولى، فتم بذلك الاستدلال على كراهة التعري، وأنه لا ينبغي للإنسان أن يتعرى في الصلاة ولا في غيرها، والكراهية هنا تحمل على التحريم، فلا يجوز للإنسان أن يتعرى إلا بسبب وفي خَلوة، أما أن يتعرى عند الناس فهذا حرام ولا يجوز.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وبناء الكعبة ـ حين نقل النبي ﷺ مع قريش الحجارة ـ لم يدركه جابر. ثم قال: وأما سقوطه مغشيًّا عليه، فقيل: من شدة حيائه ﷺ من تعريه؛ فإنه كان مجبولاً على أجمل الأخلاق وأكملها منذ نشأ، ومن أعظمها شدة الحياء، وقيل: بل كان لأمرٍ شاهده وراءه، أو لنداء سمعه نهى عن التعري، وقد خرج البخاري هذا الحديث في باب: «بنيان الكعبة»، من كتاب «بدء الخلق»، من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، وفيه: قال: فخر إلى الأرض، وطمحت عيناه إلى السماء، ثم أفاق فقال: إِزَارِي إِزَارِي، فشد عليه إزاره [(979)].
فالحديث له روايات، منها أنه عليه الصلاة والسلام لما أفاق قال: إِزَارِي إِزَارِي، يعني: طلب إزاره من شدة حيائه.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «ذكر في صحيح مسلم عن المسور بن مخرمة قال: أقبلت بحجر أحمله ثقيل وعلي إزار خفيف، قال: فانحل إزاري ومعي الحجر فلم أستطع أن أضعه حتى بلغت به إلى موضعه، فقال رسول الله ﷺ: ارْجِعْ إِلَى ثَوْبِكَ فَخُذْهُ، وَلَا تَمْشُوا عُرَاةً [(980)]».
المتن:
باب الصَّلاَةِ فِي الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالتُّبَّانِ وَالْقَبَاءِ
365 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنْ الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟ فَقَالَ: أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟؛ ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ، صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ، قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الصلاة في الثوب الواحد، وأن الصلاة في الثوب الواحد جائزة، إلا أن الصلاة في الثوبين أكمل وأفضل؛ فإذا صلى في قطعة واحدة تستر العورة صحت الصلاة عند جمهور العلماء.
365 قوله: «فَسَأَلَهُ عَنْ الصَّلاَةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ؟» ، سبق الكلام على هذه المسألة وأنه إذا صلى في ثوب واحد، فإن كان ضيقًا اتزر به، وإن كان واسعًا التحف به ـ يعني خالف بين طرفيه على عاتقيه ـ وأن جمهور العلماء يرون صحة الصلاة في الثوب الواحد ولو لم يكن على عاتقه منه شيء، بخلاف من قال: إذا صلى وعاتقاه مكشوفان وهو يجد لم تصح صلاته؛ لحديث: لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ [(981)]، وقال آخرون من أهل العلم: تصح مع الإثم.
وعليه فالصلاة في الثوب الواحد ـ أي القطعة الواحدة ـ جائزة، لكن الصلاة في الثوبين أكمل، فيصلي مثلاً في قميص وسروال، أو إزار ورداء، أو سروال وقباء، أو تبان وقباء، أو تبان وقميص.
والسروال ما له رِجلان، أما التبان فسروال قصير ليس له رِجلان يصل إلى نصف الفخذ أو بمقدار ما يستر السوءة.
قوله: فَقَالَ: أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟ يعني: هل يجد كل واحد قطعتين؟ فقد كانوا في الزمان الأول لا يجد الواحد منهم إلا قطعة واحدة يستر بها النصف الأسفل، كما جاء في حديث سهل، لما جاءت امرأة وعرضت نفسها على النبي ﷺ فقال رجل: يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة، فقال: أَصْدِقْها شيئًا، فذهب فلم يجد شيئًا يصدقها، فقال: الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فذهب فلم يجد ولا خاتمًا من حديد، ثم جلس الرجل فقال: يا رسول الله أعطيها إزاري هذا، قال سهل: ما له رداء ـ أي ما عنده إلا إزار، وهو قطعة يشد بها النصف الأسفل، والنصف الأعلى مكشوف ـ فقال النبي ﷺ: إن لَبِسَتْه لم يكن عليها منه شيء وإن لِبَسَتْه لم يكن عليك منه شيء، ثم جلس الرجل طويلاً ثم قام، فأرسل إليه النبي ﷺ قال: هَلْ مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟ قال: نعم أحفظ سورة كذا وكذا، فقال: زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ [(982)]، فهذا يدل على أن الصحابة أصابهم في أول الأمر شدة وجهد، لكن لم يضرهم هذا، فقد نشروا دين الله وجاهدوا في سبيله وفتحوا الفتوح ففازوا وأفلحوا ووسع الله عليهم.
ولهذا لما سأل رجل النبي ﷺ: هل يصلي الرجل في الثوب الواحد؟ قال: أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ؟ يعني: هل كل واحد يجد قطعتين وأنتم في هذا الجهد؟ وورد أنه إذا كانت القطعة واحدة ضيقة يتزر بها، وإن كانت واسعة يلتحف به، ويلتحف يعني يتزر بنصفها، والنصف الآخر يضعه على كتفيه ويخالف بين طرفيه على عاتقيه.
واختلف العلماء فيما إذا وجد قطعة ثانية، هل تصح الصلاة وعاتقاه مكشوفان أو لا تصح؟ ـ كما تقدم ذكر الخلاف في ذلك ـ.
قوله: «فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ» ؛ القباء جمع: قبو، وهو: ثوب يوضع على الكتف، مفتوح من الأمام إلى الأسفل.
وفي الحديث: دليل على جواز الصلاة في الثوب الواحد إذا كان ساترًا للعورة، لكن الصلاة في ثوبين أكمل؛ كما قال عمر : «إِذَا وَسَّعَ اللَّهُ فَأَوْسِعُوا» ، فالصلاة في الثوب الواحد جائزة، لكن إذا وسع الله فوسعوا وصلوا في ثوبين.
قوله: «صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ» . «صَلَّى» فعل ماض بمعنى الأمر، يعني: لِيُصَلِّ، وهذا معروف سائغ في اللغة العربية، والإزار: قطعة ثوب يشد بها النصف الأسفل، والرداء: قطعة أخرى يضعها على الكتفين، مثل المحرم في الحج والعمرة.
وقوله: «صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ» ، هذا مثال، والمثال الثاني: «فِي إِزَارٍ وَقَمِيصٍ» ، يعني: لِيُصَلِّ في إزار وقميص، يعني: يلبس قطعة يشد بها النصف الأسفل، ويلبس فوقها القميص.
وكذا قوله: «فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ» ، يعني: يصلي في إزار يشد به النصف الأسفل، وعليه قباء على الكتفين إلى أسفل مفتوح من الأمام.
وكذا قوله: «فِي سَرَاوِيلَ وَرِدَاءٍ» ، أي: يلبس السراويل ـ وهو ما له رجلان ـ ثم يضع على الكتفين رداءً.
وكذا قوله: «فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ» ، أي: يلبس السراويل وفوقه القميص.
وكذا قوله: «فِي سَرَاوِيلَ وَقَبَاءٍ» ، أي: يلبس السراويل، ويلبس فوقها القباء.
وكذا قوله: «فِي تُبَّانٍ وَقَمِيصٍ» ؛ والتبان هو: السروال القصير الذي ليس له رجلان فيصل إلى نصف الفخذ، والقميص يجب أن يستر الفخذ، أما إذا كان القميص رقيقًا يصف البشرة فلابد أن يلبس السروال حتى يستر العورة من السرة إلى الركبة.
قوله: «وَأَحْسِبُهُ، قَالَ: فِي تُبَّانٍ وَرِدَاءٍ» ، يعني: فيه شك؛ لأنه إذا لبس الرداء والتبان ـ وهو إلى نصف الفخذ ـ لا يتم الستر إلا إذا كان الرداء طويلاً؛ ولهذا شك.
والخلاصة من هذا: أن الصلاة في الثوب الواحد ـ يعني القطعة الواحدة ـ إذا كان يستر من السرة إلى الركبة ولم يجد شيئًا يضعه على كتفيه فهي صحيحة بالاتفاق، أما إن وجد ما يستر كتفيه ولم يضعه فالمسألة خلافية بين أهل العلم:
القول الأول: أنها تصح مع ترك الأولى، وهو قول الجمهور.
القول الثاني: أنها لا تصح.
القول الثالث: أنها تصح مع الإثم.
ومن قال بالقول الثاني حجته قول النبي ﷺ في الحديث الصحيح: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ [(983)]، وفي لفظ: لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ [(984)]؛ لأن النهي يقتضي الفساد، فمعنى قوله: لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ أي ليصل في ثوبين.
ومن قال: إنها تصح مع الإثم قال: النهي لا يقتضي الفساد، ولكنه ترك الأمر وفعل النهي، فيأثم.
وإذا لم يجد ما يستر به عورته، ذكر أهل العلم أن العراة يصلون ولكن جلوسًا، وقال بعضهم: من صلى عاريًا أومأ ولم يسجد حتى لا تنكشف عورته، ولهم أن يصلوا في جماعة ويكون إمامهم وسطهم، وقد قال الله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وقال عليه الصلاة والسلام: إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ [(985)].
أما إذا لم يجد إلا تبانًا ـ يعني: سروالاً قصيرًا يستر السوأتين فقط دون باقي العورة ـ فله أن يصلي فيه واقفًا.
المتن:
366 حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟ فَقَالَ: لاَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلاَ السَّرَاوِيلَ، وَلاَ الْبُرْنُسَ، وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلاَ وَرْسٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.
وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ.
الشرح:
366 قوله في حديث ابن عمر: «سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟» ، هذا الحديث قاله النبي ﷺ في خطبته في المدينة، في السنة العاشرة من الهجرة قبل سفره لحجة الوداع، والسائل سأل النبي ﷺ عما يلبس المحرم، فأجابه النبي ﷺ ببيان الثياب التي لا يلبسها، والحكمة في هذا أن الثياب التي يلبسها المحرم كثيرة لا حصر لها، والثياب التي لا يلبسها محصورة؛ فلذلك ذكر له الشيء المحصور.
فقال: هناك خمسة أنواع لا يلبسها المحرم والباقي يلبسه، وهذا من بلاغته عليه الصلاة والسلام.
قوله: لاَ يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، والقميص هو: الثوب المخيط على قدر البدن مثل ثيابنا الآن.
قوله: وَلاَ السَّرَاوِيلَ السروال هو: ما خيط على قدر النصف الأسفل وله رِجْلان.
وقوله: وَلاَ الْبُرْنُسَ وهي: ثياب لها رؤوس تأتي من المغرب.
وقوله: وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ، وَلا َ وَرْسٌ؛ لأن الزعفران والورس نوعان من الطيب، والمحرم ممنوع من الطيب، فلا يستعمل جميع أنواع الطيب؛ لا في ثيابه، ولا في أكله ولا في شربه، فلا يشرب مثلاً القهوة التي فيها زعفران.
قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ أي: لا يلبس الخفين إلا بهذا الشرط.
فهذه خمسة أشياء لا يلبسها المحرم: لا يلبس القميص، ولا السراويل، ولا البرنس، ولا ثوبًا مسه زعفران أو ورس، ولا الخفين إلا بالشرط، والخف معروف عند العرب، يصنع من جلد، ويُلبس في القدم فيستر الكعبين ويتجاوزهما إلى نصف الساق، ولا يلبسه المحرم، لكن إذا لم يجد غيره فيقطعه حتى يكون أسفل من الكعبين، فيكون حكمه حكم النعل.
ثم خطب النبي ﷺ بعد ذلك في حجة الوداع في عرفة ـ كما في حديث ابن عباس ـ وقال: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ النَّعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ [(986)]، ولم يقل: وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ.
وقد حضر في خطبته ﷺ في حجة الوداع من لم يحضر خطبته في المدينة؛ ولذلك اختلف العلماء فيما إذا لم يجد المحرم إلا خفين ولم يجد نعلين، هل يقطعهما أو لا يقطعهما؟
القول الأول: للجمهور، قالوا: يقطعهما؛ لأن حديث ابن عباس رضي الله عنهما في حجته بعرفة وإن كان مطلقًا إلا أنه يحمل على المقيد؛ لأن هناك قاعدة أصولية معروفة عند أهل العلم؛ تقول: يحمل المطلق على المقيد؛ فحديث ابن عمر رضي الله عنهما فيه أن استعمال الخفين مقيد بالقطع، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما لم يقيد بالقطع، فيحمل المطلق على المقيد.
القول الثاني: قال آخرون من أهل العلم: إن الأمر بقطع الخفين منسوخ؛ لأنه قاله في خطبته بالمدينة، أما في خطبته بعرفة ـ في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ـ لم يقل: وَلْيَقْطَعْهُمَا وإنما يؤخذ بالآخر، فدل على أن الأمر بالقطع منسوخ، وعلى هذا فلا يقطعهما، قالوا: ويؤيد هذا أنه عليه الصلاة والسلام قال: مَنْ لَمْ يَجِدْ إِزَارًا فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ [(987)] ولم يقل: فليفتقهما، ويؤيد هذا أيضًا أن قطع الخفين فيه إفساد لماليتهما، والشرع جاء بالنهي عن إضاعة المال؛ فإذا وجد نعلين فليلبسهما، وإذا لم يجد فليلبس الخفين بدون قطع.
القول الثالث: الجمع بين الحديثين، قالوا: يحمل الأمر بالقطع في قوله: وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ على الاستحباب، ويكون قوله في حجة الوداع: فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ ـ أي: بدون قطع ـ محمول على الجواز.
فقوله: وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ أمر، والأصل في الأمر الوجوب، لكن صرفه عن الوجوب إلى الاستحباب حديث ابن عباس في حجة الوداع، والقاعدة عند أهل العلم: أنه إذا جاء الأمر ثم جاء ما يدل على الجواز دل على أن الأمر ليس للوجوب وإنما هو للاستحباب، وهي أيضًا قاعدة أصولية.
فالأقوال لأهل العلم ثلاثة:
الأول: أن الأمر بلبس الخفين بدون قطع مطلق، والأمر بالقطع مقيد؛ فيحمل المطلق على المقيد بناء على القاعدة الأصولية.
الثاني: أن الأمر بالقطع محمول على الاستحباب، والذي صرفه عن الوجوب كونه لم يأمر بالقطع في حجة الوداع؛ للقاعدة الأصولية: إذا جاء الأمر ثم جاء ما يصرفه عن الوجوب حمل على الاستحباب.
الثالث: أن الأمر بالقطع منسوخ؛ لأنه كان أولاً بالمدينة، أما في حجة الوداع فلم يأمر بالقطع وقد حضر خطبته من لم يحضر في المدينة، والقاعدة أنه يؤخذ بالآخِر، والآخِر من قوله ﷺ عدم الأمر بالقطع.
والراجح عدم القطع؛ إما لأن الأمر منسوخ، أو لأنه محمول على الاستحباب؛ ويؤيد هذا أن القطع فيه إفساد وإضاعة للمالية، والشريعة جاءت بحفظ المال وعدم إضاعته، والنبي ﷺ نهى عن إضاعة المال[(988)].
المتن:
باب مَا يَسْتُرُ مِنْ الْعَوْرَةِ
367 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان ما يستر العورة خارج الصلاة.
367 قوله: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» ، فيه: أن النبي ﷺ نهى عن لبستين خارج الصلاة؛ وهما:
الأولى: اشتمال الصماء، وهو أن يلف الإنسان جسمه بثوب واحد ـ أي: بقطعة واحدة ـ ليس له منفذ فإذا حرك يديه أو رجليه ظهرت العورة، فالمعروف عند أهل اللغة أن الشيء الأصم هو الذي لا منفذ له، أما إذا كان عليه سراويل فلا يضره لو اشتمل الصماء، ما دام السروال يستر من السرة إلى الركبة.
الثانية: الاحتباء في الثوب الواحد، وهو أن يلف الرجل ثوبًا واحدًا على ظهره وركبتيه وهو جالس جلسة الاحتباء ـ أي: جامعًا رجليه بيديه إلى صدره ـ فيبقى الذي جهة السماء من جسده مكشوفًا بحيث لو وقف إنسان أمامه لرأى عورته، فهذا منهي عنه إذا لم يكن على جسده إلا هذه القطعة، أما إذا كان عليه سروال فلا إشكال.
وكانت العرب من عادتهم التساهل في العورات؛ ولذلك نهى النبي ﷺ عن كل جلسة تؤدي لانكشاف العورة، فنهى «عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ، وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» ، وورد في الحديث النهي عن الاستلقاء[(989)]؛ أي: أن يستلقي الرجل ويضع إحدى رجليه على الأخرى، وجاء في الحديث الآخر الجواز[(990)]، فالنهي عن الاستلقاء محمول على ما إذا لم يكن عليه سروال، فإذا استلقى على ظهره ووضع إحدى رجليه على الأخرى بدت العورة، أما إذا كان عليه سروال فلا بأس بالاستلقاء.
المتن:
الشرح:
368 قوله في حديث قبيصة بن عقبة، عن أبي هريرة : «وَأَنْ يَشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ وَأَنْ يَحْتَبِيَ» ؛ اشتمال الصماء والاحتباء سبق الكلام عليهما.
قوله: «نَهَى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ بَيْعَتَيْنِ: عَنْ اللِّمَاسِ، وَالنِّبَاذِ» ، أي: عن بيع الملامسة والمنابذة، وهما بيعتان معروفتان، سميت الأولى الملامسة؛ لأن البائع يقول للمشتري: انظر إلى هذه الثياب فأي ثوب لمسته فهو عليك بمائة، أو أي ثوب لمسه فلان فهو عليك بمائة، فمن الممكن أن يلمس ثوبًا بعشرة، أو ثوبًا بخمسمائة، فهذا منهي عنه لما فيه من الغرر، بل لابد للمشتري أن ينظر الثوب ويعاينه ثم يتفاوض مع البائع على القيمة المتعارف عليها بين الناس، أما البيع الذي يشتمل على غرر فهو منهي عنه.
وسميت المنابذة؛ حيث يقول البائع: أي ثوب نبذته إليك ـ يعني طرحته إليك ـ فهو عليك بمائة، فقد يطرح ثوبًا يساوي مائة وقد يطرح ثوبًا يساوي مائتين، وقد يطرح ثوبًا يساوي عشرة، وهذا أيضًا بيع فيه غرر بَيِّن، فهو بيع منهي عنه، فلابد في البيع والشراء من التعيين والاطمئنان للقيمة، والنهي عن البيع يقتضي تحريمه وفساده.
وكل ما نهي عنه في الحديث فهو للتحريم، فالبيعتان محرمتان؛ لما فيهما من الغرر، والجلستان محرمتان؛ لما فيهما من التعرض لكشف العورة.
المتن:
369 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمِّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ يَوْمَ النَّحْرِ نُؤَذِّنُ بِمِنًى أَلاِ لاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلِيًّا، فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةٌ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْل مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ: لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
الشرح:
369 قوله: «بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ» ، أي: في السنة التاسعة من الهجرة؛ حيث أمَّره النبي ﷺ على الناس في الحج، فأرسل أبو بكر مؤذنين يؤذنون في الحجاج بمنى ـ والأذان هو الإعلام، ومنه الأذان بالصلاة يعني: الإعلام بدخول الوقت ـ بأربع كلمات ؛ كلمتين في هذا الحديث، وكلمتين في حديث آخر:
الكلمة الأولى: لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، أي: من الآن فصاعدًا؛ لأن النبي ﷺ سيحج في السنة المقبلة، أي السنة العاشرة للهجرة.
الكلمة الثانية: وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ؛ حيث كانوا في الجاهلية يعتقدون أن من جاء من خارج مكة لا يجوز له أن يطوف في ثيابه؛ لأنه قد عصى الله فيها فتكون نجسة، فإن وجد أحدًا من أهل مكة يعطيه ثوبًا طاف فيه وإلا طاف عريانًا، حتى المرأة إذا لم تجد من يعطيها ثوبًا من أهل مكة خلعت ثيابها وطافت عريانة ووضعت يدها على فرجها وقالت وهي تطوف:
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ | فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ[(991)] |
وهذا من جهلهم وضلالهم.
الكلمة الثالثة: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، إِلَّا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ [(992)] أي: لا يدخل الجنة إلا مؤمن.
الكلمة الرابعة: من كان له عهد فهو إلى عهده [(993)] ؛ لأن بعض العرب أعطاهم الرسول ﷺ عهد أمان بمدة، فهو في أمانه إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فمدته أربعة أشهر، وبعد مدة العهد إما أن يُسْلم، وإلا يقاتل، ولا يبقى على شركه.
فلما علم الناس هذه الكلمات الأربع حج النبي ﷺ بعدها في السنة العاشرة، فلم يحج في حجة النبي ﷺ مشرك، ولا طاف بالبيت عريان.
وفي نفس السنة التي حج فيها أبو بكر أميرًا على الناس أردف النبي ﷺ عليًّا وأمره أن يؤذن في الناس ببراءة، فلما جاء علي قال له أبو بكر: أنت أمير أو مأمور؟ قال: مأمور، فصار عليٌّ أيضًا يؤذن بهذه الكلمات الأربع وببراءة: بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
والشاهد: أن الرسول ﷺ أمر مؤذنين يؤذنون في الناس وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ؛ لأن الباب فيما يستر من العورة.
المتن:
باب الصَّلاَةِ بِغَيْرِ رِدَاءٍ
370 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي الْمَوَالِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ مُلْتَحِفًا بِهِ، وَرِدَاؤُهُ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قُلْنَا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، تُصَلِّي وَرِدَاؤُكَ مَوْضُوعٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَحْبَبْتُ أَنْ يَرَانِي الْجُهَّالُ مِثْلُكُمْ، رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي هَكَذَا.
الشرح:
370 حديث الباب هو حديث جابر ، وقد سبق الكلام عنه وأنه صلى في إزار شد به النصف الأسفل وله رداء وضعه على المشجب، وفيه: دليل على أن جابر يرى صحة الصلاة في الثوب الواحد ولو لم يضع على عاتقيه شيئًا مع القدرة.
وقد احتج الجمهور بهذا الحديث على جواز الصلاة في الثوب الواحد والكتفان مكشوفتان، إلا أن الصلاة في الثوبين أكمل وأفضل، وهذا هو القول الأول في المسألة.
القول الثاني: أنها لا تصح إذا وجد ما يستر كتفيه.
القول الثالث: أنه إذا وجد ما يستر كتفيه ولم يضعه صحت صلاته مع الإثم.
فجابر يوافق الجمهور في ذلك ويرى أن الصلاة تصح بدون ستر الكتفين، لكن على المسلم أن يحتاط لدينه؛ لأن النبي ﷺ قال: لَا يُصَلِّي أَحَدُكُمْ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ [(994)]، وقد قال عمر : «إذا وسع الله فوسعوا» ، ومراعاةً لخلاف من يرى أن الصلاة بدون وضع شيء على العاتق مع القدرة لا تصح، ومن يرى أنه آثم.
المتن:
باب مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ
وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَرْهَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: الْفَخِذُ عَوْرَةٌ.
وَقَالَ أَنَسٌ: حَسَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ فَخِذِهِ.
وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ حَتَّى يُخْرَجَ مِنْ اخْتِلاَفِهِمْ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى: غَطَّى النَّبِيُّ ﷺ رُكْبَتَيْهِ حِينَ دَخَلَ عُثْمَانُ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي.
الشرح:
وهذه الترجمة معقودة لبيان حكم كشف الفخذ وهل هي عورة أم ليست بعورة؟ ولم يجزم المؤلف رحمه الله بالحكم؛ لأن المسألة خلافية، فقال: «بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ» يعني: ما يذكر من النصوص ومن آراء أهل العلم.
فالجمهور من العلماء على أن الفخذ عورة، وأخذوا بحديث جَرْهد ومن معه في أن الفخذ عورة، ولم يأخذوا بحديث أنس في أنها ليست بعورة، وإن كان أصح إسنادًا؛ ولهذا قال البخاري: «بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ، وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَرْهَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ: الْفَخِذُ عَوْرَةٌ؛ إذ الأحاديث التي فيها الْفَخِذُ عَوْرَةٌ جاءت من رواية صغار الصحابة ابن عباس جرهد ومحمد بن جحش[(995)]، أما حديث أنس: «حَسَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ فَخِذِهِ» فهو أصح إسنادًا؛ ولهذا قال الإمام البخاري: «وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ» .
وقد أخذ الجمهور من العلماء بحديث جَرْهد ومن معه في أن الفخذ عورة، ولم يأخذوا بحديث أنس في أنها ليست بعورة وإن كان أصح إسنادًا؛ لأمور منها:
أولاً: لأنه وإن كانت أحاديث الجواز أصح إلا أن أحاديث المنع أكثر من أحاديث الجواز، وهي في مجموعها يعضد بعضها بعضًا؛ فتكون من باب الحسن لغيره.
ثانيًا: لأن أحاديث المنع من قوله ﷺ، وأحاديث الجواز من فعله، والقاعدة عند أهل السنة أن قول النبي ﷺ مقدم على فعله، فإذا قال شيئًا وفعل شيئًا فالقول مقدم على الفعل، وما جاء من قوله ﷺ هو: الْفَخِذُ عَوْرَةٌ.
ثالثًا: أن حديث أنس يحتمل أن الإزار قد انحسر عن فخذه ﷺ أثناء العمل، أو لاشتداد الحر، أو أن ذلك مخصوص به ﷺ.
رابعًا: أن أحاديث المنع أحوط للدين وللعورات؛ ولهذا يقول البخاري: «وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ» .
خامسًا: يحتمل أن كشف الفخذين في حديث أنس كان أولاً ثم منع من كشف الفخذ آخرًا، وإنما يؤخذ بالآخِر، والآخر من فعله ﷺ وقوله أن الفخذ عورة؛ فلهذه الأمور الخمسة رجح الجمهور من العلماء أن الفخذ عورة.
- وأما الجواب عما استدل به المجيزون:
1- قصة عثمان التي ذكرها في قوله: «وَقَالَ أَبُو مُوسَى: غَطَّى النَّبِيُّ ﷺ رُكْبَتَيْهِ حِينَ دَخَلَ عُثْمَانُ» فالصواب: أن الذي ظهر في قصة عثمان ركبتاه لا فخذاه، والركبة مختلف فيها، والصواب أنها ليست من العورة.
2- حديث زيد بن ثابت : «وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ» . وسيأتي في الحديث الذي بعد هذا أنه قال: «حتى إني أنظر إلى بياض فخذ نبي الله ﷺ» [(996)]، يجاب عنه بما سبق من أن هذا من فعله ﷺ، ومحتمل أن يكون هذا خاصًّا به، ومحتمل أن يكون فعل هذا أولاً ثم نهى عنه.
ومما يرجح أن الفخذ عورة حديث علي : يا علي غط فخذك فإنها من العورة [(997)] فيضم حديث علي إلى حديث ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش ، وكلها فيها أن الفخذ عورة.
وقوله: «وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ أَحْوَطُ» ، أي: أحوط للدين وللعورات؛ ولذلك قال: «حَتَّى يُخْرَجَ مِنْ اخْتِلاَفِهِمْ» ، يعني: إذا أخذ بحديث جرهد وغطى فخذه خرج من اختلاف العلماء، فينبغي للمسلم أن يحتاط لدينه؛ لأن جمهور العلماء يقولون بحرمة إظهار الفخذ، وأنها من العورة.
المتن:
الشرح:
371 قوله في حديث أنس في غزو خيبر: «فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلاَةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ» ، وصلاة الغداة هي الفجر، وقوله: «بِغَلَسٍ» ، هو: اختلاط ظلمة الليل بضياء الصبح، ويقال: غَلَّسنا يعني صلينا صلاة الفجر مبكرين عند أول انشقاق الفجر، والمعنى أن النبي ﷺ غزا خيبر في آخر الليل صلى الفجر عند اختلاط ضياء الصبح بظلام الليل في أول وقتها عند انشقاق الفجر، ثم غزاهم.
والحديث ليس فيه أنه دعاهم قبل الغزو؛ لأنهم قد بلغتهم الدعوة، وإن كان في الحديث الآخر أن النبي ﷺ لما بعث عليًّا لفتح أحد حصون خيبر أمره فقال: ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ [(998)] أي: من باب الاستحباب والتذكير، وإلا فهم قد بلغتهم الدعوة.
قوله: «ثُمَّ حَسَرَ الإِْزَارَ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ» . هذا هو الشاهد من حديث أنس الذي أشار له البخاري في ترجمة الباب بقوله: «وحديث أنس أسند»، يعني: أصح إسنادًا، فهو في صحيح البخاري، وقول أنس هنا صريح في أن النبي ﷺ كشف فخذه، لكن هذا الكشف من الممكن أن يحمل على انشغاله ﷺ بسبب العمل واشتداد الحر، أو أنها انكشفت دون اختياره، أو أن هذا خاص به ﷺ، أو أنه كان أولاً ثم نسخ، وعلى كل حال ففيه الاحتمالات هذه؛ ولهذا فالأحاديث التي تُثبت أن الفخذ عورة مقدمة على حديث أنس ، وإن كان حديث أنس أصح إسنادًا.
وهذا الحديث احتج به بعض العلماء على أن الفخذ ليست بعورة؛ لأن النبي ﷺ كشف فخذه. والجمهور على أنها عورة، وقدموا أحاديث ابن عباس وجرهد ومحمد بن جحش على حديث أنس ، وإن كانوا من صغار الصحابة إلا أن أحاديثهم من كثرتها يشد بعضها بعضًا؛ ولأن هذا أحوط للدين وللعورات؛ ولأنها من قوله ﷺ، وحديث أنس من فعله، ولأن حديث أنس يدخله الاحتمالات.
والحديث فيه من الفوائد:
1- مشروعية التكبير عند الإعجاب، حيث قال النبي ﷺ: اللَّهُ أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ؛ فالتكبير يشرع عند الإعجاب، وكذلك التسبيح، خلافًا لما يفعله بعض الناس من التصفيق إذا تعجبوا، وفي الحديث الآخر: إِنَّمَا التَّصْفِيقُ لِلنِّسَاءِ [(999)]؛ فينبغي للإنسان أن يكبر أو يسبح ولا يصفق.
2- أن خيبر فتحت عنوة؛ ولهذا قال: «فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً» يعني: بالقوة، خلافًا لمن قال: إن خيبر فتحت صلحًا، وإن كانت بعض الحصون فتحت صلحًا؛ ولهذا صارت للنبي ﷺ، أما معظم خيبر ففتحت عنوة.
3- مشروعية الوليمة عند العرس وعدم التكلف لها، وأنه لا يشترط في الوليمة أن يكون فيها لحم، وإن كان هو الأفضل؛ لقول النبي ﷺ لعبد الرحمن بن عوف: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ، أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ [(1000)] ولكنه ليس بلازم؛ ولهذا لما تزوج النبي ﷺ صفية كانت وليمته الحيس، والحيس تمر وسمن وأقط؛ قال الشاعر:
التَّمْرُ وَالسَّمْنُ جَمِيعًا وَالْأَقِطُ | الْحَيْسُ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِطْ |
4- أنه لا بأس للإمام أو القائد أن يعطي أحد أفراد الجيش من الغنيمة من باب النفل إذا رأى المصلحة في ذلك؛ ولهذا لما طلب دحية جارية من السبي قال له النبي ﷺ: اذْهَبْ فَخُذْ جَارِيَةً؛ والنفل معناه الزيادة على الغنيمة.
ولما أخذ دحية صفية بنت حيي أم المؤمنين جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: «يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَعْطَيْتَ دِحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ» فأبوها سيد قريظة والنضير، «لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لَكَ» ، أي: ليس من اللائق أن يأخذها غيرك، فلا تصلح إلا لك، فقال ﷺ: ادْعُوهُ بِهَا، فَجَاءَ بِهَا فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ ﷺ قَالَ: خُذْ جَارِيَةً مِنْ السَّبْيِ غَيْرَهَا، وفي صحيح مسلم[(1001)] أن النبي ﷺ أعطاه بدلها سبعة رؤوس من الغنيمة، يعني: سبع إماء.
وليس هذا من العود في الهبة المنهي عنه في قوله ﷺ: العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ [(1002)] لأمرين:
أولاً: أن النبي ﷺ عاوضه بأكثر منها، فأعطاه بدلها سبع إماء، فالذي يخشى من تنازل الموهوب له عن بعض حقه حياء من الواهب ومراعاة له منتف؛ لأن النبي ﷺ عاوضه بأكثر منها.
ثانيًا: أن الوالد مستثنى من حديث: العَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ، فالوالد له أن يسترجع ما وهبه لولده وقتما شاء، وإذا كان الوالد مستثنى فالنبي ﷺ أولى من الوالد.
المتن:
باب فِي كَمْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ فِي الثِّيَابِ
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَوْ وَارَتْ جَسَدَهَا فِي ثَوْبٍ لَأَجَزْتُهُ.
372 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي الْفَجْرَ فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنْ الْمُؤْمِنَاتِ مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان ما يجزئ المرأة أن تصلي فيه من الثياب، والصواب أن المرأة إذا صلت في ثوب يستر جميع جسدها أجزأها وصحت صلاتها، كما قال عكرمة: «لَوْ وَارَتْ جَسَدَهَا فِي ثَوْبٍ لَأَجَزْتُهُ» ، ولكن لابد من تغطية رجليها؛ لأن الرجلين تابعتان للجسد؛ لحديث أم سلمة رضي الله عنها لما سألت النبي ﷺ: أتصلي المرأة في درع وخمار ليس عليها إزار؟ قال: إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا [(1003)]، أما اليدان ففي تغطيتهما خلاف، والأحوط تغطيتهما.
372 في حديث الباب: جواز صلاة المرأة في الثوب الواحد؛ لأن عائشة رضي الله عنها قالت: «مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ» ، والتلفع هو: الاشتمال بالثوب الذي يستر جميع الجسد، فإذا صلت المرأة في ثوب واحد يستر جميع بدنها أجزأتها صلاتها، ويؤيده حديث أم سلمة رضي الله عنها عند أبي داود لما سألت النبي ﷺ: أتصلي المرأة في درع وخمار؟ قال: إِذَا كَانَ الدِّرْعُ سَابِغًا يُغَطِّي ظُهُورَ قَدَمَيْهَا ، فالدرع هو الثوب، والمراد بالثوب القطعة، فلو وارت جسدها بثوب واحد أجزأها، لكن الأفضل أن يكون عليها أكثر من ثوب ـ كما سبق في الرجل ـ فتلبس السراويل تحت الثوب، ثم خمارًا تغطي به رأسها، والوجه يُكشف إلا إذا كان عندها رجال أجانب فإنها تغطي الوجه؛ فالوجه ليس بعورة في الصلاة إلا عند الرجال الأجانب، فإذا كانت تصلي وحولها محارمها فإنها تكشف وجهها.
فإذا صلت في ثوب وسروال وخمار فهذا أكمل، ويجزئها أن تواري جسدها بثوب ـ أي: قطعة واحدة ـ حتى تغطي جميع أجزاء جسدها؛ كما قال عكرمة: «لَوْ وَارَتْ جَسَدَهَا فِي ثَوْبٍ لَأَجَزْتُهُ» .
المتن:
باب إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلاَمٌ وَنَظَرَ إِلَى عَلَمِهَا
373 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلاَمٌ فَنَظَرَ إِلَى أَعْلاَمِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ، وَأْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاَتِي.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ: عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: كُنْتُ أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلاَةِ، فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِي.