وفي الحديث: أن النبي ﷺ سئل عن الصلاة في مرابض الغنم، فقال: نعم وفي معاطن الإبل فقال: لا [(1098)]، وفي الحديث الآخر: نهى عن الصلاة في معاطن الإبل، وأمر بالصلاة في مرابض الغنم[(1099)].
مسألة: إذا هجرت الإبل المكان الذي كانت تأوي إليه أو تبيت فيه عاد حكمه إلى الجواز؛ لزوال العلة، والله أعلم.
المتن:
باب مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ فَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: أَخْبَرَنِي أَنَسٌ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي.
الشرح:
قوله: «بَاب مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ، أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ فَأَرَادَ بِهِ اللَّهَ» . يعني: من صلى وأمامه نار ولم يرد أن يصلي للنار، فلا بأس ولا كراهة إذا كان لا يقدر على إزالة النار، وتكره في حق القادر؛ لما فيه من التشبه بالمجوس في عبادتهم للنار، وإن كان لحاجة زالت الكراهة أيضًا، كما لو صلى وقدامه سراج أو دفاية؛ فإن الكراهة تزول من أجل الحاجة، وتكره إذا كان لغير حاجة.
وكذلك أيضًا لو استقبل الشمس أو القمر؛ لما فيه من التشبه بعباد الشمس؛ ولذلك نهى النبي ﷺ عن الصلاة بعد الفجر وبعد العصر[(1100)]؛ لحماية المسلم من أن يشابه المشركين الذين يسجدون للشمس عند غروبها وطلوعها.
والنار التي عرضت على النبي ﷺ في قوله: عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي، هي نار عارضة غير ثابتة، والكراهة تزول مع الحاجة، فلو مر إنسان أمام المصلي ومعه سراج أو نار ـ أي: أنه شيء عارض ليس بثابت ـ فلا كراهة.
المتن:
الشرح:
431 قوله: أُرِيتُ النَّارَ كان هذا في صلاة الكسوف، حيث عُرضت النار على النبي ﷺ ورآها أمامه، لكن هذه النار عارضة ليست ثابتة، فإذا صلى المرء وأمامه نار عارضة فلا كراهة، لكن المكروه إذا كانت النار ثابتة وليس هناك حاجة، أما مع الحاجة فتزول الكراهة.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وأحسن من هذا عندي أن يقال: لم يفصح المصنف في الترجمة بكراهة ولا غيرها، فيحتمل أن يكون مراده التفرقة بين من بقي ذلك بينه وبين قبلته وهو قادر على إزالته، أو انحرافه عنه، وبين من لا يقدر على ذلك فلا يكره في حق الثاني».
وهذا هو الصواب كما سبق.
المتن:
باب كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي الْمَقَابِرِ
432 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ، وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا.
الشرح:
قوله: «بَاب كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي الْمَقَابِرِ» الكراهة هنا يجب أن تحمل على كراهة التحريم؛ لأن الكراهة إذا أطلقت في عرف السلف والمتقدمين وفي الكتاب العزيز وفي السنة المطهرة فيراد بها التحريم؛ لأنه لما ذكر الله المحرمات في سورة الإسراء من عقوق الوالدين والقتل والزنا وتطفيف المكيال والميزان والشرك، قال بعد ذلك: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسرَاء: 38]، أي: محرمًا، وفي الحديث: إن الله كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةَ المَالِ [(1101)]، وهذه أشياء محرمة؛ وعليه فالكراهة في الحديث للتحريم، فكذلك هنا ينبغي أن تحمل الكراهة على كراهة التحريم.
432 قوله في حديث الباب: وَلاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا، أي: لا تجعلوها كالقبور؛ فإن القبور هي التي لا يصلى فيها.
وعليه فالصلاة في المساجد التي تحتوي على قبر محرمة، وعلى المصلي فيها الإعادة؛ لأن النهي عن الصلاة في القبور لمعنى في ذات الصلاة فيقتضي فساد الصلاة، ومثله حديث: نهى النبي ﷺ عن الصلاة في الحمام[(1102)]، وقوله ﷺ: الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا المَقْبَرَةَ وَالحَمَّامَ [(1103)] وهذا الحديث له طرق متعددة، وهو حديث صحيح سنده جيد، وقد بسط أبو العباس ابن تيمية رحمه الله الكلام عليه في الفتاوى[(1104)]، وكذلك ابن القيم في إغاثة اللهفان[(1105)]، وهو خبر بمعنى النهي، أي لا تصلوا في المقبرة والحمام.
ويؤخذ من الحديث استحباب صلاة النافلة في البيت، حتى لا تشبه البيوت بالقبور، وصلاة النافلة في البيت أفضل.
ووجه تشبيهها بالقبور: أن المقبرة هي التي لا يصلى فيها.
وبعض الناس لما رأوا كثرة المساجد التي تحتوي على قبور صعب عليهم القول بالتحريم فقالوا: إن الكراهة للتنزيه، مثل ما صعب عليهم الحكم بكفر تارك الصلاة؛ لأن كثيرًا من الناس لا يصلي؛ ولهذا قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «فأما جواز الصلاة في المقابر أو المنع منه فليس في الحديث ما يؤخذ منه ذلك».
المتن:
باب الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا كَرِهَ الصَّلاَةَ بِخَسْفِ بَابِلَ.
433 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ؛ لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ.
الشرح:
قوله: «بَاب الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ» ، يعني: حكمها أنها لا تصح عند من قال: إن النهي يقتضي الفساد.
والصواب: أن الصلاة في مواضع الخسف والعذاب كديار ثمود صحيحة مع الإثم، كالصلاة في الأرض المغصوبة في أصح قولي العلماء وهو قول الجمهور؛ لأن النهي عن الدخول في ديارهم عام في كل الأحوال وليس خاصًّا بوقت الصلاة، فالنهي لمعنى خارج عن المنهي عنه، بخلاف الصلاة في المقبرة فلا تصح؛ لحديث: الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا المَقْبَرَةَ وَالحَمَّامَ [(1106)]، والحديث وإن كان خبرًا إلا أن معناه النهي، وللحديث السابق: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ، وَلَا تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا [(1107)]، فالنهي عن الصلاة في المقبرة لمعنى في ذات المنهي عنه، وهو أن الصلاة في المقبرة وسيلة إلى الشرك.
إذن هناك فرق بين الصلاة في المقبرة والصلاة في مواضع الخسف والعذاب، فالصلاة في المقبرة منهي عنها بخصوصها، فلو دخل عليك وقت الصلاة وأنت في المقبرة للزيارة ولم تصل فلا كراهة ولا حرمة، بخلاف الصلاة في مواضع الخسف والعذاب، فمواضع الخسف والعذاب منهي عن دخولها مطلقًا سواء أكان في وقت الصلاة أم غيرها إلا على حالة التباكي.
433 قوله ﷺ في حديث الباب: لاَ تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ؛ لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ؛ فيه: تحريم الدخول في ديار المعذبين كديار ثمود وغيرهم إلا على وجه التباكي.
أما الصلاة في ديار المعذبين وفي مواضع الخسف والعذاب ففيها قولان لأهل العلم:
القول الأول: أنها تصح مع الإثم.
القول الثاني: أنها لا تصح.
والصواب: أنها تصح؛ لأنها مثل الصلاة في الأرض المغصوبة فلها جهتان: الإثابة على الصلاة، والعقاب على الذنب، فمن صلى في مواضع الخسف والعذاب أثيب على صلاته وعوقب على دخوله في مواضع الخسف والعذاب، فهو آثم والصلاة صحيحة، فمن جهة كونها صلاة ففيها الثواب، ومن جهة كونها وقعت في أرض الخسف والعذاب ففيها العقاب، وهذا غير الصلاة في المقبرة؛ فهي منهي عنها لخصوصها ولذاتها.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وهذا يدل على أنه لا يجوز السكنى بمثل هذه الأرض، ولا الإقامة بها، وقد صرح بذلك طائفة من العلماء، منهم: الخطابي وغيره، ونص عليه أحمد. قال مهنا: سألت أحمد عمن نزل الحجر: أيشرب من مائها ويعجن به؟ قال: لا إلا لضرورة، ولا يقيم بها».
وهذا معروف؛ فالرسول ﷺ نهى عن المرور إلا على وجه التباكي، فإذا كان المرور فيها لا يجوز إلا على وجه التباكي فكيف بالإقامة والسكنى!
المتن:
باب الصَّلاَةِ فِي الْبِيعَةِ
وَقَالَ: عُمَرُ إِنَّا لاَ نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ.
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ إِلاَّ بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ.
434 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا: مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمْ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ.
الشرح:
قوله: «بَاب الصَّلاَةِ فِي الْبِيعَةِ» هذا الباب معقود لبيان حكم الصلاة في البِيَعَة، أي: معبد النصارى، وحكم الصلاة في البيعة أنها صحيحة، وهذا هو ظاهر ترجمة المؤلف.
قوله: «وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ إِلاَّ بِيعَةً فِيهَا تَمَاثِيلُ» ، أي: فالصلاة مكروهة في البِيَعَة التي فيها صور أو تماثيل، وهي صحيحة مع كراهة التنزيه، وإن لم يكن فيها صور فلا كراهة، فالصلاة فيها جائزة عند الحاجة كأن لا يجد مكانًا إلا معبد النصارى فيصلي فيه.
وكل موضع فيه نقوش أو صور فإنه تكره الصلاة فيه؛ لكونها تلهي المصلي عن الصلاة؛ ولهذا لما لبس النبي ﷺ خميصة فيها أعلام ونقوش وألهته عن صلاته خلع هذه الخميصة وقال: أْتُونِي بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاَتِي [(1110)]، والأنبجانية هي كساء ليس فيه أعلام.
والتمثال هو المجسم من ذوات الأرواح، والصورة أعم فتشمل ما صوِّر من ذوات الأرواح؛ سواء كانت مجسمة أو غير مجسمة، والوثن أعم منهما؛ فالوثن كل ما عبد من دون الله؛ مجسمًا أو غير مجسم؛ سواء كان على شكل صورة أم لم يكن، فإذا عُبد جدارٌ سمي وثنًا، وإذا عُبد إنسانٌ سمي وثنًا، فكل معبود من دون الله يسمى وثنًا.
434 في حديث الباب أن النبي ﷺ لما ذكرت له أم سلمة رضي الله عنها كنيسة في أرض الحبشة تسمى مارية وذكرت أن فيها صورًا قال: أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمْ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ؛ وهذا فيه: دليل على أن متخذي القبور مساجد من شرار الخلق، وفي الحديث الآخر: إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد [(1111)] فقرن النبي ﷺ بين من تقوم عليهم الساعة وهم الكفرة وبين من يتخذون القبور مساجد؛ وذلك لأن اتخاذ القبور مساجد وسيلة قريبة إلى الشرك الأكبر.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله؛: «قوله: «وَقَالَ: عُمَرُ إِنَّا لاَ نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ» ، وفي رواية الأصيلي: «كنائسهم» .
قوله: «مِنْ أَجْلِ التَّمَاثِيلِ» ، هو جمع تمثال، بمثناة ثم مثلثة بينهما ميم، وبينه وبين الصورة عموم وخصوص مطلق، فالصورة أعم.
قوله: «الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ» ، الضمير يعود على الكنيسة، والصور بالجر على أنها بدل من التماثيل أو بيان لها، أو بالنصب على الاختصاص، أو بالرفع، أي: إن التماثيل مصورة، والضمير على هذا للتماثيل، وفي رواية الأصيلي: «والصور» بزيادة الواو العاطفة.
وهذا الأثر وصله عبدالرزاق من طريق أسلم مولى عمر قال: لما قدم عمر الشام صنع له رجل من النصارى طعامًا، وكان من عظمائهم، وقال: أحب أن تجيئني وتكرمني. فقال له عمر: إنا لا ندخل كنائسكم من أجل الصور التي فيها، يعني التماثيل».
هذا فيه: أن عمر أجاب دعوته، وفيه: دليل على أنه لا بأس بإجابة دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى الطعام في غير الكنيسة إذا كان في هذا مصلحة للإسلام والمسلمين، كما أكل النبي ﷺ من الشاة المسمومة التي دعته إليها اليهودية[(1108)]، وكذلك دعاه يهودي إلى خبز وإهالة سنخة[(1109)] فأجابه.
المتن:
الشرح:
435، 436 قوله: لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ فيه: التحذير من اتخاذ القبور مساجد.
وفيه: أن من اتخذ القبور مساجد ملعون على لسان النبي ﷺ؛ لأنه مرتكب لجريمة ومتخذ وسيلة من وسائل الشرك، فلا يجوز للإنسان أن يتخذ القبور مساجد.
المتن:
الشرح:
437 قوله: اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ؛ اتخاذ القبور مساجد لا يشترط فيه أن يُبنى على القبر مسجد، بل المراد أن يصلي ويدعو ويقرأ القرآن عندها؛ لأن هذا من اتخاذها مساجد، فكل مكان يصلى فيه أو عنده يسمى مسجدًا، كما في الحديث جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا [(1112)] فإذا صلى عند المقبرة أو في المقبرة فقد اتخذها مسجدًا فيكون ملعونًا، وكذلك إذا قرأ القرآن أو دعا لغير الميت، فكل هذا منهي عنه؛ لأن هذا إنما يفعل في المساجد لا عند القبور.
المتن:
باب قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: جُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا
438 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَيَّارٌ هُوَ أَبُو الْحَكَمِ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ مِنْ الأَْنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ.
الشرح:
438 قوله: «حَدَّثَنَا يَزِيدُ الْفَقِيرُ» ؛ إنما سمي بالفقير لوجع في فقار ظهره وليس من أجل الفقر.
قوله: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ هذه الخصلة ليست خاصة بالنبي ﷺ فقط، بل له ولأمته ﷺ ولمن سار على منهاجه واستقام على طريقته ﷺ، والرعب هو: الخوف، وهو جند عظيم ينصر الله به نبيه ﷺ وأمته.
وقوله: وَجُعِلَتْ لِي الأَْرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا؛ هذا هو الشاهد وهو عام لجميع أجزاء الأرض إلا ما ورد النهي عن الصلاة فيه كالمقبرة والحمام؛ لحديث الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدٌ إِلَّا المَقْبَرَةَ وَالحَمَّامَ [(1113)]، والحديث سنده جيد كما قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله[(1114)]، وكذلك أعطان الإبل لصحة النهي عن الصلاة فيها، وكذلك الأرض النجسة كالمزبلة والمجزرة، إلا إذا بسط عليها فراشًا طاهرًا فإنه يجوز أن يصلي عليه؛ فهذه أربعة أشياء لا يصلى فيها.
وليس المراد بالحمام الذي عندنا الآن في البيوت، بل المراد الحمام الذي يكون في الأسواق، ويغتسل فيه الناس ويدلكون أجسادهم بالأجرة، فلا يصلى فيه؛ لأنه محل كشف العورات؛ ولهذا جاء في الحديث مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلا يَدْخُلِ الْحَمَّامَ إِلَّا بِإِزَارٍ [(1115)]؛ لأن الغالب على هذه الحمامات التساهل في كشف العورات.
وأصل هذه الحمامات بلاد العجم، ثم جاءت إلى بلاد المسلمين.
والنهي عن الصلاة في الحمام فيه علَم من أعلام النبوة؛ حيث نهى النبي ﷺ عن الصلاة في الحمام ولم يكن موجودًا في زمن النبي ﷺ؛ لأن الشريعة عامة في كل زمان ومكان، كما وقت النبي ﷺ في الحج المواقيت لأهل الشام الجحفة[(1116)]، ولأهل العراق ذات عرق[(1117)] ولم تكن قد فتحت، فهذا كله من أعلام نبوته ﷺ.
قوله: وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ حِلُّ الغنائم خصيصة للنبي ﷺ ولأمته؛ فخمسها لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، وأربعة أخماسها تقسم على الغانمين، والغنائم لم تحل لمن قبلنا، فلم يكن يجوز لهم أخذها، بل كانت تأتي نار فتحرقها.
قوله: وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ أي: الشفاعة العامة في موقف القيامة، وهي المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون، وهو المراد بقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسرَاء: 79]، وورد أيضًا في حديث رواه الإمام أحمد أن المقام المحمود للنبي ﷺ أن يقعده الله معه على العرش[(1118)]، والحديث فيه ضعف، ولو صح لكان المقام المحمود أمرين:
الأمر الأول: الشفاعة.
الأمر الثاني: إقعاده على العرش.
وهذه الشفاعة العظمى خاصة بنبينا ﷺ، وكذلك الشفاعة لأهل الجنة ـ أي: للإذن لهم بدخولها ـ وكذلك الشفاعة لعمه أبي طالب، أما بقية الشفاعات فمشتركة.
المتن:
باب نَوْمِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ
439 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ وَلِيدَةً كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ فَأَعْتَقُوهَا فَكَانَتْ مَعَهُمْ قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ أَوْ وَقَعَ مِنْهَا فَمَرَّتْ بِهِ حُدَيَّاةٌ، وَهُوَ مُلْقًى، فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا، فَخَطِفَتْهُ، قَالَتْ: فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي بِهِ، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ مَعَهُمْ إِذْ مَرَّتْ الْحُدَيَّاةُ فَأَلْقَتْهُ، قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: هَذَا الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ زَعَمْتُمْ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيئَةٌ وَهُوَ ذَا هُوَ، قَالَتْ: فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأَسْلَمَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، قَالَتْ: فَلاَ تَجْلِسُ عِنْدِي مَجْلِسًا إِلاَّ قَالَتْ:
وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ أَعَاجِيبِ رَبِّنَا | أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي |
قالتْ عَائِشَةُ: فَقُلْتُ لَهَا: مَا شَأْنُكِ لاَ تَقْعُدِينَ مَعِي مَقْعَدًا إِلاَّ قُلْتِ هَذَا؟ قَالَتْ: فَحَدَّثَتْنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ
الشرح:
439 قوله: «فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ»، أي: ثوب أو كساء قد يكون مرصعًا بشيء من الجواهر، ولكونه أحمر حسبته الحُدَيَّاة لحمًا فخطفته.
والحُدَيَّاة من الفواسق الخمس التي تقتل؛ ففي الحديث: خَمْسٌ فَوَاسِقُ، يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْفَأْرَةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْحِدَأَةُ [(1119)] والعلة في قتل الحدأة أنها تخطف ما يربيه الناس، وقد تخطف بعض الأطفال، كما خطفت كساء كاملاً فاتهموا فيه هذه الوليدة، وكذلك الغراب فاسق؛ لأنه يأكل سنبل الزرع وينقر الدبرة التي في ظهر البعير حتى يجرحها مرة أخرى.
قوله: «فَتَحَدَّثُ» ، أصلها: تتحدث، فحذفت إحدى التائين.
قوله: «وَيَوْمَ الْوِشَاحِ» ؛ الوشاح هو هذا الثوب الذي خطفته الحُدَيَّاة.
قوله: «مِنْ أَعَاجِيبِ» ، جمع أعجوبة.
قوله: «أَلاَ إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ أَنْجَانِي» ؛ لأنها جاءت وأسلمت.
وفي الحديث: دليل على أن المظلوم تجاب دعوته وينجيه الله ولو كان كافرًا، فلما ظلموا هذه المرأة ـ وكانت على دين قومها ـ واتهموها بسرقة الوشاح، نجاها الله سبحانه، ثم جاءت وأسلمت.
قوله: «فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ حِفْشٌ» ، هو الشاهد من الحديث لهذه الترجمة، فكون هذه المرأة لها خباء في المسجد أو حفش ـ والحفش هو البيت الصغير أو الغرفة الصغيرة ـ يدل على أنها كانت تبيت في المسجد وتقيل فيه. فلا حرج في مكث المرأة في المسجد إذا لم يكن لها مسكن، وإذا أمنت الفتنة، ولكن يضرب لها خباء أو غرفة تقيم فيها.
أما إذا كانت المرأة حائضًا فالأصل أنها لا تمكث في المسجد، وقد يقال: تمكث إذا اضطرت.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «واستدل بحديث عائشة المخرج في هذا الباب طائفة من أهل الظاهر على جواز مكث الحائض في المسجد؛ لأن المرأة لا تخلو من الحيض كل شهر غالبًا، وفي ذلك نظر؛ لأنها قضية عين لا عموم لها، ويحتمل أن هذه السوداء كانت عجوزًا قد يئست من الحيض».
وكما قال الحافظ ابن رجب رحمه الله يحتمل أنها يئست من الحيض، ويحتمل أيضًا أنها كانت تذهب إلى عائشة رضي الله عنها إذا جاءها الحيض، ويحتمل أنها كانت تمكث للضرورة؛ إذ لم يكن لها مكان تذهب إليه.
المتن:
باب نَوْمِ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ
وَقَالَ أَبُو قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الْفُقَرَاءَ.
440 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ لاَ أَهْلَ لَهُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ.
الشرح:
قوله: «قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ فَكَانُوا فِي الصُّفَّةِ» واضح الدلالة على في جواز نوم الرجال في المسجد، فقد قدم رهط من عُكْل واستوطنوا المدينة فكانوا في الصُّفَّة، والصُّفَّة غرفة في المسجد فيها فقراء المهاجرين.
قوله: «كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الْفُقَرَاءَ» ، أي: لم يكن لهم مال ولا أهل ولا مأوى، فكانوا أضياف المسلمين، وكان النبي ﷺ يستضيفهم ويبعث إليهم بما تيسر عنده من الهدية، وكانوا ينامون ويأكلون ويشربون في المسجد، فدل على أنه لا بأس بالنوم في المسجد ولاسيما عند الحاجة إلى ذلك.
440 قوله: «كَانَ يَنَامُ وَهُوَ شَابٌّ أَعْزَبُ» الأفصح: شاب عَزَب، وأعزب لغة قليلة، وفي الحديث: دليل على جواز النوم في المسجد وأنه لا كراهة فيه.
القول الثاني: الكراهة إلا لمن يريد الصلاة.
القول الثالث: إذا كان له مسكن فيكره له أن ينام في المسجد، وإن لم يكن له مسكن فلا يكره.
والصواب: أنه لا حاجة إلى هذا التفصيل، فإذا نام فلا حرج.
المتن:
الشرح:
441 قوله ﷺ: أَيْنَ ابْنُ عَمِّكِ؟ يعني: أين زوجك علي ؟ «قَالَت: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَيْءٌ فَغَاضَبَنِي، فَخَرَجَ فَلَمْ يَقِلْ عِنْدِي» . يقل من القيلولة، وهو النوم في وسط النهار، «فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ لِإِنْسَانٍ: انْظُرْ أَيْنَ هُوَ؟، أي: أرسل النبي ﷺ شخصًا يبحث عنه.
قوله: «فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ مُضْطَجِعٌ قَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ شِقِّهِ» ؛ أي: على عادة العرب من لبسهم الإزار والرداء، والإزار قطعة يشد بها النصف الأسفل، والرداء: قطعة يضعها على عاتقيه؛ مثل المُحْرِم.
قوله ﷺ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ؛ على حذف حرف النداء، والتقدير: يا أبا تراب.
ولما نادى النبي ﷺ عليًّا بهذا النداء صار لقبًا له ، فكان أحب ألقابه إليه؛ لأن النبي ﷺ هو الذي لقبه به، وإن كان اشتهر بأبي الحسن.
وفي هذا الحديث من الفوائد: أنه قد يحصل بين الرجل وبين أهله مغاضبة وكلام ولو كان من أفضل الناس، فهذا علي من الخلفاء الراشدين، وابن عم النبي ﷺ وزوجته فاطمة بنت النبي ﷺ؛ ومع ذلك حصلت بينهما مغاضبة، فخرج علي إلى المسجد ونام فيه. وهكذا ينبغي للإنسان إذا حصل بينه وبين أهله خصومة أن يخرج من البيت، أو ينعزل قليلاً عن أهله حتى يهدأ ويسكن غضبه، وحتى لا يطول النزاع ويشتد الغضب، فيفرق الشيطان بينه وبين أهله.
والرسول ﷺ قد حصل بينه وبين نسائه كلام لما طالبنه بالنفقة، حتى إنه ﷺ هجرهن شهرًا كاملاً في غرفة وحده، حتى إذا مرت تسعة وعشرون يومًا نزل، فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله، حلفت شهرًا، وما مضى إلا تسع وعشرون كنت أعدهن عدًّا، فقال ﷺ: إِنَّ الشَّهْرَ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ [(1120)]، يعني أن الشهر قد يكون ثلاثين يومًا، وقد يكون تسعة وعشرين يومًا؛ وقد وافق ذلك الشهر تسعة وعشرين يومًا.
والشاهد من الحديث: نوم علي في المسجد، وعدم إنكار النبي ﷺ عليه.
المتن:
الشرح:
442 قوله: «رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ» ؛ الشاهد: أن أهل الصفة لكونهم فقراء لا مال لهم ولا أهل ولا مأوى كانوا يأكلون ويشربون وينامون في المسجد؛ فدل هذا على جواز النوم في المسجد.
قوله: «مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ إِمَّا إِزَارٌ، وَإِمَّا كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ» ؛ فيه: ما أصاب الصحابة من الشدة وضيق الحال ولاسيما في أول الهجرة، فكان بعضهم يسكن في غرفة في المسجد، وأكثرهم لا يجد إلا قطعة قماش يشد بها النصف الأسفل، ونصفه الأعلى مكشوف لا يجد رداء يضعه على عاتقيه من الفقر وقلة ذات اليد، وبعضهم لا يجد إلا كساء قصيرًا يربطه بخيط في عنقه حتى لا يسقط، وإذا أراد أن يسجد «فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ؛ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ» ، ولكن لم يضرهم هذا؛ فقد نشروا دين الله وجاهدوا في سبيل الله؛ فأفلحوا وفازوا رضوان الله عليهم أجمعين.
المتن:
باب الصَّلاَةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ.
443 حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ، قَالَ: ضُحًى فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ؛ وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي.
الشرح:
قوله: «بَاب الصَّلاَةِ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ» ، فيه: أن السنة الصلاة في المسجد إذا قدم من السفر، وهذه السنة ثابتة من فعل النبي ﷺ ومن قوله؛ فمن فعله ما في حديث كعب : «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ» ، ومن قوله ما في حديث الباب: حديث جابر الآتي.
443 حديث جابر فيه: الدليل القولي من السنة على مشروعية الصلاة عند القدوم من السفر؛ قال جابر : «أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ، قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهُ، قَالَ: ضُحًى فَقَالَ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ، فأمره النبي ﷺ بالصلاة.
وقوله: «وَكَانَ لِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَضَانِي وَزَادَنِي» ؛ حيث كان جابر مع النبي ﷺ في سفر فاشترى منه النبي ﷺ جمله[(1121)]. وقصة الجمل فيها أحكام كثيرة، أخذ منها العلماء جواز الاشتراط في البيع؛ حيث اشترى النبي ﷺ الجمل من جابر، واشترط جابر أن يحمله الجمل وأن يحمل عليه إلى المدينة، فلما وصل إلى المدينة أنزل الحمل ثم أتى بالجمل إلى النبي ﷺ، فأمر ﷺ بلالاً فقضاه وأعطاه حقه وزاده ورد عليه جمله، وقال ﷺ: أَتُرَانِي مَاكَسْتُكَ لِآخُذَ جَمَلَكَ [(1122)] يعني: أنقصت من ثمن جملك، ولم يكن للنبي ﷺ حاجة في الجمل، وإنما فعل ذلك ليعلِّم الناس حسن القضاء، والاستقضاء؛ ولذلك لما جاءه جابر بالجمل قال له: خُذْ جَمَلَكَ، وَدَرَاهِمَكَ فَهُوَ لَكَ [(1123)].
والشاهد من الحديث: قوله ﷺ: صَلِّ رَكْعَتَيْنِ؛ أي: عند القدوم من السفر ولو في وقت نهي على الصحيح؛ لأن الصلاة عند دخول المسجد وعند القدوم من السفر من ذوات الأسباب.
المتن:
باب إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ
444 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ.
الشرح:
446 قوله: «عَنْ أَبِي قَتَادَةَ السَّلَمِيِّ» ؛ بالفتح؛ لأنه أنصاري من بني سَلمة، أما عمرو بن سُليم فيقال له: السُّلمي نسبة إلى بني سُليم.
قوله: إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ. هذه الصلاة تسمى تحية المسجد عند أهل العلم، وهذا أمر، وهو للاستحباب عند الجمهور؛ لأن الله لم يوجب إلا الصلوات الخمس، والذي صرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب حديث الرجل الذي جاء إلى النبي ﷺ وسأله عما أوجب الله، فقال: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي اليَوْمِ وَاللَّيْلَةِ؛ فقال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لاَ، إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ [(1124)].
القول الثاني: تحية المسجد واجبة، وهو قول الظاهرية حيث قالوا: وجوب تحية المسجد إنما هو لسبب وهو دخول المسجد، وهي غير الصلوات الخمس، فالصلوات الخمس واجبة على العباد جميعًا، أما هذه فلا تجب إلا على من دخل المسجد، فكما لو نذر وجب عليه، فكذلك إذا دخل المسجد وجب عليه.
وقول الظاهرية قول له قوته ووجاهته، ويدل عليه أن النبي ﷺ أمر سُلَيْكًا الغطفاني وهو يخطب خطبة الجمعة أن يصلي تحية المسجد، فقال: قُمْ فَارْكَعْ رَكْعَتَيْنِ، وَتَجَوَّزْ فِيهِمَا [(1125)]، وهذا يدل على أهمية تحية المسجد.
المتن:
باب الْحَدَثِ فِي الْمَسْجِدِ
445 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ الأَْعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ، تَقُولُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ.
الشرح:
445 قوله: الْمَلاَئِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ، أي: تدعو له.
قوله: مَا لَمْ يُحْدِثْ، أي: إلا إذا أحدث فإنها تتوقف عن الدعاء.
والمراد بالحدث في المسجد أحد أمرين:
الأول: ما تنتقض به الطهارة كالريح، كما فسره بذلك أبو هريرة لما قيل له: يا أبا هريرة ما الحدث؟ قال: فساء أو ضراط؛ فالريح إذا كان لها صوت سميت ضُراطًا، وإذا لم يكن لها صوت سميت فُساءً.
الثاني: إيذاء الناس بالسب، أو الضرب، أو الغيبة والنميمة، وغيرها.
وكلا الأمرين مانع من دعاء الملائكة.
وفي الحديث: دليل على جواز دخول المحدث في المسجد والمكث فيه، وإنما الممنوع من المكث في المسجد: الجنب والحائض؛ لقوله تعالى: وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ [النِّسَاء: 43]، أي: يجوز لهما المرور ولا يجوز لهما المكث.
قوله: مَا دَامَ فِي مُصَلاَّهُ؛ وإن كان ظاهره أنه المكان الذي صلى فيه؛ لكن المقصود به المسجد كله؛ لأن المسجد كله يسمى مصلى، وجاء في الحديث الآخر: مَا دَامَتِ الصَّلاَةُ تَحْبِسُهُ [(1126)]، أي: ما دام في المسجد تحبسه الصلاة.
أما قول الشارح رحمه الله هنا: «وفيه دليل على أن الحدث في المسجد أشد من النخامة؛ لما تقدم من أن لها كفارة وهذا ليس له كفارة»، ففيه نظر، وعليه تعليق لسماحة شيخنا الشيخ ابن باز رحمه الله حيث قال: «هذا فيه تفصيل؛ فإن قصد بالحدث المعصية أو البدعة فما قاله الشارح متوجه، وإن أريد بالحدث الريح ونحوها مما ينقض الطهارة سوى البول ونحوه فليس ما قاله الشارح واضحًا»[(1127)].
فالأولى ألا يحدث في المسجد؛ فالمكث في المسجد على طهارة أفضل بلا شك وأولى وأحسن، وأما كونه أشد من النخامة فلا؛ لأن التنخم في المسجد فيه الوعيد.
المتن:
باب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ.
وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنْ الْمَطَرِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ، أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ.
وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَهَا إِلاَّ قَلِيلاً.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
الشرح:
قوله: «بَاب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ» يعني: مسجد النبي ﷺ.
قوله: «وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ» ؛ أي: سقف مسجد النبي ﷺ.
قوله: «وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ» ، يعني: مسجد النبي ﷺ، وهو طرف من قصة ذكر فيها تجديد عمر لمسجد النبي ﷺ، حيث قال لعامله: «أَكِنَّ النَّاسَ مِنْ الْمَطَرِ» يعني: ظلل الناس واحمهم من المطر، «وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ، أَوْ تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ» ؛ يعني: لا تزخرف فتفتن الناس بالتحمير أو التصفير، فالمهم أن تُظل الناس وتحميهم من المطر والريح والشمس، أما الزخرفة فمنهي عنها، لكن لا مانع من العمارة القوية بدون التحمير والتصفير.
قوله: «وَقَالَ أَنَسٌ: يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لاَ يَعْمُرُونَهَا إِلاَّ قَلِيلاً» ، أي: يتباهون بزخرفة المساجد ثم لا يعمرونها بالصلاة والعبادة إلا قليلاً، كما هو الواقع الآن، فعمارة المسجد الواحد تكفي لبناء كثير من المساجد بسبب المبالغة في الزخرفة، ثم لا يعمرونها بالصلاة والعبادة.
قوله: «وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا زَخْرَفَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى» ، فيه: التحذير من المبالغة في زخرفة المساجد وأن هذا من فعل اليهود والنصارى، والمشروع أن يبنى المسجد بناء قويًّا دون المبالغة في الزخرفة والنقوش وكتابة الآيات؛ فكل ذلك يلهي المصلي.
المتن:
الشرح:
446 قوله: «أَنَّ الْمَسْجِدَ» ، يعني: مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.
قوله: «كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ» ، أي: الطين.
قوله: «وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ» ، أي: جريد النخل.
قوله: «وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ» ، أي: السواري من خشب النخل.
قوله: «فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا» ، أي: أنه بقي على حاله في عهد أبي بكر .
قوله: «وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ» ، أي: فلما كان على زمن عمر نخر الجريدُ وكاد يسقط، فجدده عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله ﷺ.
قوله: «ثُمَّ غَيَّرَهُ عُثْمَانُ» ، أي: في زمن خلافة عثمان .
قوله: «وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ» ، والقَصَّة مادة بناء تشبه الجص.
قوله: «وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ» ، أي: غيَّر فجعل العمد من الحجارة، وقد كانت في عهد النبي وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما من جذوع النخل.
قوله: «وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ» هذا أيضًا داخل في التغيير الذي غيره عثمان ، وقد كان سقفه من جريد النخل.
وهذا التغيير والزيادة من عثمان اجتهاد منه، وهو من أسباب الفتنة، بل هو أول أسبابها، ولو تركه كما كان في زمن الخليفتين قبله لكان أحسن، لكنه اجتهد ، ولما قال له بعض الناس: إنك غيرت مسجد النبي ﷺ عما كان عليه على عهد النبي قال: أنتم حسنتم بيوتكم فلابد أن أحسن المسجد، وتأول حديث: مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الجَنَّةِ [(1128)] ـ وهو الراوي لهذا الحديث ـ وقال: إنه يريد أن يشمله هذا الفضل؛ لأن الفضل في الحديث يشمل ابتداء بناء المسجد ويشمل تجديده وترميمه؛ ولهذا جدد عثمان مسجد النبي ﷺ ورأى أنه بذلك داخل في هذا الحديث[(1129)].
لكن الثوار أنكروا عليه التغيير فقالوا: لقد غيرت المسجد، وخفضت صوتك بالتكبير، وأخذت الزكاة على الخيل، وأتممت الصلاة في السفر، وقربت أقرباءك، وفعلت وفعلت؛ فكان هذا من أسباب الفتنة.
المتن:
باب التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ [التّوبَة: 17].
447 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ وَلاِبْنِهِ عَلِيٍّ: انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَاحْتَبَى، ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا حَتَّى أَتَى ذِكْرُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ ﷺ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ، وَيَقُولُ: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ الْفِتَنِ.
الشرح:
الآية التي استدل بها المؤلف رحمه الله في ترجمة الباب، وهي قوله تعالى: مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ» ، أتبعت بقوله تعالى: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [التّوبَة: 18]، والعمارة في الآيتين تشمل الحسية والمعنوية، فالعمارة الحسية بناؤه بالطين أو الحجارة وغيرها، والعمارة المعنوية بالإيمان بالله والصلاة وقراءة القرآن والدعوة والتعليم، فإذا بنى المؤمن مسجدًا عن إيمان وإخلاص فهذا من العمارة الحسية والمعنوية فيُبْنَى له بيت في الجنة، أما إذا بناه عن رياء وسمعة من غير إيمان فلا ثواب له في الآخرة، وإنما يعجَّل له ثوابه في الدنيا.
فالعمارة المعنوية لا تكون إلا من المؤمن، أما الحسية فقد يفعلها البر والفاجر، وكل يجازيه الله سبحانه على حسب نيته.
447 قوله: «انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ» ، فيه: حث المسلم أولاده وخدمه على طلب العلم؛ حيث أمر ابن عباس رضي الله عنهما ابنه عليًّا ومولاه عكرمة أن يسمعا من أبي سعيد ، وكان أبو سعيد أسن من ابن عباس .
وفي هذا الحديث: أنهم كانوا يحملون لبنة لبنة في بناء مسجد رسول الله ﷺ، وكان عمار يحمل لبنتين لبنتين، إحداهما عنه والأخرى عن النبي ﷺ.
وفيه: أنه لا حرج في العمل والكسب مهما عظمت مكانة الإنسان، فهذا أبو سعيد صحابي جليل ومع ذلك يعمل في حائطه.
وقوله: «فَرَآهُ النَّبِيُّ ﷺ فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ» ، فيه: تواضع النبي ﷺ في نفضه التراب عن عمار.
وقوله: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، يعني: يدعوهم إلى أسباب دخول الجنة ومنها طاعة الإمام، وهو علي ؛ فطاعة الإمام في غير معصية من طاعة الله ورسوله.
وهذا فيه: دليل على أن عليًّا كان أولى بالحق من معاوية وأهل الشام، وأن معاوية وأهل الشام هم الفئة الباغية؛ لقول النبي ﷺ: وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ [(1130)] فطاعة الإمام وولاة الأمور من أسباب دخول الجنة، والدعوة إلى طاعة أولياء الأمور دعوة إلى الجنة؛ لأنها دعوة إلى طاعة الله، وأما أهل الشام فإنهم يدعون عمارًا إلى النار؛ لأنهم يدعونه إلى الخروج على علي ، والخروج على ولي الأمر معصية، والمعصية من أسباب دخول النار، لكن أهل الشام ومعاوية لا يعلمون أنهم بغاة؛ لأنهم مجتهدون فلهم أجر الاجتهاد وإن فاتهم أجر الصواب، وعلي ومن معه لهم أجر الاجتهاد وأجر الصواب، فكل مجتهد إما مصيب أو مخطئ، فالمخطئ له أجر الاجتهاد، والمصيب له أجر الاجتهاد وأجر الصواب.
المتن:
باب الاِسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَالْمَسْجِدِ
448 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِلَى امْرَأَةٍ: مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ.
449 حَدَّثَنَا خَلاَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَلاَ أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ؛ فَإِنَّ لِي غُلاَمًا نَجَّارًا، قَالَ: إِنْ شِئْتِ فَعَمِلَتْ الْمِنْبَرَ.
الشرح:
قوله: «بَاب الاِسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَالْمَسْجِدِ» ، هذه الترجمة قصد بها المؤلف رحمه الله بيان جواز الاستعانة بالصناع والبناة في المسجد ولو من غير المسلمين إذا أمن الضرر، وهذا في غير جزيرة العرب، أما جزيرة العرب فلا يجوز إبقاء الكافر فيها؛ لأمر النبي ﷺ بإخراجهم بقوله: أَخْرِجُوا المُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ العَرَبِ[(1131)]، وقوله ﷺ: لا يبقى في جزيرة العرب دينان[(1132)].
ولكن لا حرج من دخول الكافر المسجد للحاجة إذا أمن الضرر، كما سيأتي من أن النبي ﷺ ربط ثمامة بن أثال قبل أن يسلم في المسجد[(1133)].
448، 449 وحديثا الباب ـ حديث سهل وحديث جابر رضي الله عنهما ـ فيهما إشكال وهو أن رسول الله ﷺ في حديث سهل بعث إلى امرأة وقال: مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ، وفي حديث جابر أن المرأة هي التي قالت للنبي ﷺ: «أَلاَ أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا تَقْعُدُ عَلَيْهِ» ؛ وقد جمع الحافظ بينهما بأن المرأة هي التي عرضت أولاً، ثم حصل منها تأخر بعض الشيء، فأرسل النبي ﷺ إليها يستحثها.
وفي هذين الحديثين: دليل على استحباب جعل منبر للخطيب يخطب عليه يوم الجمعة؛ حيث أمر به النبي ﷺ، والحكمة ظاهرة، وهي أن يبرز الخطيب للناس حتى يروه ويسمعوا قوله، وكان منبر النبي ﷺ ثلاث درجات، وإذا زاد عليها فلا بأس.
المتن:
باب مَنْ بَنَى مَسْجِدًا
450 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ بُكَيْرًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ عُبَيْدَ اللَّهِ الْخَوْلاَنِيَّ، أَنَّهُ سَمِعَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقُولُ عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ ﷺ: إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، قَالَ: بُكَيْرٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ؛ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ.
الشرح:
450 حديث الباب فيه: ما قاله عثمان لما وسع مسجد النبي ﷺ وجدده وغير فيه بعض التغييرات، وكان على عهد النبي ﷺ وعهد الخليفتين من جذوع النخل وسقفه من الجريد، فجعل سقفه بالساج وجعله بحجارة من قُصَّة بيضاء، فأكثر عليه الناس في ذلك، فقال: «إِنَّكُمْ أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، قَالَ: بُكَيْرٌ حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ؛ بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ، يعني: أنه يريد أن يحصل هذا الأجر.
وهذا الحديث من الأحاديث المتواترة، والأحاديث المتواترة في السنة قليلة، فهي تقارب أربعة عشر حديثًا فقط، والحديث المتواتر: هو الذي يرويه عدد كثير من أول السند عن مثلهم إلى منتهاه، ويسنده إلى حس ـ أي: إلى سماع ـ أو نظر، وهذا لم يثبت في السنة إلا قليلاً، وجلُّ أحاديث البخاري في الصحيح ثابتة بطريق الآحاد، وخبر الآحاد إما مشهور أو عزيز أو غريب؛ فالغريب ما يرويه واحد، والعزيز ما يرويه اثنان، والمشهور ما يرويه ثلاثة فأكثر إلى حد التواتر.
وخبر الآحاد إذا صح ـ بأن اتصل سنده وعدلت الرواة ولم يكن شاذًّا ولا معللاً ـ فهو مقبول ويفيد العلم على الصحيح، ولاسيما أحاديث الصحيحين؛ فإن العلماء تلقتها بالقبول، وقال بعض العلماء: إن خبر الآحاد يفيد الظن.
والصواب: أنه يفيد العلم، وهو مقبول ويعمل به، ولا يرده إلا أهل البدع كالمعتزلة وأشباههم، أما الأحاديث التي بلغت حد التواتر فهي تقارب أربعة عشر حديثًا، منها هذا الحديث مَنْ بَنَى مَسْجِدًا، ومنها حديث: مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ [(1134)] ومنها حديث الحوض[(1135)]، ومنها حديث الشفاعة[(1136)]، ومنها حديث النهي عن الصلاة بعد العصر[(1137)].
وفي حديث الباب فضل من بنى لله مسجدًا، وأنه يبنى له بيت في الجنة، وهذا فضل عظيم، لكنه بقيد الإيمان والإخلاص، كما قيد في الحديث: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، فلابد من قيد الإيمان والإخلاص، وتحقيق القيد شرط في ثبوت هذا الثواب، فإن كان الباني غير مؤمن أو بناه للرياء والسمعة فلا ثواب له في الآخرة وإنما يأخذ جزاءه في الدنيا، فالكافر يعجَّل له جزاؤه في الدنيا بالصحة في بدنه أو الوفرة في ماله وولده ثم يفضي إلى الآخرة ولا حسنة له ولا حجة.
وبناء المسجد يشمل بناءه من جديد، ويشمل تجديده وترميمه؛ فإن عثمان وسع المسجد ورممه ورأى أنه بذلك يشمله هذا الحديث، أما دهن جدران المسجد وتلوينها وزخرفتها وما شابه هذا فلا يسمى بناء.
وقيّدُ الإيمان لازم في كل عمل، وهو مأخوذ من نصوص الشريعة وقواعدها، فالجنة لا يدخلها الكافر، وقد قال الله تعالى في آية التوبة: إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [التّوبَة: 18].
وعمارة المساجد نوعان:
النوع الأول: العمارة المعنوية: وهي عمارته بالعمل الصالح: بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، وتعلم العلم وتعليمه، والدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
النوع الثاني: العمارة الحسية: وتكون بالبناء والترميم والتحسين والتنظيف.
والعمارة المعنوية هي المهمة، وهي خاصة بالمؤمن، أما العمارة الحسية فقد تصدر من الكافر وقد تصدر من المؤمن[(1138)].