وإذا امتنع عن أداء الزكاة عوقب وصار دمه حلالاً وماله حلالاً؛ لأنه هو الذي قصر فلم يأت بحقها، وكذلك إذا كان عليه دين لشخص وامتنع عن أدائه عوقب، وأخذ منه الحق الذي عليه.
وفيه: أن الإسلام قول وعمل؛ فيقول كلمة التوحيد ثم يُطالب بحقها؛ ولهذا أتبع قوله: حَرُمَتْ عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ بقوله: إِلاَّ بِحَقِّهَا.
ومعنى قوله: وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا يعني: ذبحوا ذبيحة المسلمين بشروطها، فيستقبلون القبلة ويسمون الله ويقطعون الحلقوم والمريء بآلة حادة، ولا يزهقوا الروح بالخنق ولا بالصعق ولا بالضرب.المتن
المتن:
393 قَالَ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ حَدَّثَنَا أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ، قَالَ: سَأَلَ مَيْمُونُ بْنُ سِيَاهٍ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ مَا يُحَرِّمُ دَمَ الْعَبْدِ وَمَالَهُ؟ فَقَالَ: مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلاَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا؛ فَهُوَ الْمُسْلِمُ، لَهُ مَا لِلْمُسْلِمِ وَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ.
الشرح:
393 قوله: «مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلاَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا؛ فَهُوَ الْمُسْلِمُ» ، فيه: أن المسلم هو من أتبع النطق بالشهادتين الالتزام بأحكام الإسلام، وهذا يقيد إطلاق الأحاديث الأخرى التي ظاهرها الاكتفاء بالنطق بالشهادتين دون العمل.
وهذه الأحاديث الثلاثة فيها: أن من أظهر الإسلام فنطق بالشهادتين، وصلى، واستقبل القبلة، وذبح وأكل ذبيحة المسلمين، فإنه يحكم له بالإسلام، فيكون له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين، فتجاب دعوته، ويزوَّج، ويصلَّى عليه إذا مات، ويرث من أقاربه المسلمين، حتى يظهر منه ما يوجب ردته فيحكم عليه بالردة، فأمور الناس تحمل على الظاهر، وأما السرائر فتوكل إلى الله .
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «فيه إشارة إلى أنه لابد من التزام جميع شرائع الإسلام الظاهرة، ومن أعظمها أكل ذبيحة المسلمين، وموافقتهم في ذبيحتهم، فمن امتنع من ذلك فليس بمسلم. وقد كان النبي ﷺ يمتحن أحيانًا من يدخل في الإسلام ـ وقد كان يرى في دينه الأول الامتناع عن أكل بعض ذبيحة المسلمين ـ بإطعامه مما كان يمتنع من أكله؛ ليتحقق بذلك إسلامه، فروي أنه عرض على قوم ـ كانوا يمتنعون في جاهليتهم عن أكل القلب، ثم دخلوا في الإسلام ـ أكل القلب، وقال لهم: إن إسلامكم لا يتم إلا بأكله [(1038)] فلو أسلم يهودي، وأقام ممتنعًا من أكل ذبائح المسلمين، كان ذلك دليلاً على عدم دخول الإسلام في قلبه، وهذا الحديث يدل على أنه لا يصير بذلك مسلمًا».
ولذلك اشترط الرسول ﷺ أكل ذبيحة المسلمين فقال: «وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا» ، فإن امتنع من أكل ذبيحة المسلمين لم يكمل إسلامه.
وعطف الصلاة على استقبال القبلة في قوله: «وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَصَلَّى صَلاَتَنَا» ، من باب عطف الخاص على العام، فاستقبال القبلة يشرع في الصلاة وفي غير الصلاة، فيشرع في الدعاء والذبح، وغير ذلك.
المتن:
باب قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّأْمِ وَالْمَشْرِقِ
لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلاَ فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: لاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا.
394 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَْنْصَارِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: إِذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا.
قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّأْمَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى.
وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أَيُّوبَ عَنْ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ.
الشرح:
قوله: «بَاب قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّأْمِ وَالْمَشْرِقِ» أي: أن هؤلاء قبلتهم واحدة.
وقوله: «لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلاَ فِي الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» ، يعني: لأهل المدينة ومن في حكمهم، بخلاف أهل الغرب فقبلتهم إلى الشرق، وأهل الشرق قبلتهم إلى الغرب.
394 قوله ﷺ: إِذَا أَتَيْتُمْ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا هذا خطاب لأهل المدينة ومن في حكمهم.
وقوله: وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا، فيه: دليل على أن استقبال أحد النيرين ـ الشمس والقمر ـ عند قضاء الحاجة لا بأس به؛ لأنهم إذا شرقوا أو غربوا استقبلوا أحدهما ولابد، خلافًا لمن كرهه من الفقهاء، والقول بكراهته قول ضعيف لا دليل عليه.
وفي الحديث: دليل على أن أبا أيوب الأنصاري يرى عدم جواز استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة ولو في البنيان؛ لأنه قال: «فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى» ، والصواب: أنه يجوز استقبالها واستدبارها في البنيان، وهذا هو الذي ذهب إليه الإمام البخاري وجماعة من أهل العلم، منهم الحنابلة[(1039)] وغيرهم؛ استدلالاً بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى النبي ﷺ يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام[(1040)]، فقالوا: إن هذا الحديث مخصص لحديث النهي، فالنهي عن استقبال القبلة واستدبارها عند قضاء الحاجة إنما هو في غير البنيان، أما في البنيان فلا بأس به؛ جمعًا بين النصوص.
وبعض العلماء أجاز الاستدبار دون الاستقبال، وهذه المسألة فيها ثمانية أقوال لأهل العلم.
قوله: «فَنَنْحَرِفُ وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى» أي: بعد الخروج، يعني: ننحرف عن القبلة، وإذا خرجنا استغفرنا الله .
المتن:
باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً
395 حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ الْعُمْرَةَ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.
396 وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: لاَ يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ.
الشرح:
395، 396 قوله: «سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ الْعُمْرَةَ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ» يعني: اقتدوا به في هذا، وكذا قال جابر لقوله: «وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: لاَ يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ» ، فالصواب: أن المعتمر لا يقرب زوجته حتى يطوف ويسعى ويقصر ويتحلل، وخالف في هذا ابن عباس رضي الله عنهما، فأجاز للمعتمر التحلل بعد الطواف وقبل السعي، وهذا إن صح عنه فهو اجتهاد خاطئ؛ لأنه اجتهاد في مقابلة النص.
والصواب: أنه لا يقرب امرأته حتى يسعى ويتحلل، فمن لم يسع من المعتمرين لم يتحلل؛ لذا فلا يحل له أن يقرب زوجته.
والشاهد من الحديث: قوله: «وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ» .
قوله: بَاب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً[البَقَرَة: 125]» ، أي: قبلة، والأمر في الأصل للوجوب، إلا أن الإجماع صرف هذا الأمر إلى الاستحباب؛ لأن الإجماع على جواز الصلاة إلى جميع جهات القبلة.
والمقام هو الحجر الذي فيه أثر قدم إبراهيم ، فالأفضل أن يصلي المرء ركعتين خلف المقام، وإن صلاهما في أي مكان فلا بأس.
ولو نسي في العمرة أن يقصر، وفات عليه وقت طويل، فعليه التقصير والدم، فيقصر أولاً ثم يذبح، وإن كان قد جامع زوجته فعليه ذبيحة أخرى، فترك واجب من واجبات العمرة يوجب دمًا.
وإن تزوج ولم يتحلل بعد ـ أي لا يزال محرمًا ـ لا يصح العقد، وعليه أن يجدده إذا تحلل.
المتن:
الشرح:
397 قوله: «أَصَلَّى النَّبِيُّ ﷺ فِي الْكَعْبَةِ؟» ، هذا سؤال من ابن عمر لبلال ، «قَالَ» أي: بلال : «نَعَمْ، رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ إِذَا دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ» وهذا فيه: دليل على صحة الصلاة داخل الكعبة مع كونه يستدبر شيئًا منها.
وفيه: أنه لا يجب استقبال المقام، وهذا هو السبب في إيراد هذا الحديث، فتجوز الصلاة إلى جميع جهات الكعبة، وتجوز داخل الكعبة إلى أي جهة من جهاتها شرقها أو غربها أو شمالها أو جنوبها، وهذا هو القول الأول .
القول الثاني: وهو قول كثير من الفقهاء: لا تصح الفريضة داخل الكعبة أو فوقها؛ لأنه لم يستقبلها كلها، بل استقبل بعضها واستدبر بعضها، وقالوا: يجب في الفريضة أن يستقبل جميع الكعبة، ولذلك جعلوها من المواضع السبعة التي لا تصح فيها الفريضة، ولكن هذا القول يحتاج إلى تأمل؛ فالأصل أن الفريضة كالنافلة سواء بسواء.
وفي الحديث: استحباب الصلاة داخل الكعبة إذا تيسر، والتكبير في نواحيها كما فعل النبي ﷺ[(1041)]، فإن لم يتيسر له صلى في الحجر؛ فالحجر من الكعبة، كما قال النبي ﷺ لعائشة رضي الله عنها: صلي ههنا، صلي في الحجر؛ فإن الحجر من الكعبة [(1042)].
والشاهد من الحديث: قوله: «ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ رَكْعَتَيْنِ» ، حيث دل على جواز الصلاة إلى جميع جهات الكعبة.
المتن:
الشرح:
398 قوله: «فَلَمَّا خَرَجَ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: هَذِهِ الْقِبْلَةُ. هذا هو الشاهد، وقبل الكعبة يعني: وجهها.
وفي الحديث: دليل على أن القريب الذي يشاهد الكعبة تجب عليه مواجهة عينها.
وفيه: دليل على أنه لا يجب استقبال المقام؛ ولهذا قال: «في قبل الكعبة».
وقوله: «وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ» يعارض حديث ابن عمر السابق؛ حيث جاء فيه أنه سأل بلالاً فقال: «أَصَلَّى النَّبِيُّ ﷺ فِي الْكَعْبَةِ؟» فقال بلال: «نَعَمْ» فما الجمع بينهما؟
الجواب: أن ابن عمر رضي الله عنهما أثبت أن النبي ﷺ صلى داخل الكعبة، وابن عباس رضي الله عنهما نفى، والقاعدة أن المثبِت مقدَّم على النافي، ومن حفظ من الصحابة وغيرهم حجة على من لم يحفظ، فابن عباس قال هذا على حسب علمه، وقد علم بلال وابن عمر ما لم يعلمه ابن عباس، والنبي ﷺ جمع بين الأمرين فصلى كما ذكر ابن عمر رضي الله عنهما، ودعا وكبر في نواحيها كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
المتن:
باب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: اسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ.
399 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلَّى نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ إِلَى الْكَعْبَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ[البَقَرَة: 144]. فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ: وَهُمْ الْيَهُودُ: مَا ولاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[البَقَرَة: 142] فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الأَْنْصَارِ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ.
الشرح:
قوله: «بَاب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ» ، هذه الترجمة معقودة لبيان وجوب التوجه نحو القبلة في الصلاة، وهو شرط من شروط صحة الصلاة؛ لقول الله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ[البَقَرَة: 144]، فالواجب على المصلي أن يتجه إلى القبلة حيث كان، ولو صلى متعمدًا إلى غير القبلة لم تصح صلاته.
وإذا كان المصلي بعيدًا عن الكعبة ـ أي لا يرى عين الكعبة ـ فإنه يكفيه أن يتوجه إلى الجهة؛ لقوله تعالى: وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ، يعني: جهته .
أما إذا كان المصلي في المسجد الحرام، ويعاين الكعبة فإنه يجب عليه أن يصيب عينها، فإذا انحرف عنها يمينًا أو شمالاً بحيث لو مددنا خطًّا منه في اتجاه الكعبة لصار منحرفًا عنها انحرافًا شديدًا لم تصح صلاته، والانحراف اليسير لا يضر، وهذه مسألة ينبغي أن ينبه عليها من يصلي في المسجد الحرام، فالجهة كافية إذا كان لا يشاهد الكعبة، أما إذا كان يشاهدها فيجب عليه أن يصيب عينها.
والاتجاه إلى الكعبة شرط من شروط صحة الصلاة في صلاة الفرض سفرًا وحضرًا، أما في صلاة النافلة فإنه إذا كان مسافرًا فيجوز له أن يصلي على راحلته ولو إلى غير القبلة؛ لما ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي ﷺ كان يتنفل على راحلته ويتجه إلى جهة قصده ـ أي: جهة سيره ـ وذلك لأن أمر النافلة أوسع من أمر الفريضة، ولكن ذهب بعض أهل العلم إلى أنه عند تكبيرة الإحرام يجب أن يتجه إلى القبلة ثم بعد ذلك يصلي حيث توجهه راحلته؛ فقد جاء في سنن أبي داود أن النبي ﷺ كان يتجه إلى القبلة عند تكبيرة الإحرام ثم يصلي حيث يوجهه ركابه[(1043)]، وقال آخرون من أهل العلم: لا يجب؛ لأنه ورد في الأحاديث أن النبي ﷺ كان يصلي النافلة على راحلته[(1044)]، وليس فيه أنه كان يتجه إلى القبلة.
فالمقصود: أن الاتجاه إلى القبلة شرط من شروط صحة الصلاة، لكن إذا جهل القبلة فاجتهد وصلى إلى غيرها فإن صلاته صحيحة، وإن أتاه من ينبهه إلى اتجاه القبلة وهو في صلاته توجه إليها.
فالواجب على المصلي في صلاة الفريضة حضرًا كان أو سفرًا أن يصلي على الأرض وأن يتجه إلى القبلة فإذا كان مسافرًا وتعذر عليه ذلك فله أن يجمع بين الوقتين جمع تقديم قبل السفر إذا دخل الوقت، أو جمع تأخير بعده بشرط عدم خروج الوقت؛ حتى لا يضطر إلى الصلاة على الدابة أو لغير القبلة، أما إذا كان السفر طويلاً ولا يستطيع أن يجمع فإنه يصلي على حسب حاله ويدور مع الراحلة حيث دارت، كما نص العلماء على هذا، ويجب عليه أن يصلي قائمًا ولو في الطائرة أو في القطار، فإن عجز صلى قاعدًا.
399 في الحديث: أن النبي ﷺ وجِّه إلى الكعبة لما هاجر إلى المدينة، وكان قبل ذلك يصلي نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهرًا، لكنه كان يحب أن يوجَّه إلى الكعبة، وكان ينظر إلى السماء تطلعًا إلى ذلك، فأنزل الله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا[البَقَرَة: 144]، فتوجَّه النبي ﷺ نحو الكعبة، فقال السفهاء ـ وهم اليهود ـ: مَا ولاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا[البَقَرَة: 142].
قوله: «فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ ﷺ رَجُلٌ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَا صَلَّى فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الأَْنْصَارِ فِي صَلاَةِ الْعَصْرِ نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ» ؛ وذلك لأنهم لم يبلغهم خبر تحويل القبلة.
قوله: «فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ الْكَعْبَةِ» ، أي: فكان أول صلاتهم إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة، فأخذ العلماء من هذا أن من توجه إلى غير القبلة ناسيًا أو جاهلاً في أول صلاته ثم ذكر أو علم فإنه يتوجه إلى القبلة ويبني على صلاته.
وفي الحديث: دليل على قبول خبر الواحد؛ فإن هذا الرجل ـ وهو واحد ـ شهد عندهم أن النبي ﷺ قد توجه إلى الكعبة فقبلوا خبره واستداروا وهم في نفس الصلاة، وفيه رد على المعتزلة وأهل البدع الذين لا يقبلون خبر الآحاد.
وأدلة قبول خبر الواحد كثيرة لا حصر لها، والبخاري رحمه الله بوب لقبول خبر الواحد فقال: «باب قبول أخبار الآحاد» ، وسيأتي إن شاء الله في باب مستقل، وقد ساق فيه المؤلف رحمه الله أحاديث وأخبارًا.
مسائل:
الأولى: من اجتهد وصلى لغير القبلة في الصحراء ثم تبين له أنه صلى لغير القبلة فصلاته صحيحة ولا يعيد الصلاة، أما إذا التبس عليه جهتان فالجهة التي هي أوضح من غيرها هي المقدمة.
الثانية: الغريب إذا كان في البلد فليس له أن يجتهد بل عليه أن يسأل، وإن اجتهد وصلى لغير القبلة فلا تصح صلاته وتجب عليه الإعادة؛ لأنه وإن كان جاهلاً، لكنه فرط في السؤال.
الثالثة: الأعمى لا يلزمه الاجتهاد في القبلة، لكنه يسأل غيره ويقلد.
الرابعة: الذي لا يحسن الاجتهاد ولا خبرة له بالأمارات فإنه يقلد أيضًا، فإن لم يجد صلى على حسب حاله؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[التّغَابُن: 16].
الخامسة: المريض يتوجه إلى القبلة قدر استطاعته أو يوجهه غيره، فإن لم يستطع ولم يكن عنده أحد صلى على حسب حاله؛ لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وكذلك إن كان لا يستطيع التوضأ وضأه غيره، وإن لم يستطع الوضوء ولم يكن عنده أحد تيمم، وإن لم يستطع التيمم يممه غيره، وإن لم يستطع صلى على حسب حاله، فالعاجز في هذه الحال حكمه حكم الجاهل.
وكذلك إن كان عليه ثياب عليها دماء أو نجاسة، فإن كان يستطيع أن يغيرها أو يغسلها فعل، وإن لم يستطع صلى على حسب حاله؛ لأنه لا يجوز تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها.
وما يفعله بعض المرضى من تأخير الصلاة حال المرض حتى يشفى من مرضه فغلط، فالصلاة لا تؤخر ما دام العقل ثابتًا، وما عجز عنه المريض سقط؛ من القبلة والوضوء والقيام وغير ذلك، وينبغي لمن زار المرضى أن ينبههم لهذا، فينبغي للإنسان أن يحتاط لدينه، ويقبل رخصة الله سبحانه، ولا يؤخر الصلاة ما دام العقل ثابتًا، بل يصلي في الوقت على حسب حاله.
ـ والذي يجتهد في القبلة هو من كانت عنده معرفة بالعلامات والأمارات.
السادسة: إذا اجتهد اثنان واختلف اجتهادهم، فكل يصلي إلى الجهة التي استوثق منها، والذي لا يعرف يقلد أوثقهما عنده، وأما المجتهدون فلا يقلد أحدهما الآخر.
المتن:
الشرح:
400 قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ» ، يعني: في النافلة، فالنافلة يتوسع فيها ما لا يتوسع في الفريضة، ففي النافلة لا يجب استقبال القبلة، وللمرء أن يصلي النافلة على المركوب من دابة أو طائرة أو سيارة، وله أن يصلي قاعدًا وجاء هذا في بعض الأحاديث عند أبي داود: كان النبي ﷺ يصلي على راحلته حيث توجهت إلا أنه يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام[(1045)]، وإليه ذهب بعض العلماء، وقال بعض أهل العلم: لا يجب في النافلة استقبال القبلة ولو في تكبيرة الإحرام.
لكن الأحوط أن يستقبل القبلة في تكبيرة الإحرام؛ خروجًا من الخلاف.
أما الفريضة فإنه يجب فيها استقبال القبلة في جميع الصلاة، ويجب أن ينزل من على الراحلة ويصلي على الأرض قائمًا، إلا إن كان لا يستطيع فيصلي حسب حاله.
وإذا كان في سفر وقد ابتلت الأرض من شدة المطر، فله أن يصلي على مركوبه؛ فقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي ﷺ والصحابة كانوا في سفر وكانت البلة من تحتهم فصلوا على الرحال[(1046)]، أي صفوا الرواحل وتقدمهم الإمام. أما الآن فإذا كانوا في السيارة أو الطائرة تقدم الإمام إذا كان هناك متسع، فإن لم يكن هناك متسع صلى كل ثلاثة أو أربعة جماعة، حتى إذا فرغوا صلى من بعدهم.
ويجوز الإيماء عند العجز عن الركوع والسجود؛ لأنه جاء في قصة أن النبي ﷺ لما كانوا في مطر والبلة من تحتهم يُومِئُون[(1047)]، ويكون الإيماء في السجود أخفض من الركوع.
المتن:
الشرح:
401 قوله: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فيه: دليل على أن النبي ﷺ يصيبه النسيان والذهول كغيره، وأنه ليس ربًّا يعبد، فالله تعالى لا ينسى؛ كما قال سبحانه: لاَ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنْسَى [طه: 52]؛ لكماله ، وفيه الرد على من غلا في الرسول وعبده من دون الله، فالنبي ﷺ بشر إلا أن الله فضله بالرسالة، وهو نبي كريم يجب اتباعه وتجب طاعته، ومحبته أعظم من محبة النفس والولد والمال، لكن لا يعبد؛ فالعبادة حق لله تعالى.
وقوله: «فَثَنَى رِجْلَيْهِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ» فيه: وجوب استقبال القبلة في الفريضة وهذا هو الشاهد، فالنبي ﷺ لما حصل له هذا السهو في الصلاة وقيل له: «صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا» ـ يعني: أقل من الصلاة ـ ثنى رجليه واستقبل القبلة.
وجاء في لفظ آخر أنه كان في إحدى صلاتي العشي وأنه سلم عن ركعتين، فلما قيل له: صليت ركعتين ثنى رجليه واستقبل القبلة[(1048)]، وفي رواية: أنه ﷺ قام بعدما صلى ركعتين واستدبر الكعبة وظن أنه انتهى من صلاته، وذهب إلى خشبة معروضة في مؤخر المسجد، فجاء إليه ذو اليدين وقال له: صليت كذا وكذا أنسيت أم قصرت الصلاة؟ قال: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ [(1049)] فجاء النبي ﷺ وسأل أبا بكر وعمر فقالا مثلما قال، فلما علم ذلك ثنى رجليه واستقبل القبلة وصلى سجدتين[(1050)] والمراد بالسجدتين: الركعتان اللتان بقيتا؛ لأنه سلم عن ركعتين ناسيًا يظن أنه صلى أربعًا، والصحابة سكتوا؛ لأنهم ظنوا أنه نزل عليه وحي، وهذا من رحمة الله بعباده أن جعل نبيه ينسى حتى يكون هذا تشريعًا للأمة.
قوله: وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ فيه: أن سجود السهو يكون بعد السلام.
وفيه: أن المصلي يبني على ظنه إن كان عنده غلبة ظن؛ لأنه ﷺ قال: وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، يعني: يبني على غلبة الظن، فإذا شك كم صلى ثلاثًا أو أربعًا وغلب على ظنه أنه صلى ثلاثًا فليجعلها ثلاثًا ويأتي بركعة ثم يسلم ثم يسجد سجدتين ثم يسلم مرة ثانية، وكذلك إذا سلم عن نقص ركعة أو ركعتين فإنه يأتي بما بقي عليه ثم يسلم ثم يسجد سجدتين ويسلم كما في قصة ذي اليدين[(1051)]، فيكون السجود بعد السلام في هاتين الحالتين، وما عداهما يكون السجود قبل السلام.
أما إذا كان عنده شك وليس عنده غلبة ظن فإنه يبني على اليقين وهو الأقل، ثم يأتي بما بقي، ثم يسجد سجدتين قبل السلام على ما في حديث أبي سعيد من أن النبي ﷺ قال: إذا شك أحدكم في صلاته فليبن على ما استيقن ثم ليسجد سجدتين ثم يسلم [(1052)].
وكذلك إذا ترك التشهد الأول يكون السجود قبل السلام على ما في حديث عبدالله بن بحينة ، وكذلك إذا زاد ركعة أو ركعتين أو زاد ركوعًا أو سجودًا يكون السجود قبل السلام على ما في حديث ابن مسعود .
فالخلاصة أن النصوص إذا جمع بينها فإنها تبين أن سجود السهو كله قبل السلام إلا في صورتين:
الصورة الأولى: إذا بنى على غلبة الظن؛ على ما في هذا الحديث.
الصورة الثانية: إذا سلم عن نقص ركعة أو ركعتين على ما في حديث أبي ذر .
والمشهور عند العلماء أن هذا من باب الاستحباب، وإلا فلو سجد قبل السلام أو بعده صح في جميع الحالات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «ينبغي للإنسان أن يعمل على ما في الأحاديث؛ فما جاء أنه قبل السلام يسجد قبل السلام، وما جاء أنه بعد السلام يسجد بعد السلام»[(1053)]، فكأن شيخ الإسلام رحمه الله يرى الوجوب أو يداني به الوجوب.
قوله: لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ، فيه: أن القول مقدم على الفعل، لكن إذا أمر النبي ﷺ بشيء ثم فعل فعلاً يخالفه، دل على أن الأمر ليس للوجوب وإنما هو للاستحباب، ففعل النبي ﷺ يصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب، وكذلك إذا نهى النبي ﷺ عن شيء، ثم فعله دل على أن النهي ليس للتحريم وإنما هو للتنزيه، مثلما نهى النبي ﷺ عن الشرب قائمًا ثم شرب قائمًا، فدل على أن النهي ليس للتحريم وإنما هو للتنزيه، وأن الأفضل الشرب قاعدًا، وكما أمر النبي ﷺ بالقيام للجنازة، ثم قعد بعد ذلك، فقعوده ﷺ صرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب.
المتن:
باب مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ
وَمَنْ لا يَرَى الإِْعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ
وَقَدْ سَلَّمَ النَّبِيُّ ﷺ فِي رَكْعَتَيْ الظُّهْرِ وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ بِوَجْهِهِ ثُمَّ أَتَمَّ مَا بَقِيَ.
الشرح:
قوله: «وَمَنْ لا يَرَى الإِْعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا فَصَلَّى إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ» ، يعني: أنه يعفى عن استقبال القبلة إذا كان المرء ناسياً، أو جاهلا، أو مخطئًا في اجتهاده؛ لأن النبي ﷺ سلَّم في ركعتي الظهر، وأقبل على الناس بوجهه، واستدبر القبلة، وذهب إلى خشبة وهو ساه، يظن أن الصلاة انتهت، وتحدث معه ذو اليدين، فسأل النبيُّ ﷺ القوم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ؟ قالوا: نعم[(1054)]، فاستقبل النبي ﷺ القبلة وأكمل صلاته.
فكون النبي ﷺ استدبر الكعبة وتكلم وذهب إلى مؤخر المسجد وهو في الصلاة ساهيًا، استنبط منه المؤلف رحمه الله أن الساهي إذا استدبر الكعبة ناسيًا فإنه معذور، ومثله إذا لم يُصَلِّ إلى القبلة جاهلاً، ومثله إذا كان مخطئًا في اجتهاده. أما إذا قلد المرء من لا يوثق بعلمه، فالأحوط أن يعيد الصلاة.
المتن:
402 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاَثٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ: لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البَقَرَة: 125] وَآيَةُ الْحِجَابِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ لَهُنَّ: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [التّحْريم: 5] فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآْيَةُ.
حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا بِهَذَا.
الشرح:
402 وحديث عمر الشاهد منه قوله: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البَقَرَة: 125]، والمقام اختلف فيه العلماء:
القول الأول: إنه هو الحَجَر الذي قام عليه إبراهيم .
القول الثاني: الحرم كله.
القول الثالث: الكعبة.
والشاهد: أنه إذا كان المقصود بالمقام الكعبة فيجب استقبالها، ويكون تفسير قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البَقَرَة: 125] اتخذوا من الكعبة قبلة لكم.
وفي الحديث: أن عمر وافق ربه في أشياء كثيرة، حتى عد العلماء ما يقرب من خمس عشرة موافقة؛ منها هذه الثلاث:
الأولى: أنه قال: «لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى؟ فَنَزَلَتْ: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً [البَقَرَة: 125]» .
الثانية: قبل نزول الحجاب؛ حيث قال: «لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ» ، فنزلت: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزَاب: 53].
الثالثة: لما اجتمع نساء النبي عليه في الغيرة؛ قال عمر: عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ [التّحْريم: 5] فنزلت هذه الآية.
وأما قوله: «حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا» ، أراد به أن يبين تصريح حميد بسماعه من أنس؛ لأنه في الأول قال: عن حميد عن أنس بالعنعنة، وهنا صرح بالتحديث.
المتن:
الشرح:
403 أما قوله في حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: «فَاسْتَقْبَلُوهَا» بالفتح على أنه خبر، أي استجابوا وامتثلوا الأمر، وقيل: «فَاسْتَقْبِلُوهَا» بالكسر على أنه أمر، والأرجح أنه خبر.
والشاهد قوله: «وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إِلَى الشَّأْمِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ» ، أي: أنهم صلوا أول صلاتهم إلى بيت المقدس غير عالمين بتحويل القبلة إلى الكعبة، فلما جهلوا هذا الحكم عفي عنهم فصحت صلاتهم ولو كان أولها إلى بيت المقدس وآخرها إلى الكعبة؛ فالجاهل معذور، فإذا صلى المرء إلى غير القبلة جاهلاً صحَّت صلاته، وكذلك إذا أخطأ في اجتهاده فصلاته صحيحة، وكذلك إذا استقبل غير القبلة ساهيًا؛ كما فعل النبي ﷺ لما سلم من ركعتين[(1055)].
المتن:
الشرح:
404 قوله: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ» المراد به عبدالله بن مسعود ، وهو يعرف من تلاميذه.
قوله: «صَلَّى النَّبِيُّ ﷺ الظُّهْرَ خَمْسًا» يعني: زاد، وجاء في الحديث الآخر أنها في صلاة العصر[(1056)].
قوله: «أَزِيدَ فِي الصَّلاَةِ؟» وفي لفظ: توشوش القوم فقال: «ما لكم؟» فقالوا: أزيد في الصلاة؟ قال: وَمَا ذَاكَ؟ قالوا: صليت خمسًا، فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين[(1057)].
والشاهد من الحديث قوله: «فَثَنَى رِجْلَيْهِ» يعني: فثنى رجليه واستقبل القبلة.
قوله: «وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ» ، يعني: سجد سجدتي السهو، وهذا فيه دليل على أن الإنسان إذا زاد في صلاته قيامًا أو قعودًا أو ركعة أو ركعتين يسجد سجدتين مستقبلاً بهما القبلة، وتصح صلاته.
وإذا قام الإمام لركعة زائدة فلا يتبعه المأموم، بل ينبهه بالتسبيح، والإمام إذا كان ساهيًا وسمع تسبيح المأمومين فعليه أن يرجع، إلا إذا تيقن أنها ليست زائدة فله اجتهاده ولا يلزمه الرجوع إلى قول المأموم، والمأموم إذا كان متيقنًا لا يتبع الإمام، بل يجلس وينتظر حتى يسلم الإمام فيسلم معه، ولو تبع المأموم الإمام في الركعة الزائدة وهو يعلم بطلت صلاته، إلا إذا كان جاهلاً بهذا الحكم: فيعذر بجهله.
أما إذا سلم الإمام من ركعتين فأخبروه بأن صلاته ناقصة، فإنه يقوم ويستقبل القبلة ويكمل صلاته دون أن يعيد تكبيرة الإحرام؛ لأنه لا يزال في الصلاة.
المتن:
باب حَكِّ الْبُزَاقِ بِالْيَدِ مِنْ الْمَسْجِدِ
405 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ؛ فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا.
الشرح:
405 قوله: «أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ» فيه: دليل على أنه يجب على الإنسان ألا يبزق في الصلاة، ويحرم عليه هذا؛ وإذا بدر إليه بزاق فإنه يبزق عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمَيْهِ، وهذا في غير المسجد، أي إذا كان يصلي في الصحراء، أما إذا كان في المسجد فيتفل في ثوبه أو في منديل؛ ولهذا قال: «ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا.
وفيه: تعليم النبي ﷺ أصحابه بالفعل والبيان؛ حيث «ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَصَقَ فِيهِ، ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ» .
قوله: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ؛ فَلاَ يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ قِبْلَتِهِ أي: يحرم على المصلي أن يبصق أمامه في المسجد وغيره؛ لأنه يناجي ربه، والله تعالى أمامه فلا يبصق أمامه، وكذلك يحرم عليه أن يبصق عن يمينه، كما سيأتي في الأحاديث، وإنما يبصق عن يساره أو تحت قدمه إذا كان في الصحراء، أما إذا كان في المسجد فلا يبصق إلا في منديل أو في ثوبه.
ودليل التحريم قوله: فَلاَ يَبْزُقَنَّ؛ لأنه نهي، والنهي أصله التحريم إلا بصارف، ولا صارف.
والنهي عن البزاق جهة القبلة، قال بعض أهل العلم كالإمام مالك[(1058)]، والنووي، وجماعة: إنه عام فيحرم حتى في خارج الصلاة، فيرون أنه عام، فلو أراد الإنسان أن يبصق ولو في خارج الصلاة بصق عن يساره، ولا يجوز له أن يبصق أمامه ولا عن يمينه حتى وإن كان في الصحراء، واستدلوا بحديث ابن عمر السابق: فَلاَ يَبْصُقُ قِبَلَ وَجْهِهِ، وبحديث أبي هريرة في النهي عن البصق عن يمينه فإن عن يمينه ملكًا[(1059)] فما بقي إلا اليسار فيبصق عن يساره، والجمهور يرون أنه خاص بالصلاة، وحملوا النصوص المطلقة التي جاءت في النهي عن البزاق في الأمام وعن اليمين على النص المقيد في قوله ﷺ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ.
قوله: «فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى رُئِيَ فِي وَجْهِهِ» ؛ فيه: أن النبي ﷺ إذا كره الشيء عُرف في وجهه التأثر.
قوله: «فَقَامَ فَحَكَّهُ بِيَدِهِ» ؛ فيه: أن النخامة تحك في المسجد من الجدار أو من الأرض، وجاء في الحديث الآخر أن النبي ﷺ لما رأى النخامة في جدار المسجد حكها؛ وقال الراوي في اللفظ الآخر في غير الصحيح: وأحسبه جعل مكانها طيبًا[(1060)]، فدل مجموع النصوص على أنه إذا كان المسجد من طين فإنها تحك، أما إذا كان من غير الطين، أو كان مدهونًا بمادة ملساء، أو غير ذلك، كما هو الحال الآن، فليس فيه إلا الغسل، فتغسل وينظف المحل.
وعليه فيحرم على الإنسان أن يبصق في المسجد مطلقًا لا في الصلاة ولا في خارج الصلاة، لا إلى جهة القبلة ولا إلى غير جهة القبلة، وقد جاء في الحديث: الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ [(1061)] أما إذا كان يصلي في غير المسجد فله أن يبصق عن يساره أو تحت قدمه.
قوله: إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، قال عنه الحافظ ابن حجر: «وفيه الرد على من زعم أن الله على العرش بذاته».
وعلق سماحة الشيخ ابن باز رحمه الله على كلام الحافظ قائلاً: «ليس في الحديث المذكور رد على من أثبت استواء الرب سبحانه على العرش بذاته؛ لأن النصوص من الآيات والأحاديث بإثبات استواء الرب سبحانه على العرش بذاته محكمة قطعية واضحة لا تحتمل أدنى تأويل، وقد أجمع أهل السنة على الأخذ بها، والإيمان بما دلت عليه على الوجه الذي يليق بالله سبحانه من غير أن يشابه خلقه في أي شيء من صفاته.
وأما قوله في هذا الحديث: إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، وفي لفظ: فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ إِذَا صَلَّى؛ فهذا لفظ محتمل يجب أن يفسر بحسب ما يوافق النصوص المحكمة، كما أشار الإمام ابن عبدالبر إلى ذلك، ولا يجوز حمل هذا اللفظ وأشباهه على ما يناقض نصوص الاستواء الذي أثبتته النصوص القطعية المحكمة الصريحة، والله أعلم»[(1062)].
وهذا كلام رصين جيد منه رحمة الله عليه، فالنصوص التي فيها إثبات الاستواء على العرش نصوص محكمة قطعية، فقد صرح الله تعالى بالاستواء في سبعة مواضع من كتابه، ونصوص العلو، وأن الله فوق العرش، وأن الله فوق السموات أفرادها أكثر من ثلاثة آلاف دليل، وهذه نصوص محكمة قطعية صريحة، فإذا جاء مثل هذا الحديث وفيه: إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، فهذا كلام محتمل يفسر بما يوافق النصوص لا بما يخالفها؛ لأن النصوص يضم بعضها إلى بعض، والنصوص لا تتناقض، بل يصدق بعضها بعضًا، والقاعدة عند أهل العلم أن النصوص المحتملة تفسر بالقطعية، فمثلاً نقول: إن ربه بينه وبين القبلة وهو فوق العرش، فمن كان فوقك فهو أمامك ويزول الإشكال، فأنت ترى القمر أمامك وهو فوقك، وهذا معروف ولله المثل الأعلى.
أما الأشاعرة والمعتزلة والجهمية فيتعلقون بالنص المحتمل ويتركون النصوص الكثيرة القطعية الواضحة، يتركون قوله تعالى في كتابه: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعرَاف: 54] ويتعلقون بهذا المحتمل: إِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ، والتعلق بالنصوص المحتملة علامة أهل الزيغ.
أما أهل العلم، وأهل البصيرة، وأهل السنة والجماعة، فيأخذون بالنصوص المحكمة، ويردون إليها النصوص المحتملة.
والنهي عن البصاق في المسجد في قوله: فَلاَ يَبْزُقَنَّ، للتحريم؛ لأن الأصل في النهي أنه للتحريم، فلا يجوز للإنسان أن يبصق في المسجد، وقد جاء في الحديث الآخر: الْبُصَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَالنُّخَامَةُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا، [(1063)]، يعني: تدفن النخامة إذا كانت أرضية المسجد من تراب تحتمل الدفن؛ ولأن البصق في المسجد ينافي احترام المسجد، ويقذره على المصلين، والمسجد بيت الله، ومحل للذكر، والصلاة، والعبادة، والتعلم، والتعليم؛ وقد ورد أن رجلاً أمَّ قومًا فبصق في القبلة، فقال الرسول ﷺ: لا يصل لكم هذا [(1064)] يعني: تعزيرًا له.
المتن:
الشرح:
406 قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما: فَلاَ يَبْصُقُ، هذا نهي، والنهي للتحريم، ففيه: تحريم بصاق المصلي قِبَل وجهه.
المتن:
الشرح:
407 قوله في حديث عائشة رضي الله عنها: «فَحَكَّهُ» ، فيه: استحباب تنظيف المسجد من الوسخ والقذر.
المتن:
باب حَكِّ الْمُخَاطِ بِالْحَصَى مِنْ الْمَسْجِدِ
408، 409 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَاهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ حَصَاةً فَحَكَّهَا، فَقَالَ: إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.
الشرح:
قول البخاري رحمه الله في هذه الترجمة: «بَاب حَكِّ الْمُخَاطِ بِالْحَصَى مِنْ الْمَسْجِدِ» وفي الترجمة السابقة قال: «حَكِّ الْبُزَاقِ» ، والفرق بين البزاق والمخاط: أن البزاق تَفْلٌ لا يخرج معه شيء، أما المخاط، وكذلك البصاق، فلزج له جرم، فالبصاق والمخاط يخرج معه شيء لزج يحتاج إلى حك بالحصى، أما البزاق فتفل ولذلك حكه النبي ﷺ بيده.
جاء في نسخ صحيح البخاري بعد الترجمة: قال ابن عباس : «إن وطئت على قذر رطب فاغسله وإن كان يابسًا فلا» ؛ وهذا عام في جميع النجاسات، إذا كانت النجاسة رطبة ووطئ عليها الإنسان فإنه يغسل رجله ووضوؤه صحيح، وإن كانت يابسة كالبول اليابس أو غيره فلا تحتاج إلى غسل، وكذلك البصاق إن كان رطبًا ووطئه الإنسان فيغسله ـ أي: يغسل مكانه ـ والوضوء صحيح؛ أما إذا كان يابسًا فلا يحتاج إلى غسل، والبصاق والنخامة قَذَرٌ ليستا بنَجَس.
ومن جلس على النجاسة فالموضع الذي أصاب الجسد أو الثوب من النجاسة الرطبة يغسل، واليابسة لا تحتاج إلى غسل، أما إذا وطئ المرء على نجاسة يابسة بقدم رطبة، أو لمسها بيد رطبة أو جلس عليها بثياب رطبة فكل هذا يحتاج إلى غسل، أما إذا كانت النجاسة يابسة والقدم يابسة أو اليد أو الثياب فلا حاجة للغسل، والوضوء صحيح في كل الأحوال لا يحتاج إلى إعادة.
408، 409 قوله: إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَخَّمَنَّ قِبَلَ وَجْهِهِ وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ فيه: تحريم تنخم المصلي قبل وجهه، وكذلك عن يمينه؛ لأن الأصل في النهي أنه للتحريم إلا لصارف ولا صارف، فيحرم على المصلي أن يتنخم قبل وجهه؛ فَإِنَّ اللَّهَ قِبَلَ وَجْهِهِ [(1065)] كما سبق في الأحاديث، ولا عن يمينه؛ لأن عن يمينه ملكًا[(1066)] كما سبق، وسيأتي أيضًا التصريح به في بعض الأحاديث.
قوله: وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى، وهذا إذا كان يصلي في غير المسجد، كأن كان يصلي في الصحراء أو في مكان غير مفروش يتحمل الأذى، أما إذا كان يصلي في المسجد أو في مكان مفروش فإنه لا يحل له أن يبصق، لا عن يمينه ولا عن يساره، وإنما يبصق في منديل أو في ثوبه، كما بين النبي ﷺ أو يقول هكذا وبصق في ثوبه، ورد بعضه على بعض [(1067)].
وكونه يحل له أن يبصق في ثوبه يستدل به على طهارة البصاق وكذا المخاط، فلعاب المسلم ومخاطه وعرقه ـ وكذلك منيه؛ لأنه أصل الإنسان ـ طاهر حيًّا وميتًا، ولكن النخامة تغسل من باب النظافة، أما المذي فإنه نجس ونجاسته مخففة ـ كما سبق ـ فيكفي فيها النضح، أما بول الآدمي وبول ما لا يؤكل لحمه فنجس نجاسة توجب الغسل، أما أبوال ما يؤكل لحمه فطاهرة.
المتن:
باب لاَ يَبْصُقْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلاَةِ
410، 411 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ أَخْبَرَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ رَأَى نُخَامَةً فِي حَائِطِ الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حَصَاةً فَحَتَّهَا، ثُمَّ قَالَ: إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَخَّمْ قِبَلَ وَجْهِهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.
412 حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَاً قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: لاَ يَتْفِلَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ رِجْلِهِ.
الشرح:
قوله: «بَاب لاَ يَبْصُقْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلاَةِ» ، فيه: تقييد للنهي عن البصاق عن اليمين بالصلاة، وهذا قول الجمهور؛ فجمهور العلماء قالوا: إن النهي خاص بالصلاة، وعليه فيجوز خارج الصلاة.
410، 411 قوله: إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَخَّمْ قِبَلَ وَجْهِهِ ليس فيه التقييد بالصلاة، وإنما الحديث فيه مطلق التنخم.
وقوله: وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى فيه: تحريم بصاق المصلي أمامه أو عن يمينه كما سبق، وجواز أن يبصق عن يساره أو تحت قدمه إذا كان في غير المسجد، وأما في المسجد فمن المعلوم أنه لا يبصق، لا عن يساره ولا عن يمينه، وإنما يبصق في ثوبه أو في منديله.
412 قوله في حديث أنس : لاَ يَتْفِلَنَّ أَحَدُكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ، ليس فيه التقييد بالصلاة أيضًا، فالحديثان ليس فيهما التقييد بالصلاة، ولكن المؤلف رحمه الله حمل المطلق من الأحاديث على المقيد، فقيد الترجمة بالصلاة عملاً بالقاعدة الأصولية التي أخذ بها الجمهور، وهي حمل المطلق على المقيد؛ فبعض الأحاديث مطلقة مثل حديثي الباب، وبعضها مقيد بالصلاة كما ورد في الحديث الآخر الذي سيذكره المؤلف[(1068)] إِنَّ المُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ، فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ؛ فقيده بالصلاة، فالنصوص المطلقة تحمل على النصوص المقيدة، فالأحاديث التي ليس فيها التقييد بالصلاة تحمل على الأحاديث التي قيدت بالصلاة، وهذه المسألة خلافية بين أهل العلم، فالجمهور أجازوا البصاق أمامه أو عن يمينه إذا كان خارج الصلاة، وقالوا: إن النهي خاص بالصلاة، ومنع جماعة من البصاق أمامه أو عن يمينه حتى خارج الصلاة.
والأحوط عدم البصاق أمامه أو عن يمينه خارج الصلاة؛ خروجًا من خلاف العلماء، أما في الصلاة فلا شك في المنع والتحريم؛ لأن الأحاديث فيها النهي الواضح، والنهي للتحريم.
المتن:
الشرح:
قوله: لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى، يعني: في غير المسجد، في مكان يتحمل ذلك، كأن يصلي في الصحراء أو على التراب، أما إذا كان في المسجد أو في مكان مفروش فلا يجوز له أن يلوثه، وإنما يبصق في منديل أو في ثوبه.
والمؤلف رحمه الله ينوِّع التراجم المتعلقة بالبصاق وإن كان الحديث واحدًا حتى يستخرج ويستنبط الأحكام والفوائد.
المتن: