شعار الموقع

شرح كتاب الصلاة من صحيح البخاري (8-5) تابع بَابٌ لِيَبْزُقْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى - إلى باب الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ الإِْبِلِ

00:00
00:00
تحميل
177

الشرح:

 413 قوله: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فيه: التقييد بالصلاة؛ ولهذا قيد البخاري رحمه الله الترجمة السابقة بالصلاة فقال: «بَاب لاَ يَبْصُقْ عَنْ يَمِينِهِ فِي الصَّلاَةِ» ؛ أخذًا من هذا الحديث، وإن كان الحديثان اللذان ذكرهما في الترجمة السابقة ليس فيهما التقييد بالصلاة، لكن القاعدة الأصولية تنص على أن المطلق يحمل على المقيد، فالحديثان السابقان مطلقان وهذا الحديث مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، فالذي ليس فيه فِي الصَّلاَةِ يقيد بالصلاة.

وقوله: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي الصَّلاَةِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ؛ فَلاَ يَبْزُقَنَّ، منطوقه ألا يبزق في الصلاة، ومفهومه أنه إذا لم يكن في الصلاة فلا بأس أن يبزق.

قوله: وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ يعني: إذا كان في مكان غير المسجد، أي في مكان يتحمل الأذى، كأن يكون من تراب ونحوه.

المتن:

414 حَدَّثَنَا عَلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَبْصَرَ نُخَامَةً فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ فَحَكَّهَا بِحَصَاةٍ، ثُمَّ نَهَى أَنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى.

وَعَنْ الزُّهْرِيِّ، سَمِعَ حُمَيْدًا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ نَحْوَهُ

 الشرح:

414 قوله في حديث أبي سعيد : «نَهَى أَنْ يَبْزُقَ الرَّجُلُ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ عَنْ يَمِينِهِ» فيه ـ كما في الأحاديث السابقة ـ: أن النبي ﷺ نهى عن أن يبزق المصلي بين يديه أو عن يمينه، ولكن يبزق عن يساره أو تحت قدمه إذا كان خارج المسجد في مكان يتحمل ذلك.

وفيه: أن النبي ﷺ حك النخامة بالحصاة.

وفيه: تعظيم المساجد والعناية بها، وقد جاء في بعض الروايات أن الراوي قال: أحسبه جعل مكانها طيبًا[(1069)].

قوله: «وَعَنْ الزُّهْرِيِّ، سَمِعَ حُمَيْدًا» ، فيه: التصريح بسماع الزهري من حميد عن أبي سعيد ؛ لأنه قال في السند الأول: «حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ حُمَيْدِ» بالعنعنة.

المتن:

باب كَفَّارَةِ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ

 415 حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ ابْنَ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا.

الشرح:

415 قوله: الْبُزَاقُ فِي الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، فيه: التأكيد على حرمة البزاق في المسجد، وأنه خطيئة ومعصية؛ ولهذا حكه النبي ﷺ، وغضب ونهى عن ذلك، فقال ﷺ ـ كما في أحاديث التراجم السابقة : لا يبزقن أحدكم قبل وجهه ولا عن يمينه، والنهي للتحريم.

قوله: وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا؛ هذا إذا كان المسجد رمليًّا أو ترابيًّا أو حصبائيًّا، أي إذا كان يتحمل أن تدفن فيه، وهذا لا يؤخذ منه الإذن والرخصة للبصاق في المسجد، بل المعنى أنها إذا وقعت في مكان يحتمل الدفن تدفن، وإلا فإنها تحك وينظف مكانها، أو تنقل ويغسل مكانها.

وقد كان في المساجد تراب على عهد النبي ﷺ والصحابة وإلى عهد قريب، فلم تكن مفروشة بالحُصُر أو السجاد، بل كانت مفروشة بالتراب والحصباء والرمال؛ وعليه فكانت تحتمل أن يدفن فيها البزاق.

المتن:

باب دَفْنِ النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ

 416 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَلاَ يَبْصُقْ أَمَامَهُ؛ فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ، وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ؛ فَإِنَّ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكًا، وَلْيَبْصُقْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ فَيَدْفِنُهَا.

الشرح:

قوله: «بَاب دَفْنِ النُّخَامَةِ فِي الْمَسْجِدِ» ، يعني: إذا كان ترابيًّا أو رمليًّا أو حصبائيًّا، أما إذا كان مبلطًا أو مفروشًا فلا مجال للدفن، وإنما تنقل أو تحك ـ إذا أمكن الحك  أو تغسل وتنظف ويطيب مكانها إن أمكن.

 416 قوله: فَلاَ يَبْصُقْ أَمَامَهُ فيه: تحريم أن يبصق المصلي أمامه مطلقًا، سواء أكان يصلي في المسجد أم خارج المسجد، وكذلك عن يمينه؛ كما قال ﷺ: وَلاَ عَنْ يَمِينِهِ.

قوله: فَإِنَّمَا يُنَاجِي اللَّهَ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ، فيه: ذكر للعلة من النهي، فالمصلي يناجي ربه ما دام في مصلاه، وأما علة النهي عن كونه يبصق عن يمينه فلأن عن يمينه ملكًا؛ كما ورد في الحديث.

وهذا التعليل للنهي عن البصاق أمامه بأنه يناجي ربه، وعن يمينه بأن عن يمينه ملكًا، يؤيد اختصاص المنع بحال الصلاة، ويقوي ما ذهب إليه الجمهور من حمل الأحاديث المطلقة في الباب على الأحاديث المقيدة بالصلاة، أما إذا كان المرء خارج الصلاة فلا بأس بأن يبزق أمامه أو عن يمينه، لكن كون الإنسان يحتاط ولو خارج الصلاة خروجًا من الخلاف هو الأولى.

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وخرّج أبو داود وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من حديث حذيفة، عن النبي ﷺ قال: من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه [(1070)]، وخرج ابن خزيمة وابن حبان من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: يبعث صاحب النخامة في القبلة يوم القيامة وهي في وجهه [(1071)]».

وهذا وعيد شديد يفيد التحريم.

المتن:

باب إِذَا بَدَرَهُ الْبُزَاقُ فَلْيَأْخُذْ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ

 417 حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ رَأَى نُخَامَةً فِي الْقِبْلَةِ فَحَكَّهَا بِيَدِهِ، وَرُئِيَ مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ، أَوْ رُئِيَ كَرَاهِيَتُهُ لِذَلِكَ وَشِدَّتُهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قِبْلَتِهِ، فَلاَ يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ، وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا.

الشرح:

 417 وحديث الباب ـ حديث أنس فيه: أن الإنسان إذا أراد أن يبزق وهو يصلي فله أحد أمرين:

الأول: أن يبزق عن يساره أو تحت قدمه في الأرض.

الثاني: أن يبزق في ثوبه أو في منديل.

والأول إذا كان خارج المسجد وكان المكان يتحمل، كما لو كان في الصحراء، أما إذا كان في المسجد أو كان المكان مفروشًا فليس هناك مجال للبصاق إلا في الثوب أو المنديل.

وقوله: «فَحَكَّهَا بِيَدِهِ، وَرُئِيَ مِنْهُ كَرَاهِيَةٌ» ، فيه: شدة عناية النبي ﷺ بالمساجد، حتى إنه حك النخامة بيده ﷺ ولم يأمر أحدًا بحكها. وما رئي على وجهه ﷺ من الكراهة يدل على حرمة هذا العمل.

والتعليل بقوله: إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي صَلاَتِهِ فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبَّهُ، يدل على أن النهي إنما هو خاص بالصلاة؛ لأنه يناجي ربه في الصلاة، فإذا سلم وخرج من الصلاة انتهت المناجاة؛ ولهذا قال: فَلاَ يَبْزُقَنَّ فِي قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ فَبَزَقَ فِيهِ، وَرَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، قَالَ: أَوْ يَفْعَلُ هَكَذَا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وفي الأحاديث المذكورة من الفوائد غير ما تقدم: الندب إلى إزالة ما يستقذر، أو يتنزه عنه من المسجد».

الندب يعني: الاستحباب، فالحافظ ابن حجر رحمه الله يرى استحباب إزالة ما يستقذر أو يتنزه عنه من المسجد، وظاهر النصوص أنه إذا وُجدت نخامة في المسجد فيجب على من رآها أن يحكها ويزيلها، أي على سبيل الوجوب وليس الندب فقط.

ثم قال رحمه الله: «وتفقد الإمام أحوال المساجد وتعظيمها وصيانتها، وأن للمصلي أن يبصق وهو في الصلاة ولا تفسد صلاته».

يعني أن فيه: دليلاً على أن المصلي له أن يبصق وهو في الصلاة، وأن البصاق لا يبطل الصلاة ولا يفسدها.

ثم قال رحمه الله: «وأن النفخ والتنحنح في الصلاة جائزان؛ لأن النخامة لابد أن يقع معها شيء من نفخ أو تنحنح، ومحله ما إذا لم يفحش، ولم يقصد صاحبه العبث، ولم يبن منه مسمى كلام وأقله حرفان أو حرف ممدود».

والحنابلة[(1072)]، والأحناف[(1073)]، وغيرهم قالوا: إذا تنحنح في الصلاة وبان حرفان بطلت الصلاة؛ ولهذا قال الحافظ: «ومحله ما إذا لم يفحش ولم يقصد صاحبه العبث ولم يبن منه مسمى كلام وأقله حرفان». والصواب أن هذا إذا تعمد أو لم يكن لحاجة، أما إذا كان رغمًا عنه كأن يغلبه شيء في حلقه أو كان لحاجة، فالقول بفساد الصلاة فيه نظر.

ثم قال رحمه الله: «واستدل به المصنف على جواز النفخ في الصلاة، كما سيأتي في أواخر كتاب الصلاة، والجمهور على ذلك، لكن بالشرط المذكور قبل».

يعني: ألا يَبين منه حرفان، وقد جاء في بعض الأحاديث أن النبي نفخ وكان في صلاة الكسوف[(1074)].

ثم قال رحمه الله: «وقال أبو حنيفة: إن كان النفخ يسمع فهو بمنزلة الكلام يقطع الصلاة، واستدلوا له بحديث عن أم سلمة عند النسائي، وبأثر عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة، وفيها أن البصاق طاهر وكذا النخامة والمخاط؛ خلافًا لمن يقول: كل ما تستقذره النفس حرام».

هذا هو الصحيح في طهارة النخامة والمخاط والبزاق؛ لأن الآدمي طاهر وبصاقه ولعابه وعرقه طاهر، وكذلك المني، إلا البول والمذي.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ويستفاد منه أن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع، فإن جهة اليمين مفضلة على اليسار، وأن اليد مفضلة على القدم».

وهذا مذهب الأشاعرة أن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع، وأن العقل لا يعرف الحسن والقبح، فلولا أن الشرع جاء بأن الزواج مثلاً حسن لما عرفنا أنه حسن، ولولا أن الشرع جاءنا بأن الزنا قبيح لما عرفنا أنه قبيح، فالعقل لا يعرف الحسن ولا القبح، فالحسن والقبح لا يعرفان إلا من جهة الشرع فقط؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله على طريقة الأشاعرة: «ويستفاد منه أن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع».

وقابلهم المعتزلة فقالوا: التحسين والتقبيح لا يعرفان إلا بالعقل، ولا يكونان إلا بالعقل، فغلوا في العقل وحكموه، حتى فسروا الرسول في قوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسرَاء: 15] بالعقل.

فالأشاعرة والمعتزلة على طرفي نقيض، فالأشاعرة يقولون: لا يعرف التحسين والتقبيح إلا من الشرع، والمعتزلة يقولون: لا يعرف التحسين والتقبيح إلا من العقل.

وذهب أهل السنة إلى أن التحسين والتقبيح يكونان بالشرع وبالعقل؛ فالعقل يعرف الحُسن ويعرف القُبح وهو تابع للشرع، وهذا هو الصواب فالعقل الصحيح يوافق النقل الصريح، فالشريعة لم تجئ بما يخالف العقول ويناقضها، وإنما جاءت بما تتحير فيه العقول ولا تدركه على استقلالها، وهذا معنى قول العلماء: الشريعة جاءت بمحاراة العقول لا بمحالاتها، وهذا من المواضع الدقيقة التي لا يُتنبه لها، وهي مما يقرره الأشاعرة خلافًا لأهل السنة والجماعة؛ فالتحسين والتقبيح يكون بالعقل وبالشرع.

ثم قال رحمه الله: «وفيها الحث على الاستكثار من الحسنات وإن كان صاحبها مليًّا؛ لكونه ﷺ باشر الحك بنفسه، وهو دال على عظم تواضعه ﷺ، زاده الله تشريفًا وتعظيمًا».

المتن:

باب عِظَةِ الإِْمَامِ النَّاسَ فِي إِتْمَامِ الصَّلاَةِ وَذِكْرِ الْقِبْلَةِ

 418 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ وَلاَ رُكُوعُكُمْ، إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي.

الشرح:

 418 قوله: إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي؛ هذا من خصوصياته ﷺ ومعجزاته وعلامات نبوته، أنه يرى الناس من وراء ظهره ببصره في الصلاة خاصة على المختار، أما في غير الصلاة فلا يراهم؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ خُشُوعُكُمْ وَلاَ رُكُوعُكُمْ، إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي والدليل على أنه لا يرى من خلفه في غير الصلاة حديث أبي ذر أنه قال: كنت أمشي خلف النبي ﷺ في ظل القمر، فقال: مَنْ هَذَا؟ فقلت: أبو ذر[(1075)]، فلو كان يراه لعرف أنه أبو ذر؛ فدل على أن هذا خاص بالصلاة.

وفي الحديث: ما دلت عليه الترجمة من مشروعية عظة الإمام الناس في إتمام الصلاة وإتمام الركوع والخشوع وفي ذكر القبلة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي وهو استفهام إنكار لما يلزم منه، أي أنتم تظنون أني لا أرى فعلكم لكون قبلتي في هذه الجهة؛ لأن من استقبل شيئًا استدبر ما وراءه، لكن بيّن النبي ﷺ أن رؤيته لا تختص بجهة واحدة، وقد اختلف في معنى ذلك، فقيل: المراد بها العلم إما بأن يوحى إليه كيفية فعلهم وإما أن يلهم، وفيه نظر؛ لأن العلم لو كان مرادًا لم يقيده بقوله: مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي.

فبعضهم يقول: المراد أنه يراهم بعلم يأتيه به الوحي، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه قال: إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي، ولو كان المراد أنه يعلم بنزول وحي لما صار للتقييد بالظهر خصوص فائدة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقيل: المراد أنه يرى من عن يمينه ومن عن يساره ممن تدركه عينه مع التفات يسير في النادر، ويوصف من هو هناك بأنه وراء ظهره، وهذا ظاهر التكلف، وفيه عدول عن الظاهر بلا موجب، والصواب المختار أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به ﷺ انخرقت له فيه العادة».

وهذا هو الصواب: أنه محمول على ظاهره، وأنه إبصار حقيقي خاص به ﷺ انخرقت له فيه العادة في الصلاة خاصة.

ثم قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وعلى هذا عمل المصنف، فأخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره».

يعني: أن النبي ﷺ يراهم بعينه من وراء ظهره هو الذي ذهب إليه المصنف رحمه الله ونقل عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، ونقل عن غيره أيضا.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عينه انخرقت له العادة فيه أيضًا، فكان يرى بها من غير مقابلة؛ لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب».

هذا مذهب الأشاعرة الذي يقول: الرؤية لا يشترط لها مقابلة، فالله تعالى يرى لا في جهة، أما مذهب أهل السنة ـ وهو الصواب ـ أنه لابد من المقابلة في الرؤية.

وكذلك المعتزلة نفوا العلو ونفوا الرؤية، فقالوا: إن الله لا يُرى وليس فوق.

أما أهل السنة فأثبتوا الرؤية وأثبتوا الفوقية، في حين تذبذب الأشاعرة بين المعتزلة وأهل السنة، فكانوا مع المعتزلة في نفي العلو فقالوا: لا هو بفوق ولا تحت ولا يمين ولا شمال، ولكن ما اجترءوا على نفي الرؤية؛ لأن الرؤية أدلتها واضحة، فقالوا: يرى لا في جهة، أي بدون مقابلة.

فأنكر عليهم أهل السنة وأنكر عليهم جميع العقلاء وقالوا: هذا غير متصور وغير معقول، حتى إن جماهير العقلاء ضحكوا من إثبات رؤية بدون مقابلة؛ فالمرئي لابد أن يكون بجهة من الرائي، فلابد من المقابلة ولابد من الجهة.

وقول الحافظ رحمه الله هنا: «أن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة» هذا تقرير لمذهب الأشاعرة، والأشاعرة يسمون أنفسهم أهل السنة.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً؛ ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة خلافًا لأهل البدع؛ لوقوفهم مع العادة، وقيل: كانت له عين خلف ظهره يرى بها مَنْ وراءه دائمًا».

وهذا أيضًا ضعيف وليس بصحيح؛ لأن الصواب أن هذا خاص بالصلاة، ولو كانت له عين من خلفه لرأى أبا ذر وهو خلفه يمشي في ظل القمر كما ورد في الحديث.

ثم قال الحافظ رحمه الله: «وقيل: كان بين كتفيه عينان مثل سَم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غيره، وقيل: بل كانت صورهم تنطبع في حائط قبلته كما تنطبع في المرآة، فيرى أمثلتهم فيها فيشاهد أفعالهم».

وكل هذا ضعيف، والصواب أن النبي ﷺ يراهم ببصره رؤية خاصة في الصلاة، وهذا من خصائص وعلامات نبوته عليه الصلاة والسلام ومن معجزاته.

المتن:

419 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ قَالَ:حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلاَلِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ ﷺ صَلاَةً، ثُمَّ رَقِيَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: فِي الصَّلاَةِ وَفِي الرُّكُوعِ: إِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَائِي كَمَا أَرَاكُمْ.

 الشرح:

419 قوله في حديث أنس : كَمَا أَرَاكُمْ، يعني: كما أراكم من أمامي، فمعنى الحديث: إني أراكم من ورائي كما أراكم من أمامي، أي: في الصلاة، كما مر في الحديث السابق.

قوله: «رَقِيَ» بكسر القاف من الصعود وهو الأشهر، وفي رواية: «رقَا» بفتح القاف على لغة من الرقية وهي النفث والقراءة على المريض.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فيه دليل على المختار أن المراد بالرؤية الإبصار، وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة».

وهذا هو الصواب.

ثم قال رحمه الله: «ويحتمل أن يكون ذلك واقعًا في جميع أحواله، حكى بقية بن مخلد أنه ﷺ كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء».

وهذا ليس بصحيح.

المتن:

باب هَلْ يُقَالُ: مَسْجِدُ بَنِي فُلاَنٍ

 420 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنْ الْحَفْيَاءِ وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَاللَّهِ بْنَ عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا.

الشرح:

 420 قوله: «إلى مسجد بني زريق» فيه: دليل لما ترجم له المؤلف من أنه يجوز أن يضاف المسجد إلى بانيه أو غيره، فيقال: مسجد بني فلان، وهذا هو الذي عليه العمل.

وفيه: الرد على من كره ذلك، فإبراهيم النخعي يقول: لا ينبغي أن يقال: مسجد بني فلان، وإنما يقال: مصلى بني فلان؛ لأن الله تعالى يقول: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجنّ: 18]، فأراد المؤلف رحمه الله أن يرد على إبراهيم النخعي، فقال: «بَاب هَلْ يُقَالُ: مَسْجِدُ بَنِي فُلاَنٍ؟» .

وأورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ: «وَسَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنْ الثَّنِيَّةِ إِلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ» فأضاف المسجد إلى بني زريق؛ فدل على أنه لا بأس أن ينسب المسجد إلى بانيه أو إلى أهل الحي أو غيرهم، فيقال: مسجد فلان أو بني فلان، ولا ينافي هذا أن المساجد لله؛ فالإضافة للتعريف، أما كراهة إبراهيم النخعي فلا وجه لها.

والمؤلف رحمه الله أورد الترجمة دون جزم فقال: «هل يقال: مسجد بني فلان؟» ؛ لاحتمال أن يكون ابن عمر قال هذا بعد وفاة النبي ﷺ، والصواب أنه لا بأس بهذا ولا محذور فيه، وأن هذا لا ينافي كون المساجد لله، ولا يؤثر في نية الباني كونه يقال: مسجد بني فلان أو مسجد فلان.

وفي الحديث: مشروعية المسابقة بالخيل وتضميرها؛ لأن هذا ينفع في الجهاد.

وفيه: دليل على أنه ينبغي الإعداد للجهاد، بتعلم الرماية والفروسية، والتدرب على جميع أنواع السلاح في كل عصر وفي كل زمان؛ لأن هذا فيه ترهيب للعدو، فالله تعالى يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفَال: 60]، وقال عليه الصلاة والسلام: أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ [(1076)]، ولفظة الرمي من جوامع الكلم؛ لأنه ﷺ لم يحدد نوع الرمي، فيشمل الرمي بالسهام والحراب في الزمان الأول، وكذلك الرمي بالبندقية وبالرشاش وبالقنبلة وبالطائرة في هذا الزمان، فالمسلمون ينبغي لهم أن يتعلموا ـ ولاسيما الشباب ـ ويستعدوا ويتدربوا على جميع أنواع الأسلحة والرماية؛ لأن هذا من الإعداد للجهاد.

وفيه: مشروعية إعداد الخيل والاعتناء بها، فالخيل لا يستغنى عنها في كل زمان، وقد قال النبي ﷺ: الخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ [(1077)]، فلا تزال الخيلُ يحتاج إليها حتى في الحروب الحديثة، فتستخدم في حروب الجبال الوعرة التي لا تصل إليها السيارات ولا الطائرات.

والنبي ﷺ سابق بين الخيل التي لم تضمر والخيل التي اضُمِّرت، ومعنى تضمير الخيل أن يُحبس الفرس في مكان خاص ويطعم طعامًا خاصًّا، ويقلل له الغذاء مدة تقارب أربعين يومًا؛ حتى يزول الرهل وينزل العرق وتتقوى أعضاؤه، فيخرج بعد التضمير قويًّا سريعًا نشيطًا مفتول الأعضاء، أما الذي لم يضمر فيكون أضعف وأبطأ من المضمر؛ ولهذا عندما سابق النبي ﷺ بين الخيل أمد للخيل التي اضُمَّرت في المسافة فقال: «وأمدها ثنية الوداع» .

والخير مستمر في الخيل إلى يوم القيامة، وقد ورد في الأحاديث التي تكلمت عن فتن آخر الزمان أن القتال سوف يكون بالسيف وسوف يعود الناس إلى الخيل، فقد جاء في صحيح مسلم أن النبي ﷺ قال عن الجيش الذي يخرج من المدينة في آخر الزمان: إني لأعرف أسماءهم وألوان خيولهم [(1078)]، فدل على أنهم سيعودون للقتال على الخيل.

المتن:

باب الْقِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ

 421 وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الصَّلاَةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلاَّ أَعْطَاهُ؛ إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي، فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خُذْ، فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ قَالَ: لاَ قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ، فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ ، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ، فَنَثَرَ مِنْهُ ثُمَّ احْتَمَلَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا؛ عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ.

الشرح:

421 وحديث أنس استدل به المؤلف رحمه الله على جواز توزيع المال في المسجد؛ لأنه لما جاء هذا المال من البحرين من مال الخراج ـ وهو أكثر ما جاء من مال ـ قال النبي: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ.

قوله: «فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى الصَّلاَةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ» ، فيه: أن الدنيا لا تساوي شيئًا في قلب النبي ﷺ، ولا تلهيه عن ذكر الله وعن الصلاة ﷺ.

قوله: «فَلَمَّا قَضَى الصَّلاَةَ جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلاَّ أَعْطَاهُ» ، فيه: دليل على أن مال الخراج ومال بيت المال موكول إلى نظر الإمام، يوزعه حسب اجتهاده؛ ولهذا لما جاء هذا المال من الخراج الذي ضرب على أهل البحرين ما كان ﷺ يرى أحدًا إلا أعطاه ما يسد حاجته، فجاء العباس عم النبي ﷺ «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي، فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلاً» ، يعني: في غزوة بدر؛ لأنه أسر في غزوة بدر مع الذين أسروا وكذلك عقيل بن أبي طالب ابن أخيه، وقد قال عليه الصلاة والسلام للأسرى في غزوة بدر: لا ينفلتن أحد إلا بفداء أو ضرب عنق [(1079)]، أي: إما أن يقتل أو يفادي نفسه، ففادى بعضهم نفسه بأن يعلم بعض صبيان المدينة القراءة والكتابة، وفادى البعض الآخر نفسه بالمال، وكان العباس ممن فادى نفسه وابن أخيه عقيل بالمال، فقال: يا رسول الله أعطني من هذا المال عوضًا عما خسرته في فداء نفسي وابن أخي في غزوة بدر، «فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: خُذْ، فحثا العباس في ثوبه، «ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ» ، أي: لثقله، فكأنه كان ـ فيما يظهر ـ ذهبًا أو فضة؛ لأن الذهب والفضة معادن ثقيلة، «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ، . فلما رأى العباس أن ليس هناك حيلة نثر من الدراهم حتى يخف الحمل، ثم ذهب يُقِلُّه فلم يستطع، «فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ،، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لاَ، فنثر منه مرة ثانية حتى خف، فحمله ووضعه على كتفيه.

قوله: «فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا؛ عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ» أي: عجبًا من حرصه على المال، وهذا التعليل من كلام أنس أخذه من القرائن.

قوله: «فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ» يعني: وزعها كلها عليه الصلاة والسلام.

أما مناسبة قوله في ترجمة الباب: «بَاب الْقِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي الْمَسْجِدِ» لهذا الحديث، فهي أن المؤلف رحمه الله قاس تعليق القنو بتوزيع الدراهم في المسجد، فكما أن المال يوزع في المسجد، فكذلك يجوز أن يعلق القنو ـ أي عذق الرطب الذي فيه التمر والبُسْر ـ في المسجد للناس ليأكلوا منه. فيجوز أكل الطعام في المسجد كما كان أهل الصفة يأكلون فيه، وكذلك المعتكف يجوز له أن يأكل في المسجد مع ملاحظة عدم تلويث المسجد، وقد جاء في غير الصحيح فيما رواه النسائي من حديث عوف بن مالك الأشجعي قال: خرج رسول الله ﷺ وبيده عصا وقد علق رجل قنا حشف، فجعل يطعن في ذلك القنو فقال: لَوْ شَاءَ رَبُّ هَذِهِ الصَّدَقَةِ تَصَدَّقَ بِأَطْيَبَ مِنْ هَذَا [(1080)]، وكذلك أيضًا جاء في حديث آخر أن النبي ﷺ أمر بكل حائط بقنو يعلق في المسجد للمساكين[(1081)]، فكأن المؤلف رحمه الله يشير إليها، وهذه الأحاديث لم يخرجها البخاري رحمه الله لأنها ليست على شرطه، وابن بطال رحمه الله يقول: «لم يذكر البخاري حديثًا في تعليق القنو؛ لأن هذا إغفال من البخاري». وابن التين يقول: «لعله أُنسي». أما الحافظ فقد رجح أنه لم ينسَ ولكنه لدقته في تراجمه أشار إلى أن هذه الأحاديث ليست على شرطه، وقاس تعليق القنو على توزيع الدراهم، فكما أنه ﷺ نثر الدراهم في المسجد ووزعت، فلا مانع من أن يعلق القنو في المسجد ليأكل منه المساكين، مع ملاحظة عدم تلويث المسجد.

المتن:

باب مَنْ دَعَا لِطَعَامٍ فِي الْمَسْجِدِ وَمَنْ أَجَابَ فِيهِ

 422 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعَ أَنَسًا قَالَ: وَجَدْتُ النَّبِيَّ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ نَاسٌ فَقُمْتُ، فَقَالَ لِي: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: لِطَعَامٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا فَانْطَلَقَ، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ.

الشرح:

 422 حديث الباب فيه: أنه لا بأس أن يدعو الإنسان للوليمة في المسجد، وأن هذا لا يعتبر من السؤال ولا من إنشاد الضالة، وليس كالبيع والشراء الممنوع في المسجد.

قوله ﷺ: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟، يعني: أأرسلك أبو طلحة؟ فهذا استفهام من رسول الله ﷺ، وهو من علامات نبوته عليه الصلاة والسلام؛ فقد علم ما في نفس أنس قبل أن يتكلم.

قوله: «فَقَالَ لِمَنْ مَعَهُ: قُومُوا فَانْطَلَقَ، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ، فيه: دليل على جواز أن يدعو المرء غيره معه إذا كان الداعي يحب ذلك ولا يمانع؛ ولذلك أخذ النبي ﷺ أصحابه معه؛ لعلمه بترحيب أبي طلحة .

المتن:

باب الْقَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ

 423 حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلاً وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلاً، أَيَقْتُلُهُ؟ فَتَلاَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَا شَاهِدٌ.

الشرح:

قوله: «بَاب الْقَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي الْمَسْجِدِ» ، هذه الترجمة تابعة للتراجم السابقة التي تتعلق بأحكام المساجد.

وقد عطف البخاري رحمه الله اللعان على القضاء، فقال: «بَاب الْقَضَاءِ وَاللِّعَانِ» ؛ وذلك لأن القضاء أعم من اللعان، فهذا من عطف الخاص على العام.

واللعان معناه: أن يقذف الرجل امرأته بالزنا بدون شهود مع إنكارها، فحينئذ يتلاعنا، فيُقضى بينهما باللعان، أما إذا قذف الرجل غير امرأته فإما أن يأتي ببينة ـ أي أربعة شهود ـ وإلا يجلد ثمانين جلدة، فاللعان لا يكون إلا في قذف الرجل امرأته خاصة، فيبدأ القاضي بالرجل فيقول له: اشهد أربع شهادات بالله إنك لصادق، ثم في الخامسة يشهد بأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم بعد ذلك توجه الأيمان إلى المرأة فتشهد أربع شهادات بالله إنه لكاذب، وتشهد في الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ مصداقًا لقوله تعالى في سورة النور: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ۝ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ۝ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ ۝ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النُّور: 6-9]. ثم بعد ذلك يفرق بينهما تفريقًا مؤبدًا.

 423 حديث الباب ذكر فيه المؤلف رحمه الله قصة الرجل والمرأة اللذين تلاعنا في المسجد، وهذا فيه دليل على جواز القضاء واللعان في المسجد، فلا بأس أن يقضي القاضي في المسجد، وقد كان كثير من القضاة إلى عهد قريب يقضون في المساجد، بأن تخصص له غرفة في المسجد يأتيه فيها المتخاصمان ويقضي بينهما.

قوله: «فَتَلاَعَنَا فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنَا شَاهِدٌ» ، يؤخذ منه أن الملاعنة في المسجد أمر مباح، وليس واجبًا أو مستحبًّا، وإن تلاعنا في غير المسجد فلا بأس، أما إقامة الحدود فينبغي أن تكون خارج المسجد؛ لأنه يخشى تلويث المسجد.

المتن:

باب إِذَا دَخَلَ بَيْتًا يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ أَوْ حَيْثُ أُمِرَ وَلاَ يَتَجَسَّسُ

 424 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَتَاهُ فِي مَنْزِلِهِ فَقَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ مِنْ بَيْتِكَ؟ قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ، فَكَبَّرَ النَّبِيُّ ﷺ وَصَفَفْنَا خَلْفَهُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.

الشرح:

قوله: «ِذَا دَخَلَ بَيْتًا يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ أَوْ حَيْثُ أُمِرَ» ، هذه الترجمة معقودة لصلاة الضيف في بيت المضيف، فإذا زار أحد أحدًا وأراد أن يصلي أو طلب منه أن يصلي فإنه يصلي في المجلس المعد لاستقبال الرجال، أو حيث يوجهه صاحب البيت.

وأما قوله: «وَلاَ يَتَجَسَّسُ» يعني: أنه يجب على للضيف أن يلتزم المكان الذي عين له ولا يتجاوزه إلى مكان قد يكون قريبًا من أهل البيت؛ فيتجسس عليهم أو يتسمع أخبارهم.

 424 قوله ﷺ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ لَكَ مِنْ بَيْتِكَ؟ فيه: أن عتبان بن مالك أراد أن يتخذ المكان الذي سوف يصلي فيه النبي ﷺ مسجدًا يتبرك به؛ لما جعل الله تعالى في نبيه عليه الصلاة والسلام من البركة، وهذا خاص بالنبي ﷺ، ولا يقاس عليه غيره.

وفيه: استحباب استئذان صاحب البيت في كل أمر حتى في مكان الصلاة، وأن صاحب البيت هو الذي يعين للضيف البقعة التي سوف يصلي فيها.

وفيه: جواز صلاة النافلة جماعة في بعض الأحيان، وأنه لا حرج في ذلك إذا لم تتخذ عادة، كما فعل النبي ﷺ في بيت عتبان؛ حيث صفوا خلفه وصلى ركعتين[(1082)]، وكما صلى ﷺ بأنس واليتيم والعجوز خلفهم لما زارهم ضحى على حصير قد اسودَّ من طول ما لُبِس[(1083)].

المتن:

باب الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ

وَصَلَّى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي مَسْجِدِهِ فِي دَارِهِ جَمَاعَةً.

الشرح:

قوله: «وَصَلَّى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي مَسْجِدِهِ فِي دَارِهِ جَمَاعَةً» يعني: لعلها كانت صلاة نافلة أو فريضة فاتتهم في المسجد لعذر، وإلا فالواجب على الرجل إذا كان صحيحًا أن يصلي في المسجد.

وقوله: «فِي مَسْجِدِهِ فِي دَارِهِ» أي: في بقعة من الدار مُعَدَّة للصلاة.

المتن:

425 حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُفَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنِي اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ الأَْنْصَارِيُّ أَنَّ عِتْبَانَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِمَّنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الأَْنْصَارِ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي فَإِذَا كَانَتْ الأَْمْطَارُ سَالَ الْوَادِي الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ آتِيَ مَسْجِدَهُمْ فَأُصَلِّيَ بِهِمْ وَوَدِدْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ تَأْتِينِي فَتُصَلِّيَ فِي بَيْتِي فَأَتَّخِذَهُ مُصَلًّى؟ قَالَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: سَأَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، قَالَ عِتْبَانُ: فَغَدَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَأَبُو بَكْرٍ حِينَ ارْتَفَعَ النَّهَارُ، فَاسْتَأْذَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَأَذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى دَخَلَ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ مِنْ بَيْتِكَ؟، قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنْ الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَكَبَّرَ فَقُمْنَا فَصَفَّنَا فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ قَالَ: وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرَةٍ صَنَعْنَاهَا لَهُ، قَالَ فَثَابَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ ذَوُو عَدَدٍ فَاجْتَمَعُوا، فَقَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخَيْشِنِ أَوِ ابْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ تَقُلْ ذَلِكَ أَلاَ تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ؟ قَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ.

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: ثُمَّ سَأَلْتُ الْحُصَيْنَ بْنَ مُحَمَّدٍ الأَْنْصَارِيَّ وَهُوَ أَحَدُ بَنِي سَالِمٍ وَهُوَ مِنْ سَرَاتِهِمْ عَنْ حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ الرَّبِيعِ فَصَدَّقَهُ بِذَلِكَ.

الشرح:

 425 حديث عتبان بن مالك ذكره المؤلف رحمه الله في باب «الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ» ، ليدلل على مشروعية اتخاذ المساجد في البيوت.

قوله: «قَدْ أَنْكَرْتُ بَصَرِي وَأَنَا أُصَلِّي لِقَوْمِي» ، فيه: دليل على صحة إمامة الأعمى.

قوله: «وَحَبَسْنَاهُ عَلَى خَزِيرَةٍ» ؛ الخزيرة هي: العصيدة إذا لم يكن فيها لحم، وأحيانًا يُقطَع فيها قطع صغار من اللحم.

 مسألة: وحديث عتبان فيه إشكال، وهو أن أن النبي ﷺ رخص لعتبان أن يصلي في بيته وهو أعمى، مع أنه لم يرخص لابن أم مكتوم وهو أيضًا رجل أعمى، فقد جاء ابن أم مكتوم للنبي ﷺ وأخبره أنه لا قائد له يقوده للمسجد، وسأله أن يرخص له في أن يصلي في بيته، فقال ﷺ: هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ؟ قال: نعم، قال: فَأَجِبْ؛ فإني لَا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً[(1084)].

الجواب: أن عتبان عذره شرعي وهو المطر وسيلان الوادي، وهذا عذر للأعمى والمبصر، بخلاف ابن أم مكتوم فإنه ذكر العمى، والعمى ليس عذرًا في ترك الجماعة؛ لأن الأعمى يمكن مجيئه إلى المسجد، وإن كان فيه بعض المشقة فله الأجر العظيم.

وقوله: «فَثَابَ فِي الْبَيْتِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ» ، المراد بأهل الدار: أهل المحلة، كقوله ﷺ: خَيْرُ دُورِ الأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ [(1085)]، أي: محلتهم.

وفي الحديث: أنه يشرع أن تبنى المساجد في الدور ـ والمراد بالدور: الأحياء، والحارات، والمحلات ـ فكل حي من الأحياء يجوز أن تبنى فيه المساجد على قدر الحاجة.

قوله ﷺ: «أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخَيْشِنِ أَوِ ابْنُ الدُّخْشُنِ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لاَ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: لاَ تَقُلْ ذَلِكَ أَلاَ تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ فيه: مشروعية واستحباب الدفاع عن عرض المسلم، فالنبي ﷺ دافع عن مالك لما اتهم بالنفاق.

وفيه: شهادة النبي ﷺ لهذا الرجل بالبراءة من النفاق، فقال ﷺ: أَلاَ تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ.

وهذا الحديث ـ وهو حديث عتبان بن مالك هو الذي ذكر الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الشاهد منه في كتاب التوحيد، في باب فضل التوحيد، وهو قوله ﷺ: فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ.

وهذا الحديث كغيره من أحاديث فضل التوحيد، وأحاديث الرجاء فيه، فهو مقيد باجتناب الكبائر، وبالثبات على الإيمان حتى الممات؛ لقول الله : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ، يعني الصغائر، وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيمًا [النِّسَاء: 31]، ولقوله عليه الصلاة والسلام: الْصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعُةِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَرَمَضَانِ إِلَى رَمَضَانَ مُكفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ مَا اجْتُنِبَتِ الْكَبَائِرُ [(1086)].

فإن مات على الكبائر من غير توبة فهو تحت مشيئة الله، كما قال الله : إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النِّسَاء: 48]، وإن عذب فمآله إلى السلامة، والنجاة من النار ودخول الجنة؛ لأن من مات على الكبائر فإيمانه ضعيف لا يقوى على إدخاله الجنة من أول وهلة، إلا بأحد أمرين: بمشيئة الله ومغفرته، أو تعذيبه وتطهيره بالنار، فمن لم يعف الله عنه لابد أن يطهر بالنار؛ حتى يزول عنه خبث المعاصي والكبائر، وبعد تطهيره بالنار يخرج منها إلى الجنة بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين.

وفيه: دليل على أنه لا بأس بصلاة النافلة جماعة في بعض الأحيان؛ ولهذا صلى النبي ﷺ النافلة في بيت عتبان جماعة.

 مسألة: اختلف أهل العلم فيمن صلى منفردًا من غير عذر ولم يشهد الجماعة؟

القول الأول: بعض العلماء كشيخ الإسلام ابن تيمية[(1087)] وجماعة يرون أنه لا تصح صلاته إذا كان من غير عذر؛ لأنهم يرون أن الجماعة شرط لصحة الصلاة.

القول الثاني: وهو الذي عليه جمهور العلماء أنها واجبة، وعليه فتصح صلاته مع الإثم، وقال بعض العلماء: إن الجماعة سنة، ولكنهم يُأَثِّمون بترك السنة؛ فيكون قولهم مقاربًا للقول بالوجوب.

والصواب: أنها صحيحة مع الإثم؛ لأنها واجبة، وليست شرطًا ولا سنة، والدليل على كونها واجبة أن النبي ﷺ لم يرخص للأعمى بالصلاة في بيته، وهمّ أن يحرِّق البيوت على قوم يتخلفون عن الجماعة في المسجد، ولا يهمّ بالتحريق بالنار إلا على ترك واجب.

وقول القائل: «ذَلِكَ مُنَافِقٌ» ، هو رَمْيٌ بالنفاق، لكن عن تأول، فيعذر صاحبه، مثلما قال عمر لحاطب رضي الله عنهما: إن هذا منافق قد خان الله ورسوله، دعني أضرب عنقه[(1088)]، ومثل ما حصل بين الأوس والخزرج لما قال ﷺ: مَنْ يَعْذُرُنِي مِنْ رَجُلٍ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا [(1089)] قال سعد بن معاذ: نحن نعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس أمرتنا فضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا فيه أمرك، فقام سعد بن عبادة وقال: ما تقدر، ولو كان من رهطك لما فعلت، فقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين؛ فإذا كان الرامي متأولاً يُعذر، أما إذا رمى رجل مسلمًا بالنفاق أو بالكفر من غير تأول فلا يعذر، ويدخل في قول النبي ﷺ: أَيُّمَا امْرِئٍ قَالَ لِأَخِيهِ: يَا كَافِرُ، فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا [(1090)] فيدخل في هذا الوعيد الشديد.

المتن:

باب التَّيَمُّنِ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ

وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى.

 426 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ الأَْشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَت: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ؛ فِي طُهُورِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَتَنَعُّلِهِ.

الشرح:

قوله: «وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى» ؛ أي: في دخوله المسجد، وإذا خرج فباليسرى.

 426 قوله: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» ؛ فكان ﷺ في الوضوء يبدأ باليد اليمنى قبل اليسرى، وكذلك بالرجل اليمنى قبل اليسرى، وفي الغسل يبدأ بشقه الأيمن قبل الأيسر، وفي ترجله ـ أي: تسريح الشعر ـ يسرح الشق الأيمن قبل الأيسر، وفي تنعله ينتعل اليمنى قبل اليسرى، وهكذا؛ وهذا عام في شأنه كله ﷺ؛ أما في الخروج، والخلع فبالعكس؛ فيخرج من المسجد باليسرى، ويبدأ في خلع السروال والنعل والثوب باليسرى.

أما الأشياء التي ليست من أدوات الطهارة والتحسين، فإنه يقدم فيها اليسرى كما في دخول الحمام، فإنه يقدم رجله اليسرى عند الدخول، واليمنى عند الخروج، على عكس المسجد، وهكذا.

المتن:

باب هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ

لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ.

وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الصَّلاَةِ فِي الْقُبُورِ.

وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِْعَادَةِ.

الشرح:

قوله: «بَاب هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ؟» ، يعني: لا حرج في ذلك؛ لما أفاده الحديث الذي ساقه المؤلف من نبشه ﷺ قبور المشركين، وجعله مكانها مسجدًا.

وقوله ﷺ: لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ. اللعن يتناول من اتخذ قبور الأنبياء مساجد تعظيمًا لهم، وكذلك من نبش قبورهم ورمى عظامهم واتخذها مساجد، وكذلك أيضًا قبور أتباعهم من الصالحين، كل هذا داخل في اللعن. بخلاف المشركين فلا حرج في نبش قبورهم.

أما قبور المسلمين فهل يجوز أن تنبش عند الحاجة، كأن يحتاج الناس إلى طريق يمر بها؟

الجواب: أن هذا لا يفعل إلا بعد تأمل ونظر، وبعد اجتماع هيئة من العلماء للنظر في ذلك وتقرير المصلحة؛ لأن الأصل المنع، فلا يجوز أن يفعل هذا أحد الأهالي أو بعض الناس، إنما يُفعل هذا من قبل ولاة الأمور، أو من قبل من وُكل إليهم الأمر من العلماء، فينظرون في عدد السنين التي مضت على المقبرة ومدى الحاجة، فيقررون الأمر على حسب المصلحة.

قوله: «وَمَا يُكْرَهُ مِنْ الصَّلاَةِ فِي الْقُبُورِ» ؛ هذه الكراهة ينبغي أن تحمل على كراهة التحريم؛ لأن النبي ﷺ نهى عن الصلاة في القبور في حديث أبي مرثد الغنوي، الذي رواه مسلم: لَا تَجْلِسُوا عَلَى الْقُبُورِ، وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا [(1091)] والنهي للتحريم ويقتضي الفساد؛ لأنه لمعنى في ذات المنهي عنه، وهو أن الصلاة في المقبرة وسيلة إلى الشرك؛ وعليه فلا تصح الصلاة في المسجد الذي فيه القبر، فمن صلى في مسجد فيه قبر وجب عليه أن يعيد الصلاة، حتى ولو كان جاهلاً أو ناسيًا؛ سدًّا لذريعة الشرك.

قوله: «وَرَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْرٍ فَقَالَ: الْقَبْرَ الْقَبْرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِْعَادَةِ» ؛ وذلك لأنه قبر واحد شاذ يمكن الانحراف عنه، بخلاف الصلاة في المقبرة أو المسجد الذي فيه قبر فلا تصح، ويؤمر بالإعادة مطلقًا، عامدًا، أو ناسيًا، أو جاهلاً.

وظاهر الحديث يدل على أن أنس بن مالك صلى إلى قبر وهو لا يعلم، فنبهه عمر فقال: «الْقَبْرَ الْقَبْرَ» ، يعني: احذر القبر، فلما نبهه انتبه وانحرف عنه.

المتن:

427 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ: إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

 الشرح:

427 حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيه: التحذير من أن تفعل هذه الأمة مثل فعل النصارى؛ فالنبي ﷺ ذمهم للتحذير من فعلهم، فقال: فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وفيه: تحريم تصوير الصور، وتحريم بناء المساجد على القبور.

وفيه: أن الذين يتخذون القبور مساجد من شرار الخلق، ويدل على ذلك الحديث الآخر، وهو قول النبي ﷺ: إن مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكْهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ، والَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْقُبُورَ مَسَاجِد [(1094)]، فقرن النبي ﷺ الذين يتخذون القبور مساجد بالذين تقوم عليهم الساعة وهم الكفرة، كما ورد في الحديث أنه قبيل قيام الساعة تأتي ريح طيبة تقبض أرواح المؤمنين والمؤمنات، فلا يبقى إلا الكفرة، فعليهم تقوم الساعة [(1095)]؛ واتخاذ القبور مساجد وسيلة إلى الشرك، والوسيلة تؤدي إلى الغاية؛ وعليه فلا تصح الصلاة في المسجد ذي القبر.

ويجب طمس التصاوير وإخراج القبر من المسجد إذا لم يترتب على ذلك مفسدة، أما إذا ترتب عليه مفسدة فإنه يُترك ولا يُصلى فيه وإن لم يوجد غيره، وإذا كان المرء مسافرًا ومعه واحد أو اثنان ولم يجدوا إلا المسجد الذي فيه قبر صلوا في مكانهم.

المتن:

428 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ أَعْلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَأَقَامَ النَّبِيُّ ﷺ فِيهِمْ أَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي النَّجَّارِ فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلَأُ بَنِي النَّجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي أَيُّوبَ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ حَيْثُ أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ وَأَنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَلإٍَ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا؟ قَالُوا: لاَ وَاللَّهِ، لاَ نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلاَّ إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ: أَنَسٌ فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَفِيهِ خَرِبٌ، وَفِيهِ نَخْلٌ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ، وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَهُمْ وَهُوَ يَقُولُ:

اللَّهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُ الآْخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأَْنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ

 الشرح:

428 قوله: «فَأَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ» ، فيه: دليل لما ترجم له المؤلف رحمه الله من جواز نبش قبور المشركين؛ ولهذا نبش النبي ﷺ قبور المشركين وجعل مكانها مسجده ﷺ، وكما حدث في مسجد الطائف عندما أزيل معبد اللات وقبره وجُعل مكانه المسجد، قال ابن عباس رضي الله عنهما: وكان اللات رجلاً يَلُتُّ السويق للحاج[(1096)]، فلا بأس أن يزال المعبد، وتزال القبور، ويُجعل مكانها مسجد.

وفيه: جواز قطع النخل إذا اقتضت الحاجة؛ ولهذا قطع النبي ﷺ النخل لحاجة بناء المسجد.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وقوله: «وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِْعَادَةِ»، استنبطه من تمادي أنس على الصلاة، ولو كان ذلك يقتضي فسادها لقطعها واستأنف».

وعلى قول الحافظ تكون الصلاة في المقبرة صحيحة، ولكن هذا ليس بصحيح، فعمر لم يأمره بالإعادة لأمرين:

أحدهما: أنه قبر شاذ لم يعلم به أنس .

الثاني: أنه تجاوز القبر وتقدم وصلى.

بخلاف الصلاة في المقبرة أو المسجد الذي فيه قبر فإنها لا تصح، وتجب عليه الإعادة؛ لقول النبي ﷺ: لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ [(1092)] وقوله ﷺ: ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك [(1093)] والنهي في هذا الحديث يقتضي الفساد؛ لأنه يرجع لمعنى في ذات المنهي عنه، بخلاف النهي عن الصلاة في الثوب الحرير، أو في الثوب المغصوب.

أما الصلاة على الجنازة في المقبرة فلا بأس بها وهي مستثناة؛ لأنها صلاة ليس لها ركوع ولا سجود، والمقصود منها الدعاء والترحم، أما المنهي عنه عند المقبرة فهو الصلاة ذات الركوع والسجود.

ولا تصح الصلاة في المقبرة أو في مسجد فيه قبر سواء أكانت فريضة أو نافلة، فالصلاة فاسدة وإن كان جاهلاً أو ناسيًا.

يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: «اختلف في الصلاة في المقبرة: هل تجب إعادتها، أم لا؟ وأكثر العلماء على أنه لا تجب الإعادة بذلك، وهو قول مالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه، والمشهور عن أحمد الذي عليه عامة أصحابه: أن عليه الإعادة؛ لارتكاب النهي في الصلاة فيها».

وهذا هو الصواب، والذي ذكره من عدم وجوب الإعادة هو قول بعض المتأخرين ولا مُعَوِّل عليهم؛ لأنهم يقولون: النهي إنما هو للنجاسة، أي لنجاسة الصديد وما أشبه ذلك.

المتن:

باب الصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ

 429 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ: كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ.

الشرح:

 429 قوله: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ» ؛ فيه: أنه لا بأس بالصلاة في مرابض الغنم؛ لأنها طاهرة، وأرواثها وأبوالها طاهرة.

وقوله: «ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ: كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ» يوحي بالمنع من الصلاة في مرابض الغنم بعد بناء المسجد، والصواب أنه لا منع، ولا نهي عن الصلاة في مرابضها قبل بناء المسجد وبعده، فالحكم عام قبل بناء المسجد وبعده، فالصلاة في مرابض الغنم لا حرج فيها. ومرابضها هي مراحها.

المتن:

باب الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ الإِْبِلِ

 430 حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ، وَقَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَفْعَلُهُ.

الشرح:

قوله: «بَاب الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ الإِْبِلِ» لم يجزم البخاري رحمه الله في ترجمة الباب بالحكم؛ لأن الصلاة في مواضع الإبل فيها تفصيل:

أولاً: فإن كانت مواضعها معطنًا لها، وهو المكان الذي تقيم فيه إقامة طويلة ـ كالمراح الذي تبيت فيه بالليل ومواضع إقامتها عند الماء ـ فلا يصلى فيها للنهي عن الصلاة في معاطن الإبل، وإن صلى فيها فإنه يعيد الصلاة؛ لأن النهي لمعنى في ذات المنهي عنه كالصلاة في المقبرة.

ثانيًا: الصلاة في الموضع الذي يناخ فيه البعير حسب ما تيسر، أو الصلاة إلى البعير وجعله سترة للمصلي؛ كما فعل ابن عمر رضي الله عنهما في حديث الباب؛ فلا حرج فيها.

 430 قوله: «رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ» . كون ابن عمر يصلي إلى بعيره لا يعتبر من الصلاة في معاطن الإبل الذي نهى عنه النبي ﷺ، فالمنهي عنه هو الصلاة في مراحها الذي تبيت فيه ومكان إقامتها عند الماء، فإذا صلى فيها أعاد الصلاة، كالصلاة في المقبرة سواء بسواء.

ـ الحكمة من النهي: قال بعضهم: هو أنها مأوى الشياطين، أو أن كونها من الشياطين، كما في حديث عبدالله بن مغفل إِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الشَّيَاطِينِ [(1097)].

والمقصود أن النبي ﷺ نهى عن الصلاة في معاطنها، سواء علمنا الحكمة أم لم نعلم.

logo
2024 م / 1446 هـ
جميع الحقوق محفوظة


اشترك بالقائمة البريدية

اشترك بالقائمة البريدية للشيخ ليصلك جديد الشيخ من المحاضرات والدروس والمواعيد