المتن:
باب الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ
472 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مَا تَرَى فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صَلَّى وَاحِدَةً؛ فَأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى، وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وِتْرًا، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِهِ.
الشرح:
قوله: «بَاب الْحِلَقِ» بفتح الحاء، ويجوز كسرها، واللام مفتوحة على كل حال.
472 في الحديث: أن صلاة الليل مثنى مثنى، يعني ركعتين ركعتين، وهذا الخبر عند أهل العلم معناه الأمر، أي: صلوا صلاة الليل مثنى مثنى، فيكون السلام من كل ثنتين، وإذا كان خبرًا بمعنى الأمر فيدل على أنه لا يجوز للإنسان أن يصلي في الليل أربع ركعات بسلام واحد، أو ست ركعات بسلام واحد؛ لقول النبي ﷺ في صلاة الليل: مَثْنَى مَثْنَى، وجاء في رواية النسائي: صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى [(1163)] وصلاة النهار ـ كما ذكرنا ـ فيها خلاف بين أهل العلم؛ فبعض العلماء قال: كلمة والنهار ثابتة، وعلى هذا فلا يجوز أن يصلي أربع ركعات بسلام واحد في النهار، لكن كلمة والنهار طعن فيها بعض الحفاظ؛ كما قال النسائي عندما رواها: إنها خطأ؛ لأن الأكثر خالفوا راوي هذه اللفظة؛ ولهذا أجاز الجمهور من أهل العلم أن يصلي أكثر من ركعتين في النهار، أي فله أن يصلي في النهار أربع ركعات بسلام واحد، أو ستًّا بسلام واحد، أما في الليل فلا يجوز؛ لهذا الحديث، وإذا قام للثالثة فإنه يجلس ويسجد سجدتي السهو، فلا يتنفل بأكثر من ركعتين بسلام واحد.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «وزيادة راويهما ـ يعني الصحيح والحسن ـ مقبولة ما لم تقع منافية لمن هو أوثق».
وإذا خالف الثقة من هو أوثق منه سمي هذا شذوذًا، أما زيادة الثقة فتنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن تكون منافية لما هو أوثق منها فلا تقبل؛ لشذوذها.
القسم الثاني: أن تكون غير منافية فتقبل.
ومن العلماء من يرى زيادة والنهار منافية، ومنهم من لم يرها منافية.
ويستثنى من ذلك الوتر، فإنه إذا نوى أن يوتر جاز له أن يوتر بثلاث بسلام واحد، أي لا يجلس إلا في آخرها، بل يسردها ثلاثًا ولا يشبهها بالمغرب، أو يسرد خمسًا ينوي بها الوتر، أو يوتر بسبع يسردها أو تسع أو إحدى عشرة، لكن إذا أوتر بتسع فإنه يجلس قبل الركعة الأخيرة ويتشهد، ثم يقوم ويأتي بالركعة الأخيرة ويتشهد، وإذا أوتر بسبع فإنه مخير بين أن يسردها وبين أن يجلس في السادسة ويتشهد ويقوم ثم يأتي بالسابعة، أما إحدى عشرة، فإنه يسلم في كل ركعتين ولا يسردها بسلام واحد؛ لعدم الدليل، لكن قال بعض فقهاء الحنابلة[(1164)]: إن له أن يسرد إحدى عشرة ركعة بسلام واحد.
والشاهد من الحديث: قوله: «سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ» ، فجلوسه ﷺ للناس على المنبر يشبه التحلق؛ ولهذا قال في الترجمة: «بَاب الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ» .
المتن:
473 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَجُلاً جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: كَيْفَ صَلاَةُ اللَّيْلِ؟ فَقَالَ: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ تُوتِرُ لَكَ مَا قَدْ صَلَّيْتَ.
قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَجُلاً نَادَى النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ.
الشرح:
473 في الحديث: الرد على من قال: إن صلاة الليل محددة بإحدى عشرة ركعة، وأنه لا يجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، والنبي ﷺ قال في هذا الحديث عن صلاة الليل: مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ، يعني: فله أن يصلي ثنتين ثنتين، ولو صلى ألف ركعة، فإذا خشي الصبح أوتر بواحدة.
والشيخ محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله يرى أنه لا يجوز الزيادة على إحدى عشرة ركعة، وله رسالة في هذا، وهذا الحديث فيه رد عليه؛ لقوله ﷺ: مَثْنَى مَثْنَى فلم يحدد، بل قال: فَإِذَا خَشِيتَ الصُّبْحَ فَأَوْتِرْ بِوَاحِدَةٍ؛ أي: صل ما شاء الله من أول الليل إلى آخره، ثنتين ثنتين، فإذا خشيت طلوع الصبح فصل ركعة تُوتِرُ لَكَ مَا قَدْ صَلَّيْتَ، ولم يقل ﷺ: إن صلاة الليل إحدى عشرة لا يجوز الزيادة عليها.
والأفضل إذا كان الإنسان يطيل الركوع والسجود والقراءة أن يصلي إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة، كما كان النبي ﷺ يفعل، فإذا كان يخفف فالأفضل أن يكثر من الركعات، فالنبي ﷺ كان يصلي إحدى عشرة ركعة، لكنه ﷺ، كان يقرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة واحدة[(1165)]، وكان ركوعه قريبًا من قيامه، وسجوده قريبًا من قيامه.
المتن:
الشرح:
474حديث أبي واقد الليثي قد سبق في كتاب العلم، والمؤلف رحمه الله ذكره هنا لما فيه من التحلق في المسجد.
والشاهد من الحديث: أن الصحابة جلسوا حول النبي ﷺ في حلقة، ففيه دليل على جواز التحلق في المسجد، وأنه مشروع للعلم والتعلم؛ ولهذا جلس النبي ﷺ لأصحابه في المسجد في حلقة، فأقبل ثلاثة نفر، أما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الثاني فجلس خلف الحلقة، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا، فقال النبي ﷺ: أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآْخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآْخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ.
وفي الحديث: إثبات الحياء لله ؛ لقوله ﷺ: فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ؛ وأنه من صفاته التي تليق بجلاله وعظمته، لا يشابهه المخلوقون في شيء من صفاته.
وفيه: بيان فضل الدنو من العالم في الحلقة حتى يحسن الاستماع، بخلاف الذي يكون في الخلف فإنه يكون بعيدًا، وبخلاف الذي ينصرف ويعرض عن العلم.
وفيه: أن التحلق في المسجد مشروع، إلا في خطبة الجمعة؛ فقد جاء في الحديث أن النبي ﷺ نهى عن التحلق يوم الجمعة[(1166)]، قال العلماء: والحكمة في ذلك أنه قد يشغل عن الجمعة وعن التقدم لها، أما بعد الصلاة فلا بأس.
المتن:
الاِسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ وَمَدِّ الرِّجْلِ
475 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ، أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُْخْرَى.
وَعَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ يَفْعَلاَنِ ذَلِكَ.
الشرح:
475 في حديث الباب أن النبي ﷺ كان «مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ وَاضِعًا إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُْخْرَى» ، وجاء في الحديث الآخر النهي عن الاستلقاء ووضع إحدى الرجلين على الأخرى[(1167)].
ويجمع بينهما بأن النهي محمول على ما إذا كان يخشى انكشاف العورة، فإن لم يكن على الإنسان سروال فلا ينبغي له أن يستلقي ويضع إحدى رجليه على الأخرى؛ حتى لا تنكشف العورة، أما إذا كانت العورة محفوظة بالسراويل فلا بأس؛ ولهذا قال البخاري رحمه الله في الترجمة: «باب الاستلقاء في المسجد ومد الرجل»، يعني: إذا كانت العورة محفوظة.
والنبي ﷺ لم يكن يُرى مستلقيًا في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى إلا إذا كان وحده في المسجد وليس عنده أحد، وليس الوقت وقت تعليم ولا تعلم، أما إذا كان بين أصحابه فإنه يجلس عليه الصلاة والسلام جلسة الوقار.
قوله: «كَانَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ يَفْعَلاَنِ ذَلِكَ» فيه: دليل على أنه غير منسوخ؛ فيستفاد من الحديث جواز الاستلقاء ووضع إحدى الرجلين على الأخرى إذا كانت العورة محفوظة بالسراويل.
وقال بعض العلماء: النهي عن الاستلقاء ووضع إحدى الرجلين على الأخرى منسوخ، وقال آخرون: إنه محمول على ما إذا خشي انكشاف شيء من العورة، والجواز حيث يؤمن ذلك، وهذا أولى من النسخ؛ لأن فيه عملاً بالحديثين؛ ولأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، ولا يكون إلا عند تعذر الجمع.
ومعلوم أن الحديث إذا عارضه غيره سمي مختلفًا، وعليه فينظر المجتهد في الحديثين، فإن أمكن الجمع بينهما جمع؛ لأن فيه عملاً بالحديثين، فإن لم يمكن وعرف التاريخ فإن المتأخر ينسخ المتقدم، فإن لم يمكن ولم يعرف التاريخ، فإنه يرجح أحدهما على الآخر بأحد المرجحات، فما كان في «الصحيحين» مثلاً مرجح على غيره، فإن لم يمكن الترجيح فالتوقف، وهنا يمكن الجمع، فالنهي عن الاستلقاء ومد الرجل محمول على ما إذا كان يخشى انكشاف العورة، والجواز محمول على ما إذا كان ذلك مأمونًا.
المتن:
باب الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَيُّوبُ وَمَالِكٌ.
476 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ بَدَا لأَِبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ؛ فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ.
الشرح:
476 في حديث الباب: دليل على أنه لا بأس ببناء المسجد في طرق الأسفار وغيرها، إذا لم يكن هناك ضرر على الناس، فإذا كان فيه ضرر يمنع، وهذا هو قول الجمهور، وهو الصواب.
قوله: «لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ» يعني: أنها كانت صغيرة رضي الله عنها، وهذا فيه: دليل على أن أم رومان ـ أم عائشة رضي الله عنها ـ أسلمت قديمًا؛ لأن عائشة من يوم أن عقلت وهي ترى أبويها مسلمين، بخلاف غيرها من الصحابة فإنه قد يعقل ويرى أبويه ليسا على الدين.
قوله: «وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلاَّ يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً» كان هذا في مكة قبل الهجرة لما كان المسلمون قلة، وكان المشركون يؤذونهم.
قوله: «فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ» ، يعني: في الرحبة القريبة من داره، وكان يصلي فيه ويقرأ القرآن ويرفع صوته ويبكي «فَيَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ» يشاهدونه ويِتسِمعون قراءته ويعجبون منه، «وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلاً بَكَّاءً لاَ يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ» فأفزع ذلك المشركين وخافوا على نسائهم وبنيهم من الفتنة وأن يسلموا؛ ولهذا منعوا أبا بكر من أن يصلي أمامهم، وقالوا: إنا خشينا على أبنائنا ونسائنا من الفتنة، يعني خافوا عليهم من الإسلام.
وهذا الحديث: استدل به المؤلف رحمه الله على أنه لا بأس بوضع المسجد في الطرقات وفي الفناء إذا لم يكن هناك ضرر؛ لأن أبا بكر بنى بفناء داره مسجدًا وصلى فيه، ولم ينكر عليه النبي ﷺ.
المتن:
باب الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ السُّوقِ
وَصَلَّى ابْنُ عَوْنٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارٍ يُغْلَقُ عَلَيْهِمْ الْبَابُ.
477 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَْعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: صَلاَةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلاَتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ، وَأَتَى الْمَسْجِدَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً؛ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً؛ حَتَّى يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَتْ تَحْبِسُهُ، وَتُصَلِّي يَعْنِي عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ.
477 قوله: مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ ظاهر هذه الرواية أنه فسر الإيذاء بالحدث، بخلاف ما جاء في الرواية الأخرى عند البخاري أيضًا: ما لم يؤذ أو يحدث [(1169)]، فظاهرها أنه في صلاة ودعاء من الملائكة ما لم يفعل أحد الأمرين: الإيذاء أو الحدث.
والحديث فيه من الفوائد: أن المسلم في صلاة ودعاء من الملائكة ـ ما دام في مصلاه ـ ما لم يفعل أحد الأمرين: الإيذاء، أو الحدث، فإذا آذى أو أحدث وقفت الملائكة عن الدعاء، والحدث يُحتمل أن يراد به الحدث الناقض للوضوء، ويحتمل أن يُراد به ما هو أعم أي الحدث في الدين.
وفيه: دليل على جواز الصلاة في مسجد السوق؛ ولهذا قال النبي ﷺ: صَلاَةُ الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاَتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلاَتِهِ فِي سُوقِهِ.
وقوله: فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ، وَأَتَى الْمَسْجِدَ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصَّلاَةَ لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً؛ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ خَطِيئَةً، فيه: فضل المشي إلى المساجد، وأن الماشي إلى المسجد إحدى خطوتيه يرفعه الله له بها درجة، والأخرى يحط بها عنه خطيئة.
والحديث ظاهر في أن العبد في صلاة قبل الصلاة وبعدها ما دام في مجلسه ما لم يؤذ أو يحدث، يعني في حكم المصلي.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب الصَّلاَةِ فِي مَسْجِدِ السُّوقِ» ؛ ولغير أبي ذر «مساجد» ؛ موقع الترجمة الإشارة إلى أن الحديث الوارد في أن الأسواق شر البقاع وأن المساجد خير البقاع ـ كما أخرجه البزار وغيره ـ لا يصح إسناده».
وهذا وهم من الشارح رحمه الله مع حفظه العظيم؛ فالحديث ليس عند البزار، ولكنه في صحيح مسلم، وهو بلفظ: أحب البقاع إلى الله المساجد، وشر البلاد الأسواق[(1168)].
ثم قال رحمه الله: «ولو صح لم يمنع وضع المسجد في السوق؛ لأن بقعة المسجد حينئذ تكون بقعة خير».
ويستحب أن يكون في طرف السوق؛ ليصلي فيه المارة وغيرهم، إذا لم يكن فيه ضرر على أحد.
ثم قال رحمه الله: «وقيل: المراد بالمساجد في الترجمة مواضع إيقاع الصلاة لا الأبنية الموضوعة لذلك فكأنه قال: باب الصلاة في مواضع الأسواق، ولا يخفى بُعده».
والحديث ليس دليلاً على عدم وجوب الجماعة، فبعض الناس استدل بهذا الحديث على أن الجماعة غير واجبة؛ لأن النبي ﷺ أخبر أن صلاة الإنسان في جماعة تزيد على صلاته في بيته وفي سوقه بخمس وعشرين درجة أو بسبع وعشرين درجة؛ لأنه ذكر تضعيف الثواب.
والجواب: أن هذا لا يدل على عدم وجوب الجماعة؛ لأن تضعيف الثواب لا ينافي الوجوب، بل الحديث دليل على صحة صلاة المنفرد من غير عذر، وإن كان ارتكب إثمًا، خلافًا لشيخ الإسلام ابن تيمية[(1170)] الذي يرى أن صلاة الجماعة شرط، بمعنى أنه لو صلى بغير عذر لم تصح، والصواب أنها تصح مع الإثم.
والجماعة واجبة وأدلتها كثيرة، كحديث: من سمع النداء ثم لم يجب فلا صلاة له إلا من عذر [(1171)]، وحديث الأعمى[(1172)]، وحديث همه ﷺ بتحريق المتخلفين عن الصلاة في بيوتهم[(1173)]، وغير ذلك.
المتن:
باب تَشْبِيكِ الأَْصَابِعِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
478، 479 حَدَّثَنَا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ بِشْرٍ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ حَدَّثَنَا وَاقِدٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَوْ ابْنِ عَمْرٍو شَبَكَ النَّبِيُّ ﷺ أَصَابِعَهُ.
480 وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عَلِيٍّ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ أَبِي فَلَمْ أَحْفَظْهُ فَقَوَّمَهُ لِي وَاقِدٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي وَهُوَ يَقُولُ: قَالَ عَبْدُاللَّهِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ بِهَذَا.
481 حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنْ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ.
482 حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إِحْدَى صَلاَتَيْ الْعَشِيِّ، قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا، قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَْيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتْ السَّرَعَانُ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ، فَقَالُوا: قَصُرَتْ الصَّلاَةُ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَهَابَا أَنْ يُكَلِّمَاهُ، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ، يُقَالُ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَسِيتَ أَمْ قَصُرَتْ الصَّلاَةُ؟ قَالَ: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ، فَقَالَ: أَكَمَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ، أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ ثُمَّ كَبَّرَ وَسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أَوْ أَطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وَكَبَّرَ، فَرُبَّمَا سَأَلُوهُ ثُمَّ سَلَّمَ فَيَقُولُ: نُبِّئْتُ أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ قَالَ: ثُمَّ سَلَّمَ.
الشرح:
478، 479، 480، 481 قوله: وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ هذا هو الشاهد من الحديث للترجمة.
وقد جاء في حديث قبل هذا الحديث في غير رواية أبي ذر عن حامد بن عمر عن بشر حدثنا عاصم حدثنا واقد عن أبيه عن ابن عمر أو ابن عمرو رضي الله عنهما: شبك النبي ﷺ أصابعه، وقال عاصم بن علي: حدثنا عاصم بن محمد: سمعت هذا الحديث من أبي فلم أحفظه، فقومه لي واقد عن أبيه قال: سمعت أبي وهو يقول: قال عبد الله: قال رسول الله ﷺ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو كَيْفَ بِكَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ بِهَذَا.
وقوله: بِهَذَا، أي: شبك بين أصابعه.
وساقه الحميدي في «الجمع بين الصحيحين»، وزاد فيه: قد مرجت عهودهم وأماناتهم واختلفوا، فصاروا هكذا، وشبك بين أصابعه[(1174)].
482 قوله في حديث أبي هريرة : وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، هو الشاهد من الحديث، فالنبي ﷺ سلم من الركعتين ثم ذهب إلى خشبة معروضة وشبك بين أصابعه لاعتقاده أن الصلاة انتهت.
مسألة: الأحاديث التي ذكرها المصنف رحمه الله في هذا الباب دالة على جواز التشبيك بين الأصابع في المسجد وغيره، وقد وردت أحاديث أخرى في النهي عن التشبيك بين الأصابع في المسجد، فما الجمع بينهما؟
الجواب: الجمع بينهما: أن الأحاديث التي وردت في النهي عن التشبيك بين الأصابع مقيدة بما إذا كان في الصلاة، أو قاصدًا لها؛ لأن منتظر الصلاة في حكم المصلي، وأحاديث الباب دالة على الجواز في غير حال الصلاة؛ فإذا سلم جاز له التشبيك بين أصابعه في المسجد وغيره.
وفي حديث أبي هريرة : دليل على أنه إذا سلم عن نقص فإنه يتم ما بقي عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين ثم يسلم، فيكون السجود بعد السلام، وكذلك إذا بنى على غالب ظنه بأن شك كم صلى ثلاثة أو أربعة؟ لكن يغلب على ظنه أنها أربعة، فيجعلها أربعة ويتم صلاته ثم يسلم ثم يسجد سجدتين ثم يسلم. وما عدا ذلك فالسجود يكون فيه قبل السلام، فإذا زاد في صلاته أو ترك التشهد الأول، أو بنى على اليقين عند الشك، فإنه يسجد قبل السلام.
فالسجود يكون بعد السلام في حالتين:
الحالة الأولى: إذا سلم عن نقص، كما في هذا الحديث.
الحالة الثانية: إذا كان عنده شك ومعه غلبة ظن، فإنه يبني على غلبة الظن ويتم صلاته ثم يسلم ثم يسجد سجدتين ثم يسلم؛ على ما جاء في حديث ابن مسعود .
وما عدا ذلك فالسجود كله قبل السلام، أي في الزيادة، وفي ترك التشهد الأول، وفي الشك إذا لم يكن هناك غلبة ظن.
المتن:
باب الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ
483 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ: رَأَيْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنْ الطَّرِيقِ فَيُصَلِّي فِيهَا وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ ﷺ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَْمْكِنَةِ.
وَحَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَْمْكِنَةِ وَسَأَلْتُ سَالِمًا فَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ وَافَقَ نَافِعًا فِي الأَْمْكِنَةِ كُلِّهَا إِلاَّ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مَسْجِدٍ بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ.
الشرح:
هذه الترجمة معقودة لبيان مشروعية الصلاة في المساجد التي في طرق المدينة والمواضع التي صلى فيها النبي ﷺ، يعني: الأماكن التي كان ينزل فيها ﷺ في أسفاره ـ في طريقه للحج أو العمرة أو الغزو والجهاد ـ فيصلي فيها، إما في الليل أو في الضحى، إما فريضة أو نافلة، فهل يستحب للإنسان أن يصلي في تلك الأماكن أو لا يستحب؟ وهل هذا مما يقتدى فيه بالنبي ﷺ، ومما يتعبد به؟ أي هل هذه المواضع التي نزل فيها النبي ﷺ لها خصوصية؛ فيشرع للمرء أن يقصدها ويصلي فيها، أو أنها اتفقت له اتفاقًا ﷺ؟ وكذلك الأماكن التي نام فيها ﷺ هل يشرع للإنسان أن ينام فيها؟ والأماكن التي بال فيها هل يشرع للإنسان أن يبول فيها؟
ولهذا عقد المؤلف رحمه الله هذه الترجمة لهذا الباب وترك الحكم، فقال: «بَاب الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ، وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيُّ ﷺ» ، يعني: ما هو الحكم، هل يُصلى فيها؟ وهل يقصد المبيت فيها؟ وما الحكم إذا تتبع الإنسان آثار النبي ﷺ وقصد أن يصلي في الأماكن التي صلى فيها، هل يكون هذا مشروعًا أو ليس بمشروع؟
ترك المؤلف رحمه الله الحكم لطالب العلم يتأمل وينظر.
وقد ذكر المؤلف رحمه الله آثارًا كثيرة في هذا الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأنه كان يتحرى الأماكن التي كان يصلي فيها النبي ﷺ فيصلي فيها، ويتحرى الأماكن التي كان يبيت فيها النبي ﷺ فيبيت فيها، فإذا صلى النبي ﷺ في مكان قصده ابن عمر رضي الله عنهما وصلى فيه، وإذا بات في مكان عند شجرة قصده ابن عمر وبات عندها وهكذا.
483 قوله: «وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا» . فسالم بن عبدالله اقتدى بأبيه في هذا، وأبوه هو عبدالله بن عمر، وكان يتحرى بعض الأماكن ويصلي فيها؛ لأنه رأى النبي ﷺ يصلي في تلك الأمكنة، فكان ابنه سالم يتحرى هذه الأماكن، ويقول: إن أباه كان يتحراها.
قوله: «وَسَأَلْتُ سَالِمًا فَلاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ وَافَقَ نَافِعًا فِي الأَْمْكِنَةِ كُلِّهَا إِلاَّ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مَسْجِدٍ بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ» ، أي: أن نافعًا مولى ابن عمر كذلك نقل عنه أن كان يصلي في تلك الأماكن، وسالم وافق نافعًا في هذا إلا أنهما اختلفا في مسجد بشرف الروحاء، وهي قرية جامعة على بعد ليلتين من المدينة.
المتن:
الشرح:
484 قوله: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَنْزِلُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ...» ، فيه: أن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان أيضًا ينزل بذي الحليفة حين يعتمر، وفي حجته حين يحج؛ متحريًا المكان الذي كان ينزل فيه النبي ﷺ.
قوله: «تَحْتَ سَمُرَةٍ» ؛ السمرة هي شجرة ذات شوك، وهذه السمرة كانت موجودة في ذلك المكان، فكان ابن عمر يتحرى هذه الشجرة ويصلي عندها؛ لأن النبي ﷺ صلى عندها.
قوله: «فَعَرَّسَ ثَمَّ» ؛ التعريس هو نزول المسافر في آخر الليل للاستراحة، فكان ابن عمر رضي الله عنهما ينزل آخر الليل في هذا المكان؛ لأن النبي ﷺ نزل فيه آخر الليل.
قوله: «وَلاَ عَلَى الأَْكَمَةِ الَّتِي عَلَيْهَا الْمَسْجِدُ» ؛ الأكمة: الموضع المرتفع على ما حوله.
قوله: «كَانَ ثَمَّ خَلِيجٌ يُصَلِّي عَبْدُ اللَّهِ عِنْدَهُ» ؛ الخليج: واد عميق، فكان عبدالله يصلي عند هذا الخليج.
قوله: «فِي بَطْنِهِ كُثُبٌ» جمع كثيب وهو: رمل مجتمع.
قوله: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَمَّ يُصَلِّي» ، أي: كان يصلي هناك عند هذا الخليج، فـ «ثَمٌ» ظرف مكان بمعنى هناك.
قوله: «فَدَحَا السَّيْلُ فِيهِ بِالْبَطْحَاءِ» ، أي: دفع السيل بالبطحاء حتى دفن ذلك المكان الذي كان عبدالله يصلي فيه.
وكل هذه الآثار التي في الباب مروية عن ابن عمر، وفيها أنه كان يتتبع آثار النبي ﷺ والمواضع التي صلى فيها في الطريق فيصلي فيها، وهذا اجتهاد من ابن عمر وهذا من شدة اتباع ابن عمر .
والصواب في هذه المسألة: خلاف ما رآه ابن عمر رضي الله عنهما؛ فالصواب ما عليه أبوه عمر وكبار الصحابة من أنه لا يشرع الصلاة في المواضع التي صلى فيها النبي ﷺ، ولا في التي على طرق المدينة، ولا ينبغي تتبع آثار النبي ﷺ في ذلك؛ ولذلك نهى عمر عن تتبع آثار النبي ﷺ وأخبر أن أهل الكتاب هلكوا بذلك؛ ـ أي بتتبع آثار أنبيائهم ـ فقال: إنما هلك من كان قبلكم بتتبع آثار أنبيائهم فنهى عمر عن ذلك؛ سدًّا لذريعة الشرك، وعمر وكبار الصحابة أعلم بهذه المسألة من ابن عمر.
وروي عن مالك استحباب الصلاة في هذه المواضع، أي التي كان النبي ﷺ يصلي فيها[(1175)].
وابن عمر له تشددات في الاتباع معروفة عنه، وله اجتهادات أخطأ فيها؛ منها: الأخذ من لحيته، فكان إذا حج أو اعتمر أخذ من رأسه، وأخذ من لحيته ما زاد على القبضة، أي لم يكن يفعل هذا في كل وقت كما يفعله بعض الناس، وإنما في الحج والعمرة خاصة؛ لأنه يرى أن هذا من النسك، وأنه داخل في قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ [الحَجّ: 29]، وهذا اجتهاد مجانب للصواب، والعجب أنه هو راوي حديث: حفوا الشوارب وأعفوا اللحى؛ خالفوا المشركين، خالفوا المجوس [(1176)]، ومع ذلك خالفه، فاجتهد ، وظن أن هذا من التَّفَث.
وكذلك من أخطائه تتبع آثار النبي ﷺ في المواضع التي صلى فيها، وهذا لم يفعله كبار الصحابة، فلم يفعله الصديق ولا عمر، وهم أعلم منه بهذه المسألة، فهذا التتبع ليس بمشروع على الصحيح، وقد يكون ذريعة للشرك، ولما رأى عمر الناس يأتون إلى الشجرة التي بايع عندها النبي ﷺ في صلح الحديبية أمر بقطعها؛ خشية أن يفتتن بها الناس.
وكذلك أيضًا من تشدداته أنه كان يُدخل الماء في عينيه في الجنابة حتى فسدت عيناه.
وكذلك أيضًا من الأشياء التي أخطأ فيها قراءة فواتح البقرة وخواتيمها عند دفن الميت، يعني أول البقرة وآخرها، وهذا ليس بمشروع على الصحيح، فقراءة القرآن عند القبر ليست بمشروعة ـ وإن قال به بعض العلماء ـ والصواب: أنه لا يشرع عند دفن الميت إلا الدعاء، فيدعو له وينصرف، كما في حديث عثمان: اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ، وَسَلُوا لَهُ بِالتَّثْبِيتِ، فَإِنَّهُ الْآنَ يُسْأَلُ [(1177)].
ورغم أنه لم يصب في بعض اجتهاداته لكن له أجره على اجتهاده، ولا ينبغي لطالب العلم أن يقتدي به في هذا وقد خالفه كبار الصحابة، فقول الصحابي إنما يكون حجة إذا لم يخالفه غيره، أما إذا خالفه غيره ومن هو أعلم منه كالخلفاء الراشدين مثلاً فهذا يدل على أن رأيه مجانب للصواب.
أما إذا وجد قول للصحابي ولم يخالفه غيره فهذا حجة عند الإمام أحمد[(1178)]، أما إذا خالفه غيره من الصحابة وتعارض الرأيان تساقطا، فحينئذ يرجع إلى النصوص الأخرى وإلى قواعد الشريعة وأدلتها.
ثم إن المواضع التي ذكرها كلها لا تعرف الآن، ولا يُدرى شيء منها، فكلها انتهت، ولا يعرف منها إلا ذو الحليفة وهو الميقات.
المتن:
الشرح:
485 قوله: «بِشَرَفِ الرَّوْحَاءِ» هي: قرية.
قوله: «يَعْلَمُ الْمَكَانَ الَّذِي كَانَ صَلَّى فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ، يَقُولُ: ثَمَّ عَنْ يَمِينِكَ حِينَ تَقُومُ فِي الْمَسْجِدِ تُصَلِّي، وَذَلِكَ الْمَسْجِدُ عَلَى حَافَةِ الطَّرِيقِ الْيُمْنَى وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْجِدِ الأَْكْبَرِ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ» هذا وصف دقيق من ابن عمر للأماكن التي كان النبي ﷺ يصلي فيها.
المتن:
الشرح:
486 قوله: «يُصَلِّي إِلَى الْعِرْقِ» العرق واد.
قوله: «فَلَمْ يَكُنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ» ؛ لأنه بني بعد النبي ﷺ.
قوله: «حَتَّى يَأْتِيَ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَيُصَلِّي فِيهِ الظُّهْرَ» ؛ لأن النبي ﷺ صلى فيه.
قوله: «عَرَّسَ حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الصُّبْحَ» ، يعني: اقتداء بالنبي ﷺ؛ لأنه ﷺ صلى بها الصبح، فإذا مر ابن عمر رضي الله عنهما قبل الصبح ـ بأن بقي على الصبح ساعة أو ساعتان ـ نزل في هذا المكان واستراح حتى يصلي الصبح؛ لأن النبي ﷺ صلى فيه، وهذا من تشدده في الاتباع .
والصواب: أنه لا يشرع ذلك، فإذا مر وبقي ساعة أو ساعتان وهو قادر على المشي مشى وصلى في أي مكان.
المتن:
الشرح:
487 قوله: «تَحْتَ سَرْحَةٍ» السرحة: الشجرة الضخمة.
قوله: «دُونَ الرُّوَيْثَةِ» الرويثة: هي قرية جامعة.
قوله: «وَوِجَاهَ الطَّرِيقِ» ، يعني: مقابل الطريق.
قوله: «مِنْ أَكَمَةٍ» الأكمة: مرتفع من الكثيب، وهذا المكان ليس موجودًا الآن، فكل هذه الأمكنة قد انتهت، ولو عُرفت فلا يشرع الصلاة فيها على الصحيح.
المتن:
الشرح:
488 قوله: «تَلْعَةٍ» ، هي: مسيل الماء من فوق إلى أسفل.
قوله: «الْعَرْجِ» ، هي: قرية جامعة.
قوله: «وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى هَضْبَةٍ» ؛ الهضبة فوق الكثيب في الارتفاع ودون الجبل.
قوله: «عِنْدَ سَلَمَاتِ الطَّرِيقِ» ، يعني: ما يتفرع عن جوانبه.
قوله: «فَيُصَلِّي الظُّهْرَ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ» ؛ لأن النبي ﷺ صلى فيه.
وكان ابن عمر يفعل هذا اجتهادًا ويرى أن هذا مشروع، لكنه مخالف للصواب، والقاعدة أن العالم إذا اجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر، أي فله أجره على اجتهاده لكن فاته أجر الصواب.
وممن كان يفعل ذلك اقتداء بابن عمر: ابنُه سالم، ومولاه نافع، ولم يُعرف عن كبار الصحابة أنهم كانوا يفعلون هذا، بل كانوا ينهون عنه.
المتن:
الشرح:
489 قوله: «هَرْشَى» : جبل على ملتقى طريق المدينة من الشام، قريب من الجحفة.
قوله: «قَرِيبٌ مِنْ غَلْوَةٍ» ؛ الغلوة: غاية بلوغ السهم، وقيل: قدر ثلثي ميل.
المتن:
الشرح:
490 قوله: «أَدْنَى مَرِّ الظَّهْرَانِ» ، واد يسمى مر الظهران.
قوله: «الصَّفْرَاوَاتِ» ، جمع الصفراء وهو مكان بعد مر الظهران.
قوله: «يَنْزِلُ فِي بَطْنِ ذَلِكَ الْمَسِيلِ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إِلَى مَكَّةَ لَيْسَ بَيْنَ مَنْزِلِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ إِلاَّ رَمْيَةٌ بِحَجَرٍ» ، هذا وصف للمنزل، فكان ابن عمر ينزل في المسيل؛ لأن النبي ﷺ نزل فيه.
المتن:
الشرح:
491 قوله: «يَنْزِلُ بِذِي طُوًى وَيَبِيتُ حَتَّى يُصْبِحَ يُصَلِّي الصُّبْحَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ» ، هذا مشروع؛ لأن النبي ﷺ فعله في حجة الوداع، فنزل بذي طُوَى، وهو حي من أحياء مكة يسمى الآن الزاهر، وكان أولاً خارج مكة، ثم لما اتسعت مكة دخل فيها الزاهر، وهذا المكان كانت فيه آبار، وكان النبي ﷺ ينزل فيه إذا قدم مكة لحج أو عمرة، ويبيت فيه، ثم يغتسل ثم يدخل مكة ويطوف، فهذا من السنة، فإذا تيسر للمسلم فإنه يبيت بها قبل دخوله مكة ثم يغتسل، وإن لم يغتسل فلا حرج؛ لأن الأسفار الآن ميسرة، بخلاف الزمن الماضي؛ فالنبي ﷺ أحرم في اليوم الخامس والعشرين ولم يصل إلا في اليوم الرابع من ذي الحجة، أي سافر تسعة أيام أو عشرة أيام؛ ولذلك احتاج إلى أن يغتسل ويتنظف.
والحكمة في مشروعية الاغتسال: النظافة وإزالة الروائح، وهو سنة إذا تيسر، وإن لم يتيسر فلا حرج، وحكم نزوله ﷺ في هذا المكان ليس كالأماكن التي سبقت؛ لأن النزول فيه فعله النبي ﷺ للنسك، فهذا مقصود ونسك مستحب، أي لا يفعله إلا إذا أراد النسك.
قوله: «حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ» قَدِم ـ من باب فَرِح ـ بمعنى: ورد البلد، أما قدَم يقدُم من باب نصر بمعنى سبق القوم، ومنه قوله تعالى: فَأَوْرَدَهُمْ النَّارَ [هُود: 98]، أي يسبقهم إلى النار، أما قدُم يقدُم بمعنى صار قديمًا.
المتن:
الشرح:
492 قوله: «ثُمَّ تُصَلِّي مُسْتَقْبِلَ الْفُرْضَتَيْنِ مِنْ الْجَبَلِ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ» . كان هذا فيما مضى، أما الآن فأصبحت بيوتًا متصلة، وحتى الوادي الذي كان ينزل فيه النبي ﷺ في البطحاء كان فيما مضى؛ أما الآن فالبيوت اتصلت إلى العزيزية، واتصلت إلى منى، وابن عمر كان يفعل هذا لما كانت الأمكنة خالية، وكان الزاهر خاليًا، أما الآن فلا يتمكن الإنسان من هذا.
وعمر لما رأى الناس يبتدرون إلى مكان يصلون فيه نهاهم، وقال: من عرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمضِ، وقطع عمر الشجرة التي في الحديبية؛ لما خشي من الغلو المفضي إلى الشرك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «ومحصل ذلك أن ابن عمر كان يتبرك بتلك الأماكن، وتشدده في الاتباع مشهور».
ولهذا يقال: اجتنب تشددات ابن عمر، ورخص ابن عباس، وشواذ ابن مسعود .
ثم قال رحمه الله: «ولا يعارض ذلك ما ثبت عن أبيه أنه رأى الناس في سفر يتبادرون إلى مكان فسأل عن ذلك، فقالوا: قد صلى فيه النبي ﷺ، فقال: من عَرضت له الصلاة فليصل، وإلا فليمض، فإنما هلك أهل الكتاب؛ لأنهم تتبعوا آثار أنبيائهم فاتخذوها كنائس وبيعًا».
هذا كلام عمر ، وكأن الشارح يؤيد ابن عمر في تتبعه لتلك الأماكن ويجيب عن قول أبيه عمر : من عرضت له الصلاة فليصل.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «لأن ذلك من عمر محمول على أنه كره زيارتهم لمثل ذلك بغير صلاة، أو خشي أن يشكل ذلك على من لا يعرف حقيقة الأمر فيظنه واجبًا، وكلا الأمرين مأمون من ابن عمر».
وقال: «وقد تقدم حديث عتبان وسؤاله النبي ﷺ أن يصلي في بيته؛ ليتخذه مصلى، وإجابة النبي ﷺ إلى ذلك، فهو حجة في التبرك بآثار الصالحين».
كذا قال الشارح، وعلق سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله على ذلك قائلاٌ: «هذا خطأ، وغير النبي ﷺ لا يقاس عليه في مثل هذا، والحقُّ أن عمر أراد بالنهي عن تتبع آثار الأنبياء سد الذريعة إلى الشرك، وهو أعلم بهذا الشأن من ابنه رضي الله عنهما، وقد أخذ الجمهور بما رآه عمر».
أي ما رآه عمر من عدم تتبع آثار النبي ﷺ والصلاة في الأماكن التي صلى فيها.
ثم قال رحمه الله: «وليس في قصة عتبان ما يخالف ما رآه عمر؛ لأنه في حديث عتبان قد قصد أن يتأسى به ﷺ في ذلك».
فعتبان قال: يا رسول الله إني أنكرت بصري، وإن الوادي يسيل ويكون بيني وبين المسجد، فلا أستطيع إذا سال الوادي أن أصلي معك، فلو صليتَ في مكان يا رسول الله أتخذه مصلى، فجاءه النبي ﷺ وصلى في المكان. فعتبان أراد أن يصلي له النبي ﷺ في مكان خاص؛ حتى يصلي هو فيه إذا لم يستطع أن يصلي مع الجماعة.
ثم قال رحمه الله: «بخلاف آثاره ﷺ في الطرق ونحوها، فإن التأسي به فيها وتتبعها لذلك غير مشروع، كما دل عليه فعل عمر ، وربما أفضى ذلك بمن فعله إلى الغلو والشرك، كما فعل أهل الكتاب، والله أعلم»[(1179)].
وهذا هو الصواب، وهو ما ذهب إليه عمر وكبار الصحابة، خلافًا لما رآه ابن عمر، أما تأييد الشارح لابن عمر، وقوله: إن هذا حجة في التبرك بآثار الصالحين فهذا لا وجه له، وهو مرجوح.
والصواب: أنه لا يتبرك بآثار الصالحين، وقصة عتبان خاصة بالنبي ﷺ، وما طلب عتبان هذا من النبي ﷺ إلا لأنه ضعف بصره، فطلب من النبي ﷺ أن يصلي في موضع معين ليتأسى به، وأقره النبي ﷺ على ذلك، وليس هو مثل الأماكن التي في الطرقات.
ولم يبتّ البخاري الحكم في المسألة في ترجمة الباب؛ لأن عادته رحمه الله إذا كان هناك خلاف في المسألة أن يترك الحكم ولا يجزم فيها.
المتن:
أَبْوَابُ سُتْرَةِ الْمُصَلِّي
سُتْرَةُ الإِْمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ
493 حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ: أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ، وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ، فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الأَْتَانَ تَرْتَعُ وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ، فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ.
الشرح:
هذه الترجمة من المواضع التي جزم فيها البخاري بالحكم؛ لقوة الدليل ووضوحه، فقال: «بَاب سُتْرَةُ الإِْمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ» وكان رحمه الله يجزم بالحكم أحيانًا ويبت به إذا كان الدليل عنده واضحًا وقويًّا، حتى ولو كان هناك خلاف، مثل ما بت في أن الجمعة تكون بعد الزوال في قوله: «باب الجمعة بعد الزوال» ؛ لأن النبي ﷺ كان يصلي بعد الزوال، وكذلك أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وإن كانت المسألة فيها خلاف؛ فالإمام أحمد[(1180)] وجماعة يرون أن صلاة الجمعة تصح قبل الزوال، وأن حكمها حكم صلاة العيد، لكن الجمهور على أنها بعد الزوال؛ ولذلك بتَّ البخاريُّ رحمه الله في هذه المسألة، وجزم بأن صلاة الجمعة تكون بعد الزوال، وكذلك جزم في هذه الترجمة بأن سترة الإمام سترة لمن خلفه.
493 قوله: «عَلَى حِمَارٍ أَتَانٍ» ؛ الأتان: أنثى الحمار.
قوله: «وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ الاِحْتِلاَمَ» يعني: قد قارب الاحتلام، فكان عمره ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة.
فجاء راكبًا على حمار ـ والنبي ﷺ يصلي بالناس في منى في حجة الوداع ـ ودخل بين الصف، وهو راكب على الحمار. وهذا استدل به المؤلف رحمه الله على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه؛ لأن الحمار يقطع الصلاة إذا مر بين المصلي وبين سترته، أو إذا مر قريبًا منه إذا لم يكن له سترة، فلو لم تكن سترة الإمام سترة للمأموم لبطلت صلاة المأمومين، لكن لما كان المأمومون تابعين للإمام في السترة لم يضر مرور ابن عباس بالحمار بين يدي الصف؛ ولهذا قال: «فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ فَنَزَلْتُ وَأَرْسَلْتُ الأَْتَانَ تَرْتَعُ» ، أي: نزل ودخل معهم في الصف وترك الحمار ترعى.
قوله: «وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ» ؛ استُدِلَّ به على أن السترة غير واجبة؛ لأن ابن عباس أخبر أنه ﷺ كان يصلي إلى غير جدار، ولم يذكر سترة أخرى.
القول الثاني: أن السترة واجبة؛ لأن هذا الاستدلال غير صريح وغير واضح في هذا الحديث؛ لأن كونه ﷺ يصلي إلى غير جدار لا ينفي أن يكون يصلي إلى سترة أخرى، فمن الممكن أن يكون صلى إلى عَنَزة، أو إلى حربة، فهو غير واضح الدلالة.
والصواب: أن السترة مستحبة وليست واجبة، كما ذهب إلى هذا جمهور العلماء، والشافعي رحمه الله[(1181)] فهم من قول ابن عباس: «إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ» أنه إلى غير سترة، وفهم ذلك أيضًا البيهقي رحمه الله، وبوب عليه في سننه: «باب من صلى إلى غير سترة» ؛ والحافظ أيد هذا في رواية البزار التي ذكرها بلفظ: «والنبي ﷺ يصلي المكتوبة ليس لشيء يستره» [(1182)]، وعليه فالاستدلال بالحديث على أن السترة غير واجبة صحيح.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قوله: «بَاب سُتْرَةُ الإِْمَامِ سُتْرَةُ مَنْ خَلْفَهُ» ، أورد فيه ثلاثة أحاديث، الثاني والثالث منها مطابقان للترجمة؛ لكونه ﷺ لم يأمر أصحابه أن يتخذوا سترة غير سترته، وأما الأول وهو حديث ابن عباس ففي الاستدلال به نظر؛ لأنه ليس فيه أنه ﷺ صلى إلى سترة، وقد بوب عليه البيهقي: باب من صلى إلى غير سترة. وقد تقدم في كتاب العلم الكلام على هذا الحديث في باب «متى يصح سماع الصغير» ، وقول الشافعي: إن المراد بقول ابن عباس: «إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ» أي: إلى غير سترة، وذكرنا تأييد ذلك من رواية البزار. وقال بعض المتأخرين: قوله: «إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ» ، لا ينفي غير الجدار، إلا أن إخبار ابن عباس عن مروره بهم وعدم إنكارهم لذلك مشعر بحدوث أمر لم يعهدوه، فلو فرض أن هناك سترة أخرى غير الجدار لم يكن لهذا الإخبار فائدة؛ إذ مروره حينئذ لا ينكره أحد أصلاً، وكأن البخاري حمل الأمر في ذلك على المألوف المعروف من عادته ﷺ أنه كان لا يصلي في الفضاء إلا والعنزة أمامه[(1183)]».
والصواب ـ كما تقدم ـ أن السترة ليست واجبة ولكنها مستحبة، ويدل على ذلك حديث: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا [(1184)]، فموضع الشاهد قوله: «إذا صلى» ، فقد جعل الخيار له، ولو كانت السترة واجبة لم يدع الخيار له.
وقوله: «فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ» ، دليل على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وإلا لأنكر عليه الصحابة، ولقطع مرور الحمار صلاة المأمومين.
المتن:
الشرح:
494 قوله: «أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ» ؛ الحربة: هي عصا في طرفها حديدة، والعَنَزة أقصر منها، فإذا كانت العصا طويلة سميت حربة، وهي قدر ثلثي ذراع، وإذا كانت قصيرة سميت عنزة، وكان النبي ﷺ يركزها في الأرض ويصلي إليها.
قوله: «فَمِنْ ثَمَّ اتَّخَذَهَا الأُْمَرَاءُ» ثَمَّ: ظرف مكان، يعني: من تلك الجهة اتخذ الأمراء الحربة في العيد.
وفي الحديث: مشروعية وضع السترة للمصلي، وأنه يشرع ويستحب ويتأكد في حقه وضع سترة يصلي إليها، أو يجب عند بعض العلماء، فالسترة إما واجبة أو مستحبة.
وفي الحديث: دليل على أنه عليه الصلاة والسلام كان لا يترك السترة في الغالب؛ ولهذا قال: «فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ، وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ» ، وهذا هو مناسبة الحديث للترجمة.
والمرء إذا صلى إلى سترة ومر من ورائها أحد فلا يضره.
والسترة يجب أن تكون شيئًا منصوبًا أمام المصلي قدر ثلثي ذراع، أو مثل مُؤْخِرة الرَّحْل؛ ومُؤْخِرة الرَّحْل: العُوْد الذي في طرف الرَّحْل، وهو يقارب ثلثي ذراع، أما أن يصلي إلى طرف السجادة ـ مثل ما يقول بعض الناس ـ فليس هذا بسترة.
واختلف العلماء في جواز جعل خطٍّ هلاليٍّ سترةً إذا لم يجد سترة فقال بعضهم: إنه يكون سترة، وجاء هذا في مسند الإمام أحمد[(1185)]، والحديث فيه كلام لأهل العلم.
ومنهم من قال: إنه لا يكون سترة، بل يشترط أن تكون السترة شيئًا قائمًا يقارب ثلثي ذراع، ولو كان في الفضاء فالسترة سنة مستحبة، وإذا صلى إلى غير سترة فلا حرج على الصحيح.
وإذا صلى المرء إلى عمود فله أن يَصْمُد إليه، وهذا هو الصواب، وذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمة الله عليه في «آداب المشي إلى الصلاة» أنه يكره؛ تبعًا لابن القيم[(1186)] في هذا، وأنه يميل إلى أن يجعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر؛ لئلا يتشبه بعباد الأصنام؛ لحديث يروى في هذا.
والصواب أنه يصمد إليه ولا حرج، ولا يجعله عن حاجبه الأيمن ولا حاجبه الأيسر؛ لأن الحديث في هذا ضعيف.
المتن:
الشرح:
495 قوله: «وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ» ؛ وفي الحديث السابق قال: «أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ» ، والحربة والعنزة شيء واحد، وهي: عصا في طرفها حديدة، لكن العنزة أقصر.
قوله: «الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ» ، يحتمل أن المراد أنه جمع بين الظهرين، ويحتمل أن المراد أنه صلى كلًّا منهما ركعتين في وقتها، وهذا هو الأقرب؛ لأنه الغالب من فعله ﷺ.
والشاهد: أن النبي ﷺ صلى وبين يديه عَنَزة سترة له، وسترة الإمام تكون سترة لمن خلفه، وإذا اتخذ المرء السترة فلا يضره من مر من أمامها،وليس في الحديث تصريح بأن سترة الإمام سترة لمن خلفه لكن لم ينقل وجود سترة لأحد من المأمومين ولو كان ذلك لنقل؛ لتوفر الدواعي على نقل الأحكام الشرعية ـأفاده العيني رحمه الله ـ فالنبي ﷺ يصلي في منى والصفوف خلفه ولم ينقل أن أحد المأمومين اتخذ سترة.
المتن:
باب قَدْرِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ
496 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ.
497 حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ، قَالَ: كَانَ جِدَارُ الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ مَا كَادَتْ الشَّاةُ تَجُوزُهَا.
الشرح:
496 قوله: «كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ الشَّاةِ» ، يعني: أنه كان قريبًا من السترة بمقدار ما تمر الشاة، وهذا فيه: دليل على مشروعية القرب من السترة، فيستحب أن يجعل بينه وبين السترة مقدار ما تمر الشاة، والظاهر أن هذه المسافة تكون بين موضع سجوده والسترة؛ لئلا يصطدم بالجدار الذي أمامه، يعني أنها في حال سجوده تكون بمقدار ما تمر الشاة، أما في حال قيامه فيكون بينه وبينها أكثر من ذلك.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: «قال ابن بطال: هذا أقل ما يكون بين المصلي وسترته، يعني قدر ممر الشاة، وقيل: أقل ذلك ثلاثة أذرع؛ لحديث بلال أن النبي ﷺ صلى في الكعبة وبينه وبين الجدار ثلاثة أذرع[(1187)]، كما سيأتي قريبًا بعد خمسة أبواب، وجمع الداودي بأن أقله ممر الشاة وأكثره ثلاثة أذرع، وجمع بعضهم بأن الأول في حال القيام والقعود والثاني في حال الركوع والسجود».
يعني: في حال القيام يكون بينه وبين السترة ثلاثة أذرع، وفي حال الركوع والسجود يكون بينه وبينها قدر ممر الشاة.
ثم قال رحمه الله: «وقال ابن الصلاح: قدروا ممر الشاة بثلاثة أذرع. قلت: ولا يخفى ما فيه.
وقال البغوي: استحب أهل العلم الدنو من السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر إمكان السجود، وكذلك بين الصفوف، وقد ورد الأمر بالدنو منها، وفيه بيان الحكمة في ذلك، وهو ما رواه أبو داود وغيره من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعًا: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ فَلْيَدْنُ مِنْهَا لَا يَقْطَعِ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ صَلَاتَهُ [(1188)].
وهذا الحديث: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى سُتْرَةٍ، فيه: دليل على عدم وجوب السترة؛ لأنه قال: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ ولو كانت واجبة لقال: ليصل أحدكم إلى سترة، أي لكان أتى بها على صيغة الأمر الذي يوجب الفعل، فلما قال: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ، دل على أن له الخيار إن شاء صلى إلى سترة وإن شاء لم يصل إلى سترة؛ فـ إِذَا تفيد الاختيار.
والصواب: أن يقترب المصلي من السترة حتى لا يكون بينه وبينها إلا قدر ممر الشاة، وأما الأذرع الثلاث فعلى النهاية، فإذا لم يضع سترة تكون المسافة التي يمنع منها المار مقدار ثلاثة أذرع، وما زاد على الثلاثة لا يعتبر مرورًا، والدليل على هذا ما ثبت من أن النبي ﷺ لما دخل الكعبة جعل بينه وبين الجدار الغربي مقدار ثلاثة أذرع[(1189)]، فأخذ العلماء من هذا أن هذه هي المسافة التي تكون بين المصلي وبين سترته، فلا حرج بالمرور من أمام المصلي بعد الأذرع الثلاث، وأما دون ثلاثة أذرع فلا.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: «وقال القرطبي: قدره بعض الناس بقدر شبر».
يعني: مقدار ممر الشاة، وهو فيما بين محل سجوده وبين السترة، لا من محل قيامه، كما سئل عنه الإمام أحمد فيما سبق.
والسترة يجب أن تكون شيئًا قائمًا فطرف السجادة مثلاً لا يعتبر سترة.
المتن:
باب الصَّلاَةِ إِلَى الْحَرْبَةِ
498 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِاللَّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ فَيُصَلِّي إِلَيْهَا.
الشرح:
498 قوله: «ُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ» الحربة عصا في طرفها حديدة، وهي أطول من العنزة.
وفي الحديث: مشروعية الصلاة إلى السترة، وأن الحربة إذا ركزها المصلي بالأرض وأقامها أمامه كانت له سترة، ولو كانت دقيقة، فلا يشترط في السترة أن تكون سميكة.
المتن:
باب الصَّلاَةِ إِلَى الْعَنَزَةِ
499 حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَوْنُ بْنُ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَصَلَّى بِنَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ، وَالْمَرْأَةُ وَالْحِمَارُ يَمُرُّونَ مِنْ وَرَائِهَا.
الشرح:
499 قوله: «بِالْهَاجِرَةِ» ؛ أي: وسط النهار.
قوله: «مِنْ وَرَائِهَا» يعني: أمامها.
ذكر المؤلف رحمه الله في الترجمة السابقة «الصَّلاَةِ إِلَى الْحَرْبَةِ» ، وهنا قال: «الصَّلاَةِ إِلَى الْعَنَزَةِ» ، والعنزة هي: الحربة القصيرة، وإنما غاير بين الترجمتين على لفظ الحديثين؛ فالحديث الأول فيه: الحربة، والحديث الثاني فيه: العَنَزة، وقد قيل: إن الحربة إنما يقال لها: عَنَزة إذا كانت قصيرة؛ وعليه فالحربة أعم، فإذا كانت قصيرة سميت عَنَزة، وإذا كانت طويلة سميت حربة، وهي عصا في طرفها حديدة.
وفي الحديث: أن المصلي إذا صلى وأمامه سترة فلا يضره من مر من ورائها؛ ولهذا كان النبي ﷺ يصلي وبين يديه العَنَزة، والمرأة والحمار يمرون من وراء السترة ولا يضره، أما إذا لم يكن له سترة ومرت المرأة أو الحمار أو الكلب الأسود قريبًا منه ـ أي أقل من ثلاثة أذرع ـ قطعت الصلاة، أي بطلت، في أصح قولي العلماء، كما سيأتي في حديث أبي ذر عند مسلم: يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل مُؤْخِرة الرَّحْل: المرأة والحمار والكلب الأسود [(1190)]، ومُؤْخِرة الرَّحْل: العُود الذي يكون خلف الرحل، ويقدر بثلثي ذراع؛ فإذا كان بين يديه مثل مُؤْخِرة الرَّحْل فلا يضره مرور هؤلاء الثلاثة.
مسألة: اختلف العلماء في هذا الحديث: هل معنى قوله: «يقطع صلاة المرء» أن تبطل الصلاة ويستأنفها، أو أن المراد قطع الثواب؟
القول الأول: ذهب الجمهور إلى أن المراد قطع الثواب ـ أي نقصانه ـ والصلاة صحيحة لا تبطل ولو مر الحمار والكلب والمرأة، واستدلوا بحديث: لَا يَقْطَعُ الصَّلَاةَ شَيْءٌ وَادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ [(1191)]، لكنه حديث ضعيف عند أهل العلم.
القول الثاني: أن المراد بطلان الصلاة، وهذا هو الصواب، فإن الصلاة تبطل بمرور هؤلاء الثلاثة ويستأنفها، ولكن بشرط أن تكون المرأة بالغًا وأن يكون الكلب أسود، كما ورد التقييد في الحديث بالحائض ـ أي البالغة ـ والكلب الأسود[(1192)]، وأن يكون المرور في أقل من ثلاثة أذرع، أما إذا كان المرور بعد ثلاثة أذرع، أو كان من وراء السترة فلا يضره.
وسيأتي التفصيل في هذه المسألة في الأحاديث الآتية إن شاء الله تعالى.