ومن كانت نيته الرياء ثم تاب فلا ثواب له على عمله؛ لأن الثواب حسب نيته الأولى، والله أعلم.
يقول ابن الجوزي: «من كتب اسمه على المسجد الذي يبنيه كان بعيدًا عن الإخلاص»[(1139)] أي: يُخشى عليه أن يكون كتب اسمه للرياء والتعريف.
المتن:
باب يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ
451 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: قُلْتُ لِعَمْرٍو: أَسَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا.
الشرح:
451 قوله: أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا؛ النصال جمع نصل، وهي الحديدة التي يرمى بها، أما النُّبل فهي: السهام العربية.
وفي الحديث: حرص النبي ﷺ على سلامة المسلمين، فالنبي ﷺ أمر الرجل بأن يمسك بالنصال ـ أي: بالحديدة التي يرمى بها ـ حتى لا تصيب مسلمًا، وهذا الحكم يشمل المسجد وغيره من المجتمعات التي يكثر فيها الناس.
المتن:
باب الْمُرُورِ فِي الْمَسْجِدِ
452 حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِهَا؛ لاَ يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا.
الشرح:
452 قوله: لاَ يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا؛ يعني: حتى لا يجرح مسلمًا.
وفي الحديث: دليل على جواز المرور بالنبل في المسجد وغيره، وجواز دخول المسجد بالسلاح عند الحاجة، لكن عليه أن يلاحظ النبل ويأخذ على نصاله حتى لا يجرح مسلمًا، ومثله إذا مر بحديد أو خشب أو غيرها فعليه أن يمسكها جيدًا؛ لئلا يرطم بها أحدًا، سواء أكان في المساجد أم في الأسواق أم في أماكن اجتماع الناس.
فينبغي على المسلم إذا مر في المساجد أو المجتمعات ومعه ما قد يخشى ضرره على المسلمين أن يمسكه ويلاحظه؛ حفاظًا على أخيه المسلم.
المتن:
باب الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ
453 حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ ثَابِتٍ الأَْنْصَارِيَّ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ: أَنْشُدُكَ اللَّهَ، هَلْ سَمِعْتَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: يَا حَسَّانُ أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ.
الشرح:
قوله: «باب الشعر في المسجد» هذه الترجمة معقودة لبيان حكم الشعر في المسجد، وهذا فيه تفصيل:
أولاً: فإذا كان الشعر لا محظور فيه؛ بأن كان سالمًا من الإثم والباطل وأشعار الجاهلية ومشتملاً على الحق، وليس فيه غزل ولا هجاء ولا تغيير للحق بجعله باطلاً وبجعل الباطل حقًّا فلا بأس بإنشاده في المسجد، وقد كان حسان ينشد الشعر في مسجد النبي ﷺ.
ثانيًا: إذا كان الشعر باطلاً فهو محرم في المسجد وفي غيره، وهو الشعر الذي يشتمل على الفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، وأشعار الجاهلية التي فيها وصف الخمر والغزل والهجاء وإيذاء المسلمين، والأشعار التي فيها قلب الحق باطلاً والباطل حقًّا، فهذا لا يجوز في المسجد ولا في غير المسجد، لكن في المسجد أشد وأعظم.
453 قوله: أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟ روح القدس هو: جبريل ، وفي لفظ: أن النبي ﷺ قال له: اهجهم وروح القدس يؤيدك [(1140)]؛ لأنه ينافح عن رسول الله ﷺ.
وجاء في اللفظ الآخر أن عمر لحظ حسان ـ أي: لحظه بعينه ـ وهو ينشد في المسجد كالمنكر له، فقال له حسان: قد كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك ـ يعني: رسول الله ﷺ ـ فسكت[(1141)].
فإذا كان الشعر سليمًا لا محظور فيه فلا بأس به، وثبت عن حسان أنه قال: إن لساني هذا لو وضعته على صخر لفلقه أو على شَعْر لحلقه، ولما طلب من النبي ﷺ أن ينافح عنه وأن يسب قريشًا قال له ﷺ: كيف تهجوهم وأنا منهم؟؛ قال: أَسُلُّكَ منهم كما تسل الشعرة من العجين[(1142)]؛ فكان شعر حسان أشد عليهم من السلاح، فهو من الجهاد بالكلام، فالكلام الطيب من الجهاد بالحق، سواء أكان شعرًا أم نثرًا؛ ولهذا كان العرب يخشون حسانًا وغيره، وأحيانًا تأتي الوفود ومعهم شعراؤهم فيأتيهم حسان، فيقولون: لَشاعِرُه أشد من شاعرنا ولخطيبه أحسن من خطيبنا، وكان خطيب النبي ﷺ: ثابت بن قيس، وشاعره: حسان رضي الله عنهما.
ولما نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ولاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ [الحُجرَات: 2]، خاف ثابت بن قيس ـ وكان يرفع صوته بالخُطبة أمام النبي ﷺ ـ وجلس في بيته وجعل يبكي على نفسه، وقال : إنه حبط عمله، ففقده النبي ﷺ فأرسل إليه، فقال: إنه حبط عمله؛ لأنه يرفع صوته فوق صوت النبي ﷺ، فلما أخبر النبي ﷺ قال: قولوا له: إنك من أهل الجنة، ولست من أهل النار [(1143)]، وهذه شهادة من النبي ﷺ لثابت بن قيس ، فقد كان يرفع صوته أمام النبي ﷺ للحاجة؛ فالخُطبة تحتاج إلى رفع الصوت، فلا يدخل في الآية، لكن هذا من ورعه خاف أن يشمله الوعيد.
وبعض الناس ينكر تحسين الصوت في الشعر ويقولون: إنه تلحين، ولا بأس بتحسين الصوت فيما ينبغي تحسين الصوت فيه كالأذان وقراءة القرآن والشعر المباح، بل يُستحب ويُطلب في المؤذن وقارئ القرآن أن يكون جميل الصوت، فتحسين الصوت غير التلحين، فالتلحين أن يقرأ قراءة تشبه ألحان الغناء، وهذا مكروه؛ سواء كان التلحين في الأذان أو في قراءة القرآن أو في الشعر؛ ولهذا قال عمر بن عبد العزيز لمؤذن له ـ كما سيأتي في «باب الأذان» : أَذِّنْ أَذَانًا سَمْحًا وَإِلَّا فَاعْتَزِلْنَا، أي: أذن أذانًا ليس فيه تلحين.
المتن:
باب أَصْحَابِ الْحِرَابِ فِي الْمَسْجِد
454 حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ.
الشرح:
455 زَادَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:
رَأَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ، وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ.
454، 455 قوله: «وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ» ؛ وفي لفظ: «بحرابهم» [(1144)]، والحراب جمع حَرْبة، وهي حديدة لها طرف.
وهذا الحديث مخصِّص لما سبق من أحاديث النهي عن المرور في المسجد بالنصل غير مغمود، ففي الأحاديث التي سبقت نهى النبي ﷺ عن المرور في المسجد بالنصال إلا أن تكون في الغمد، وهنا أجاز النبي ﷺ للحبشة أن يلعبوا بالحديد مكشوفًا، فالنهي عن المرور بالسلاح مكشوفًا عام؛ لئلا يؤذي المسلمين، أما اللعب بالسلاح في رحبة المسجد فهذا خاص، والمقصود به التدرب للجهاد.
وهذا الحديث فيه من الفوائد: جواز اللعب بالسلاح في المسجد، إذا كان المسجد فيه سعة؛ لما فيه من التدرب على السلاح الذي فيه تقوية واستعداد للجهاد.
قوله: «وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ» ؛ فيه: حسن خلق النبي ﷺ وسماحته مع أهله.
قوله: «أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ» فيه: جواز نظر المرأة إلى الرجال على العموم، كالنظر إلى الذين يلعبون بالسلاح في المسجد والنظر إلى المصلين في المسجد، وكما تنظر المرأة في طريقها إلى الرجال على العموم، فهذا لا بأس به، أما النظر إلى رجل معين نظر تأمل وشهوة فهذا هو المحرم، ومثله أن ينظر الرجل إلى امرأة معينة ليتأمل محاسنها، فهذا أشد حرمة من مجرد الرجل إلى المرأة.
المتن:
باب ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْمَسْجِدِ
456 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أَتَتْهَا بَرِيرَةُ تَسْأَلُهَا فِي كِتَابَتِهَا فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتُ أَهْلَكِ وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لِي، وَقَالَ أَهْلُهَا: إِنْ شِئْتِ أَعْطَيْتِهَا مَا بَقِيَ، وَقَالَ سُفْيَانُ: مَرَّةً إِنْ شِئْتِ أَعْتَقْتِهَا، وَيَكُونُ الْوَلاَءُ لَنَا، فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذَكَّرَتْهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: ابْتَاعِيهَا فَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ، ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَقَالَ سُفْيَانُ: مَرَّةً: فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ.
قَالَ عَلِيٌّ: قَالَ يَحْيَى.
وَعَبْدُ الْوَهَّابِ: عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ: عَنْ يَحْيَى قَالَ :سَمِعْتُ عَمْرَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ.
وَرَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَمْرَةَ أَنَّ بَرِيرَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ صَعِدَ الْمِنْبَرَ.
الشرح:
قوله: «بَاب ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْمَسْجِدِ» ، ليس المراد من هذه الترجمة بيان أن البيع والشراء يكون في المسجد، بل المراد ذكر أحكام البيع والشراء حتى يعلمها الناس، فلا بأس بإعلان الأحكام الشرعية وبيانها على المنبر لتعليم الناس.
456 في حديث الباب: أن الولاء لمن أعتق، فإذا أعتق إنسان عبدًا أو أمة فإن الولاء يكون له، ولو اشترط البائع أن يكون الولاء له فالشرط باطل والبيع صحيح، ويكون الولاء لمن أعتق؛ ولهذا لما جاءت بريرة إلى عائشة تستعينها في قضاء دينها، وكانت قد اشترت نفسها من أهلها، أي كاتبتهم على نفسها؛ بأن تعطيهم في كل سنة تسع أواق، فقالت عائشة رضي الله عنها ـ كما في بعض الروايات: «إن أحبَّ أهلك أن أعُدُّها لهم ويكون ولاؤك لي» [(1145)]. فذهبت واستشارت أهلها فقالوا: لا، إذا أحبت فليكن الشراء لوجه الله والولاء لنا، فلما أخبرت النبي ﷺ قال: ابْتَاعِيهَا، يعني: اشتريها فَأَعْتِقِيهَا فَإِنَّ الْوَلاَءَ لِمَنْ أَعْتَقَ يعني: إذا اشترطوا الولاء فالشرط باطل.
وفي الحديث: دليل على أن الشروط المخالفة لحكم الله باطلة ولو كثرت؛ ولهذا قال النبي ﷺ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَنْ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَلَيْسَ لَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ مِائَةَ مَرَّةٍ، أي: وإن اشترط مائة شرط فالاشتراط باطل، فيصح البيع مع بطلان الشروط.
ومناسبة الحديث للترجمة هي قوله: «بَاب ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي الْمَسْجِدِ» ؛ أن القصة المذكورة في الحديث قد اشتملت على بعض أحكام البيع والشراء والعتق والولاء، وقد ذكرها النبي ﷺ في المسجد على المنبر، فدل على أنه لا بأس على الخطيب أن يبين أحكام البيع، والشراء، والولاء، والعتق، وغيرها على المنبر في المسجد، حتى يعلمها الناس.
المتن:
باب التَّقَاضِي وَالْمُلاَزَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ
457 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ كَعْبٍ، أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ؛ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، فَنَادَى: يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، أَيْ الشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ.
الشرح:
457 في حديث الباب: بيان لما دلت عليه الترجمة من جواز التقاضي في المسجد، وأن هذا ليس من البيع والشراء.
وفيه: جواز ملازمة الغريم في المسجد، فلو وجد الشخص غريمه أمسك به وطالبه بحقه ولو في المسجد؛ ولهذا بوب المؤلف فقال: «بَاب التَّقَاضِي وَالْمُلاَزَمَةِ فِي الْمَسْجِدِ» ؛ ولهذا لما وجد كعبٌ ابنَ أبي حدرد في المسجد أمسكه وألزمه بدينه، حتى ارتفعت أصواتهما في المسجد والنبي ﷺ في حجرته، فكشف النبي ﷺ سِجْفَ حجرته ونادى كعبًا ـ صاحب الدين ـ وقال: يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا وَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، أَيْ الشَّطْرَ، قَالَ: لَقَدْ فَعَلْتُ» ؛ فأكد لبيان المبالغة في الاستجابة، فقال لابن أبي حدرد: قُمْ فَاقْضِهِ؛ أي: في الحال؛ ما دام قد وضع نصف الدين فلا تؤجله، بل قم فاقضه حقه، فقام فقضى له حقه، وانتهت الخصومة.
ففيه: جواز التقاضي وملازمة الغريم وقضاء الدين في المسجد، وأن هذا كله ليس من البيع ولا من الشراء.
والنبي ﷺ كشف سِجْف الحجرة، وحكم لهما وهو في بيته؛ ولهذا ترجم النسائي على هذا الحديث فقال: «باب حكم الحاكم في داره» ، فأخذه من قوله: «وَهُوَ فِي بَيْتِهِ» .
ورفع الصوت في المسجد لا ينبغي إلا في الخطبة أو الموعظة أو الدرس؛ ولهذا لما رأى عمر رجلين يرفعان أصواتهما وبخهما وقال: عليَّ بهما، فقال لهما: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل هذا البلد لأوجعتكما ضربًا؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ﷺ؟!
المتن:
باب كَنْسِ الْمَسْجِدِ وَالْتِقَاطِ الْخِرَقِ وَالْقَذَى وَالْعِيدَانِ
458 حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلاً أَسْوَدَ أَوْ امْرَأَةً سَوْدَاءَ كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ فَمَاتَ؛ فَسَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْهُ؟ فَقَالُوا: مَاتَ قَالَ: أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ، دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ، أَوْ قَالَ قَبْرِهَا. فَأَتَى قَبْرَهَا؛ فَصَلَّى عَلَيْهَا.
الشرح:
458 قوله: «يَقُمُّ الْمَسْجِدَ» ، أي: يجمع القمامة من المسجد ويخرجها.
وفي الحديث: بيان تواضع النبي ﷺ وتفقده لأصحابه.
وفيه: العناية بالخدم ومن يقوم بكنس المسجد.
وفيه: تفقد ولي الأمر لأحوال رعيته.
وفيه: فضل قم المسجد وكنسه، وأن من الطاعات العظيمة أن يكون الإنسان خادمًا للمسجد؛ ينظفه ويفرشه ويخرج القذى والقمامة؛ ولهذا لما مات هذا الرجل ـ أو المرأة ـ ودفنوه دون أن يعلموا النبي ﷺ ـ وجاء في الحديث الآخر أنه مات ليلاً فدفنوه ـ قال ﷺ: أَفَلاَ كُنْتُمْ آذَنْتُمُونِي بِهِ، دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ، وهذا من العناية به والتقدير لعمله، وأن العمل الذي يقوم به أمر شريف وعظيم.
وفيه: جواز الصلاة على القبر، وأن الصلاة على القبر ليست من الصلاة المنهي عنها؛ لأنها ليست صلاة لها ركوع وسجود، وإنما هي صلاةٌ المقصود منها الدعاء للميت، وإنما الصلاة المنهي عنها الصلاة ذات الركوع والسجود، فلا تجوز الصلاة في المقبرة لا فريضة ولا نافلة ولا تصح؛ فهي من وسائل الشرك ومن كبائر الذنوب، أما الصلاة على الميت فلا بأس بها إلى شهر من دفنه.
المتن:
باب تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَسْجِدِ
459 حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا أُنْزِلَتْ الآْيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا، خَرَجَ النَّبِيُّ ﷺ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ تِجَارَةَ الْخَمْرِ.
الشرح:
قوله: «بَاب تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَسْجِدِ» ، المقصود من الترجمة: بيان أن تحريم تجارة الخمر وقع في المسجد، وليس المراد أن تجارة الخمر في المسجد حرام؛ لأن التجارة في الخمر حرام في المسجد وفي غير المسجد، ومعلوم أيضًا أنه لا يجوز أن يتجر المرء في المسجد حتى في غير الخمر، أي حتى في الأشياء المباحة؛ فالمراد أن الحكم الشرعي وقع في المسجد.
459 في حديث الباب: أن النبي ﷺ حرم الربا وحرم الخمر، ومن المعلوم أن تحريم الخمر وقع قبل تحريم الربا، فلعل تحريمه للخمر في هذا الحديث من باب التأكيد.
المتن:
باب الْخَدَمِ لِلْمَسْجِدِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [آل عِمرَان: 35] لِلْمَسْجِدِ يَخْدُمُهَا.
460 حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ وَاقِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ امْرَأَةً أَوْ رَجُلاً كَانَتْ تَقُمُّ الْمَسْجِدَ، وَلاَ أُرَاهُ إِلاَّ امْرَأَةً، فَذَكَرَ حَدِيثَ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ صَلَّى عَلَى قَبْرِهَا.
الشرح:
460 في هذا الحديث وهذه الترجمة: بيان مشروعية خدمة المسجد، وأن خدمة المسجد مشروعة وهي من الطاعات؛ ولهذا أقر النبي ﷺ هذا الرجل ـ أو هذه المرأة ـ الذي يقم ويخدم المسجد، ولما مات ودفنوه قال: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ، [(1146)] أي كأنهم صغّروا أمره فلم يخبروا النبي ﷺ به، فقال: «دلوني على قبره» ، وكل هذا من باب التنبيه على فضله وتقدير النبي ﷺ لعمله وجهوده.
والترجمة فيها: أن تعظيم المسجد بالخدمة كان مشروعًا في الأمم السابقة؛ ولهذا قالت امرأة عمران: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا يعني نذرت أم مريم رضي الله عنها لما حملت بمريم أن يكون ما في بطنها خادمًا لبيت المقدس.
وفي الحديث: مشروعية تنظيف المسجد.
وفيه: صحة تبرع الإنسان بإقامة نفسه في خدمة المسجد؛ حيث أقر النبي ﷺ على ذلك هذا الرجل أو هذه المرأة.
وفيه: أنّ نذر الطاعة يجب الوفاء به، أما نذر الولد لخدمة المسجد، كأن ينذر إن جاءه ولد فهو محرر لخدمة المسجد فالظاهر أن هذا لا يجوز، وأن هذا إنما كان جائزًا في شرع من كان قبلنا، وأما في شرعنا فلا؛ للضرر الذي يقع على الولد؛ لأنه إذا نذر الأب أو الأم الولد لخدمة المسجد منعاه من الأعمال الأخرى، فيمنعاه من الكسب ومن الزواج وإقامة العائلة وغير ذلك. ولكن كان هذا مشروعًا في شرع من قبلنا، فأم مريم رضي الله عنها نذرت ـ لما حملت بمريم ـ أن يكون ما في بطنها لخدمة بيت المقدس، وكانت تظن أن في بطنها ذكرًا، فلما وضعتها أنثى قالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عِمرَان: 36] يعني: لا شك أن الذكر ليس مثل الأنثى، فالذكر عنده قوة وعنده استطاعة، والله تعالى هيأه لهذه الأعمال، فهيئة الذكر غير هيئة الأنثى؛ ولهذا اعتذرت لربها وقالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى.
فإذا نذر الإنسان نذرًا وجب الوفاء به، ولا بأس أن يتبرع الإنسان بإقامة نفسه لخدمة المسجد، أما أن ينذر الوالد ولده فظاهر النصوص أنه لا ينبغي له في شرعنا.
وفيه: عناية النبي ﷺ بالضعفاء ومن يخدمون في المسجد؛ تشجيعًا لهم وتقديرًا لجهودهم؛ ولهذا لما مات هذا الرجل ـ أو هذه المرأة ـ وكأنهم صغروا أمره قال النبي ﷺ: دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ، [(1147)]، وصلى عليه؛ ترحمًا عليه وتقديرًا لجهده العظيم.
المتن:
باب الأَْسِيرِ أَوْ الْغَرِيمِ يُرْبَطُ فِي الْمَسْجِدِ
461 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا رَوْحٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاَةَ، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي قَالَ رَوْحٌ: فَرَدَّهُ خَاسِئًا.
الشرح:
هذه الترجمة أراد بها المؤلف رحمه الله بيان جواز ربط الغريم والأسير في المسجد، مسلمًا كان أو كافرًا؛ لما يترتب على ذلك من المصالح.
461 في حديث الباب جواز ربط الغريم والأسير في المسجد، مسلمًا كان أو كافرًا؛ لأن الكافر قد يستفيد بما يراه ويسمعه، كما ربط النبي ﷺ ثمامة بن أثال في المسجد ثلاثة أيام ثم أطلقه، فاستفاد برؤيته للمصلين وسماعه للذكر والقرآن؛ فوقع في قلبه الإسلام[(1148)].
وفيه: أن الشياطين قد تسلط على الرسل، فهذا الشيطان تسلط على النبي ﷺ وأراد أن يقطع صلاته، وفي بعض الألفاظ جَاءَ بِشِهَابٍ مِنْ نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي[(1149)]، فإذا كان هذا في الأنبياء فغيرهم من باب أولى، فقد يسلط الشيطان على بعض الصالحين، فعليه أن يدفع شره بالبعد عن الأسباب التي يسلط بها عليه، وبالاستعاذة بالله من شره، وكثرة الذكر وتلاوة القرآن، والأذان والإقامة، فهي من أسباب بعده وطرده عن العبد.
قوله ﷺ: فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، أي: لما تعرض للنبي ﷺ، وفي اللفظ الآخر أن النبي ﷺ قال: فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ [(1150)]، وأراد أن يربطه ﷺ لكنه ذكر قول الله عن سليمان : قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي لأَِحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35]، فخشي ﷺ أن يكون هذا مشاركة لسليمان ؛ لأن سليمان سخر الله له الجن والشياطين، قال تعالى: وَالشَّيْاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ [ص: 37] فخشي النبي ﷺ إن ربطه أن يكون هذا مشاركة لسليمان في التسخير فتركه؛ ولهذا قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ.
والشاهد من الحديث للترجمة: جواز ربط الأسير والغريم في المسجد ولو كان كافرًا، فالشيطان كافر ومع ذلك أراد النبي ﷺ أن يربطه.
المتن:
باب الاِغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ وَرَبْطِ الأَْسِيرِ أَيْضًا فِي الْمَسْجِدِ
وَكَانَ شُرَيْحٌ يَأْمُرُ الْغَرِيمَ أَنْ يُحْبَسَ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ.
462 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ﷺ، فَقَالَ: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنْ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان حكمين:
الحكم الأول: مشروعية اغتسال الكافر إذا أسلم.
الحكم الثاني: جواز ربط الأسير في المسجد.
قوله: «وَكَانَ شُرَيْحٌ يَأْمُرُ الْغَرِيمَ أَنْ يُحْبَسَ إِلَى سَارِيَةِ الْمَسْجِدِ» ، هذا يتعلق بالحكم الثاني، وهو من سياسة شريح رحمه الله، فإنه إذا ربط الغريم في المسجد سأل عنه وعن حاله كل من دخل المسجد، فربما ساعده في قضاء دينه، وكذلك يربطه ليتأدب ويرتدع ويخجل من ربطه أمام الناس، فيفي بدينه حتى لا يربط مرة أخرى، ففيه مصلحة.
462 في حديث الباب: أن ثمامة لما أراد أن يسلم اغتسل أولاً، ومسألة اغتسال الكافر إذا أسلم فيها خلاف بين العلماء ـ كما تقدم ـ:
القول الأول: أنه واجب.
القول الثاني: أنه مستحب.
والصواب: أنه مستحب؛ لأن النبي ﷺ وإن كان أمر قيس بن عاصم بالاغتسال لما أسلم[(1151)] إلا أنه أسلم جَمٌّ غفير يوم فتح مكة ولم يأمرهم النبي ﷺ بالغسل؛ ولأن ثمامة بن أثال في هذا الحديث أسلم ولم يأمره النبي ﷺ بالاغتسال، بل ذهب هو إلى نخل قريب من المسجد واغتسل من غير أمر النبي ﷺ.
وفي الحديث: جواز ربط الأسير في المسجد ـ ولو كان كافرًا ـ ليستفيد من أخلاق المسلمين وليرى صلاتهم وليسمع القرآن والذكر، وثمامة هذا الذي ربطه النبي ﷺ كان من سادات بني حنيفة ورؤسائهم، أخذته خيل النبي ﷺ وهو يريد أداء العمرة ـ وكان الكفار يعتمرون ـ وجاءوا به إلى النبي ﷺ فربطه في المسجد ثلاثة أيام.
والحديث اختصره المؤلف رحمه الله، وقد ساقه في مواضع أخر من الصحيح مطولاً، وفيه: أن النبي ﷺ ربطه ثلاثة أيام وفي كل مرة يأتيه ويقول له: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟، فيقول ثمامة: إن تنعم تنعم على شاكر، وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال فسل ما بدا لك، ثم يأتيه في اليوم الثاني فيقول له: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟،، فيقول: عندي ما قلت لك: إن تقتل تقتل ذا دم ـ يعني إن تقتل تقتل رجلاً عظيمًا له مكانة في قومه ـ وإن تنعم تنعم على شاكر ـ أي إن أنعمت وعفوت أنعمت على رجل يقدر المعروف ـ وإن تُرد المال فسل ما بدا لك ـ أي لأنه رئيس قومه فيملك أن يعطيه ما شاء من المال ـ ثم جاءه في اليوم الثالث فقال له كذلك، فتوسم النبي ﷺ فيه الخير فقال: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فذهب إلى نخل قريب من المسجد واغتسل ثم جاء ودخل المسجد وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله، وقال: يا رسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ولا والله لا يأتي مكة حبة من حنطة حتى يأذن فيها النبي ﷺ ـ وكانت قريش تأتيهم الحبوب من نجد[(1152)] ـ وذكر أنه لما أخذته الخيل كان النبي ﷺ أبغض الناس إليه، ولما أسلم كان أحب الناس إليه، وهكذا الإسلام إذا خالطت بشاشته القلوب.
وكونه لم يسلم حتى أطلق، فيه دليل على قوته وعزة نفسه، فلم يرد أن يسلم إلا باختياره، فلما أطلق من رباطه ذهب واغتسل وجاء فأسلم.
وفي الحديث: جواز دخول الكافر المسجد للحاجة، حتى المسجد النبوي يجوز أن يدخله الكافر لحاجة من أكل أو شرب أو غيره، إلا المسجد الحرام فلا يجوز دخول الكافر فيه مطلقًا؛ لقول الله تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التّوبَة: 28]، وهذا من الفوارق بين المسجد النبوي والمسجد الحرام، فالمسجد النبوي يجوز دخول الكافر فيه، والمسجد الحرام لا يجوز دخول الكافر فيه مطلقًا، حتى مكة كلها لا يدخلها الكافر مطلقًا.
ولا بأس بدخول الكافر أيَّ مسجد خارج مكة، فإذا كان يجوز أن يدخل المسجد النبوي فمن باب أولى المساجد الأخرى، فلا بأس أن يدخلها إذا احتاج لطعام أو شراب، كأن يشرب من البَرَّادة، فالمرور لا بأس به، أما عمارة المسجد فلا؛ لأنه لا يؤمن، لكن لو عَبَره فقط فلا حرج.
المتن:
باب الْخَيْمَةِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَرْضَى وَغَيْرِهِمْ
463 حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فِي الأَْكْحَلِ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ؛ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ، وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ إِلاَّ الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ، مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ فِيهَا.
الشرح:
463 قوله: «أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ» هو سعد بن معاذ سيد الأوس، أصيب في غزوة الخندق، وهو الذي اهتز له عرش الرحمن.
قوله: «فِي الأَْكْحَلِ» هو: عِرْقٌ، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال الخليل: هو عرق الحياة، وقال أبو حاتم: هو في اليد، وقيل: في كل عضو منه شعبة».
قوله: «فَضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ؛ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ» ، أي: ليكون قريبًا منهم، وحتى يزوره إخوانه المصلون.
وفي الحديث: جواز ضرب خيمة أو أكثر في المسجد للمريض، أو الغريب الذي لا مسكن له، أو المعتكف، إذا كان في المسجد سعة وإذا لم يضر ذلك بأحد، وكان أهل الصفة أكثر من سبعين رجلاً فقراء، وكانت لهم غرفة في مسجد النبي ﷺ يسكنون فيها.
قوله: «وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ» ، أي: كان في مسجد النبي ﷺ خيمتان: خيمة لسعد وخيمة لبني غفار.
قوله: «فَلَمْ يَرُعْهُمْ» أي: بني غفار «إِلاَّ الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ» أي: لما انفجر جرح سعد دخل عليهم الدم، فقالوا: «مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو جُرْحُهُ دَمًا فَمَاتَ فِيهَا» ، وكان هو الذي حكم في بني قريظة، لما سألهم النبي ﷺ فقال: من ترضون أن يحكم فيكم؟ قالوا: يحكم فينا سعد بن معاذ. فلما جاء سعد قال النبي ﷺ للأنصار: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، وهو محمول على حمار، فلما جاء إلى بني قريظة وجاءوا يطوفون به ويظنون أنه سيرفق بهم، قال: أنا أحكم فيهم؟ قال النبي ﷺ: نعم، قال: إني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم، فقال النبي ﷺ: لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ [(1153)]، وفي لفظ: من فوق سبعة أرقعة [(1154)] فصار يؤتى ببني قريظة، فالرجل يقتل والمرأة والذرية يسبون، والذي يشك فيه من الأولاد هل بلغ أو لم يبلغ يكشف عن مؤتزره فإن أنبت شعرًا خشنًا قُتل؛ لأنه من الرجال، وإن لم ينبت ترك؛ لأنه من الذرية، وكان محمد بن كعب القرظي لم ينبِت فتُرك، فمنّ الله عليه بالإسلام.
المتن:
باب إِدْخَالِ الْبَعِيرِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَافَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى بَعِيرٍ.
464 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنِّي أَشْتَكِي، قَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، يَقْرَأُ بالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ.
الشرح:
هذه الترجمة تابعة للتراجم المتعلقة بالمساجد، وقد عقدها المؤلف رحمه الله لبيان جواز إدخال البعير في المسجد للحاجة؛ لأن البعير طاهر وبوله وروثه طاهر، فلا بأس بدخوله المسجد للحاجة، بخلاف الحمار وآكلات اللحم، فإنها لا تدخل المسجد؛ لأن بولها نجس وروثها نجس؛ ولهذا طاف النبي ﷺ مرة على بعير، والأولى منه العربة الصغيرة التي يطاف عليها الآن؛ لأنها طاهرة وليس فيها بول ولا روث، فإذا جاز إدخال البعير المسجد فإدخال هذه العربة وما أشبهها لا حرج فيه، والمسجد الحرام أفضل المساجد؛ فغيره أولى بالجواز.
464 في حديث الباب أن أم سلمة رضي الله عنها شكت إلى النبي ﷺ أنها شاكية، يعني مريضة، وتريد أن تطوف فقال ﷺ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ، فطافت، وكان هذا الطواف من أم سلمة للوداع؛ لأنها طافت للإفاضة مع النبي ﷺ يوم العيد.
قوله: «وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، يَقْرَأُ بالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ» ، كان ذلك في صلاة الفجر يوم الرابع عشر من شهر ذي الحجة، وكان ﷺ قد طاف للوداع في آخر الليل ثم أذن الفجر فصلى الفجر بالناس وقرأ سورة الطور، ثم قفل راجعًا إلى المدينة؛ لأنه ﷺ لم يتعجل، فرمى الجمار في ثلاثة أيام: اليوم الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر، ثم لما رمى في اليوم الثالث عشر وهو يوم الثلاثاء ـ وكان ﷺ يرمي بعد الزوال قبل الصلاة ـ نزل بالأبطح وصلى به العصر والمغرب والعشاء، ثم نزل آخر الليل فطاف طواف الوداع ليلة الأربعاء ـ الرابع عشر من شهر ذي الحجة ـ ثم أدركته الصلاة فصلى بالناس وقرأ سورة الطور، ثم قفل راجعًا إلى المدينة صباح اليوم الرابع عشر من شهر ذي الحجة، ولما أرادت أم سلمة أن تطوف طواف الوداع ـ وكانت مريضة ـ قال لها ﷺ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ، فطافت من وراء الناس والنبي ﷺ يصلي، فدل على أنه لا بأس أن يطاف من وراء الناس وهم يصلون ما دام داخل المسجد، حتى ولو طاف في الأروقة أو الصحن؛ فكل هذا يسمى طوافًا.
وفي كونها رضي الله عنها طافت من وراء الناس وهي راكبة: دليل على أنه لا بأس بالطواف والإنسان راكب عند الحاجة؛ سواء أكان راكبًا على دابة أو يُطاف به في عربة، أما إذا لم يكن لحاجة فينبغي للإنسان أن يطوف على قدميه ولا يركب؛ فالأولى ترك الركوب.
المتن:
باب
465 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسٌ، أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ ﷺ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ يُضِيئَانِ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا صَارَ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ.الشرح:
هذا الباب لم يذكر له المصنف رحمه الله ترجمة، وإنما قال: «باب» ، وهذا إذا كان الباب متعلقا بما قبله، يكون كالفصل منه، لكن هذا الباب ليس له تعلق بما قبله؛ ولهذا ذكر الحافظ رحمه الله أن هذا الحديث يتعلق بفضل المشي للمساجد في الليلة المظلمة، فكأن المصنف بوب له ولم يذكر ترجمة.
465 في حديث الباب: فضل المشي للمساجد في الليلة المظلمة.
قوله: «أَنَّ رَجُلَيْنِ» هما: أسيد بن حضير، وعباد بن بشر رضي الله عنهما.
قوله: «خَرَجَا مِنْ عِنْدِ النَّبِيِّ ﷺ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ» ، يعني: أضاء سوطاهما مثل المصباحين، فلما افترقا أضاء لكل واحد منهما سوطه.
وفيه أيضًا: إثبات كرامة الأولياء، وكرامات الأولياء تابعة لمعجزات النبي ﷺ وعلامات نبوته؛ لأنها إنما حصلت لهما ببركة اتباعهما للنبي ﷺ.
والولي هو المؤمن التقي، كما قال سبحانه: أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يُونس: 62-63].
وإذا حصل خرق للعادة على يد صالح مستقيم سميت كرامة، كما حصل لأسيد بن حضير وعباد بن بشر ، ومثلما حصل لعمر لما كشف له عن جيشه في العراق وهو في المدينة يخطب الناس على المنبر، فنادى عمر قائد الجيش وقال: يا سارية! الجبل، فألقى الله الكلمة في أذن القائد رغم المسافة البعيدةُ فلزم الجبل فَسَلِمَ، فمن الكرامات أن يكشف للإنسان ما لا يكشف لغيره، أو تكون الكرامة من باب التأكيد، كأن يحصل له مثلاً طعام إذا كان محتاجًا إلى طعام، أو تأتي سحابة تظله في شدة الحر، أو تأتي سحابة وتمطر عليه، ومثلما ذكر عن خالد بن الوليد أنه حاصر حصنًا فأمروه أن يأكل السم فلم يضره، فإن صحت هذه القصة فهي من الكرامات.
والمقصود أن الكرامة تحصل للمتقين المؤمنين ببركة اتباعهم للنبي ﷺ، أما إذا حصل خرق للعادة لمنحرف أو ساحر أو دجال فهذه تسمى حالة شيطانية، كما يحصل للسحرة من خوارق العادات، فقد يطير الساحر في الهواء، وقد يغوص في البحر، وقد تحمله الشياطين إلى مكان ما، فهذه خوارق حصلت على أيدي هؤلاء بأحوال شيطانية، ومثل ذلك ما يحصل للمسيح الدجال في آخر الزمان بأن يأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، ويقطع رجلاً نصفين، ثم يقول: قم؛ فيستوي، فهذه كلها ليست كرامات، وإنما هي ابتلاء وامتحان واستدراج.
يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله: «ويحتمل أنهما كانا عنده في المسجد، وأنهما كانا عنده في بيته، فإن كان اجتماعهما به في المسجد فإنه يستفاد من الحديث أن المشي إلى المساجد والرجوع منها في الليالي المظلمة ثوابه النور من الله ».
ولا شك في هذا، وفي الحديث: بَشِّرِ الْمَشَّائِينَ فِي الظُّلَمِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [(1155)]، وقد فهم من هذا الحافظ ابن رجب رحمه الله أنهما خرجا من عنده لانتظار صلاة العشاء في ليلة مظلمة.
وفي إعطائهما النور دليل على أن المشي إلى المساجد من أسباب النور يوم القيامة، وهذا نور حصل لهما في الدنيا، وما أعده الله لهما في الآخرة أعظم.
المتن:
باب الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ
466 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَ النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ هُوَ الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِْسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لاَ يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بَابُ أَبِي بَكْرٍ.
الشرح:
قوله: «بَاب الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ» ؛ الخوخة هي الباب الصغير، وأصل الخوخة الكوة أو الفتحة في الحائط، وكان الصحابة المجاورون للمسجد لهم خوخات على المسجد فكان لكل واحد منهم باب صغير على المسجد يخرج منه للصلاة، وباب من الجهة الأخرى للبيت، فقال النبي ﷺ في آخر حياته: لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ خَوْخَةٌ إِلاَّ سُدَّت إِلَّا خَوْخَةُ أَبِي بَكْرٍ [(1156)]، وهذا فيه: فضل أبي بكر .
وفيه: دليل وإشارة على أنه الخليفة بعده؛ فالإمام هو الذي يجوز له أن يفتح بابًا يخرج منه إلى المسجد، أما باقي الأبواب الأخرى فتسد لئلا يمتهن المسجد، أما الإمام فلا بأس أن يُجعل له باب، إذا كان بيته مجاورًا؛ كما كان النبي ﷺ له باب، والإشارة الأخرى الدالة على أنه الخليفة، استخلاف النبي ﷺ له في مرض موته أن يصلي بالناس، فالصحابة فهموا من هذا أنه هو الخليفة بعده؛ ولهذا قالوا: رضيه رسول الله ﷺ لديننا أفلا نرضاه لدنيانا، يعني رضيه لديننا فجعله إمامًا لنا في الصلاة، أفلا نرضاه لدنيانا؛ فيكون خليفة للمسلمين.
466 في حديث أبي سعيد : أن النبي ﷺ بَشرٌ تصيبه الأمراض والأسقام، وليس إلهًا يعبد، وليس مخلوقًا من نور كما يدعي الغلاة، إنما هو نبي كريم يطاع ويتبع ولا يعبد؛ ولهذا مرض وأغمي عليه مرات في مرضه، وقال: ائتوني بسَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ [(1157)]، فصب عليه في طست.
وجرح يوم أحد ﷺ، وسقط في حفرة، وكسرت رباعيته، وجرحت وجنتاه، فهو ﷺ يصيبه ما يصيب الناس، ويأكل ويشرب ويبول ويمرض ويسقم إلا أن الله اختصه بالرسالة والنبوة، وأكرمه وشرفه وفضله ﷺ، فهو نبي كريم يطاع ويُتَّبع، ولكن لا يُعْبد.
قوله: وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ؛ وذلك لأن الرسول ﷺ خليل الله، وقد امتلأ قلبه بخُلَّة الله فلا يتسع لأحد، ولو كان فيه متسع لكان لأبي بكر.
أما المحبة فأوسع من الخُلَّة، فالقلب يتسع لأكثر من حبيب، ولكن لا يتسع إلا لخليل واحد؛ ولذلك كان النبي ﷺ يحب أسامة بن زيد وأباه، ويحب عائشة، ويحب أبا بكر وغيرهم.
والخُلَّة والمحبة صفتان من صفات الله تليقان به ولا تكيَّفان، وهو سبحانه لا يماثله أحد من خلقه، لا في صفاته ولا في أفعاله ولا في ذاته، ولا في أسمائه.
أما الخلة بالنسبة للنبي ﷺ فهي كمال المحبة، يعني كملت محبته لربه فصار خليلاً لله فلا يتسع قلبه لغيره، ولو كان فيه سعة لكانت لأبي بكر .
وفيه: أن النبي ﷺ هو خليل الله، كما أن إبراهيم خليل الله، والخلة هي كمال المحبة ونهايتها، والخليل هو الذي تخللت قلبَه المحبة، ووصلت إلى شغاف قلبه وسويدائه فامتلأ بها؛ فلا يكون فيه متسع لغير خليله، بخلاف المحبة، فإن القلب يتسع لأكثر من محبوب.
قوله: «فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ » فيه: فضل أبي بكر حيث فهم ما لم يفهمه غيره، فلما خطب النبي ﷺ وقال: إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ؛ بكى أبو بكر ؛ لأنه فهم أن هذا العبد المخير هو النبي ﷺ، وأما أبو سعيد فقال: «مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ إِنْ يَكُنْ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ» فلم يفهم ما فهمه أبو بكر، قال: «وكان أبو بكر أعلمنا» ، ولهذا فهم ما لم يفهمه غيره فبكى، فقال ﷺ: يَا أَبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ، إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ يعني: في بيان إحسانه ونفعه للإسلام والمسلمين ، وليس المراد أنه يمن ويعدد أفضاله على النبي ﷺ، بل المراد: أن إحسانه ونفعه للإسلام والمسلمين كثير، فهو أكثر الناس جودًا بنفسه وماله .
المتن:
الشرح:
467 قوله: سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ يعني سدوا عني كل خوخة أشاهدها.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «قال الخطابي: والخوخة بويب صغير، قال: وفي أمره ﷺ بسد الأبواب الشارعة في المسجد غير بابه اختصاص شديد له، وأنه أفرده بأمر لا يشاركه فيه أحد، وأول ما يصرف التأويل فيه الخلافة».
والصحابة أيضًا فهموا ذلك من قول النبي ﷺ.
المتن:
باب الأَْبْوَابِ وَالْغَلَقِ لِلْكَعْبَةِ وَالْمَسَاجِدِ
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ لَوْ رَأَيْتَ مَسَاجِدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبْوَابَهَا.
468 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ وَقُتَيْبَةُ قَالاَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدِمَ مَكَّةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ فَفَتَحَ الْبَابَ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ ﷺ وَبِلاَلٌ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ثُمَّ أَغْلَقَ الْبَابَ، فَلَبِثَ فِيهِ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجُوا، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَبَدَرْتُ فَسَأَلْتُ بِلاَلاً، فَقَالَ: صَلَّى فِيهِ، فَقُلْتُ: فِي أَيٍّ؟ قَالَ: بَيْنَ الأُْسْطُوَانَتَيْنِ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَذَهَبَ عَلَيَّ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى.
الشرح:
هذا الباب استنبطه المؤلف رحمه الله من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي ﷺ وبلالاً وأسامة وعثمان بن طلحة دخلوا الكعبة وأغلقوا عليهم الباب، ففيه جواز جعل الأبواب والغلق ـ يعني الشيء الذي يَغْلِق الباب ـ للكعبة وللمساجد لصيانتها وحفظها، ويفتح في أوقات الصلوات وعند الحاجة، أي أن المؤلف رحمه الله استنبط هذا الحكم من إقرار النبي ﷺ الباب للكعبة؛ لأن النبي ﷺ لم ينكر كون الكعبة لها باب.
فهذه الترجمة حكم فقهي مستنبط من الحديث، ومن هنا قيل: فقه البخاري في تراجمه، ففيها فقهه واستنباطاته، وأحيانًا تكون الاستنباطات دقيقة ليست واضحة وأحيانًا تكون واضحة.
قوله: «وَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: يَا عَبْدَ الْمَلِكِ لَوْ رَأَيْتَ مَسَاجِدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبْوَابَهَا» عبدالملك هو ابن جريج، والمعنى أن ابن عباس جعل أبوابًا للمساجد أخذًا من الحديث، فلو رأيتها لرأيت عجبًا وحسنًا؛ لإتقانها ونظافتها، وكلام ابن أبي مليكة يوحي بأن هذه المساجد لم تكن موجودة في وقتهم، وإلا لقال: انظر إليها، لكنه قال: «لَوْ رَأَيْتَ» فيوحي قوله بأنها قد اندرست ولم تعد موجودة.
468 في الحديث: أن النبي ﷺ دخل الكعبة وصلى فيها ومعه بلال وأسامة وعثمان بن طلحة الحجبي؛ لأنه سادن الكعبة، فدخل النبي ﷺ وجعل الباب خلفه وصلى بين الأسطوانتين، وابن عمر رضي الله عنهما بالخارج لم يقدر على الدخول فانتظرهم عند الباب، ولما خرجوا سأل بلالاً، فقال بلال : «صَلَّى فِيهِ» ، يعني: في البيت، فقال ابن عمر رضي الله عنهما: «فِي أَيٍّ؟» فقال بلال: «بَيْنَ الأُْسْطُوَانَتَيْنِ» ، قال ابن عمر رضي الله عنهما: «فَذَهَبَ عَلَيَّ» يعني: فات علي، «أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى» ، أي: أصلى ركعتين أو أربع ركعات، وهذا من حرصه .
وقد أخذ العلماء من هذا الحديث أنه يستحب للإنسان إذا تيسر له دخول الكعبة أن يصلي فيها، فإن لم يتيسر له صلى في الحِجْرِ؛ لأن الحِجْرَ من الكعبة؛ لقول النبي ﷺ: صل في الحجر؛ فإن الحجر من الكعبة [(1158)]، والحجر إلى حد المنحنى أي ما يقارب ستة أذرع ونصف.
والشاهد من الحديث: مشروعية اتخاذ الأبواب والغلق للمساجد لصيانتها وحمايتها؛ فلا يعبث بها صبي ولا مجنون، ولا تنتهك حرمتها ولا يسرق ما بها؛ ولهذا قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «ويكره إدخال المجانين والصبيان الذين لا يميزون المساجد ولا يحرم ذلك؛ فإن النبي ﷺ صلى وهو حامل أمامة[(1159)]، وفعله لبيان الجواز، وقال أصحاب مالك: إذا كان الصبي يعبث فلا يؤتى به المسجد وإن كان لا يعبث ويكف إن نهي فجائز».
المتن:
باب دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ
469 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ.
الشرح:
469 هذا الحديث سبق الإشارة إليه، وسيأتي مطولاً.
وثمامة بن أثال كان سيدًا من سادات بني حنيفة، وكان قد خرج معتمرًا فأخذته خيل النبي ﷺ وهو على شركه ـ وكان المشركون يعتمرون ويحجون وهم على شركهم ـ فأتوا به إلى مسجد النبي ﷺ فربطوه في سارية من سواري المسجد ثلاثة أيام، وكان النبي ﷺ يأتي إليه في كل يوم ويسأله: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ فيقول: إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فاسأل ما بدا لك، ثم في اليوم الثالث توسم فيه النبي ﷺ الخير فقال: أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ فذهب إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم جاء وأسلم، ثم قال: يا رسول الله إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، وقد كنت أبغض الناس إلي، وأنت الآن أحب الناس إلي، ووالله لا يأتي لأهل مكة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي ﷺ[(1160)].
وهذا الحديث: استدل به المؤلف رحمه الله على جواز دخول المشرك المسجد إذا دعت الحاجة إلى ذلك، إلا المسجد الحرام فلا يجوز دخوله، ومكة كلها لا يجوز أن يدخلها مشرك مطلقًا؛ لقول الله تعالى:إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التّوبَة: 28]، ومكة كلها تسمى مسجدًا، وقد قال تعالى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفَتْح: 25]، أي صدوكم عن مكة، فسمى الله مكة كلها مسجدًا.
فمكة لا يدخلها مشرك، ولا بأس بدخوله غير مكة، وهذا من الأمور التي فارقت فيها المدينةُ مكة، فالمدينة يجوز أن يدخلها المشرك؛ ولهذا ربط النبي ﷺ ثمامة وهو على شركه بالمسجد؛ ليرى المسلمين وصلاتهم، وليسمع المواعظ؛ لعله يستفيد ويتأثر، وهذا ما حصل لثمامة. أما مكة فلا يجوز أن يدخلها الكافر مطلقًا؛ للآية الكريمة.
قال العلماء: ولو أراد ولي الأمر في مكة أن يقابل كافرًا خرج إليه هو أو رسوله خارج حدود الحرم وقابله، أما المدينة فلا بأس أن يدخلها، وإن كان من المعلوم أن الكافر لا يمكث في جزيرة العرب، ولكن يدخلها دخولاً مؤقتًا، أما أن يقر فيها فلا؛ لقول النبي ﷺ: لا يبقى في جزيرة العرب دينان [(1161)]، وقوله: أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب [(1162)]، وهذا خاص بجزيرة العرب، وعليه فلا يجوز لمن كان في جزيرة العرب أن يستخدم عاملاً كافرًا، بل لابد له أن يستخدم مسلمًا، وأيضا يجب عليه أن يتخير المسلم الطيب؛ لأنه هناك من ينتسب إلى الإسلام انتسابًا صوريًّا، وإذا كانت امرأة فلابد أن يكون معها محرمها، ويحذر أيضًا أن تختلط المرأة بالرجال.
المتن:
باب رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسَاجِدِ
470 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْجُعَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا فِي الْمَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجُلٌ فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ فَأْتِنِي بِهَذَيْنِ فَجِئْتُهُ بِهِمَا، قَالَ: مَنْ أَنْتُمَا أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالاَ: مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
الشرح:
470 في الحديث: النهي عن رفع الصوت في المسجد فيما لا فائدة فيه؛ ولهذا لما جاء هذان الرجلان ورفعا صوتهما هدَّدهما عمر فقال: «لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ لَأَوْجَعْتُكُمَا ـ يعني لأوجعتكما ضربًا ـ تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ».
أما رفع الصوت فيما فيه فائدة فلا بأس به؛ كرفع الصوت في الموعظة أو التدريس أو قراءة القرآن أو خطبة الجمعة فلا بأس به.
المتن:
الشرح:
471 في الحديث: إصلاح النبي ﷺ بين كعب بن مالك وابن أبي حدرد، وقد كان كعب يطالب ابن أبي حدرد بدين فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما النبي ﷺ، فخرج حتى كشف ستر حجرته فنادى: يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَشَارَ بِيَدِهِ: أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ، يعني: أسقط نصف الدين، فقال: «قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ» ، فقال لابن أبي حدرد: قُمْ فَاقْضِهِ، فكأن النبي ﷺ فهم أنه يستطيع قضاء نصف الدين فقط؛ ولهذا أشار على كعب بهذا.
وفيه: دليل على جواز العمل بالإشارة، فقد أشار النبي ﷺ بيده أَنْ ضَعْ الشَّطْرَ، فقال كعب: «قَدْ فَعَلْتُ» .
وقوله: «قَدْ فَعَلْتُ» من المبالغة في الاستجابة.
وقوله لابن أبي حدرد: قُمْ فَاقْضِهِ، فيه: دليل على أن صاحب الدين إذا أسقط عن مدينه شيئًا من الدين فليس له أن يماطله فيما تبقى.
وهنا إشكال وهو أنه جاء في هذا الحديث أن كعبًا وابن أبي حدرد ارتفعت أصواتهما في المسجد فلم ينكر عليهما النبي ﷺ، وجاء في الحديث الأول أن عمر هدد الرجلين من أهل الطائف حينما رفعا أصواتهما، ووجه الجمع بينهما كما ذكر الحافظ رحمه الله أن حديث عمر محمول على ما إذا لم يكن هناك فائدة، وحديث كعب محمول على ما فيه فائدة وما تلجئ الضرورة إليه، فكعب مضطر إلى أن يطالب بحقه، وقد لا يجد غريمه في غير المسجد، فاضطر إلى رفع الصوت؛ ولهذا لم ينكر عليه النبي ﷺ، فيجوز رفع الصوت في المسجد فيما تلجئ الضرورة إليه، أو ما فيه مصلحة دينية كالتعليم أو خطبة الجمعة أو تلاوة القرآن.